إهداء
تقديم
1 - مصر بين الحضارات القديمة والحديثة
2 - خصوصيات مصر الحضارية
3 - حول بعض المشكلات الأساسية في مصر
4 - حول بعض أقاليم مصرية مختارة وقضاياها الراهنة
5 - السياحة كصناعة
6 - مسألة المياه في مصر
7 - ماذا نحن فاعلون في القرن 21؟
8 - من مشكلاتنا الاجتماعية
Unknown page
9 - تنويعات على بعض صفات المجتمع
ملحق الصور
إهداء
تقديم
1 - مصر بين الحضارات القديمة والحديثة
2 - خصوصيات مصر الحضارية
3 - حول بعض المشكلات الأساسية في مصر
4 - حول بعض أقاليم مصرية مختارة وقضاياها الراهنة
5 - السياحة كصناعة
6 - مسألة المياه في مصر
Unknown page
7 - ماذا نحن فاعلون في القرن 21؟
8 - من مشكلاتنا الاجتماعية
9 - تنويعات على بعض صفات المجتمع
ملحق الصور
مصر
مصر
نسيج الناس والمكان والزمان
تأليف
محمد رياض
إهداء
Unknown page
إلى روح مصر الخالدة، وكل المصريين.
وإلى روح زوجتي ورفيقة حياتي، المرحومة أ.د. كوثر محمود عبد الرسول، وإلى أبنائي، عايدة وأحمد الشعراوي، ونادية وأسامة طلبة، وأحمد ومها زاهر، وإلى أحفادي، فاطمة ورياض الشعراوي، محمد ونسمة طلبة، محمد وأسامة رياض.
تقديم
تجولت كثيرا في مصر، وليست الأماكن التي سأذكرها لمجرد تعداد للحركة الدءوبة؛ بل لأن القارئ الكريم يعرف هذه أو تلك من الأماكن، ومئات غيرها تملأ الأسماع وتشكل معمور مصر ولا معمورها.
تجولت مشي القدم بعين الفاحص، ولسان التساؤل عما أرى وعما لا أرى، ولماذا هذا أو ذاك من اعتياد وسلوك، وبنية سكن ونشاط أعمال وتغير أساليب، وغير ذلك كثير على خلفية من القراءات المكتبية، ورؤى الناس وتنظير الباحثين.
في الأربعينيات حفرت داخلي صورة القاهرة القديمة والحديثة، وتلال المقطم، ونيل القاهرة من الجزيرة إلى إمبابة، والمناشي، والقناطر، وروض الفرج، ومصر القديمة، والجيزة، والهرم، وسقارة، وميدوم، والفيوم، ومنذ الستينيات مشيت للدراسة والتفحص والتقصي في قرى مصرية عديدة في الدلتا، والصعيد، والصعيد الجواني، وبخاصة قرى الحواجر: البهنسا، وصندفا الفار، وصليبة شوشة في المنيا، وحمرة دوما، وأبو مناع، والصبريات في قنا، والرمادي، وكوم أمبو، وإدفو في أسوان، وفي أنحاء الدلتا وقراها: ههيا، وأبو حماد، والصالحية، والزقازيق، وبنها، وأشمون، ومشلة، وكفر الزيات، وكفر الشيخ، ودسوق، وفوه، وطنطا، وزفتا.
وتجولت في الصحراء الشرقية من إدفو إلى مرسى علم وعبر وادي الجمال، ومناجم نحاس أم سميوكي، والدرهيب، وقبر الشيخ الشاذلي، ومن قنا إلى سفاجا، ومن الكريمات إلى الزعفرانة.
ومشيت حيث المجموعات البدوية: العبابدة من الأقصر إلى الرمادي إلى دراو وأقليت، وسيالة في أسوان، والنوبة القديمة، وإلى المحمداب والجريجاب في جنوب الصحراء الشرقية، ومجموعة الهوارة في مركز دشنا والفرجان، والجوازي البيض والحمر غرب البحر اليوسفي في المنيا، والجميعات، وعشائر من أولاد علي في الساحل الشمالي، وفي شمال سيناء: العريش، وبير العبد، وبالوظة، وعين جديرات، ووادي العريش، وسد الروافع، ومنجم فحم المغارة، ونخل، والتمد، ورأس النقب، وعيون موسى.
وكنت ضيفا متكررا في سنوات متتالية عاشقا واحات الصحراء الغربية جميعا: سيوة والبحرية والفرافرة والداخلة والخارجة. ومثل ذلك التكرار في جنوب سيناء متنوعة البهاء بين جبالها ووهادها وسواحلها: رأس سدر وأبو رديس وحمام فرعون والطور وشرم الشيخ ودهب ونويبع وطابا وجزيرة فرعون ووادي فيران ومحمية رأس محمد وسانت كترين، وآخرها كان في فندق طابا عندما نسفه إرهابيون!
وفي نيل النوبة القديمة تعددت دراساتي وسياحاتي فترة 61-1963 قبل بناء السد العالي للمجموعات النوبية الأصيلة: الكنوز والفديجة والعليقات، وتابعتهم بالزيارة والتقصي في التسعينيات وإلى اليوم في النوبة الجديدة حول كوم أمبو، وكذا تكررت رحلاتي إلى بحيرة ناصر ومشروع توشكى وأسوان أجمل بلاد الوادي طبيعة وناسا.
Unknown page
ومصب النيل العظيم في دمياط ورأس البر ورشيد وعبر قناة السويس إلى مشروع سرابيوم شرق البحيرات المرة، وفي وادي النطرون بين كنائسه وأديرته وبحيراته ورماله وبعض مشروعات استصلاح زراعية وعمرانية، وفي أماكن كثيرة أخرى من نجوع وقرى البراري الشمالية في بلطيم والرياض والشخلوبة وإدفينا، وإلى بعض قرى غرب الفيوم ووادي الريان، كان ذلك صباحا ومساء طيلة خمسين سنة.
أزور وأكرر الزيارة مرات ومرات كلما سمحت ميزانيتي أو مع زملائي أساتذة وطلبة الجغرافيا في آداب عين شمس في عشرات أسابيع الدراسات الميدانية والتدريب العملي المتعددة في أنحاء مصر، وبخاصة سيناء والصحراء الغربية.
هذا الكتاب هو حصيلة كل هذه التجارب العملية وكثرة المشي خطوة خطوة على أجزاء من أرض مصر الملهمة سواء كانت مزروعة أو ما زالت بكرا رملية أو جبلية، ومن خلال السفر والترحال في نيلها شريان الحياة - أرقب وأدون وأصور وأتابع وأدقق فيما كان وما سيكون - وهو أيضا تجميع لبحوث ومقالات بعضها في محافل علمية وندوات بحثية في مصر وأوروبا وأمريكا، وأغلب ما نشرته في جريدة الأهرام ومجلة روز اليوسف من مقالات موجزة بطول العقد الأخير.
وبعض مما جاء في كتابي مع المرحومة زوجتي «رحلة في زمان النوبة» (1998) وكتابي «القاهرة: نسيج الناس في المكان والزمان» (2001)، الأمل كبير في أن يرى القارئ الكريم بعض ما أراه من أجل خير مصر مع عدم العدوان على التوازن الطبيعي بين الإنسان والموارد المتاحة، وتحري مدى استخدام التكنولوجيا المتقدمة وتوافقها مع الموروث والمورث، ومع اتساع نظام الدولة ليشمل تمثيلا حقيقيا لكل الآراء بالوسائل السلمية، والحرية في الرأي والتعبير، وممارسة حقوق الإنسان في الريف والحضر على السواء مرة أخرى من أجل استعادة التوازنات، والنمو الرشيد في ربوع هذه البقعة الوسط في كل شيء من عالم الكرة الأرضية وحضاراتها، وحتى نرقى على قدر حجمنا للتفاعل الإيجابي كعضو في المجموعة البشرية.
محمد رياض
القاهرة، مارس 2007
الفصل الأول
مصر بين الحضارات القديمة والحديثة
الدوائر الحضارية بين النمو والاضمحلال (1) الحضارة متغير دائم بين التطور والجمود والانفتاح، وكارثة السقوط البشرية المعاصرة
منذ قرنين على الأكثر بدأ الإنسان يدخل دائرة حلزونية متصاعدة متفاقمة بين الطلب والاستجابة للطلب بكثير من الوسائل التقنية الجديدة والمستجدة أو المطورة، لكن ذلك - وإن كان يحل إشكالية الطلب - إلا أنه بعد فترة ما طالت أو قصرت حسب حجم المجتمع وواقع ظروفه الحياتية، يبدأ طلب آخر يستجد من واقع الظروف الجديدة، يروج له بإلحاح جميع وسائل الإعلام، والإعلان المكتوب والمرئي والمسموع بحيث لا فكاك! هكذا تستمر الأمور في دوائر متصاعدة لكنها متزايدة الحجم والنوع، مثل القمع واقف على فتحته الضيقة ويتسع كلما ارتفع المنظور (الطلب/الاستجابة) إلى أعلى؛ فهل يطفح القمع إلى هباء؟
Unknown page
أم هل لا بد له أن يقع وتبدأ دورة جديدة ربما من الصفر في حالة وقوع كارثة؟
أم يبدأ من حيث انتهينا ولكن بكثير من التواضع بديلا للعجرفة السائدة تحت شعار قوة قدرات الإنسان الإبداعية؟
وقوع الكارثة غالبا تحدث مصادفة، كأن يلعب العلماء لعبة الاستنساخ تحت تأثير وتمويل محرك سياسي، هو غالبا عنصري الهدف لتغليب سلالات معينة على أخرى، أو قد تقع الكارثة نتيجة ازدياد الجوع بين الشعوب الفقيرة، ومن ثم هلاك الملايين برغم مساعدات إنسانية تظهر أحيانا بين بعض منظمات الشعوب المتقدمة. وأيضا بالإضافة إلى التفضل على دول العالم الثالث بالمساعدة على إنشاء صناعات هي غالبا ملوثة للبيئة وصحة الإنسان، ولم تعد تحتمل شعوب الدول المتقدمة وجودها بين ظهرانيها، أو صناعات تحتاج أيدي عاملة كثيفة رخيصة غير موجودة إلا بين الدول المتخلفة أو النامية!
