ومما رغبني في الحياة المثالية اعتقادي أنها من أقوم السبل إلى النهوض بالأمة وتحريرها من قيود النقص والضعف التي تتعثر فيها من الوجهة الوطنية والأخلاقية والاجتماعية، وهذا التحرير الوطني هو السبيل إلى التحرير السياسي. وليس من الميسور أن تحرر الأمة من عيوبها ومواطن الضعف فيها بالقول والكتابة، بل يجب أن تكون القدوة الصالحة هي أولى السبل في هذا الجهاد، فعلى الإنسان أن يكون مواطنا صالحا ومواطنا مثاليا قدر ما يستطيع؛ فإنه بذلك يقيم لبنة في صرح النهضة القومية. ولقد كنت قبل أن أتخرج من مدرسة الحقوق أنتقد الصفوة المتعلمة من الأمة في تقاعدها عن أداء واجباتها الوطنية، وأعربت عن هذا الشعور في مقالتي الأولى باللواء؛ ومن ثم أخذت نفسي بأن أنشد الجانب المستطاع من الحياة المثالية؛ إذ كيف أعد المآخذ على غيري دون أن آخذ نفسي بما يجب أن يفعلوه؟!
حقا إن طريق الحياة المثالية ليس معبدا ولا مفروشا بالأزهار والرياحين، بل هو طريق قد يكون شائكا كثير المتاعب والعقبات، وربما جر على صاحبه بعض العنت والخذلان وجعله عرضة لكثير من صنوف العداوة وضروب التجهم والتنكر. ولكن على الإنسان أن يكون له هدف في الحياة، فإذا كان هذا الهدف شريفا، فليتذرع بالشجاعة والإيمان والقناعة والإقدام؛ فإنه بالغ بفضل الله غايته أو نصفها أو ربعها أو القليل منها، ولكنه سائر على أي حال في الطريق القويم، والأمم لا تنهض إلا بهذا النوع من الحياة. إنها لا تنهض بالحياة النفعية الفردية، وإنما تنهض بالحياة الوطنية. إن الحياة النفعية تفيد صاحبها، ولكنها إذا اصطبغت بالأنانية وعمت المواطنين، كانت الأمة مجموعة من الأفراد المتخاذلين لا يعتمد عليهم في النهوض بالوطن والبذل في سبيله ودفع الأذى عنه.
كان لي صديق في الدراسة ارتبطت وإياه برباط الود والإخلاص، تخرجنا معا من مدرسة الحقوق، ومع طيبة أخلاقه واستقامته وحسن سريرته؛ فإنه يرى خدمة البلاد بغير الطريقة التي كنت أنشدها. كان قليل الثقة في المجتمع وفي المواطنين، ونظريته أن على الإنسان أن يكون قويما في ذاته ومسلكه فحسب، أما أن ينشد الحياة المثالية فإنه بذلك يعرض نفسه للأذى بغير نتيجة، وكانت تدور بيننا من حين لآخر مناقشات ومحاورات في مختلف الرأيين، وكان يحذرني دائما مغبة الحياة التي كنت أنشدها، وكنت أخالفه في الرأي، وأقول له إن أمتنا لم تلق من بنيها الخدمات الصادقة الصحيحة، ولو هي وجدت منهم هذه الخدمات لكانت حالها خيرا مما هي عليه، فإذا لم يجد من الطبقة المتعلمة المثقفة مثل هذه الخدمات فممن تنتظرها؟! أما هو فكان يقول لي: وهل يضحي الإنسان بنفسه في وسط لا يقدر التضحية بل يخذل صاحبها؟ وأين الوسط الذي يقدر الإخلاص والمثل العليا؟
وكثيرا ما كان يقول لي: إنك تعيش في جو من الأوهام، وستصدمك الحقائق العملية في الحياة، وسترى أن المجتمع لا يقدر المثاليين بل يقدر النفعيين والوصوليين بأكثر مما تتوهم أنه يقدر المثاليين وينصر أولئك بمقدار ما يخذل هؤلاء! وكنا نفترق مختلفين في الرأي والحجة دون أن يؤثر هذا الخلاف في صداقتنا، ولكل وجهة.
لست أدري على وجه التحقيق من كان منا على حق ومن كان منا مخطئا - على الأقل في حق نفسه. كل هذا لم يصرفني عن التمسك برأيي، وقد يكون تمسكي بهذا الرأي أمرا غير إرادي، ولكن هكذا اتجهت نفسي هذه الوجهة ولقد كان لها أثرها في مختلف مراحل حياتي.
