تلك خلاصة للجزء الأول من كتاب «فريجه» الذي أشرنا إليه، ثم يمضي الكتاب في جزئه الثاني فيقدم مجموعة كاملة من القواعد المنطقية والبديهيات، تكفي للبرهنة على كل ما يتصل بدالات القضايا - أي العبارات ذوات الرموز الجبرية - وفي الجزء الثالث من الكتاب يبين «فريجه» على سبيل التوضيح كيف يمكن استخدام جهازه الرمزي في صياغة أهم الأفكار المتصلة بالأعداد وترتيبها.
وكان الأمل يحدوه أن ينتقل بعد ذلك إلى الغاية الرئيسية المنشودة من مجهوده كله، وهي أن يفصل القول في كيفية اشتقاق الرياضة من تلك البدايات المنطقية، لكن رجاءه خاب؛ لأن أحدا لم يعر أجزاءه الثلاثة الماضية لفتة ولو عابرة؛ فآثر «فريجه» أن يترك العمل عند هذا الحد الذي انتهى إليه، وأن يحاول تقديم أفكاره الرئيسية في صورة أخرى تكون أقرب إلى قبول القراء؛ فلعل هؤلاء القراء ازوروا عن كتابه بسبب التزامه للطريقة الفنية الدقيقة في التعبير؛ ومن ثم أخرج كتابا آخر (1884م) عنوانه «أسس علم الحساب»،
9
يبين فيه بطريقة أسهل كيف أن هذا العلم الرياضي لا يحتاج أبدا إلى شيء غير ما يسبق التسليم به في مجال المنطق الخالص.
ولم يكن علماء الرياضة عندئذ يوافقون على رأي كهذا؛ فمن ذا الذي كان يظن منهم أن عددا مثل «2» أو «3» أو غيرهما هو في الحقيقة بغير مدلول في عالم الأشياء؛ لأنه ما دام نتيجة مشتقة من مدركات المنطق الخالص - ومدركات المنطق الخالص خالية من أي مضمون خبري متصل بعالم الواقع الطبيعي - فلا بد أن يكون بدوره - كهذه المدركات التي اشتق منها - رمزا تحليليا صرفا بغير مضمون من الخبرة المستمدة من عالم الأشياء؟
كلا، لم يكن الرأي الذي ساقه «فريجه» عن علم الحساب وأصوله مما يأخذ به أحد من علماء الرياضة عندئذ؛ فقد كان من هؤلاء من يعد رموز الحساب (الأعداد) كألفاظ اللغة، رموزا يتفق الناس على طريقة استخدامها لتدل على مسميات خاصة، لكن هذا هو «فريجه» يخضع الأمر لتحليله فيخرج بهذه النتيجة، وهي أن الرمز الدال على عدد ما، مثل «2»، إن هو إلا رمز ندل به على مجموع الفئات التي قوام كل منها عضوان، والتي يرتبط كل منها بالفئة المعدودة بعلاقة «واحد بواحد»، فلماذا نقول عن هذين الكتابين إنهما «اثنان»؟ نقول ذلك لأننا لو قرناهما بهذين القلمين أو هذين المقعدين أو هذين الولدين وجدنا أن كل عضو منهما يقابل عضوا، وهذه المقابلة التي تسمى «علاقة واحد بواحد» هي معنى «التشابه» بين فئتين؛ وعلى ذلك فلو جمعنا كل فئات الأشياء التي تتشابه معا بعلاقة واحد بواحد، ثم إذا أطلقنا عليها رمز «2»، لم يكن لهذا الرمز من معنى سوى تلك الفئات المتشابهة المجتمعة.
10
والذي يهمنا نحن من هذا كله أن فكرة العدد مشتقة من فكرة «الفئة» أو «النوع»، وهذه الأخيرة فكرة خالصة للمنطق وحده. ومضى «فريجه» بعدئذ في طريقه لا ينثني، حتى أخرج سنة 1893م الجزء الأول من مؤلف ضخم اعتزم إصداره بعنوان «القوانين الأساسية في علم الحساب»، والغرض منه هو نفسه الغرض من كتبه السابقة، وهو بيان العلاقة الوثيقة بين علم الحساب من جهة والمنطق الخالص من جهة أخرى. ومن أهم ما يلفت النظر في هذا الجزء بحثه الدقيق في «المعنى»، فماذا نريد على وجه الدقة حين نقول عن رمز معين أو لفظ معين إنه «يعني» كذا وكذا؟ وما علاقة هذا «المعنى» بالمسميات التي يشير إليها ذلك الرمز أو اللفظ؟
وفي 1903م أصدر الجزء الثاني من مؤلفه هذا، وجاء في ختامه «حاشية» ألحقها به بعد أن تم طبع الكتاب، قال فيها وهو آسف إن شابا إنجليزيا اسمه «برتراند رسل» قد اتصل به وبين له مواضع التناقض في بنائه الرمزي الذي هو العمود الفقري لبحثه كله.
ذلك أن «برتراند رسل» كان قد أخذ ينغمس في تحليلاته وأبحاثه المنطقية انغماسا بلغ ذروته في كتابه «أصول الرياضة» (برنكبيا ماثماتكا)، الذي أخرجه في ثلاثة مجلدات ضخمة بالاشتراك مع «وايتهد» (1910-1913م)، فجاء عمله هذا بمثابة المنهج التحليلي الذي اصطنعته جماعة الوضعية المنطقية فيما بعد، فانتهى بهم إلى ما انتهوا إليه من نتائج سنشرحها في الفصول الآتية من الكتاب.
Unknown page