بالرغم من جو الخصخصة الذي أحاط بنا خلال بضع السنوات الماضية فإن ما أدعو إليه في هذا الموضوع ليس إهداء الإدارة المحلية إلى شركات تبيع وتشتري حسب رائدها من الربح والخسارة. إنما المقصود هو خلخلة قبضة المركزية المصرية العامة على الإدارة المحلية، تماما كما تفك الخصخصة الشركات الراكدة إلى شركات متخصصة قادرة على اتخاذ القرار دون الصعود والهبوط لمكاتبات ورقية للرأي والقرار، والموضوع الذي نحن بصدده يطرق أبوابا معروفة سبق لي وللكثيرين غيري الحديث والكتابة عنها بصور مختلفة وفي مناسبات متعددة وبأساليب تتراوح بين الموضوعية الهادئة والعواطف الفوارة.
الركيزة الفلسفية للموضوع تنطلق من محورين أساسين، أولهما: هو المفاضلة بين المركزية بأشكالها المتشددة والمخففة، وبين تفويض الأمور للمحليات أيضا بصور متعددة. وثانيهما: أن ثبات الأمور على حال واحدة ليس من موجبات الحياة، فلا شيء يحيا إذا جمد على شكل واحد دون تغير وتطور من ذاته ناجم عن التفاعل مع غيره من مكونات المجتمع، أو تغيير وتطوير بفعل السياسات المختلفة لكل زمان. (15-1) المركزية والمحلية
إذا بدأنا بهذا المنطلق فعلينا من البداية أن نحذر من المقولة الشائعة: إن مصر دولة مركزية الحكم منذ بضعة آلاف السنين. فهذه المقولة في مجملها لا تحكي الحقيقة؛ لأننا في دراسة التاريخ درجنا على أن ننسب الزمان لأشخاص الحكام وليس إلى حركات الناس. صحيح أن بعض الحكام الأقوياء كان لهم صولة وضجيج أو ينسب إليهم أمور هي بالفعل حاسمة في التاريخ العسكري والسياسي: مثلا «مينا» (نارمر) موحد القطرين، وإن كانت هناك حركات توحيد سابقة أو على الأقل إرهاصات توحيد استمرت عقودا ومئات من السنين وحان قطافها عندما تولى مينا حكم الجنوب. وتحتمس والرعامسة وصلاح الدين وبيبرس ومحمد علي كانوا من الملوك والحكام المحاربين، وغالبيتهم بطبيعة الحال كانت تحكم بمركزية مطلقة.
ولكن أين جمهور الشعب في هذا التاريخ الطويل؟ لا شك في أن الشعب هو الباني الأعظم لكل لبنات الحضارة والثقافة المصرية سواء كان الشعب مصري أو مضاف إليه ومنصهر فيه مهاجرين من الشعوب المجاورة بأعداد مختلفة في أزمان مختلفة. هذا الشعب هو الذي يحرك السياسات والاتجاهات على المدى الطويل ويقبل شكلا من التنظيم الحاكم فيثبته أو يرفضه بالمقاومة السلبية التي تظهر في روح الفكاهة والنكتة، كما تظهر في قلة الإقبال على الأعمال الإنتاجية فيفقر النظام وتهتز أركان الحكم بعد فترة، مثل فرار الفلاحين من الحقول كوسيلة من مقاومة ظلم الجبايات والضرائب. أو أن يتخذ الشعب سبيل القوة ليقاوم قدر إمكاناته لتغيير مثل هذا النظام. وفي العصر الحديث كان مثل ذلك ثورة 1919 التي استندت إلى مراجل غضب شعبي ودعوة للاستقلال على طول ثلاثة عقود، وجدت رمزها في سعد زغلول والوفد ونجحت بحشود المقاومة الشعبية في كل مكان. ومثل ذلك أيضا «ثورة» 1952 التي استندت أيضا إلى إفرازات الحياة الحزبية المصرية - إيجابية وسلبية. فعلى مدى ثلاثة عقود - الثلاثينيات إلى الخمسينيات - من الصراعات بين الليبرالية والمحافظة والتنظيمات اليمينية واليسارية وشبه اليسارية أصبحت الدعوة إلى تغيير شكل الحكم أمرا متداولا ومقبولا، وبذلك بنيت الأسس الإيديولوجية للتغيير التي وجدت طريقها التنفيذي في صورة تنظيم الثورة العسكري، فتقبلها الناس بشيء من الحذر خاصة في سنتيها الأول. (15-2) التقسيمات الإدارية لمصر
في غالبية الفترات التاريخية كانت السلطة مقسمة - بنسب مختلفة في كل فترة زمنية - بين مركزية حكومة الحاكم وقوى السلطة الدينية من جانب، وبين أقاليم الدولة بأشكال من تسيير الأمور تختلف قدرا من إقليم لآخر. صحيح أن هناك سياسات عامة تخضع للمركز كالضرائب العامة أو تجييش الجيوش، لكن فيما عدا ذلك كانت الأمور في الأقاليم هي من شأنها؛ بل إن بعض الأقاليم كانت من القوة بحيث تصبح أقوى من المركز، كما حدث في فترات عديدة من التاريخ الفرعوني أو قوة حكام الصعيد وولاته في العهد العثماني.
