وأحب قبل كل شيء أن يقف القارئ معي عند ما في هذا الحديث من سذاجة رائعة، أو روعة ساذجة في لفظه وفي معناه وفي قصته كلها، فرسول الله يشفق على عبد الرحمن من غناه الواسع وماله الكثير، ويصور هذه الثروة ثقيلة باهظة يحملها صاحبها على كاهله، فتمنعه من السعي وتعسر عليه الحركة، حتى كأنه مقيد لا يستطيع أن يمشي إلى الجنة مع الساعين، أو يعدو إليها مع العادين. وهو لا يشير عليه بأن يتخفف من هذا الثقل يلقيه عن كاهله إلقاء، وإنما يشير عليه بأن يثمر هذا المال ولا يضيعه، وذلك بأن يقرض الله قرضا حسنا، فلا يضيع عليه ماله وإنما يرد عليه يوم القيامة أضعافا مضاعفة. وعبد الرحمن يسأل عما ينبغي أن يقرض الله من ماله، فيقال له: ابدأ بما أمسيت فيه، أي قم فتصدق بكل ما اجتمع لك من مال حين استقبلت المساء، واعلم أنك حين تفعل ذلك لا تزيد على أن تبتدئ، وأنك ستمتحن فيما سيجتمع لك من المال في مستقبل أيامك، بمثل ما امتحنت به فيما اجتمع لك من المال في أيامك الماضية.
وقد ثقل الامتحان على عبد الرحمن بعض الثقل، فهو يسأل النبي: أبكل ما اجتمع لي من المال؟ فيجيبه النبي: نعم. وينهض عبد الرحمن مصمما على أن يمضي أمر الله ورسوله في هذا المال الذي يحبه، والذي أنفق في جمعه وتثميره ما أنفق من الجهد والوقت، واحتمل في تثميره ما احتمل من المشقة والعناء. ولا بأس عليه من أن يحب المال، وإنما البأس كل البأس والجناح كل الجناح أن يمنعه حب المال من أن ينفقه ليبر به اليتامى والمساكين وذوي القربى وأبناء السبيل. أليس الله قد بين البر للمسلمين بأنه ليس التوجه إلى المشرق أو المغرب، وإنما هو الإيمان بالله وإيتاء المال على حبه للذين يحتاجون إليه.
ينهض عبد الرحمن إذن مصمما على أن يمضي في ماله أمر الله ورسوله، ولكن النبي يرسل إليه أن الله ورسوله يرفقان به بعد أن امتحناه ومحصاه، فيأمرانه بأن يضيف الضيف ويطعم المسكين ويعطي السائل، ويبدأ بأهله وعياله؛ فإن فعل فقد زكى نفسه تزكية، وطهر ماله تطهيرا.
حزم في الامتحان حتى تستبين العزيمة الصادقة الماضية على الإذعان مهما يكن شاقا، وعلى التضحية مهما تكن عزيزة، وعلى الجهد مهما يكن ثقيلا، فإذا استبانت العزيمة الجازمة وظهرت النية الصادقة فالله ورسوله يضعان عنهم بعض ما يحتملون من الثقل .
وقد اختار الله نبيه لجواره، وانقطع خبر السماء، وحرم المسلمون هذا الوحي الذي كان يصابحهم ويماسيهم، وأصبح الناس ذات يوم وإذا رجة عنيفة تتجاوب أصداؤها أرجاء المدينة كلها، وتسأل عائشة أم المؤمنين رحمها الله عن هذه الرجة، فيقال لها: هذه عير عبد الرحمن بن عوف قدمت. فتقول عائشة: أما إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط يميل به مرة ويستقيم أخرى حتى يفلت، ولم يكد!»
ويبلغ حديث عائشة عبد الرحمن، وكانت هذه العير خمسمائة راحلة تحمل نفائس العروض من الشام، فإذا سمع هذا الحديث قال: هي وما تحمله صدقة! لم يكتف ببعض ما كانت تحمل، ولم يكتف بكل ما كانت تحمل، ولم يكتف بها دون ما كانت تحمل، وإنما تصدق بها وبأحمالها. ولو قد امتدت الحياة برسول الله واتصل نزول الوحي وتنزلت أخبار السماء إلى الأرض، لكان من الممكن أن يقبل النبي من عبد الرحمن التصدق ببعض تجارته والإبقاء على بعضها الآخر، ولكن عائشة لم تزد على أن روت ما سمعت من رسول الله، وأشفق عبد الرحمن من أن يميل به الصراط مرة ويستقيم به أخرى حتى يبلغ الجنة بعد جهد، وحرص عبد الرحمن على أن يستقيم له الصراط، فلا يكون فيه ميل ولا اضطراب حتى يبلغ الجنة في غير تعثر ولا جهد ولا عناء.
وكان عبد الرحمن رحمه الله من أكبر المسلمين تصدقا، ومن أسخاهم بماله، ومن أوصلهم للرحم، ومن أبرهم بالناس، أنفق حياته كلها مستثمرا لماله متصدقا به، وكان تصدقه لا ينقص من ماله، وإنما يزيد فيه ويضاعفه أضعافا، كأنما قضى الله ألا يجزيه عن صدقته في الآخرة وحدها، وألا يضاعف له قرضه في الجنة وحدها، وإنما يكفل له ثواب الدنيا والآخرة جميعا.
هذا حديث قديم، ولكن الأيام التي نعيش فيها تجعله جديدا كل الجدة، وأنا أسوقه إلى الذين أتيح لهم من الغنى والثراء مثل ما أتيح لعبد الرحمن أو أكثر مما أتيح لعبد الرحمن، وأحب أن يستقر في قلوبهم أن الثراء إن ثقل على عبد الرحمن مع أنه كان من السابقين الأولين، ومع أنه جاهد بنفسه وماله مع رسول الله
Unknown page