النموذج الحي لهذا التصور هو العلاقة بين الإنسان وتقنيته في ابتداع مصادر الحياة من المياه العذبة - أمطار وأنهار - لتنمية وتطوير أشكال عملية إنتاج الغذاء النباتي والحيواني. هذه العلاقة قد تتجمد عند شكل حياتي معين لفترة طويلة - كاستمرار الزراعة وتربية الحيوان من عشرة آلاف سنة وحتى الآن - أو نتيجة العزلة المكانية مع تفاعل حضاري بسيط مع الجيران، كما حدث لعدد من شعوب العالم الثالث وبخاصة في أفريقيا، أو قد تقصر فترة الجمود المجتمعي نتيجة اكتشافات جديدة في عالم المعادن والطاقة، أو تطوير استخدامات المياه لري أراض جديدة أو نتيجة الحروب التي تسرع بالتقاء الثقافات والحضارات برغم بعض الدمار الناجم عن الصراع الحضاري والإمبريالي، أو إلى آخر ذلك من الأحداث التي تكتنف حياة المجتمعات والشعوب على مر الزمن من حيث زيادة أو تناقص أعداد السكان، والجمود أو الانفتاح الحضاري والثقافي وموارد المكان والعلاقات المجالية الناجمة عن التبادل التجاري؛ لأن المجتمعات - حتى القديمة منها - لا تتمتع مكانيا بوجود كل الموارد اللازمة للمنسوب الحضاري الذي يعتاده المجتمع في تغيره كل زمان على حدة. (2) المجتمعات البدائية: المساواة والحس البيئي العالي
أوثق العلاقات بين الإنسان والبيئة هي العلاقة مع المياه العذبة التي هي نتاج تفاعل الدورة الهيدرولوجية العالمية التي تسبب الأمطار وجريان الأنهار، وتكوين البحيرات والمستنقعات والمناطق الرطبة الدائمة، وتكوين الغطاءات الجليدية بتناقص درجات الحرارة، وتكوين المياه الجوفية نتيجة التسرب داخل مسام الصخور، ثم عودة ظهورها في صورة ينابيع متدفقة دافئة أو باردة تسيل أنهارا ونهيرات ترعى مع الأمطار عالم إيكولوجي قاعدته أعشاب وأشجار فوقه عالم الحيوان العاشب وفوقهما عالم الحيوان اللاحم المفترس.
والإنسان القديم يرى نفسه جزءا من هذا الهرم الإيكولوجي يتنافس مع الحيوان اللاحم لصيد الفرائس، وينافس الحيوان العاشب في غذاء من الجذور والأوراق والثمار، لم يغتر البدائي بقدراته التي تتشكل تجريبيا من ممارسات يختزنها عقلا ويطبقها نمطا - وإن كان يضيف إليها تنويعات نتيجة ظرف طارئ أو موقف جديد مناخي أو بيئي بصفة عامة؛ لهذا لم يكن ينظر لنفسه - كما هو الآن - على أنه يقف على قمة الهرم الإيكولوجي، بل واحدا من عناصره متجاوب تماما لشروط بيئته ... لهذا استمر البشر منتشرين هنا وهناك جزءا من البيئة مئات آلاف السنين حتى تحول من مستهلك إلى منتج للغذاء، فكان ما كان من متغيرات أحداثها لم تقتصر فقط على البيئة الطبيعية بل أيضا على تراكيبه وقيمه المجتمعية، سنذكرها بعد قليل.
الخلاصة أنه في ماضي الإنسانية البعيد عاشت المجتمعات ضمن معطيات الأنظمة البيئة المتعددة ونادرا ما عاندتها ولوت ذراعها، وإلا كان نصيبها الفقر والمجاعة والاندثار، يشرب الإنسان ويجمع النباتات البرية وثمارها ويصيد السمك والحيوانات البرية التي يستسيغ لحمها. وإذا أفرط في الشغف بمورد غذائي شجري أو حيواني أو سمكي معين تتصدى للمجتمع آلية «الشامان» رجل الشفافية مع العالم غير المرئي، فيفرض «تابو» (تحريم) إلهي أو رؤى من أرواح السلف تمنع تناول هذه الأنواع المهددة بالاندثار نتيجة الإفراط في جمعها أو بالصيد الجائر، وبعبارة أخرى كانت لدى المجتمعات القديمة آليات تحترم النظام البيئي؛ لأن تخريبه بالتجاوزات يؤدي إلى افتقار المجتمع ويضطر معه إلى الهجرة بحثا عن موطن آخر. (3) الزراعة والاستقرار: حضارة الملكية الفردية والمجتمع الأبوي
ثم اكتشفت النساء الزراعة، بحكم أن تقسيم العمل كان يقتضي ذهاب الرجال عدة أيام إلى عمليات الصيد البري المحفوفة بالمخاطر، بينما كان على النساء البقاء في الموقع السكني لرعاية الأطفال وجمع الثمار والجذور النباتية والحبوب البرية للغذاء اليومي الدائم؛ ولهذا فإن احتكاك المرأة بعالم النبات قد جعلها تلاحظ كيف تنمو البذرة البرية إلى نبات، فقلدت هذه العملية الطبيعية ونجحت في الحصول على المحصول المفضل من الحبوب، ولكن سرعان ما ازداد تأمين العيش باستيلاء الرجال على مهنة الزراعة، ومعها استأنسوا حيوانات صارت أليفة هي الأغنام والأبقار ودواب الحمل والانتقال، وبذلك كف الرجال عن نشاط الصيد إلا في حالات خاصة ربما مرتبطة بطقوس هي فاتحة مواسم الوفرة الغذائية مضاف إليها شكر للآلهة.
ومع انتشار الوفرة المزدوجة من الزراعة أو تربية الحيوان، أو هما معا ظهرت قيمة الأرض والضرع وأصبحت ملكا فرديا متوارثا يتصرف فيه المالك بكل أشكال القانون السائدة بعد أن كانت ملكا مشاعا لكل أفراد العشيرة، ومعها زاد عدد السكان لأسباب منها الوفرة الغذائية المنتجة تحت اليد، ومنها تناقص الوفيات نتيجة قلة المخاطر المرتبطة بالصيد، وقلة مخاطر الوفيات لنقص الطعام أو سوء التغذية، وأخيرا منها رغبة جامحة في حفظ الميراث للأبناء والدفاع عنه بكثرة الولد من تعدد الزوجات، وأشياء أخرى كثيرة متراتبة شكلت في النهاية حضارة المجتمعات الأبوية أو الذكورية التي امتدت إلى اليوم، وتناهضها النساء الآن للعودة مرة أخرى إلى المساواة التي ميزت البشرية البدائية مئات الآلاف من السنين ...
ونتيجة كل هذا الشيء من المتغيرات حدثت متغيرات أخرى في وظائف أفراد المجتمع، أهمها تحول بعض الرجال إلى إدارة التنظيم المجتمعي المتنامي والدفاع عنه ضد غائلة الشعوب الطامعة في تلك الوفرة، وهو أول ظهور التنظيم السياسي في المجتمعات. بعض الشعوب فضل أن يكون الرأي لكبار السن وحكمائهم نتيجة تجاربهم الحياتية أدى إلى استقرار مجتمعي نسبي ينمو داخل أطر قيمية شبه ثابتة، ومن ثم فالتغير عندها بطيء يحتاج إلى قادح إيديولوجي
Unknown page
Catalyst
عميق الأثر في إعادة ترتيب المجتمع كظهور الأديان السماوية، أو الثورات والقلاقل الشعبية كما حدث في مصر الفرعونية مرتين على الأقل، أو ثورة العبيد في روما، وثورة الزنج في جنوب العراق والخليج في العصر العباسي، والثورات الكبرى الحديثة وبخاصة الفرنسية والروسية والصينية، وبعض المجتمعات فضل أن يكون الرأي لكبار القوم من المحاربين، ومن ثم ينشأ مجتمع قابل للتغير بنسبة أكثر، وإن كان هو الآخر داخل أطر قيمية لكنها قادرة على تقبل التغير في الزمان والمكان، كالمغول حين امتصتهم الحضارة الصينية والترك حين اندمجوا في الإسلام، والجرمان حين دخلوا المسيحية.
وهكذا أعيد تقسيم العمل في المجتمع فاحترف الرجال العمل الإنتاجي في الحقول وتربية الحيوان بمساعدة محدودة من النساء التي انكمش عملهن إلى داخل البيت ورعاية الأطفال وتعليمهم تراث الماضي، وكيف يتعايشون في نسيج المجتمع حتى سن البلوغ فيخرج الصبية إلى نادي الرجال ليتعلموا صنعة الرجال والآباء في الزراعة، أو الحرف، أو التجارة، أو الإدارة، أو الكهانة، أو الحرب، بينما تتعلم الفتيات اقتصاديات الحياة المنزلية وأصول الأمومة وتنشئة الصغار. (4) الحضارات النهرية الكبرى
إن كانت الزراعة قد اكتشفت في الوديان الجبلية الصغيرة فيما بين جبال القوقاز وزاجروس وطوروس؛ أي تلك المحيطة بشمال الهلال الخصيب، إلا أن أكبر اتساع سلطوي ونمو مجتمعي تغير إلى تنظيم الممالك السياسي قد حدث في السهول النهرية الخصبة: النيل والفرات والسند وأعالي هوانجهو - النهر الأصفر - مما اقتضى تسميتها الحضارات الهيدرولوجية أو باختصار حضارات الأنهار، هنا حضارات قديمة بعضها لم يستمر أكثر من ألفي عام كالحضارة السومرية في جنوب العراق ووسطه، وحضارات السند الأوسط والأدنى في باكستان، وبعضها استمر إلى بضعة آلاف السنين كالحضارة المصرية والصينية والهندية، وكلها أورثت شعوبها على امتداد الزمن الكثير من جوانب حضارتها، وتراثها المادي والروحي حتى الآن برغم التغيرات الأصولية التي انتابتها سواء في تركيب السكان أو العقائد أو الإيديولوجيات، وفي هذه الحضارات تمت الأصول الجذرية للمعرفة الموثقة بالكتابة، ومن ثم بدأ الإنسان يبني على ما تقدم بدلا من إعادة البناء كل مرة باجتهادات فردية في المجتمعات السابقة على الكتابة. (5) حضارات تموت واقفة
مع الوفرة والتنظيم السياسي زادت أعداد السكان مما استدعى توسع في الزراعة وابتكار آلات رفع المياه وحفر القنوات لري الأرض البعيدة عن النهر، ففي حضارات ما بين النهرين - العراق الآن - أدت كثرة الري وقلة الانحدار الأرضي الذي يسهل التصريف المائي بعد الري في جنوب العراق - حيث نشأت حضارة وممالك المدن السومرية بإجمال - أدت إلى مشكلة خطيرة، هي أن الأرض أصبحت غدقة لارتفاع الماء الباطني بشدة وتمليح التربة نتيجة ارتفاع الحرارة في موسم الصيف، مما كان الشغل الشاغل للسومريين فيما عرف باسم بذل أو صرف المياه وغسل التربة وهو ما صار إلى تدهور إنتاجي وتحرك مراكز القوة السياسية شمالا من ممالك مدن سومر إلى بابل والحضارة البابلية - قرب بغداد، ثم شمالا مرة أخرى إلى نينوي - قرب الموصل - حيث حضارة الأشوريين، وقد استمرت مجهودات استعادة الإنتاج في الجنوب خلال العصر العباسي فيما عرف باسم أرض السواد بالاعتماد على عمالة الرقيق السود الذين تمكنوا من التمرد لفترات طويلة عرفت باسم ثورة الزنج، وما زالت مشكلة الصرف في الجنوب هي إحدى التحديات الكبرى في العراق إلى الآن، ويتضح أن تجاوزات الإنسان للظروف البيئية كان واحدا من أسباب انهيار حضارات ما بين النهرين، والأسباب الأخرى سياسية حربية تمثلت في هجرات الهندو-أوروبيين إلى الهند والشرق الأوسط، فيما بين إيران وكردستان وأرمينيا وتوسع ميديا وبارثيا وفارس إلى سهول الرافدين وما بعدها إلى معظم غرب آسيا ومصر، ثم انتشار الدولة الإسلامية إلى العراق وفارس فيما بعد.