إن تقسيم مصر إلى أقاليم أو مديريات ومحافظات أمر درجنا عليه منذ القدم، لكن هذه التقسيمات لم تكن دائمة بل تحدث فيها تغييرات بمقتضاها تكبر الأقسام أو تصغر، تنمحي تسميات مثل المرتاحية والأطفيحية والأخميمية والنستروانية، وتتغير حدود إدارية للأقاليم والمديريات. ولقد كانت الأقسام الإدارية في الثلاثينيات 14 مديرية، بالإضافة إلى أقسام الحدود في شرق مصر وغربها. ومنذ ذلك التاريخ أخذت الأقاليم الإدارية نهج اقتطاع أجزاء من محافظات وتحويلها إلى محافظات خاصة كدمياط من الدقهلية والغربية، وبورسعيد والإسماعيلية من محافظة القناة، وسيناء الشمالية والجنوبية من محافظة سيناء. ومطروح والوادي الجديد من الصحراء الغربية ... إلخ، بحيث أصبح لدينا 26 محافظة منها 4 محافظات حضرية و17 ريفية وخمس صحراوية. ولنا على ذلك ملاحظات ندمجها كالآتي:
الملاحظة الأولى:
أننا نجد أن مسمى حضري وريفي وصحراوي آخذ في فقدان قيمته اللفظية ومحتواه الفعلي؛ نتيجة التطورات العمرانية الآخذة بالاتجاه إلى الصيغة الحضرية في قلب الريف وفي أماكن التركز السكاني السياحي والاصطيافي في غالبية المحافظات الصحراوية، فأي مدينة صغيرة أو كبيرة تعاني من تضخم عددي بمن يزحفون عليها من القرى المجاورة. أين المنيا منذ الخمسينيات من المنيا اليوم التي تمتلئ بالعشوائيات واحتاجت إلى إنشاء منيا جديدة؟ وبني سويف التي كانت ناعسة على النيل استفحل حالها أيضا مما دعا إلى بناء مدينة جديدة، وكفر الزيات كسرت الطوق وزحفت على القرى المجاورة في كتلة عمرانية تلتحم قريبا مع الدلجمون المتضخمة وتواجه المسئولين بمشكلات كثافة الحركة والانتقال كأي مدينة متوسطة الحجم. ومثل ذلك كثير ومتكرر بدرجات مختلفة في الدلتا والوادي. والشيء نفسه عن قرى الاصطياف ومراكز السياح في مطروح وسيناء والبحر الأحمر التي تنمي ما حولها من تجمعات صحراوية أصلا إلى مدن صغيرة تتشكل كمراكز حرف وتجارة وخدمات ومدارس ومراكز صحية وإدارية كالحمام والطور ونويبع والغردقة.
الملاحظة الثانية الهامة:
أن التغيرات التي حدثت في الأقاليم الإدارية عبر التاريخ لم تكن بدون سبب. فهناك أسباب اقتصادية عقارية ومالية - الضرائب بوجه خاص، وأسباب أمنية تدعو إلى تحسين الإدارة وتسهيل أعمال الناس وضبط الأمور سياسيا. فعلى سبيل المثال فإن تغيير محمد علي الأقسام الإدارية السابقة إلى مأموريات ثم مديريات كان سبب إنشاء نظام الري الدائم في الدلتا، وما تلى ذلك من تغيرات اقتصادية في المركب المحصولي الزراعي، وإنشاء الصناعات ونشرها في أماكن متعددة من مصر. ومن ثم كان إجراء التغيير في الوحدات الإدارية هو استجابة إلى متطلبات حقيقية للناس والحكم معا. وبالمثل فإن التغيرات التي حدثت في عهد إسماعيل من تقسيمات داخلية في المديريات كانت أيضا بسبب تطور طبقات المجتمع الاقتصادية، ودخول رأس المال الأجنبي في الكثير من الأعمال وخاصة بورصة القطن ومصانع الزيوت والنسيج ... إلخ.
Unknown page