Muassis Misr Haditha
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة
Genres
وأدعى إلى الأسف من هذا أن القنصل البريطاني المستر «دري» لم يخطر له فقط أن البينة قد قامت على المتهمين بما اتبع من الإجراءات أثناء محاكمتهم، وراح يؤكد أن ما اتخذه شريف باشا من الإجراءات العاجلة قد أنقذ اليهود من مذبحة عامة يذهبون فيها ضحية السلب والنهب.
ولقد كان ما أبداه بالمرستون من القلق العصبي في هذين الحادثين نتيجة ما قام أمامه من المصاعب في سبيل الوصول بالمسألة العامة التي هي مثار النزاع إلى نتيجة مرضية؛ لأن الأمور قد جرت على خلاف ما كان يهواه، فإن الصعوبة الرئيسية المنتظرة كانت تدور حول حمل روسيا على التعاون مع الدول الأخرى ومنعها من توطيد مركزها بالانفراد بالعمل، ولكن تبين أن هذه الصعوبة بولغ فيها؛ لأن القيصر نقولا لم يكن شديد الميل إلى العمل بنصوص معاهدة أونكيار سكيليس، علما منه بأن عودة الروس إلى الآستانة ربما أدى إلى الاشتباك في الحرب مع إنجلترا، وربما مع فرنسا أيضا، هذا إلى أنه قد يؤدي إلى توطيد مركز محمد علي في الشرق الأدنى، وهي غاية بعيدة كل البعد عن تفكير القيصر، وفضلا عن ذلك قد بدأ دبيب الخلاف في الرأي يظهر بين بالمرستون و«صول» وزير خارجية فرنسا؛ فإن الأول أعرب عن رغبته في رد سوريا إلى حظيرة السلطان، بينما ارتأى الثاني إبقاءها في حيازة الباشا، فإذا ما عمد القيصر إذن إلى تأييد سياسة بالمرستون بدلا من الانفراد بالعمل، فإنه يكون بعمله هذا أدنى إلى تحطيم التعاون بين بريطانيا وفرنسا منه إلى توثيق عراه،
87
وهكذا استقر رأيه على إرسال البارون «برينون» في مهمة خاصة إلى لندن في سنة 1839م.
ولكن ما كادت هذه الصعوبة تتلاشى حتى قامت مكانها صعوبة أخرى؛ لأن بالمرستون كان شديد الميل إلى اجتذاب فرنسا إلى رأيه كما اجتذب روسيا إن أمكن، ولكن السياسة الفرنسية وقتئذ كما كانت قبل ذلك بعشر سنوات تتخللها المصاعب الجمة؛ فإن النظام الملكي الذي كان موجودا في شهر يوليو كان كالنظام الملكي السابق أضعف من ألا يكترث بتيارات الرأي العام المختلفة، وقد كان شعور الفرنسيين بصفة عامة إلى جانب محمد علي. ولا يفوتنا أن السياسة كانت وقتئذ كما كان شأنها في كل حين عرضة للتحول والتقلب بسبب المصالح القارية والاستعمارية المتشابكة؛ فالخوف من ألسنة الصحف جعل من الصعب على «صول» أن ينسحب من الموقف الذي كان فيه، وقد اعتزلت الوزارة التي كان عضوا فيها في نهاية فبراير سنة 1840م بسبب مسألة داخلية بحتة، وخلفه في منصبه البارون تير.
ونهج وزير الخارجية الجديدة منهج سلفه، ولكنه كان شديد العداء نحو بريطانيا، وكانت باكورة أعماله استئناف المفاوضات المنفردة مع الباب العالي وبين الباشا بواسطة المسيو بونترا سفير فرنسا في الآستانة؛ أملا منه في أن يواجه بريطانيا العظمى وروسيا بتسوية لا يسعهما أن يجدا سببا معقولا لنقضها أو تبديلها،
88
ويرجح أن يكون إبعاد خسرو عن وظيفته نتيجة هذه المساعي، وإذ ذاك قرر محمد علي من فوره إرسال سكرتيره الخاص سامي بك إلى الآستانة في مهمة خاصة، وكانت حجته الظاهرة في هذا التصرف رغبته في رفع التهاني بمناسبة ميلاد كريمة السلطان وتقديم هدية تذكر بهذه المناسبة، وهي إعادة الأسطول التركي،
89
وكان رد إنجلترا على هذا العمل أنها عقدت مع روسيا والنمسا وبروسيا معاهدة نص فيها على أن تكون مصر ملكا لمحمد علي وذريته من بعده، وأن يظل حكمه في جيبولي قائما مدة حياته فقط، بشرط أن يقبل هذا العرض في خلال عشرة أيام من وصول المذكرة إليه، أما إذا أظهر ترددا بطول أمده إلى 20 يوما فإن مصر وحدها تكون ملكا له ولذريته، وإذا ما رفض نهائيا فإن الدول الأربع تبادر إلى محاصرة الشواطئ المصرية، فإذا ما حاول الزحف على الآستانة فإن الدول المذكورة تتعاون في الدفاع عنها بناء على طلب السلطان؛ ومن ثم يستأنف العمل بالمادة الرابعة من النظام القديم للإمبراطورية العثمانية، وهي القاضية بإغلاق الدردنيل في وجه كافة السفن الحربية في أثناء وجود الإمبراطورية في حالة السلم، وقد أمضيت هذه المعاهدة في 15 يوليو سنة 1840م؛ وبذا نجح بالمرستون فيما كان يسعى إليه من إرباح معاهدة أونكيار سكيليس في اتفاق أعم ولكنه أخفق في الحصول على تعاون فرنسا.
Unknown page