وتتمثل الحضارة النهرية في حوض السند الأوسط والأدنى في آثار مدينتي «هارابا» و«موهانجدارو»، حيث قامت حضارة مدنية كبيرة ذات تنظيم سياسي زراعي تجاري استمرت قرابة ألفي عام ثم اندثرت مرة واحدة، أسباب ذلك غير معروفة؛ لأن الكتابة السندية لم تحل شفرتها إلى الآن، ومن ثم لا نعرف عنها سوى الآثار الكبيرة التي تم اكتشافها، ويرجح بعض الباحثين أن حوض السند تعرض حوالي الألف الثانية قبل الميلاد إلى موجات هجرة بأعداد كبيرة من الهندو- أوروبيين القادمين من وسط آسيا، ربما بسبب موجة جفاف طويلة أو ربما نتيجة تحرك شعوب كالآفار والترك من منغوليا إلى وسط آسيا، وقد كونت موجات الهجرة الهندو-أوروبية فيما بعد الإضافة الأساسية للسكان الأصليين من الدرافيديين بحيث تشكلت المجموعات السلالية واللغوية الحالية لسكان الهند وباكستان، وهنا أيضا نرى أسبابا بشرية ناجمة عن تحرك الشعوب في هجرات واسعة أدت إلى اندثار التنظيم السياسي لحضارة السند، وإن بقيت بعض عناصرها الثقافية في النسيج الحضاري الجديد.
أما حضارة الصين فتشتمل على عدة عناصر من مكونات البيئة والنشاط الزراعي والتجاري والثقافي تداخلت بقوة في نسيج الجماعات المغولية التركية التي اكتسحت الصين، فتحول المنتصرون فيما بعد إلى أن أصبحوا صينيون حضاريا وثقافيا. والأغلب أن المنتصرون كانوا أقل ثقافة برغم قدرتهم التنظيمية العسكرية فامتصتهم الثقافة الصينية وهضمتهم في تركيبها السكاني الساحق ومساحتها الشاسعة.
وأخيرا فإن حضارة مصر-النيل تمثل أصغر المساحات في الحضارات النهرية، ولكنها أدوم تلك الحضارات عمرا وتركيبا. وادي النيل المصري طويل ضيق واضح المعالم، والنهر هادي الجريان معظم السنة مما جعله طريق آمن للنقل والانتقال فيما عدا موسم الفيضان حين تهدر مياهه فتغرق الكثير من سهل الوادي - وهي ظاهرة هيدرولوجية استغلها المصريون أحسن استغلال بابتداع نظام ري الحياض الذي ضمن تصريفا للمياه بعد الفيضان وضمن إثراء للتربة بما يترسب فوق أرض الحياض من الغرين، ومن ثم تكونت أصول الغنى والوفرة التي ميزت مصر عن غيرها من الحضارات النهرية، أما الدلتا فهي أعرض من الوادي وفروع النيل فيها كثيرة مما يسمح بالري والانتقال في مختلف نواحيها، ولكن مناطقها الشمالية أرض مستنقعات دائمة كونت حماية طبيعية ضد الغزو البحري، بقايا المستنقعات ما زالت قائمة في البحيرات الشمالية المتصلة بالبحر - المنزلة والبرلس وإدكو، وأيضا فيما عرف باسم أرض البراري وبحيرة مريوط - شمال محافظات الدقهلية وكفر الشيخ والبحيرة.
اعترت مصر القديمة في أحيان معروفة تاريخيا تفكك سياسي، ولكن الوحدة الحضارية المصرية ظلت قائمة، وعلى أزمان طويلة كان هناك تفاعل مستمر بين الحضارة المصرية والحضارات حولها في غرب آسيا وحوض البحر المتوسط الشرقي وجزره العديدة، فيما بين قبرص والأناضول وفيما بين كريت وبحر إيجة وبلاد اليونان الحالية. وفي عصور النهاية أصبحت مصر فارسية ثم إغريقية بطلمية ثم رومانية ثم ضمن الدولة الإسلامية، ثم استقلت من عهد الطولونيين والإخشيد ثم أصبحت القاعدة الأساسية للدولة الفاطمية والأيوبية والممالك البحرية - الأتراك - والمماليك البرجية - الجراكسة - ثم الدولة العثمانية وفترة بونابرت والحملة الفرنسية، وأخيرا استقلت فعلا منذ محمد على وأسرته، وجاء الاحتلال الإنجليزي، ثم عصر الجمهورية الحالي.
أين راح كل هؤلاء؟ فرس وإغريق ورومان وعرب وكرد وأتراك وشراكسة وأتراك عثمانيين وفرنسيين وإنجليز! لقد هضمتهم الحضارة المصرية لدرجة أن الجاليات اليونانية والإيطالية والفرنسية التي كانت تعيش وتموت في مصر كانوا مصريين بصورة ما، وحين اضطر بعضهم للهجرة إلى بلاد أجدادهم في الستينيات من القرن الماضي كانوا يتحسرون على حياتهم في مصر، ويتوقعون أن تعاملهم شعوب أجدادهم على أنهم أغراب يتكلمون لغتهم بكثير من الرطانة المصرية ويعيشون بكثير من أسلوب الحياة المصرية وقيمها - وحسب قول بعضهم لي على ظهر باخرة إلى إيطاليا (1959): نحن سوف نوصف بأننا إيطاليون «جربانين»!
Unknown page
لكن مصر فقدت في نصف القرن الأخير كثير من القيم التي كانت تؤمن التوازن بين المصريين بصورة مقبولة، ما السبب؟ الإجابة ليست سهلة؛ لأن مربع التفاعلات تضخم نتيجة أبعاد جديدة سياسية وإيديولوجية وقيمية، لكنها لم تحظى بثبات زمني يجعل ممارسة المصريين قادرة على انتقاء القيم الاجتماعية الاقتصادية بالتطور التدريجي من الداخل بحيث تظهر قيم وسلوكيات مقبولة لدى قطاع كبير من الناس.
فهل نشهد جمود أسس حضارة حائرة تطغى عليه أسس جديدة أو سالفة؟
الإجابة على التساؤل صعبة وتتناول الكثير من العناصر الفاعلة؛ أولها: تزايد السكان، وثانيها: الاستجابات السريعة لمشكلة تناقص الأرض الزراعية، وثالثها: المزيد من التحكم في مائية النيل، ورابعها: عدم التوافق بين أنظمة الزراعة الحديثة والموروث عند الفلاح من ممارسات استزراع الأرض، وخامسها: طغيان عوائد البترول والغاز الطبيعي والسياحة وهجرة العمل إلى الخارج مما أدى إلى فقدان التوازن بين استثمارات النشاط الزراعي بإجمال في الناتج الوطني العام، وسادسها: استثمارات محدودة لتطوير الإنتاج الصناعي الكبير والمتوسط مما أدى إلى ضعف مساهمته في الناتج العام، وسابعها: دخول الاستثمارات الأجنبية والرأسمالية الوطنية والأجنبية في الصناعات المصرية الغذائية المنتجة للسوق المصري والشرق الأوسط، وربما هناك عناصر أخرى كثيرة لكننا نتوقف عند هذه العناصر الهامة شديدة التأثير على التوجهات الاقتصادية في مصر، وربما كانت هي أحد أسباب البلبلة في اتجاهات الأنشطة بين الإنتاج - زراعة وصناعة وتصدير خامات الطاقة - وبين الخدمات التي تتوفر في السياحة والتجارة والنقل السلعي ونقل الأفراد.
الخلاصة أننا فقدنا توازنات كثيرة في الاقتصاد القومي ومن ثم العمالة والبطالة، وكلها أنجبت الكثير من القلق الاجتماعي السياسي معا الذي ظهر جليا في تكون أحزاب سياسية متعددة ليس لأغلبها برنامج مدروس بكفاية وإنما معالجات لمواقف منفصلة كحزب لسكان الجنوب أو آخر يدعو إلى العودة إلى نظام الملكية العامة مناهضا للخصخصة، والآخر يعترض على رواسب إنتاج العقود الأخيرة ويطلب إصلاحا سياسيا ديموقراطيا دون أن يكون له كيان سياسي شعبي وبرامج واضحة، وإنما يتخذ شكل تجمع غالبا ينفض إلى شعب متعددة عند مواجهة وقائع الأمور. (6) موجز المشكلات المصرية
مخططات تنموية أم شيزوفرينيا محلية؟
شيزوفرانيا تعني آراء وقرارات متناقضة تجاه نفس الشيء، ولدى الساسة ومتخذي القرار على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي يشمل عدد كبير من المتناقضات الناجمة عن اختلاف النظرية في الحكم والاقتصاد، واختلاف أبعاد الرؤى في كل مجتمع على حدة؛ ففي الأقاليم التي توصف بسيادة النظم الديموقراطية حالات تختلف كثيرا عن غيرها من أنظمة حكم أخرى فيما يخص القوانين والتشريع والتطبيق ومحاسبة كل من يخرج عن الإجماع المتفق عليه؛ بينما في النظم الأخرى التي تملك وتحكم بنظام الأبوة لشعب يحتاج قيادة تتقرر أهداف التغير المجتمعي القانوني والتشريعي بالارتباط بمصالح عليا محلية ودولية. ولأنها عادة غير نابعة من احتياجات الداخل تتساقط أهداف في دائرة النسيان فنعود من جديد نبني نقائض أخرى، وهكذا تسير الأمور غالبا «محلك سر» أو تقود إلى تغيير بطيء شديد التكلفة في الوقت والمال والجهد المبذول، ولو كان العالم النامي يرتب الأوليات والنقائض موضوعيا فلا بد أن الانطلاق سوف يصل إلى هدف أو آخر، لكن التوازنات الدولية والقومية وقوة الأقطاب العالمية لها حسابات أخرى معظمها لصالح القوى والفتات لصالح الشعوب.
