أنا مثلك يا أختي لا أنظر إلى الحياة إلا من وجه الشعور والعواطف، إن نفس المرأة ونفس الشاعر أختان عقدت يداهما ما وراء المنظور حيث نهاية التأثرات وغاية كل عاطفة وشعور، ولهذا أقدم على مخاطبتك غير خائف ملالا من قلبك ولا إجهادا لفكرك، فلست مكلمك بالمادة والمحسوس، لا أخاطبك عن الخيال بل عن الأصل، عن الروح عن القلب الذي يتراءى أمامه كل شيء سواه أشباحا مظلمة وأوهاما مضلة، فاسمعي: أيتها المرأة التي قطعت شوطا بعيدا من مراحل هذه الحياة، أنت التي مر عليك ثلاثون ربيعا وعشرون صيفا وقد اجتزت الخريف وأنت اليوم في شتا الحياة فلا تؤملين أن تشاهدي شمسا إلا في ربيع البقاء الثاني ما وراء هذه المحسوسات الزائلة، أنت يا شيخة سوريا التي تتذكر آمال الفتوة وقبلات الشبيبة ولم يزل السرير الذي ربيت عليه البنين نصب عينيك، أراك تنظرين إلى الألفة بعين الحنان الجامد والحب المجروح بآخر مظاهره، وإخوتك وبنوك وأبناؤهم يدورون حولك ولا يلحظون وجودك، أنت تجرين جسدك المضني وهو على شفير الأبدية لتقومي بخدمة الرجل زوجك وابنك وبني بنيك وهم ينظرون إليك كجسد بلا روح، كسراج بلا نور، كدماغ جامد خلا من حياة الفكر فلا يشترك معهم بفكر الحياة، عواطفك مجروحة كل يوم يا امرأة الأمس وصبية ما قبله وشيخة اليوم.
فؤادك الذي تمخض بالحب الصادق وولد الإخلاص يموت منفردا على مهد عواطفه، ذلك لأن أباك لم يعلمك غير الطاعة ولم يوجب عليك سوى العفاف، فها أنت الآن نحو بنيك كما أراد أن تكوني معه، أرادك زهرة بلا عطر وجمالا بلا قوة فساعد الطبيعة الكاذبة على فشل نفسك ودماغك فأصبحت آلة تتحرك بقوة واحدة وهي قوة القلب ... ولو أمكن لألفة الأمس أن تميت قلبك لفعلت، ولكن العنصر أو الظلم الذي يقدر أن يميت من المرأة قلبها لم يزل كامنا في عالم المستحيل.
يقدر المرء أن يلاشي ضمير المرأة، يقدر أن يفسد نفسها ويضلل اعتقادها، أما قلبها فهو حي إلى الأبد، ولهذا لأن قلبك لم يزل حيا، لأن عواطفك ما برحت بكل شدتها كامنة في قلب لا يجسر أن ينبض، ومستترة وراء نفس لم يصقلها التفكر والعلم؛ لهذا أنت معذبة بحبك يا شيخة الوطن ومربية بنيه، من أجل قليل من العلم الإنساني السطحي ومعرفة الاصطلاحات البشرية المتقلبة، من أجل هذه الصلات التي قطعها الرجل بينك وبين الألفة؛ أصبحت مفروزة حتى عن أعز الكائنات لديك ... عن ابنك!
أما أنا أيتها الشيخة المعذبة، أنا الشاعر الذي يعلم نقص ما يعلم وضلال الإنسانية بما تريد أن تعلم، أنا الذي يتساوى عندي الإخلاص فأشعر به بين العلم والتهذيب، كما لا يحتجب عن بصيرتي وراء ليل الجهل وستار الهمجية، أقف أمامك ولا أرى منك غير قلبك فأحني أمامه الرأس إجلالا، وأستميحك عفوا عن رجال أضلوك وماتوا، وعن شبيبة تغتر بهذا الجهل المصقول الذي تحسبه علما فتحتقر كل من لا يعلم، أقبل يدك التي هزت السرير مربية للوطن رجالا كنت لهم أما، وإذ أنت مختلفة عنهم معرفة أصبحت لهم أمة ... تممي السير على طريق حياتك إلى النهاية، ارفعي رأسك إلى ما فوق؛ لأنك لم تنفعي الوطن بحبك وعملك فقط؛ بل تجودين عليه أيضا من تعاستك بأمثولة رائعة تتعلمها بناتك منك؛ لأنهن لم يفقدن الأمل كما فقدته أنت ... واغفري لهذا القلم الذي يشتغل لنفع بلاده، اغفري له دخوله إلى قلبك المعذب ليخرج منه ما كتب، وقد يغتفر للطبيب تشريحه جثة باردة ليستفيد من الأدواء التي قضت عليها معرفة تداوي بها الأحياء!
