وفي عصر كافور قامت الثورات الوطنية في أنحاء العالم كله، وطغى مد الحمية الأهلية، فحمل كل شيء في طريقه، في المجر، وفي ألمانيا، وفي باريس، وعاصمة النمسا، وكانت الثورات هي المنتصرة الجياشة الفائزة ؛ فمنحت الدساتير، ووهبت الحريات، وسقطت البيوت المالكة، وتداعت إلى الأرض أنقاضا، وأطلالا عافيات.
وهذا كله أو أكثره ما وقع للمترجم به، وما حدث في عصره هذا، فذلكم مبدأه منذ تولى العمل في الوزارة، وتلكم آراؤه بعينها في إيثار الحركة على الجمود، والعمل على السكون، ونومة الموت، وها هو عصره عهد المطالبة بالحرية، ونتاج هذه الحرب الطاحنة التي قام الضعفاء وراءها يصرخون في وجوه سالبيهم حقوقهم، والأقوياء الذين عدوا على حريتهم، فكان هو في طليعة من قاموا لأجل مصر قومتهم، ونهض للحرية مع الناهضين.
وكان كافور رجلا غير كثير الكلام، صموتا في مواطن السكوت، وأعجب ما كان من أمره أنه كان لا يجيد الكلام باللغة الإيطالية، ولم يضطلع بأفانين بلاغتها، وسحر أدبها، ولم يلم بأسرارها ومحسناتها على حين كان يجيد الفرنسية الإجادة كلها، ويعلم مناحيها، ومداخل البيان فيها، وكان يؤذن للناس في ندوة البرلمان أن يتكلموا بالفرنسية إذا شاؤوا، ولكنه كان يؤثر الكلام بلغة وطنه، ولسان أمته على ضعفه فيها، وجهله بدلائل الإعجاز من أدبها.
على أنه إذا كان كافور مقلا من الكلام بطبيعته، وسجية نفسه، فقد كان إذا استنفره موطن من مواطن الوطنية إلى الكلام أكبر الخطباء، وأبلغ المحدثين، إذ خلعت عليه حميته لوطنه قوة من الخطابة؛ فنهضت بلاغته به إلى أبعد أوج.
وهذا بجملته ما كان من صاحب الدولة الوزير الأول، في بلادنا لعصرنا، فقد شهدناه دؤوبا على العمل، صامتا في دأبه، دائبا على صمته، فلما استفزه القوم إلى الكلام تكلم فكانت خطبته في فندق «الكونتيننتال» مهارة سياسية نادرة، وحذقا بأساليب الكلام لا ينكر على صاحبه.
ولم يقع اليأس في فؤاد كافور من خيبة النهضة في بادئ الأمر، ولم يستحوذ عليه، ثم تقلد منصب الوزارة وزيرا عاديا، ثم ارتفع إلى منصب الرئاسة، على كثرة خصومه، وتألب أعدائه، فتغلب عليهم جميعا، وبرز عليهم جملة، وكان أكبر ما كان يعمل له، ويسعى لبلوغه، أن يقنع أوروبا والعالم بأسره أن أمته قديرة على أن تجمع بين منحة الحرية، ومزية النظام، وأن لا خطر يخشى منه عليها؛ إذا تحررت وتخلصت من سلطان الأجنبي، ومنحت استقلالها الذي تنشده، حتى لقد تمكن من فؤاده ذلك المبدأ، فوقع في خلاف وذلك الوطني الجريء الجسور جويسب مازيني؛ إذ خشي من آراء هذا الزعيم الباسل الفيلسوف أن تسوء سمعة إيطاليا؛ فتخسر عطف أهل الغرب عليها، وتطيش سهامها فلا تقع لها أمنيتها المعسولة؛ واستقلالها المنشود، وكان كافور يتحبب إلى نابوليون الثالث، ويستميله إلى قضية إيطاليا، ويستعطفه عليها؛ فوقع في رأس رجل مجنون أعمى البصر من عامة الطليان أن يغتال حياة ذلك الإمبراطور، فأقدم على فعلته المجنونة الطائشة، ولكن الأقدار أبت إلا أن ينجو نابوليون من شر غيلته؛ ولكنه غضب، ولا ريب أن يكون المغتال من الطليان، وكاد يترك الانتصار لقضية كافور وأمنية أمته.
وذلكم كله ما رأيناه من المترجم به، ومن مسعاه المحمود، ومن احتياله على تبرئة سمعة القضية المصرية من الأذى الذي يلحقه به المذهوبو الرشد الطائشون الذين لا يدركون الوجوه الصحيحة الرشيدة للعمل، ولا يحملون إخلاصا في نفوسهم لطلبتهم المقدسة، وما وجدناه من غضبته الصادقة من الغيلات التي نسمع الفينة بعد الفينة بأنبائها، وهي لا ترد على وطننا مردا؛ وإنما نتراءى بها في أعين أهل الحضارة قوما وحوشا أهل براثن ومخالب، ونفوسا رعاديد أوغادا جبناء، تطعن الناس في الظهور، وتجيئهم لغرتهم من الأقفية، وهم أبرياء أفرادا؛ وإن كانت الأمة التي هم منها علينا جانية.
وكان كافور يحتال بذكائه الحيل على صديقه ومنافسه الوطني جاريبالدي ليوقف تيار جراءته، ويخفف من حدة وطنيته، وإن كان في الوقت عينه لا يريد أن يبدو في عينه ناكرا لجميله على وطنه؛ جاحدا فضل إخلاصه في سبيل قومه، ولم يكن يريد أن يسيء إليه أو إلى صحابته، ولكنه مع ذلك لم يكن يود أن يعرض سلامة الحرية الأهلية، والقضية العامة لخطر الطيش، والجراءة وركوب الرأس، وما ذلك إلا لأن ذلك الوزير المخلص لم يكن من أهل الأحلام السياسية، ولا من غواة الشعر، بل كان في كل مرحلة من مراحل الحياة يكشف أفقا جديدا من الفكر، وجوا جديدا للعمل، وكان يتابع طريقه دون أن يتطلب شيئا إلا ما كان حقا وممكنا؛ إذ منحته الطبيعة عبقرية سياسية لا تنكر، وكان قوي الفراسة بعيد مطارح النظر، وقد اتهم بأنه غير شيئا من مبادئه، ولكن أي سياسي لعمركم لم يفعل؟
وكان بجانب كافور زعيم آخر ظل مشردا في البلاد منفيا، وذلكم مازيني وطني إيطالي من الشعب، تخرج في القانون، وبرع في البلاغة والأدب، وكان يؤمن بأن الإيطاليين وهو في مقدمتهم مستطيعون - ولذلك يجب عليهم - أن يناضلوا لتحرير بلادهم، فانصرف بكليته إلى التفكير في بلاده، وما منعه اعتقاله في حصن سافونا أشهرا معدودات أن يكون جريئا باسلا، مستهترا بوطنيته، حتى لقد جعل شعاره هاتين اللفظتين الرهيبتين المقدستين هما: «الله، والشعب!».
نعم، لقد كان مازيني «نبي» الوطنية، وكان جاريبالدي فارسها المعلم، وأما كافور فقد أصاب وحده الشرف الأكبر بأن راح في إيطاليا السياسي الذي تحققت على يده حرية بلاده!
Unknown page