هذه المقدمة قد تبدو معماة ولكنها كبد الحقيقة، ولو ألقينا عليها أضواء من تجارب مصر وممارساتنا المضنية سوف تتضح لنا أوضاع موجعة برغم كونها أصلا مفروشة بالنيات الحسنة.
نماذج مصرية خلال إطار زمني طويل أو قصير (1)
إن مصر بحكم تكوينها الجيولوجي فقيرة في المعادن مع استثناءات محدودة العدد، ربما كنا أغنى معدنيا في العصور القديمة، لكن الفراعنة قد استنفذوا الكثير المطلوب آنذاك من المعادن في جبال البحر الأحمر وسيناء الغربية وبخاصة الذهب والنحاس، وفي عصرنا الحالي، وبتكنولوجيا التعدين الحديثة بدأت مشروعات استخدام بعض الموارد التعدينية مثل فحم المغارة في شمال سيناء، وفوسفات أبو طرطور في الوادي الجديد، وحديد الواحة البحرية، فضلا عن موارد الطاقة الحفرية من البترول والغاز الطبيعي في الصحاري والمياه البحرية الإقليمية، ومن المعروف أن أهداف هذه المشروعات لا تتضمن إقامة مستوطنات عمرانية جديدة لحل مشاكل التكاثف السكاني، وتزاحمهم في الدلتا والوادي وفي المدن والحواضر؛ ذلك أن مناطق التعدين في أغلبها الأعظم ليست إلا مجرد معسكرات عمل هي ديموجرافيا معسكرات رجال لا يكونون مجتمعا متكاملا؛ لأن الموارد التعدينية غالبا ذات مخزون محدود حين يستهلك أو يصبح استخراجه أعلى تكلفة من سعره المحلي أو العالمي، يهجر العاملون المكان، وتبقى بعض أطلاله شاهدا على فترة زمنية ماضية مثل أطلال الفراعنة في استخراج المعادن. (2)
ما زال البترول (متناقص الموارد)، والغاز الطبيعي (متوازن المصادر) يشكلان ثروة مصر التعدينية الرئيسية، أما فحم المغارة فهو من نوع رديء (لجنايت) لا سوق له إلا في حالة الضنك التي لم نصل إليها بعد، ومن ثم فشل المشروع بعد إنفاقات استثمارية، والفوسفات أنفق عليه مليارات، وعلى الأغلب هو نوع جيد لكن سوقه العالمي مغرق وبالتالي فقد توقف العمل إلا قليلا، وأنواع الأسمدة الفوسفاتية كثيرة وتقوم عليها صناعة أحماض فسفورية مهمة، وعلى وجه العموم فإن الزراعة في أراض جديدة كمناطق استصلاح تحتاج إلى الأسمدة من كل الأنواع وبالتالي هناك حاجة له في مصر وآسيا وأفريقيا، ولا شك في أن المسئولين يقومون بتقصي حركة السوق العالمي وبخاصة في الصين والهند المستهلكين الأول للأسمدة عالميا.
Unknown page
والخلاصة أن الاستثمارات في الموارد الطبيعية تكاد أن تختصر في إنتاج الغاز والبترول وأعمال الكشف عن حقول جديدة لهما بإشراك شركات عالمية. (3)
المشروعات الكبرى أو أحيانا تسمى مشروعات قومية أنفقنا عليها مليارات من الجنيهات أو الدولارات، أو بأي مقياس آخر بشري مثل كم من جهد آلاف العاملين يقوم بسعر الساعة أو اليوم أو السنة، وكم من آلات وأجهزة ومضخات وكابلات الجهد العالي وتوربينات ووقود وسيارات ولواري استهلكت، وكم من طرق شقت وعبدت، وكم من جسور وكباري وأنفاق و«سيفونات» - أنفاق تحت مجار مائية - بنيت، وكم من ترع وقنوات أنشئت، وكم من مساحات من مئات وآلاف الأفدنة مهدت، وكم من مساكن عمال وفيلات مديرين ومبان إدارية شيدت، وكم وكم ... وكم يقدر ذلك كله مقوما بالمال في زمانه ومقوما بقيمة العملة في زماننا الحالي، ومقوما بالزمن الذي استغرق تشييده ومقوما بالدمار الذي ألحقناه بالبيئة في محاولة تطويع أرض هشة لرغبات جامحة مدعومة بالدعاية والإعلام المطنب المطنطن، ثم الصمت البليغ عن قصور الهدف واختصاره إلى مرحلة أولى لا تليه مرحلة أخرى - كم هي قاسية بيئتنا الطبيعية وكم هي عفوية بيئتنا البشرية تضرب ضرب عشواء دون مراجعة واستذكار وتوقع مستجدات الأمور من إشكالات تسببنا فيها وكنا في غنى عنها! (4)
من أمثلة المشروعات القومية: الوادي الجديد في الواحة الخارجة وتوشكى على بحيرة ناصر في النوبة القديمة، وترعة السلام في شمال سيناء، ومشروعات الزراعة في شرق العوينات، والمشروع القديم للزراعة في شرق البحيرات المرة عبر منطقة سيرابيوم، والمريوطية في غرب الإسكندرية، وتحويل حلوان-التبين إلى «رور» صناعي على النيل يضاهي إقليم الرور على نهر الراين في ألمانيا، وميناء الحاويات في شرق التفريعة شمال قناة السويس، وميناء العين السخنة في جنوب قناة السويس، ومجمع فوسفات أبو طرطور في الواحات، وخط السكة الحديد من أبو طرطور إلى ميناء سفاجة عبر الصحاري الغربية والشرقية، وعبر محافظة قنا إلى البحر الأحمر، ومشروعات أخرى بعضها فشل في المهد كحديد جنوب أسوان شرق بحيرة ناصر، وحلقة المدن التوابع حول القاهرة، والطريق الدائري بغرض حل اختناق القاهرة فأنتج ضواح للصفوة من كبار المليونيرية واختناق لحركة مرور القاهرة الكبرى، وكذا مشروع ممر التعمير المغرق في الأحلام والمتناهي الضخامة والتكلفة، والذي يمتد من البحر المتوسط قرب العلمين إلى حدود السودان في مسار هائل (1200 كيلومتر) غرب الدلتا والوادي ... وغير ذلك كثير على مستويات محلية. (5)
الهدف غالبا ذو قصد حسن من هذه المشروعات، قد يكون الهدف إيجاد حل لمشكلة السكان في محافظات الفقر في جنوب مصر أو شمالها، وذلك بتمهيد أرض استزراع وتهجير الناس إليها، قد يكون الهدف مستقبلي بزيادة المساحة المعمورة من مصر من مجرد 5٪ إلى أحلام 25٪ المستحيلة علما ومنطقا وواقعا، قد يكون الهدف استراتيجيا بمعنى إعمار مناطق مصرية خالية وبالتالي جعلها امتدادا عمرانيا إلى الجنوب في النوبة وبحيرة ناصر وشرق العوينات، ومشروعات على رأسها توشكى التي تفتخر بأنها تضم أضخم مضخات رفع المياه على مستوى العالم، ثم تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، أو إلى الشمال الشرقي في شمال سيناء حيث تجري ترعة السلام إلى لا شيء ملموس يمكن أن يتناسب مع الإنفاقات والمضخات والسيفونات تحت قناة السويس حتى الآن، وقد تكون كل هذه الأهداف معا في مشروع أو آخر مثل استنفاذ غير مبرر لمياه جوفية في واحات الصحراء الغربية محدثا دمارا بيئيا يلخصه نفاذ مخزون المياه الجوفية في فترة زمنية قصيرة، أو مشروعات الزراعة على امتداد مريوط، والوادي الفارغ في منخفض النطرون. (6)
وفي مقابل هذه الاهتمامات بالمشروعات القومية نجد نوعا من الإهمال أو التناسي للقلاع الصناعية المصرية وبخاصة صناعة القطن في المحلة الكبرى وكفر الدوار والبيضا وشبين الكوم وغيرها، لم يقتصر الأمر على تدهور النسيج المصري الذي كان في قمة الإنتاج العالمي، بل زاد الموضوع سوءا على سوء بتناقص إنتاج القطن نتيجة خسارة القطن معركة المنافسة مع الأرز لأسباب كثيرة منها أن السوق الداخلي للأرز في متناول الفلاح والتاجر المحلي، بينما سوق القطن تتناوله أيدي كثر من السماسرة والبورصة والتجار المحليين والأجانب، وتأثره أيضا بمجموعة العلاقات الدولية المصرية بين الكتل السياسية العالمية منذ الستينيات إلى التسعينيات في شد وجذب وازدهار وركود للتوجهات السياسية والتجارة الخارجية. هذا فضلا عن منافسة ضارية في السوق الأوروبية والعالمية لصناعات الملابس من شرق آسيا للصناعة المصرية المماثلة، وأخيرا سياسات الإغراق التجارية الصينية على المستوى المحلي والعالمي ... (7)
انعكاسات كل ذلك ظهرت مؤخرا جدا في صورة إضرابات عمال صناعات القطن المختلفة من الغزل إلى النسيج إلى الملابس في المحلة وكفر الدوار وشبين، وما قد يتلو ذلك في صناعات مصرية أخرى تعاني المنافسة والكساد معا. (8)