وأنت يا امرأة اليوم أيتها العقيلة والأم، أنت الملاصقة للألفة ملاصقة تجعل لها عليك حقوقا مقدسة، أنت الواقفة موقف العمل في ميدانك الرحب في هذه الفوضى التي تثيرها عليك عواطفك من الداخل وآراء الناس من الخارج، اسمحي لهذا القلم أن يجول قليلا حول قلبك، ولا تخافي منه؛ لأنه لا يبضع إلا مكان الألم، ولا يخرج غير الدم الأسود الفاسد، وأنت تحفظين في قلبك نقطة سوداء يا امرأة اليوم تشعرين بوجودها، وعبثا تفتشين على مادة تكوينها، فاسمحي أن أخبرك عنها؛ لأن الناظر من بعيد يرى ما لا يراه البصر الملاصق، اسمحي لي أن أكتب عنك شيئا يا أختي فإن أقلام الكتاب كانت ولم تزل حائمة حول موضوع ترقيك وتمجيد مقامك في كل أقطار العالم المتمدن، أما في سوريا فقلما يهتم الكتاب بك، وإذا شاء أحدهم أن يكتب عنك شيئا فأول ما يتبادر إلى رأس قلمه: الفسطان والحلي والقبعة كأنك خشبة بدون قلب وبلا دماغ، لا يرى الناظر إليها غير الأثواب التي تسترها، أما أنا فلا أرى نتائج الأشياء قبل أن أجتهد للوصول إلى مصادرها؛ ولهذا أنظر إلى قلبك، فيا سيدتي من كنت وأيان كنت، على مقعد الحرير أو على الحجر القاسي، ابنة المثري أو ابنة الفقير، أنت دعامة التهذيب في الوطن، وما أشد حاجة الوطن إلى تهذيب رجاله! أنت نقطة الدائرة في كل أمنية تجول بأفكارنا، وأنت النتيجة التي يرمي إليها الكون بحركته المستمرة، فإن تصبب عرق على الأرض فمن أجلك يرتوي التراب، وإن سالت الدماء في كل مطلب فمن أجلك تسيل الدماء، إن وجد قاتل وسارق فذلك من نتائج سطوتك، وإن قام مصلح وارتفع عظيم فذلك من أغراضك ووحي المكارم عن مهبط قلبك.
ضعي أيتها المرأة يدك على قلبك، فهو يخبرك بما تتوه فيه الأقلام من حقيقة أهميتك في الوجود، وارجعي ملقية معي نظرة المتأمل في الوسط الذي يحتاطك؛ لنرى إذا كنت تقومين بما تنتظره منك الأنظار الشاخصة إلى تقدم البلاد. «أنت كزوجة»، رابطة الزواج ودعامته واحدة، الحب، فهل أنت تحبين زوجك أيتها الامرأة السورية؟
لو كنت مضطرة للجواب على سؤالي بصوت عال يسمعه الكل لقلت بلا أقل تردد: نعم، ولكن جوابك سيخرج من قلبك فلا تسمعه غير نفسك، وأنا على يقين بأن هذا القلب يدفع كلمة: لا، وهو يخفق ضعيفا بين الخوف والرجاء.
