إلى الراكعة أمام سرير الطفل ترضع جسمه الضعيف من ثدييها وتسقي روحه اللطيفة من نظراتها سائل الحب والحنان، خلاصة المبادئ الإنسانية السامية، مذوب قلب الأم.
إلى الجالسة جنب فراش المرض والعياء تحارب جراثيم الويل بضعفها العظيم ولطفها الشديد ودموعها القوية، إلى منبت أبناء الوطن، إلى جنة الطفل وحياة الشاب ورفيقة الكهل وتعزية الشيخ، إلى مرضعة الولد الداخل إلى الدنيا ومغلقة أجفان الراحل إلى الأبدية، إلى ألف الحياة الدنيا ويائها أوجه كلامي: أنت يا ابنة سوريا التي هزت يمين جدتها أسرة أعاظم الدنيا، أنت سلالة تلك المرأة الفينيقية التي لم يكن قربها رجل شديد بعزمه إلا وكانت أشد منه انعطافا، أنت خلاصة قوة الدنيا التي انفجرت من أرض الشرق لتسود وجه الكرة بأسرها، أنت العظيمة من قبل وراء خبائك وتمدنك القديم بكرامة أعظم من كرامة باريسية اليوم وهي تمشي مع الرجل قدما لقدم، أنت الحافظة في مهد الخمود الذي طرحك الزمان عليه تلك الفضيلة الساطعة كالشمس فضيلة الطاعة لرجلك وحفظ شرفك لربك ولبنيك، أنت يا أم ابنة الوطن وخطيبتهم وزوجتهم، أنت الروح الضعيفة المعذبة التي يضغط عليها قلبها كما يشد علينا جور الزمان بسلاسله الحديدية.
أردد أبصاري عليك يا زهرة البلاد وعبيرها فلا أتمالك من دفع أنين وذرف دمعة.
أراك تختبطين في عجاج العاطفة كما يختبط الرجل تعيسا في حياته الاقتصادية، نحن نسقط تحت جناح الفكر المتأمل دون عزاء؛ وأنت تحاربين قلبك؛ وقلبك يحاربك دون أمل.
مرت عليك القرون وتتابعت على سلالتك الأعصار وأنت مبددة من أعالي جبال لبنان إلى أطراف حلب إلى غياض الشام إلى نهر الأردن إلى ضفاف بحر الروم تسيرين سربا منقطعا عن البشرية يربي الإنسانية ويتبعها بكل حالاتها ولكنه بعيد عنها لا علاقة له بها إلا عن طريق الجسم والخدمة الآلية.
مرت عليك أشباح الزمان يا ابنة سوريا وأنت غريبة عن الطفل الذي يشرب من صدرك وترتوي روحه من روحك، غريبة عن الشاب الذي يركع أمامك ولا يخاطب بذاتك السامية غير عينيك وبروز صدرك ونحول خصرك، غريبة عن زوجك وهو يناضل في الحياة بالفكر وأنت لديه آلة تتحرك بلا فهم ولا شعور، غريبة عن الشيخ الذي ينظر إليك كما ينظر المحارب إلى فرسه بعد المعركة نظرة حنان العاقل على ما لا يعقل، لفتة المفتكر إلى رفيق الشقاء وهو من نوع مفروز وجنس آخر ... مئات من السنين جرت على قلبك وشاح الخمود وعلى عقلك ستار الظلمة فكنت محبوبة لجمال جسمك ومكرمة من تعب يديك؛ ولكن روحك كانت محرومة من الاعتبار الذي توجبه الأرواح الراقية على البشرية نحو نفسها الثانية وهي أنت ...
بينما كان الرجل القديم محنيا على الأرض يعالجها أو سائرا وراء تجارته في الأقفار والفيافي، بينما كان يجاهد في حياته ويدافع عن نفسه وقبائل سوريا تتألب ممزقة بعضها بالضغائن والأحقاد والتعصب والجهل، في ذلك الليل الأربد الذي لم يكن بحاجة للقوة أكثر من حاجته للعطف لارتقاء الشواعر عن طريق المرأة كنت أنت يا ابنة سوريا مفروزة عن الألفة التي تحتاجك، تحنين على ابنك وبين دماغك ودماغه ستار قائم، يملكك زوجك فلا يملك منك غير جسمك وهو بعيد عن روحك النائمة على السكون، كنت عفيفة ولكن عفافك كان ناقصا بالوهم، محبة ولكن حبك كان ضعيفا بالاستعباد، كانت علاقتك بمن حولك تنحصر بالجسد وقد حرموا على روحك الارتقا لتساوي أرواح أبيك وزوجك وابنك، ولا شيء يجعل الحي غريبا حتى في بيته كوجود تفاوت بين نفسه ونفوس من حوله.
أما الآن وقد كسرت الأيام قيدك يا ابنة سوريا؛ أما الآن وقد رفعت رأسك وتطلعت إلى ما فوق؛ فأنت حرة تتسلقين هذا الجدار الأملس الذي اصطلح الناس أن يسموه ارتقاء، وقد يخال لك أنك ترتقين ... أنت اليوم وقد فتحت عينيك الجميلتين للنور؛ وارتفعت أهدابك الطويلة منفرجة عن لمعان الأمل، أنت تريدين أن تحرري روحك من أسرها صارخة أمام الألفة: «إذا كان جسدي إناء الإنسان فنفسي سرير نفسه» ولكنك يا أختي تائهة على السبيل المتشعب، لقد انتبهت روحك من رقادها كالطفل المستقبل شعاع الشفق فهو يتسكع في النور كما يتوه في الظلمة.
كنت بالأمس خامدة العاطفة خاملة النفس أما اليوم فأراك قوية العواطف وقد لامست نفسك شرارة الحركة للحياة، أراك تضلين وتختبطين فأحزن عليك كما أحزن على نصفك الضال؛ ولكن أحب إلي أن أراك سائرة ولو على غير هدى من أن أراك جامدة لا تشعرين بوجدانك؛ لأنني أعلم بأن القوة التي تدفع إلى التقهقر هي نفسها إذا دربت تكون مبدأ الوصول إلى المحجة المثلى؛ وبلوغ ما سمح للإنسان أن يبلغه من الكمال.
أنت يا ابنة سوريا، يا زهرة لبنان تريدين الوصول إلى موقفك الطبيعي الشريف فسلام على تلك الإرادة، وإجلال لذلك القلب الذي رفعته دماء سلالتنا السامية وقدسه حسن القصد، ولكن الطريق التي دلوك عليها والسبيل الذي دفعك الرجل عليه لهو سبيل ضلال يقود إلى الهاوية، وأرى ضعفك يتدحرج عليه وروحك اللطيفة المنتبهة من رقادها ماثلة إلى الوجود تشخص إلى بعيد وهي مرتكزة على شفا جرف هار، فاسمحي أيتها الروح لهذه النفس الجريحة التي علمها العذاب أن تنظر إلى بعيد، اسمحي لهذه النفس المجردة بقوة التأمل والافتكار عن سفاسف الدنيا وأوهامها أن تناجي بك دعامة الوطن وقوة الأرض التي أحبتها معك؛ لأنها مثلك تحن إلى التراب الذي حمل سريرها.
Unknown page