هل تظل هذه الإضرابات والاعتصامات التي تطالب بأشياء محدودة كتوزيع الحوافز والأرباح على العمال تدور في هذا المحور الضيق؟ أم ستتسع إلى حركة نقابية أكبر وأقوى؟ أم تلتقطها الأحزاب السياسية المصرية وجماعات الضغط المختلفة - دينية وعلمانية - لتصعيد أكبر لإشكالية معاناة سوق العمل المحلي ودور البطالة والمهمشين من القوى العاملة المصرية؟ (9) «مصر هبة النيل» قول مأثور عن هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد بعد أن راعه هذا الغنى وتلك الوفرة الزراعية في سهول الدلتا والوادي مقارنة بحال الحقول في الوديان الجبلية الصغيرة الفقيرة في اليونان والأناضول وفينيقيا ... «مصر هبة سكانها» قول آخر مأثور لأستاذنا الراحل سليمان حزين، وبرغم مأثورة هيرودوت المدهشة فإنني أميل أكثر إلى أن نشاط الإنسان الواعي المبدع هو سبب أكبر في التميز المصري منذ آلاف السنين، وذلك باعتبار أن النيل والبيئة المصرية كتاب مفتوح يمكن أن يصبح مصدرا للثروة بفضل أهلها وإبداعهم في ابتكار استخدام النهر والتربة بري الحياض كأول مدرسة للزراعة المروية في العالم المعروف آنذاك، أو يمكن أن يظل مجرد مسار نهري يكتنفه اللوتس والبردي والبوص ويتعايش على أسماكه المقيمون حوله دون إبداع يذكر! ... «ومصر هبة الصحراء» قول ثالث لعلماء دراسات ما قبل التاريخ، فقد عاش سكان ما هي مصر الآن في المناطق الصحراوية الحالية التي لم تكن صحراء حقيقية إلا نحو 2500ق.م ومن ثم فإننا نعرف الآن قدرا من جذور الحضارة الفرعونية بدراسة اللقى الأثرية للمصريين منذ أكثر من عشرة آلاف سنة مضت وبخاصة نمط حياة الصيد وبعض الرعي، ومستوطنات سكنية عديدة في وادي الكوبانية (جنوب إدفو) ونبطه-كسيبة (غرب أبو سمبل) وسيوة وسيناء ... إلخ، وبخاصة المعرفة الفلكية والحساب الرياضي والتقويم الفلكي والشمسي (آثار نبطة)، وكلها مقدمات طالها التطوير في العصور الفرعونية التالية! (10)
هذه المقدمة ضرورية لكي نفهم أن استمرارنا في التحكم في مياه النيل منذ عصر محمد علي قد أدى تدريجيا إلى فرض قيد قاس على النهر بإنشاء السد العالي. وهذا السد هو مثار جدل دائم حول المؤيدين والمعارضين، فله مزايا لا تنكر وكذا عيوب لا تنكر ربما ليس هنا مكان الحديث عنهما؛ لكن الأخطر أننا بالغنا في تعظيم الاستفادة من مخزون مياه بحيرة ناصر داخل أراضينا حتى كاد النيل أن «يفقد وعيه»، ويقل تصرف المياه فتشحط كثير من السفن السياحية ويتعرض السياح لمخاطر حياة في ذات الوقت الذي نبذل فيه الشيء الكثير للترويج للسياحة في الخارج، يقل تصرف النهر بالتحكم في كمية المنصرف شمال السد من أجل احتياجات أراض زراعية جديدة في أماكن بعيدة وقريبة مثل أرض مشروع توشكى، وترعة السلام والنوبارية وإمدادات المياه إلى نطاقات المدن السياحية في المشاتي والمصايف في جنوب سيناء، وساحل البحر الأحمر والساحل الشمالي الغربي، هذا فضلا عن نظامنا الزراعي في الدلتا والوادي الذي انتفت فيه فكرة الدورة الزراعية، وإراحة التربة بنمط الشراقي لتجديد قوتها، بل بالغنا في الزراعة الدائمة فأجهدنا التربة ورفعنا مناسيب المياه الجوفية لدرجة تهديد التربة بالشيخوخة والعفن والسموم من كثرة استخدام الأسمدة الكيماوية لإرغام الأرض على إنتاج المزيد.
ومن هنا بدأنا نفكر في استزراع بعض الصحراء وهي عطشى للماء والمكونات البيولوجية اللازمة لنمو الزرع والضرع، بالغنا في كل شيء: الاستخدام الجائر للتربة، والاستخدام الجائر للمياه، حتى أصبح النهر مقيدا ملوثا غير قادر على تطهير نفسه كما كان أيام النظام الطبيعي من فيضان وتحاريق، هذا فضلا عن وقوع النيل الآن بين مضامين السياسة، فدول الحوض كثيرة وربما تزيد - باستقلال بعض المناطق، والكل يسعى إلى مزيد من المياه عكس ما كان في الزمان الفائت، وهو ما يحدد بالقطع استحالة زيادة نصيب مصر إلا بفتات قناة جونجلي في جنوب السودان - هذا إذا استكملت، مع ما ينقص نتيجة حصص مائية لإثيوبيا والسودان. فأين المفر إذا استمر استحلاب النيل من أجل المزيد من مياه هو غير قادر على توفيرها في ظل المتطلبات الاقتصادية والسياسية المشروعة لنا ولشركائنا في حوض النيل؟ وفوق كل هذا الذبذبة المعروفة في كمية الفيضان من سنة عالية إلى عدة سنين ذات فيضان متوسط أو منخفض. (11)
تتحكم في قراراتنا - بحكم تاريخنا وتراثنا - دينونة إيديولوجية مفادها: أن الزراعة هي المجال الأهم في التنمية؛ لأنها غالبا ما تستدعي إقامة مجتمعات متكاملة من الجنسين من مختلف مراحل العمر. وهذا صحيح في أشكال الزراعة التي يمارسها معظم فلاحي العالم النامي، حيث ننسب كثافة السكان إلى فدان، أو هكتار زراعي فنقول: إن المنافسة عالية جدا في مصر الريف والوادي فهي غالبا حول فدان/10 أفراد عند نهاية القرن بعد أن كانت نحو نصف ذلك في 1975. وباعتبارنا من العالم النامي فقد ثبت في وجداننا أن الزراعة هي الحل الممكن لتخفيف أعباء الكثافة في أرض الوادي والدلتا. وهذه الإيديولوجية غير ممكنة لسببين أولهما: أن نمط الزراعة المروية تستنفذ ما يقرب من ثلاثة أرباع المياه في مصر وغير مصر. وحيث إن القدر المتحصل من مياه النيل هو قدر ثابت في أحسن الظروف فإن تدبير المياه لمساحات زراعية كبيرة - كالقول الشائع الآن أن الهدف هو استصلاح مليوني فدان من الصحراء! هو في الواقع أمر غير ممكن بالنسبة لمياه النيل. والسبب الثاني: أن أراضي الزراعة التي نكسبها من الصحاري المصرية تعتمد في أغلبها على خزان المياه الجوفية. ومصطلح «خزان» يعني أنه محدود الكمية. وأكدت الدراسات المتاحة الآن أن الخزان الجوفي حفري؛ أي إن مياه الأمطار القديمة تسربت إلى باطن الأرض منذ عشرات آلاف السنين حين كانت الصحراء الحالية ممطرة بكمية معقولة. ويقال: إن هناك إعادة تغذية للخزان من مياه المطر المتساقط على تشاد، وربما دارفور وغيرهما جنوب الصحراء المصرية والسودانية. لكن الجفاف - كظاهرة مناخية عالمية - قد حل تدريجيا بهذه الأقاليم بحيث إن خط المطر الصيفي يزحف جنوبا وتميل كميته نحو القلة أيضا. وهو ما يترتب عليه نقص بالغ في إعادة إمدادت الخزان الجوفي بالمياه لتتعادل مع كمية ما نسحبه منه. وإلى ذلك يجب أن نضيف أن سرعة المياه الباطنية بطيئة جدا بحيث قد تتحرك أقل من عدة عشرات الأمتار في السنة؛ ومن ثم فإن الاعتماد على مياه الخزان الجوفي في الصحراء يجب أن يكون مرشدا بدقة حتى لا ينضب بسرعة ويذهب الماء إلى أغوار عميقة. ولنا في هذا المجال درس قاس في مشروع الوادي الجديد وكيف هبطت المناسيب وتصحرت أرض زراعية كسبناها لقليل من السنين، فهبطت التوقعات وخابت الآمال الكبار. (12)
Unknown page
والمطلوب في استزراع المناطق الصحراوية نمط جديد من الري بالرش أو التنقيط أو الري المحوري - حسب نوع المحصول، بعيدا عن الري بالغمر الذي درج عليه الفلاح آلاف السنين. لكن ذلك بعيد المنال لا يتحقق بسرعة فليس بالإمكان تغيير ممارسة الفلاح المعتادة بالسرعة المطلوبة حتى مع الإرشاد. وقد شاهدت ذلك رؤية العين في مناطق استصلاح محدودة وبالذات في بعض المستوطنات الزراعية في واحة الفرافرة وواحة أبو منقار الصغيرة إلى الجنوب منها، حيث هناك قرى صغيرة تشبه إلى حد كبير قرى الوادي والدلتا من حيث تكاثف المساكن واستخدام الحطب والري بالغمر ... إلخ. ومثل هذا في بعض مناطق استصلاح غرب الدلتا وبخاصة مديرية التحرير - سابقا - والنوبارية. هنا أو هناك أساليب زراعية موروثة وناجحة على مقاييس صغيرة؛ لأن الشرط الأول والهام جدا هو وفرة المياه الباطنية في الفرافرة «لكم من السنين؟» أو مياه النيل في الترع والرياحات في مستصلحات غرب الدلتا وشرقها. (13)
تنقسم أبو منقار - على صغرها - إلى قسمين هما: قسم موزع على الأهالي وقسم موزع على الخريجين. وعلى نقيض النجاح النسبي في أبو منقار الأهالي نجد نجاحا متدنيا أو متراجعا في أبو منقار الخريجين. لماذا ينجح الأهالي بدرجة أعلى من الأرض المخططة والموزعة على الخريجين؟ سؤال مهم ليس فقط بالنسبة لحالة أبو منقار، بل أيضا تكاد تنطبق بصور أخرى على أراضي الخريجين بوجه عام مثل أرض البنجر في شمال ترعة النوبارية أو أراضي الحبوب على بحر يوسف في المنيا. هل هناك أسباب معلومة هي المسئولة مثل عدم رغبة الخريج في ممارسة الزراعة؛ لأن هناك أعمالا أخرى وخدمات في المدينة تجذبه وأسرته ومن ثم ينظر إلى الأرض التي وزعت عليه نظرة المالك الغائب فيتركها إيجارا أو مشاركة مع فلاحين حقيقيين لكنهم لا يلتزمون بحسن الأداء؛ لأن الأرض لا تخصهم حيازة أو ملكا؟ أم أن هناك أسبابا أخرى إضافية كالغربة في حقول بعيدا عن قريته أو بلدته وبالتالي هي أسباب نفسية عميقة الأثر. أم هناك مؤثرات إدارية في التوزيع أو في الحصول على مياه الري أو الشرب أو تسويق المحصول لشركة احتكارية واحدة؟ كل هذه أسئلة قد لا نجد إجابة واحدة فكل منطقة لها خصائص مختلفة وناس من موروثات مختلفة وإدارة مختلفة النشاط ... إلخ. (14)