ذلك لأن الحب نفسه له رئتان وقلب، له هواء يتنفسه ودماء تحييه، له الثقة مقام الدم، والاعتبار مقام الهواء، وأنت لا تعتبرين زوجك يا امرأة سوريا بل تخافين منه، أنت على غير ثقة من وحدانية أمياله، ولهذا قد أصبحت ثقتك تظاهرا كاذبا كتبت العبودية عليه عنوان الرياء، في كل بلاد الله حيث بقيت الألفة على طرزها القديم، وحيث قطعت مرحلة التطآل إلى الأمام وارتكزت على نظام معروف، نجد النسا على حال يخولهن حق النظر إلى القلب واتباع عواطفه، أما هنا حيث يقوم الجهاد بالحياة دون نظام ودون أقل ترتيب اقتصادي، حيث التاجر يكون صانعا والصانع تاجرا، الشاعر ماسك دفاتر والتاجر صاحب جريدة، حيث يندفع الكل إلى الأمام ويتقهقر الكل إلى الوراء، هنا، قد استتب التقلقل والاختلال حتى ضاعت سعة العيش لدينا وأصبح الغني فينا يئن من وطأة الفقر ويشكو الضيق والمسكنة، فأصبح الرجل لا يتبع أمياله بالعمل وكلنا نعمل بلا لذة.
الرجل يخلق وفي أقصى عواطفه ميل خاص يجب أن يكون أساسا لأعماله، وفي نفوس أبناء سوريا نجد أثر تلك العاطفة أشد منها في نفوس كل الشعوب، ومن أجل هذا نرى الشقاء ضاربا أطنابه ما بيننا؛ ذلك لأن ألفتنا خرجت عن نظامها القديم ولم يتسن لها الدخول بنظام جديد يلائمها، فأصبح رجالنا كلهم بلا مركز حقيقي كأعضاء مختلفة عن مركزها، تتألم ولا تجد للوصول إلى محجتها سبيلا، وإذ نحن على ما وصفت، فمن البديهي أن نراك مدفوعة كالرجل بقوة الضرورة وضغط الاختلال إلى دوس عواطفك وسماع صوت الفكر الحاسب دون نداء القلب المحب، أنت يا امرأة سوريا فتشت على رجلك، وهتاف الحاجة وضرورة الألفة يملي عليك كما يفتش هو على إعلاء شأنه بالمادة خانقا صوت موهبته دائسا على الاستعداد الذي أصبح لديه مورد عذاب، بدل أن يكون مورد اللذة والسعادة، أجيبي يا امرأة سوريا، ألم تكن الأساور والأقراط قائمة مقام كنز الحب يوم زواجك؟ أما كنت مخيرة بين شاب فقير وكهل غني فارتعش قلبك المحب أمام اللذة والاحتياج فارتاح دماغك المفكر أمام الضحية والسعة؟ ... أليس أن جسمك كان يتنعم على الحرير، وقلبك جريح يرسل قطرات الدم فلا يراها غير الله؟
ارجعي معي إلى الوراء يا زهرة سوريا وتذكري جهاد الصبا وضغط التمدن والحاجة على روح الطبيعة وقوى الوجدان، افتكري بحالة نفسك من قبل وقابلي بينها وبين حالة اليوم، وأخبريني إذا كان صرح سعادتك لا يتزعزع بين عواصف الحياة وهو مرتكز على أساس متقلقل، أخبريني إذا كانت الأيام تمكنت من محو سوء التفاهم الذي وجد منذ البدء بينك وبين الذي تستندين على ذراعه، تبصري مليا وأخبريني عن ماهية الرابطة التي تضم ذاتك مع ذات بعلك، وإن كنت تضيعين في مهامه عواطفك فاسمحي أن أسألك هذا السؤال: افترضي أن جنح المسكنة والشقا تدلى من عالم الغيب مرفرفا فوق بيتك، افترضي أن زوجك يبيع حلاك وقد تعرى كل شيء حولك من كل لامع يبهر وثمين يعجب، فهل تجدين مقام المفقود شيئا؟ ألا تنادين إذ ذاك بالويل والثبور؟ ألا تنظرين إلى زوجك نظرة الاحتقار والبغض؟ نعم يا أختي، إن الفقر الذي لا يولد من طبيعته غير ضيقة وتعب في القلوب المحبة، لا يمكنه إلا التربع على قلبك الخالي من الحب ومن حوله كل جند الشقا والحرب والويل، وليس ذلك من لؤم في طبعك كما يخال لذوي الأفكار السطحية، ليس ذلك من فساد بروحك أيتها الكائنة المعذبة؛ بل هي نتيجة الأشياء وضرورة النتائج المماثلة لمباديها.
Unknown page