وأراد به أن يكون محاولة أولى لتحقيق أمل كان يتمناه «ليبنتز» من قبله، وهو أن يستطيع الإنسان يوما أن يكتب أفكاره المجردة بلغة الرياضة، بحيث إذا ما اختلف متجادلان على أمر كان الفيصل بينهما هو شيء أشبه بالحساب الرياضي منه بالنقاش والجدل.
ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء؛ في أولها شرح لعلاقات رمزية جديدة يقترحها «فريجه» لتكون أداة لصياغة الأفكار التي يراد لها الدقة التامة، كما تكون أداة كذلك لاستنباط نتيجة من مقدمتها استنباطا لا يترك فجوة شاغرة؛ لأننا إذا أردنا أن نبين أن علم الحساب في الرياضة هو امتداد لمدركات منطقية، تحتم علينا أن نستنبط قضايا لا نشك في أنها من علم الحساب، من مقدمات لا نشك في أنها من علم المنطق، ثم لا بد أن يتم الانتقال من المقدمات التي هي من المنطق إلى النتائج التي هي من علم الحساب دون أن يتسلل إلى مجرى الاستنباط شيء نضيفه من معارفنا التي حصلناها بالخبرة، فلا هي من مدركات المنطق ولا هي مما يتولد عن تلك المدركات من نتائج.
إن مدركات المنطق الخالص لا تحتوي على مضمونات خبرية، وأي مضمون خبري تراه في «إذا» أو «ليس» مثلا؟ وإذن فلا بد لنا عند اشتقاق الرياضة من أمثال هذه الإطارات الخالية أن نكون على حذر حتى لا ندخل في إحدى مراحل الطريق كلمة من ذوات المضمون الخبري؛ لأننا لو فعلنا ذلك، ثم مضينا في طريقنا الاستنباطي حتي بلغنا نتيجة ما، فعندئذ لن يكون من حقنا أن نقول عن تلك النتيجة التي بلغناها إنها مشتقة من مدركات المنطق الخالص؛ إذ قد تكون نتيجة لذلك المضمون الخبري الذي دسسناه خلال الطريق.
وقد استخدم «فريجه» في بنائه الرمزي الاستنباطي الذي استهدف به - كما أسلفنا - بيان الصلة الوثيقة بين الرياضة والمنطق، أربع أدوات أساسية فقط، هي: (1)
علامتان رمزيتان تقومان مقام الكلمتين المنطقيتين «ليس» و«إذا». (2)
طائفة من الحروف الهجائية يستخدمها على نحو ما يستخدم الرياضي هذه الحروف في معادلاته؛ حتى لا يضطر إلى كلمات اللغة ذوات المدلول، كأن يكتب مثلا عبارة كهذه «س متضمنة في ص»، وبالطبع لا تكون أمثال هذه العبارة الرمزية ذات الفجوات الشاغرة «قضية»؛ لأنها لا توصف بصدق أو بكذب، وشرط «القضية» أن يجوز عليها مثل هذا الوصف، وقد اصطلح على تسمية عبارة رمزية كهذه بدالة قضية.
8 (3)
فإذا ملئت الفجوات الشاغرة في «دالة القضية» بكلمات مناسبة، كأن نقول في العبارة الرمزية السالفة «فئة المصريين متضمنة في فئة المتكلمين بالعربية»، تحولت الدالة إلى قضية يمكن تحقيقها صدقا أو كذبا. (4)
علامة رمزية تدل على المعنى الذي نعبر عنه في اللغة بكلمة «كل».
هذا هو الجهاز البسيط الذي أعده «فريجه» لتحليله، ولعل أهم ما فيه هو هذه التفرقة التي أقامها بين العبارة إذا اقتصرت على رموز جبرية، والعبارة نفسها إذا استبدل بتلك الرموز الجبرية ألفاظ من اللغة؛ أي التفرقة بين ما نسميه اليوم ب «دالة القضية» وما نسميه ب «القضية»؛ ففي هذه التفرقة التي قد تبدو للقارئ هينة الخطر ثورة فكرية ستلمس مداها في غضون هذا الكتاب، بل لعلها من أعظم النتائج التي وصلت إليها التحليلات المنطقية الحديثة فقلبت كثيرا من الأوضاع القديمة رأسا على عقب.
Unknown page