في سبتمبر سنة 1911 صحبت فريد بك في رحلته إلى أوروبا لحضور مؤتمر السلام الذي كان مزمعا اجتماعه بروما في أواخر ذلك الشهر. وكان لمصاحبتي إياه في هذه الرحلة أثر كبير في نفسي وزادت صلتي الروحية به؛ إذ رأيت من عطفه وحنانه الأبوي، ودماثة أخلاقه، ورقة شمائله، ما حببه إلى نفسي. وصحبنا في هذه الرحلة الأستاذ أحمد وفيق. وقد أفدنا كثيرا منها لأن فريدا كان يعرف أوروبا من قبل معرفة تامة، فكان يرشدنا إلى ما يجب أن نتعلمه ونعرفه ونشاهده في البلاد التي زرناها. وصحبنا في جزء من الرحلة الدكتور منصور رفعت، وأخذت لنا صورة بباريس تذكارا لسياحتنا مع الفقيد.
الخطاب الذي أرسله فريد بك إلي في 5 ديسمبر سنة 1912.
وفي هذه الرحلة زرنا إيطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا، وعرجنا بالآستانة، وعدنا منها إلى مصر. وكتبت خلال سفري عدة مقالات عن مشاهداتي وخواطري في السفر، منها مقالة بعنوان «الأمم سيف وأخلاق» أرسلتها من تورينو بإيطاليا ونشرت في عدد 6 أكتوبر سنة 1911 من العلم، ومقالة عن «الإسلام في إفريقية، مسألة طرابلس الغرب والمسألة المراكشية» أرسلتها من باريس ونشرت في عدد 16 أكتوبر، ومقالة عن «الوطنية والإنسانية وكيف يفهمونهما في أوروبا» نشرت في عدد 20 أكتوبر، ومقالة عنوانها «يومان في مجلس المبعوثان» أرسلتها من الآستانة ونشرت في عدد أول نوفمبر سنة 1911.
الحياة المثالية
وهل هي ممكنة؟
كنت وأنا طالب بمدرسة الحقوق أعد نفسي للجهاد والمساهمة في سبيل تحرير البلاد والنهوض بها. رسخ في نفسي هذا الاتجاه حتى صار (فيما أظن) عقيدة كان ولم يزل لها أثرها في حياتي السياسية والاجتماعية؛ فمن الوجهة السياسية اعتنقت المبدأ الذي يتفق مع هذا الاتجاه وهو مبدأ الجلاء، وانضويت تحت لواء الزعيمين اللذين رأيت فيهما المثل العليا للوطنية الحقة، وفهمت الوطنية على أنها إخلاص للوطن، وسعي متواصل لتحقيق أهدافه واستمساك بحقوقه، وتغليب لمصالحه العليا على مصالح الإنسان الشخصية. ومن الوجهة الاجتماعية جعلتني هذه العقيدة أرى أن الوطنية تتطلب من الوطن أن يحيى حياة مثالية؛ لأن الحياة المثالية هي الأساس الوطيد للحياة الوطنية. فتاقت نفسي عندما تخرجت من مدرسة الحقوق وانتظمت في سلك الحياة العملية أن أنشد المثالية في حياتي الشخصية والعائلية والاجتماعية، وأن أنشدها في الحياة السياسية أيضا. ولم أكن أخفي على نفسي أن الحياة المثالية ليست من اليسر ولا من السهولة بحيث تغري شابا مثلي في مقتبل العمر أن يسلك سبيلها، ولكن هكذا شاءت الأقدار أن أنشدها لنفسي، ولست أدري مبلغ ما حققت منها، وإلى أي مدى كنت مثاليا أو غير مثالي، وهل الحياة المثالية ممكنة أم لا، نافعة أم ضارة، وهل هي - بوجه خاص - ممكنة في الحياة السياسية أم لا، وهل أخطأت أم أصبت في نشداني لها؟
كل هذه أمور لست أستطيع بعد طول السنين أن أجيب عنها، وما فائدة البحث فيها الآن؟
لكن الذي يمكنني الإفضاء به أني اجتهدت أن آخذ من الحياة المثالية أقصى ما أستطيع، ويمكنني أن أقول إن نصيب الإنسان منها يتبع مبدئيا الوسط والبيئة التي يعيش فيها؛ فالمجتمع الذي يؤمن بها يساعد بداهة على أن يحياها المواطن الصالح، والمجتمع الذي لا يؤمن بها يخذلها ويباعد بين الإنسان وما ينشده منها. على أن الإرادة الشخصية لها دخل في توجيه المواطن إليها، وهي على أي حال تحتاج إلى ذخيرة من الصبر، ومن الصوفية الوطنية، تجعل المرء غير مكترث لما يلقاه من العقبات والمتاعب.
أوليست الوطنية نضالا في سبيل المثل العليا؟ وهذا النضال يقتضي توطين النفس على احتمال الأذى في سبيل محبة الوطن؟ هكذا قالوا! فهل هي مجرد أقوال وخيالات وأحلام أم أقوال تؤيدها الأعمال؟ وكيف يمكننا أن نبث روح الوطنية في نفوس الجيل إذا لم نكن مثاليين في وطنيتنا؟
على أي حال قد سعيت في أن أجعل لهذه الخيالات نصيبا من الحقائق، ولست أدري هل حققت شيئا منها أم كنت واهما في تفكيري ومسعاي؟
Unknown page