هل مخطط أراضي الخريجين قانون أبدي لا يمكن تدارك بعض أو كل سلبياته؟ ألا يوجد من يصارح بالفشل، أو نجاح غير محسوس ومن ثم تتخذ إجراءات، أو لوائح جديدة، أو تترك للراغبين من الفلاحين سواء كانوا ملاكا أو معدمين. وربما كان الملاك أكثر قدرة على الزراعة في أرض الاستصلاح، وبالتالي تفعيل الهدف من قيام الدولة بالأعمال الأساسية في الاستصلاح وتحصيل إنفاقاتها على سنوات عديدة؟ ولكن علينا أيضا أن نرفع مساحات التخصيص من خمسة أو عشرة أفدنة إلى حدود عشرين أو أكثر كي تصبح الأرض قادرة على الوفاء بحياة الفلاح المالك؛ لأن هذه أرض هامشية الإنتاج باعتبار أصلها الصحراوي، وقد تحتاج لكي تتحسن مكونات تربتها إلى عقد أو أكثر. (15)
ألا يلقى مشروع أراضي الخريجين ضوءا على مشروع مواز هو مشروع أو مشروعات إسكان الشباب؟ ألم يأذن الوضع بمراجعة مثل هذه المشروعات في المدن الجديدة؟ ألا يخرج المسئولون إلى بعض هذه المخصصات ليروا على الواقع كم هناك من شقق وزعت على خريجين، أو شباب لكنها شقق غير مسكونة، أو مؤجرة، أو كالبيت الوقف لا يحل فيه ولا يربط؟ (16)
الموضوع ليس ضد الغرض في مساعدة الشباب والخريجين، ولكن هناك عشرات الأسباب للعزوف ومعظمها معروف، وتتلخص في أن هذه المناطق «منامة» أكثر منها سكن في مدينة متفاعلة بأعمال تستوعب الشباب من خدمات تعليم، وصحة، ورعاية اجتماعية، ومحلات للسلع والأغذية، وغير ذلك من لزوميات المعيشة المستقرة بدلا من أن يسكن في مكان ويدفع يوميا مصاريف انتقال إلى العمل تحصد جانبا من مدخوله المحدود! لماذا لا يعاد النظر ويستفتى المستفيدون أو تترك الأمور لتقدير الناس؟ اللوائح والتشريعات ليست أزلية ويمكن تعديلها، أو تحويلها إلى منافع أجدى ... (17)
المشكلة السكانية هي موضوع آخر كثيرا ما علقنا عليه مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية هو أن النمو السكاني المصري يحصد الكثير من الإسهامات في التقدم الاقتصادي. النمو السكاني عملية تتدخل فيها عناصر بيولوجية، واجتماعية - اقتصادية ودينية وميراث تقليدي عن العزوة العددية. وقد اقتصرت الدعوة إلى تنظيم السكان في مصر على الجوانب البيولوجية وبعض الجوانب الاجتماعية كفرص التحسن الاقتصادي، والتعليمي، والصحي للأسرة. وعاكس الدعوة عناصر أخرى من رجال كافة الأديان والملل واستمرار نسبة الأمية العالية، وتقاليد اجتماعية أخرى على رأسها ضرورة إنجاب ذكور من زيجة أو أكثر؛ ولهذا اعتبر عدد الأبناء مجلبة لقوة اقتصاد الأسرة طوال نمط الأسرة الممتدة التقليدية في المدينة والقرية، حيث يستقر الولد بعد زواجه في بيت العائلة مقابل خروج البنت إلى أسرة زوجها. ولهذا فبرغم الاقتناع العقلاني بضروريات تنظيم الأسرة يظل الوضع متأزما بين الموروث من العادات والمعتقدات، وبين الاحتياج إلى تحسين أوضاع الأبناء بالتعليم، وبشكل من الحياة أوفق مما لو زاد عدد الأبناء. منذ ثلث أو ربع قرن كنا نرى أطفالا وناسا في القرية يلبسون الحد الأدنى من الملابس التقليدية النظيفة وكثير من المرقعات. والآن نرى الأطفال في القرية وقد كثر دولاب ملابسهم بالحديث من الثياب القطنية والصوفية. ربما يكون هذا إشارة إلى أن شكلا جديدا من مناحي الحياة قد حدث غالبا نتيجة التعليم وتحسن الدخل نسبيا، أو تقسيمه إلى عدد أقل من أعضاء الأسرة. ومثل هذا في المدينة وأكثر. (18)
صحيح أن النمو السكاني في مصر مازال عاليا حتى الآن لكنه أقل قليلا من المتوسط العالمي لنمو السكان. هذا المتوسط هو 2,2٪. كان النمو المصري للسكان نحو 2,5٪ في إحصاء 1980، هبط إلى نحو 2,3٪ عام 1990 ثم إلى 1,9٪ في تقديرات 2004؛ أي إننا في نحو عقدين من الزمن نجحنا في الهبوط بنسب النمو السكاني نحو 0,6٪ وهو قدر جيد ويبشر بخير. فلو استمر الهبوط بهذه النسبة فإننا قد نصل إلى 1,3٪ نمو سنوي في الفترة 2004-2024، وإلى نسبة نمو تكاد تقترب من واحد أو أقل قليلا من واحد في المائة ربما 2040. ولكن علينا أن نتذكر أن الهبوط، أو الإقلال من شيء يصبح في بدايته بطيء ثم يسرع الخطى تدريجيا. وبناء على ذلك فإن النسب المتوقعة في الهبوط سوف تزيد - بمعنى أن الهبوط الأولي في عقدي أواخر القرن الماضي كان 0,6٪ وغالبا سوف يزداد الهبوط في العقدين الأول من القرن الحالي ليصبح ما بين 0,7 إلى 0,9٪ وهكذا ربما نصل إلى نسبة نمو واحد٪ حوالي الفترة 2025-2030. لكننا قد لا نشعر بتأثير انخفاض نسبة النمو السكاني؛ لأن الكتلة السكانية المصرية كبيرة ومن ثم فنمو 1,9٪ ما زال يعطي عددا كبيرا من المواليد بينما 1,1٪ سوف يعطي أعدادا أقل، وهكذا تقل أعباء البحث عن وظائف وأعمال للزيادة السكانية السنوية تدريجيا، مع اللون الأخضر الأراضي الزراعية القديمة، والأخضر الفاتح الأرض الجديدة كما في غرب وشرق الدلتا البيضاء، النقاط البيضاء تمثل مواقع ومساحة المدن والقرى داخل الوادي والدلتا. (19)
تأهيل أحسن ينفتح معه أفق أوسع للمهن والوظائف. هذه صورة متفائلة يمكن أن تحدث إذا لم تحدث مداخلات مجتمعية أخرى تعرقل سيرها. (20)
ولا شك في أن نسبة النمو في المدن أقل من تلك بين ساكني الريف بمدنه الصغيرة وبلداته وقراه، وذلك لأسباب على رأسها عنصران هما: (أ)
حياة المدينة ليس فيها التساند الاجتماعي الذي يبدو حتى الآن عاملا فعالا في الريف حيث يعرف الكل الكل على وجه التقريب. والتساند هنا يبدأ من الأقارب إلى جيرة الحارة. أما المدينة فسكان بيوتها ليسوا بالضرورة أقارب، وقليلا ما يكونون معارف، وبالتالي فإن الأعمال غير الماهرة بين الحين والحين هي الضمان الوحيد لتجنب الجوع بين الفقراء، أو الشحاذة أو إرسال «وإلقاء» الأطفال من الجنسين إلى الشارع كي يكسبوا عيشهم - وكثيرا ما ينقادون إلى شتى أشكال الجريمة المنظمة وغير المنظمة. (ب)
Unknown page
متطلبات الحياة في المدينة مختلفة عن ساكني الريف، وربما أكثرها قوة وإلحاحا متطلبات أطفال المدارس الحكومية ومجتمع التلاميذ الذي يفرض متطلبات ملبس وملعب وكتاب غير تلك في الريف؛ وبالتالي فإن ضائقة الإنجاب الكثير تجعل الكثيرون من فقراء المدن يقبلون على تنظيم الأسرة من بين أشياء أخرى اجتماعية وقيمية، وعلى الأخص الحصول على مرحلة تعليمية، أو على الأقل جزء منها تسهم في إبعاد شبح الأمية المخيم على العقول.
الخلاصة أن هذه النماذج وغيرها تعطينا أفكارا عن كم هي معقدة متداخلة ومتشابكة مشكلاتنا المصرية، وأن السبيل للتصحيح هو البدء في كل النواحي وليس اختيار مشكلة أو بعض مشكلة للبداية. ولكي يكون ذلك فلا بد من إيجاد إيديولوجية محددة يلخصها شعار واحد ينتمي إليه جميع المصريين: فقراء وأغنياء، فلاحون وعمال، موظفون وأصحاب عمل، مخططون ومنفذون، استشاريون ووزراء، شعب ونواب حقيقيون، وأن يكون هناك شعار قدوة يلم الناس لنهضة مصر.
ملخص مبدئي للمشكلات المصرية المعاصرة
ولعل الجدول التالي يوضح بصورة مركزة مشكلات مصر المعاصرة والجذور التي تأصلت عنها، علنا نجد بعض الطريق للإنقاذ:
العناصر البشرية
العناصر الطبيعية
بشائر الانتقال الديموجرافي من نمو سكاني سنوي 2,3٪ إلى 1,9٪ غالبا يترتب عليه تناقص الضغط السكاني فيما قبل 2050
المناخ الصحراوي الجاف
العوامل الاقتصادية
الناتج في القطاع الأولي 15٪ والعمالة 27٪
Unknown page
النمو الزراعي يكاد يتوقف بتعادل الفاقد في الوادي مع المضاف من المستصلح
التناقض الظاهري بين غنى الوادي وفقر الصحاري
تناقص العائد الزراعي الفعلي لارتفاع نفقات المحصول (أسمدة/بذور/الصرف/الري الدائم/النقل والتسويق ...)