اخترت المحاماة وآثرتها على الوظيفة متأثرا بالنظرية المثالية.
اخترت المحاماة، ثم الصحافة، ثم عدت إلى المحاماة وبقيت فيها على تعاقب السنين؛ إذ رأيت أنها أقرب إلى أن أجد فيها الحياة المثالية لمن يريد أن يحياها، رأيت فيها المجال فسيحا لأساهم بنصيبي في الكفاح الوطني، وكنت أرى في الوظائف مجالا ضيقا لهذا الكفاح. ومن هنا آثرت المحاماة على الوظائف، ورأيت في المحاماة أيضا الحرية التي كنت أنشدها، فلا يحد من عملي فيها رئيس أو رقيب. وكنت أتخير من القضايا ما أراه سليما، فأجد من حرية الاختيار ما لا أجده لو كنت موظفا؛ فإن على الموظف مهما كان مستقل الرأي حي الضمير أن يعمل بما يؤمر به من الرؤساء ولو خالف ضميره في بعض المواطن، والنظام الحكومي بل الاجتماعي يقتضي ذلك. حقا إن المناصب القضائية التي كانت تؤهلني لها إجازة الحقوق هي أبعد مناصب الدولة عن التأثر بأوامر الرؤساء وأكثرها استقلالا، ولكني مع ذلك رأيتني في المحاماة أكثر حرية واستقلالا وأقرب إلى ميدان الكفاح الوطني مما لو اخترت الوظيفة. (1) أول مؤلفاتي: حقوق الشعب (سنة 1912)
اتجهت نفسي منذ سنة 1910 إلى الجمع بين المحاماة والتأليف، فقضيت أوقات فراغي من المحاماة سنة 1911 وأنا بالزقازيق في تأليف أول كتاب لي وهو «حقوق الشعب»، وقد تم طبعه وظهوره في مارس سنة 1912.
1
وعنوانه يدل على موضوعه ومعناه. ضمنته شرحا للمبادئ الدستورية، ووضعته لتأييدها وتدريسها وتعميمها، عبرت فيه عن الحكام بأنهم «وكلاء الأمة»، وأهبت بالأمة أن تناضل عن كيانها بكل ما أوتيت من حول وقوة، وجعلت شعار الكتاب: «تبتدئ القوة حيث ينتهي الضعف.» وقلت في مقدمته تعريفا بالغرض من تأليفه: «القوة والعلم، هذان العاملان هما الدعامتان اللتان تضمنان للأمم حياتها وحقوقها. جئت في هذا الكتاب أخاطب فئتين من الأمة كانوا دائما جنود الحرية في كل بلاد، وهما: رجال الغد، وجمهور الشعب. جئت أخاطب إخواني الشبان رجال الغد الذين أعد نفسي واحدا منهم وأعتقد أن عليهم واجبا كبيرا هم مدينون به نحو الله ونحو الأمة وهو واجب العمل لتحرير بلادنا؛ فكل شاب منا، سواء كان لا يزال في مهد التعليم يتلقى العلوم ويتغذى بلبان المعارف في المدارس، أو دخل في معترك الحياة، كثيرا ما يتساءل: «كيف أقوم بالواجب؟» ويطلق لنفسه عنان البحث للجواب على هذا السؤال؛ لأنه سؤال لا يكفي للجواب عنه تفكير لحظة واحدة أو يوم واحد، بل يحتاج إلى إطالة في البحث والتفكير، هذا السؤال الذي يجدر بكل إنسان أن يجعله وجهته في الحياة والذي يجب ألا نعد الرجل رجلا إلا إذا عرف كيف يجيب عنه قولا وفكرا وعملا، هذا السؤال قد جعلت غرضي من وضع الكتاب أن أجيب عنه.» إلى أن قلت: «أردت في هذا الكتاب من جهة أن أطرح بين يدي إخواني نموذجا مختصرا للعمل على أداء واجبهم نحو الأمة، ثم تخيرت من جهة أخرى في وضعه طريقة أغلب المؤلفين الغربيين الذين وضعوا الكتب والمؤلفات لتعميم حقوق الشعب ونشر النظريات الدستورية. وقصدت من ذلك أن يكون هذا الكتاب كمجموعة دروس لمبادئ الحقوق العمومية وبسط العلاقات بين الشعوب والحكومات حتى لا يحرم عامة القارئين من عرفان تلك المبادئ الضرورية لكل مجتمع يريد أن يكون حرا.»
Unknown page