المياه بين الندرة والصراع الإقليمي ق.21
تناقص الفلاحين بالهجرة للمدن + تحول الجيل إلى وظائف ومهن أخرى أجدى = فقدان فنون الزراعة بالتجربة الموروثة والمعدلة
إهدار مخزون المياه بأشكاله (مياه جارية وباطنية) لتنفيذ مشاريع زراعية مخططة وقتية
التنافس على الأرض الزراعية عال مما يفتت الملكية ويحيلها إلى وحدة اقتصاد غير مجدية نمو محدود للملكيات المتوسطة والكبيرة كوحدات زراعية أجدى = طرد الفلاح إلى مهن أخرى أو أجراء أو هجرة
برغم تناقص مصادر الطاقة الحفرية يجري استهلاكها محليا وتصديرا مع القليل من التخطيط المستقبلي قلة واضحة في استثمار طاقات طبيعية مجانية متعددة (الشمس والرياح والمياه)
نمو الناتج في الصناعة 37٪ والعمالة 20٪
الصناعة تتحول تدريجيا من مصانع العمالة الكثيفة إلى مصانع رأسمال كثيف = بطالة
Unknown page
التأهيل والتدريب الصناعي الحديث أقل مما يجب منهجيا ومهنيا = مزيد من البطالة للعمال فوق الثلاثين والأربعين
تراكيب مصر وإشكالياتها
تناقص خصوبة التربة بالسدود وتآكل السواحل الشمالية نتيجة إنشاء السد العالي للتخزين القرني
الناتج في قطاع الخدمات 48٪ العمالة 52٪
عوامل بشرية وقرارات سياسات
مخططات الاستثمار الصناعي أقل جاذبية من أعمال الخدمات لأسباب داخلية وخارجية والقطاع يستوعب عمالة أكثرها ماهرة مدربة
مركزية الحكم مقابل ضعف الحكم المحلي وهشاشة المحليات
مواقع المدن التوابع = مزيد من الأعباء على المدينة المركزية فوق طاقتها الأصلية أيضا = مزيد من المركزية فكرا وموضوعا
مؤثرات خارجية
صراعات الليبرالية والقوى المحافظة
Unknown page
إشكالات إقليم الشرق الأوسط: التيارات العربية وإسرائيل - التيارات الدينية المتشددة - استراتيجيات القوى الكبرى - إسرائيل في المنطقة - جمود الأنظمة وضعف التعددية
ديمومة المشكلات البنيوية في المجتمع: التعليم والمدارس - الصحة وأمراض مستجدة - شيوع الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية − 24٪ تحت خط الفقر وأمراض السلوكيات والفقر المدقع 10٪
الشركات متعددة الجنسية والعولمة
إيديولوجية الخصخصة
ضعف المؤسسات البحثية والتطبيقية
نماذج شيزوفرينيا عالمية
لكل دولة في العالم النامي أو المتقدم كثير من الإجراءات والقوانين المتناقضة نتيجة تعاقب حكومات ذات إيديولوجيات مختلفة بين المحافظين، والراديكاليين، والاشتراكيين، واليساريين. وبطبيعة الحال فإن التناقضات أقل بين الدول المتقدمة باعتبار أن هناك مساحات واسعة للحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بينما التناقض كبير في الدول النامية بين حكومات متعاقبة، أو ديكتاتورية حاكمة عسكرية، أو حزبية، أو تبعية لسياسات دولة متسلطة من دول الديموقراطيات تفرض مصالحها الاحتكارية، أو الاستراتيجية على شعوب أخرى، أو عولمة لمصلحة الاحتكاريين من كبار مؤسسات العالم الاقتصادية، والثقافية، والمعلوماتية معا.
الأمثلة على التناقضات كثيرة ربما كان أوضحها قطاع تكنولوجية السلاح وما ترتب عليه منذ منتصف القرن الماضي وحتى الآن من انقسام سياسات العالم إلى تبعيات حسب مصادر السلاح. فقد كان هناك معسكر الكتلة الغربية وآخر للكتلة الشرقية. وحتى بعد انهيار الكتلة الشرقية ما زالت هناك تبعيات متعددة لسلاح الغرب وسلاح روسيا أو الصين.
الجميع يدعون أنظمة حكم ديموقراطية حتى صارت الديموقراطية تنوء بمحتويات مختلفة بعضها شكلي وبعضها ابتزازي وبعضها تتناوب فيه السلطة، ولكن الحكم من خلال تولي السلطة يضم أشكالا متعددة من إرهاب الدولة مثل التنصت على الناس وخرق الحرية الشخصية التي تدعيها الديموقراطية كما في أمريكا. والواضح أن سلطة أجهزة الأمن في أحيان أكبر من أن تحتويها الديموقراطية. كل أو بعض ذلك موجود بالتناقض جنبا إلى جنب في الغرب والشرق والشمال والجنوب.
اللعب بالألفاظ سمة عالمية تحتوي الصدق والكذب. مثلا يصف الإعلام الغربي الهند بأنها أكبر ديموقراطية في العالم. هذا الوصف صادق في بعض النواحي مثلا أنها أكبر الدول التي: (1) تتداول فيها السلطة بين الأحزاب. (2) من حيث عدد السكان - نحو مليار فرد. ولكون الهند دولة تضم عددا كبيرا من العرقيات والسلالات والأديان والبيئات الطبيعية والاقتصادية فإن الانتخابات البرلمانية تحتمل في الآونة الأخيرة ظهور قوة الأحزاب الدينية، بعد أن كانت في بداية الاستقلال تسيطر عليها برلمانات حزب المؤتمر الأقرب إلى الديموقراطية في مؤسساته. لكن يبدو أن الهند قد تجاوزت مرحلة التأسيس إلى مرحلة الرأسمالية والعولمة الغربية معا بالتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة في جوانب عدة، أخطرها وأهمها صناعة الصواريخ والأسلحة النووية والإلكترونية ولتصبح بذلك القوة المقابلة للصين.
Unknown page
وتناقض المواقف الأمريكية واضح في مجالات السياسة والمعلومات. فهي باركت دخول الهند وباكستان النادي النووي بينما تعارض بشدة السماح لإيران وكوريا الشمالية الانضمام إلى النادي - وتجد في ذلك تبريرات كثيرة على رأسها أن إيران وكوريا دول شمولية متناسية أن نظام الحكم الحالي في إيران جاء بالانتخاب الحر، وأن النظام الباكستاني الحالي لم يأت بطريق الانتخاب! كما تجنبت أمريكا وأوروبا الكلام عن الترسانة النووية في إسرائيل عشرات السنين باعتبار أن الحكم فيها برلماني تتداول فيه السلطة أحزاب بين الدينية والراديكالية، بينما تتعامل مع دول الخليج العربية كحليف ثانوي برغم أهميته البترولية وقدراته المالية!
غزو أفغانستان والعراق تم بتبريرات ما أنزل بها من سلطان، والادعاء بأن الغزاة سيخرجون بعد الاطمئنان إلى إنشاء نظام حكم ديموقراطي. والتجارب الأمريكية في هذا الشأن في العراق بوجه خاص تشير إلى كم هي واهية تلك المبررات، وكم هو صعب إغلاق «قمم» الصراع المذهبي والديني الذي فتحوه على مصراعيه ...
والخلاصة أن أمريكا والغرب يرون نفس الشيء مرة بمنظار وأخرى بمنظار آخر. وبالتالي تصبح إيران مرة حليف وأخرى من دول الشر كتوصيف الرئيس الأمريكي، والإسلام مرة حليف تساعد في نشأة ورعاية بعض منظماته العسكرية كالقاعدة ثم يصبح في مرحلة تالية عدو قد حل محل المعسكر الشيوعي القديم!
أين إذن الديموقراطية؟ هل هي مصالح أمريكا وأوروبا في بقية العالم التي تتشكل في صور متعددة كلما ضاق الخناق؟ هل تقف أمريكا الآن أمام عتبات مارد جديد متمثلا في الصين؟ وأين الشعوب الأخرى؟ ألم يحن الوقت لكي تصنع لنفسها وبنفسها نظام الحكم الذي ترتضيه؟!
الفصل الثاني
خصوصيات مصر الحضارية
(1) الاسم والصفة: مصر
الاسم «مصر» بالعربية، وهو «كيمي
Kemy » بالقبطية، وهو «كيمت
Kemet » باللغة المصرية القديمة وتعني «الأرض السوداء»، مقابل الاسم «دشريت
Unknown page
Deshret » بمعنى الأرض الحمراء وهي الصحراء المحيطة بالأرض السوداء الغنية في الدلتا والوادي ... هي مصر نفسها على مدار ستة آلاف سنة، ولستة آلاف أخرى مع تحويرات وتحولات لا تصيب الجذور بعطب، ولا تبعدها عن الأصول المتأصلة في هذا المكان الوسطي من العالم.
المصطلح «الوجه البحري» أو «مصر السفلى» باللغة العربية هو في اللغة المصرية القديمة «ميهو
Mehu » أو في الإغريقية «الدلتا» نسبة إلى الشكل المثلث، والنطق لحرف
D
اليوناني. و«الوجه القبلي» أو «الصعيد» أو «مصر العليا» بالعربية هو «شيماو
Shemau » في اللغة المصرية القديمة. هذا التقسيم الجغرافي التاريخي الاجتماعي هو هو منذ الأقدمين.
و«النيل» اسم سائد في جميع لغات العالم أصله كلمة إغريقية، تعني «النهر» وكان أحد أسماء هذا النهر العظيم في اللغة القديمة «إيتيرو
Iteru » ربما بمعنى البحر أو الماء، كما كان يكنى عنه أيضا باسم إله النهر «هابي» أو «حابي».
كيمت: الأرض السوداء والثقوب النجمية السوداء
وما بين كيمت ودشريت شرقها وغربها حالة تشابه بصورة متناهية الصغر حالة ما بين النجوم والثقوب السوداء في عوالم مجرات الفضاء
Unknown page
Stars and Black holes . معروف الآن أن النجم حين يبلغ منتهى عمره ينفجر وتتركز معظم مادته في حجم صغير جدا لكنه شديد الثقل ذو جاذبية عارمة وهو بعد غير مرئي لنا.
1
وهذه الجاذبية الهائلة تبتلع كل أشكال المادة التي تقترب منها فتصبح هي الأخرى غير مرئية بعد سقوطها في دائرة الجذب للثقب الأسود ...
وهكذا حال مصر، كيمت الأرض السوداء تبتلع كل من يأتيها ويقترب منها عبر دشريت الأرض الحمراء، بعبارة أخرى كل من أتى مصر من مجموعات وشعوب شمال أفريقيا والشرق الأوسط والجنوب وغرب آسيا ووسطها، كل هؤلاء سرعان ما تمتصه الحضارة المصرية فلا يبقى منه سوى بقايا خصوصية طوال فترة سيطرته ثم يفقدها وتتوه وسط خضم الحضارة التي ابتلعته، وإن بقيت بعض ملامحها في النسيج المصري الثقافي كونها إضافة من الإضافات العديدة يتقبلها الناس بسماحة ودون تعصب وعنصرية!
وبعبارة أوجز: مصر كانت الحد الفاصل الجاذب الهاضم العاصر بين شعوب ودول الشرق والغرب والشمال والجنوب حولها فيتحولون إلى مصريين بنكهات مختلفة بعض الوقت. البربر والساميون واليونان والرومان والعرب والأتراك والزنوج والزنجانيون (= شعوب خليط بين سلالات شمالية وزنوج)، كلهم خليط دخلوا مصر وذابوا فيها، ولا نعرف لهم سحن معاصرة سوى ما تركوا من فنون وتصاوير على جدران القبور، أو هياكل أجسادهم إذا لم يعتريها العدم، أو بعض سواد البشرة وخشونة الشعر، أو بياض البشرة ودرجات شقرة الشعر والعين، كل ذلك على خلفية اللون «القمحي» السائد بيننا ... هذه هي مصر والمصريون!
إنسان الصحاري والالتجاء إلى وادي النيل
مصر المكان وليدة النيل الذي حولها إلى جزيرة متناهية الخصوبة بفعل أهلها بعد أن التجئوا إليها من جفاف المناخ الصحراوي الذي بدأ يحل على كل شمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا منذ نحو عشرة آلاف سنة تدريجيا. فقد كانوا منتشرين مبعثرين قبل ذلك في كل ما هو صحراء في يومنا ، وآثارهم تملأ أماكن عديدة مثل صناعة الأدوات الحجرية من نواة وشظايا في واحة سيوة وكل المنطقة من المعادي إلى حلوان مرورا بكوتسكا وعزبة والده باشا وعزبة كركور حيث وجدت آثار إنسان العصر الحجري الحديث، وبدايات عصر المعادن، وآثار من الأسر الفرعونية الأولى، وكذلك الأمر في الواحات المختلفة كالبحرية والداخلة في منطقة بلاط. وفي جبال النوبة وواحات صغيرة غربي أبو سمبل - من أهمها حتى الآن آثار نبطة، وفي أقصى الجنوب الغربي في غرب الجلف الكبير مصورات محفورة على الصخر تحكي حياة الناس منذ عشرات آلاف السنين. هؤلاء جميعا كانوا يعيشون على الصيد، وجمع الثمار والبذور التي يمكن معالجتها كغذاء.
من هم ناس تلك الفترة الموغلة في القدم؟
الاتفاق بين علماء الانثروبولوجيا أن شمال أفريقيا بما فيه مصر كانت تسكنه سلالة تسميهم السابقين على البربر
أي الذين تطوروا فيما بعد إلى شعب البربر الذين انكمشت أوطانهم تدريجيا إلى بعض الواحات المصرية وبخاصة سيوة وفي ليبيا وإقليم المغرب كله. هذا الانكماش هو نتيجة زحف واحتلال استيطاني لمجموعات من الشعوب من اليونان القدماء على معظم سواحل مصر وليبيا وإيطاليا، والفينيقيين في تونس - قرطاج، وغيرها في غرب البحر المتوسط، والفاندال القادمين من أوروبا عبر إسبانيا واستوطنوا تونس والجزائر زمنا طويلا، وأخيرا الهجرات العربية اليمنية قبل الإسلام وأكبرها بعد الإسلام والتي يرمز لها بهجرة بني سليم وبني هلال في نحو القرن العاشر الميلادي.
Unknown page
وقد حدث منذ التقاء البربر والعرب كثير من الأخلاط بينهما وأيضا كثير من انسحاب البربر إلى أماكن جبلية حصينة كما هو الحال في الجزائر والمغرب وبعض ليبيا. وبعض الأخلاط استمروا في حياة البداوة وبعضهم سلك طرقا للعودة إلى الشرق - مثلا من برقة إلى مصر كأولاد علي بفروعهم وتفريعاتهم الكثيرة (أولاد علي الأبيض والأحمر والسينانا - ربما الكنانة)، والهنادي الذين استوطنوا جانبا من محافظة البحيرة ثم هجروا أيام محمد علي إلى محافظة الشرقية منعا للصراع الدائم مع أولاد علي. ومنهم الهوارة الذين استقدمهم حكام مصر ليصبحوا ولاة على بعض جنوب الوادي، ومنهم كل قبائل الحاجر الغربي من الجوابي في النطرون والبحيرة وقبائل وعشائر الفيوم والمنيا وبني سويف كالفوايد والجوازي والفرجان والحرابي والبراعصة، وعائلات مشهورة مثل لملوم (فوايد) والمصري (جوازي) والباسل (رماح) والجبالي (حرابي) ... إلخ، وكلهم على الأغلب ينتسبون إلى بني سليم. هذا فضلا عن العشائر القديمة التي تعرف في الساحل الشمالي باسم الجمعيات وفروعهم كثيرة يعيشون مع أولاد علي هنا وهناك، وكذلك في الواحات حيث نجد غالب سكان سيوة من البربر وكذلك القبائل والعائلات القديمة في الفرافرة وغيرها أصلا من البربر المستعربين.
الهجرة إلى الوادي
وحينما حل الجفاف بالتدريج مع تراجع قليل لفترات رطبة ثم جفاف أكثر وأشد قسوة منذ الألف الخامسة قبل الميلاد، أخذ الناس ينسحبون من الصحراء التي زاد جدبها إلى وادي النهر المليء بالمستنقعات وكافة أنواع النباتات المائية من البوص إلى البردي إلى ورد النيل، وعشرات نباتية أخرى من الأشجار والأعشاب ... وحيث تهيم حياة حيوانية في هيراركية المستنقع من أنواع الأسماك إلى التماسيح بقايا الزواحف والديناصورات إلى أنواع الحيوانات العاشبة مثل أفراس النهر الضخام والنعام والزراف وأنواع الغزال والوعول، إلى أنواع البرمائيات من الضفادع إلى أنواع الورل والسحالي، وأنواع الحيوانات المفترسة اللاحمة من قطط صغار وكبار وذئاب وكلاب وثعالب وابن آوي، وأنواع كثيرة من الطيور المقيمة والمهاجرة وغير ذلك كثير وكثير.
التجأ الناس منسحبين من الصحاري الرملية والصحاري الحجرية إلى الوادي المعشوشب محتالين على الحياة بصيد كميات هائلة من الأسماك والحيوانات العاشبة التي استطابوا لحومها كالوعول والغزلان وربما أفراس النهر فضلا عما لديهم مما يرعونه من الماعز والخراف والأبقار والثيران والحمير. ولكي يعيشوا ويصعدوا إلى قمة هيراركية الحياة كان عليهم أن يصارعوا الحيوانات اللاحمة من أسود ونمور وذئاب وضباع وكلاب برية في منافسة دامية لبقاء الأقوى أو الأصلح. وآثار هذه الأقوام كثيرة نعرفها بأسماء الحالية للأماكن التي عاشوا فيها أزمانا، وطوروا احتياجاتاهم من الحجر والفخار وبقايا قراهم وجبانات دفن الموتى مثل حضارة الفيوم ودير تاسا والبداري ونقادة ومرمدة بني سلامة والمعادي والعمري ... إلخ.
قوة الإنسان وقدراته
والإنسان جسديا ليس الأقوى ولكنه بوقوفه على قدمين واستخدام يديه في الرمي والقتال وصناعة أدوات خشبية وحجرية أهلته أن يكون الأقوى وإن لم يكن هو الأسرع، أو الأضخم، أو الأكثر عضلا ... ليس فقط بقدراته على عمل هذه الأدوات ولكن باستخدام سلاح أمضى وأشد هو التجمع العددي في أماكن مختارة للدفاع والهجوم حسب المواقف المختلفة. هذا النوع من الاستراتيجية هو الذي مكن الإنسان من التفوق والسيادة من الماضي السحيق إلى غد البعيد. وقد ساعده على السيادة تقهقر المناخ الرطب وأشكال النباتات، ومن ثم انسحاب الكثير من الحيوان المفترس إلى المناطق المدارية جنوبا، وبقاء الميدان شبه حر يطلق فيه يد الإنسان الجامع للغذاء النباتي والحيواني والسمكي دون الكثير من منافسة الحيوان المفترس.
التحول من الصيد إلى الزراعة
ثم جاء حين من الدهر في نحو الألف السابعة قبل الميلاد أن عرف إنسان المنطقة الزراعة كإيديولوجية اقتصادية جديدة تؤهل الإنسان لإنتاج الغذاء بدلا من جمعه وصيده بريا. وكان ذلك بمثابة الثورة الاقتصادية الأولى! لكن الانتقال كان تدريجيا من حياة الصيد والجمع إلى حياة الفلاحة، ولا شك في أن تأمين غذاء نباتيا تحت الحوكمة سنويا أو متجدد موسما. كان هو الحافز والدافع الحقيقي لأمور عدة على رأسها انتهاء حياة التجوال والاستقرار في تجمعات قروية ثابتة لزراعة ذات قطعة الأرض سنة بعد سنة - وهو ما بدأ به عصر المواطنة والوطن لظهور قيمة المكان والدفاع عنه للبقاء فيه. وهذا الاستقرار لم يستند فقط على المحصول الغذائي النباتي بل أيضا إبقاء حيوان التربية إلى جواره يرعاه ويستخدمه في كل شئون الغذاء المباشر ومنتجات الألبان، وربما تاجر به كنوع من تبادل المنتجات - وهذه هي بداية العلاقات التجارية بين المجتمعات المحلية.
ومع الزراعة بدأ عهد المناحرة والحرب والحسد بين من لديه ومن ليس لديه من المجتمعات - أي بين البادية والجماعات الجائعة (في حالة الجفاف) من ناحية، وبين الجماعات المستقرة التي تعيش في بحبوحة ووفرة في إنتاج الغذاء (في غالب الأوقات). هذا الصراع شمل مجموعات كثيرة وبخاصة بين سكان الجبال القاسية، وسكان السهول الغنية، وأخذ ذلك طابع موجات من الهجرة والاجتياح في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، شواهده مسجلة تاريخيا لدى الشعوب المستقرة الآمنة في حضارات مصر وسومر وبابل ... إلخ، وهو ما أحدث اضطرابا في مجموعة العلاقات الآمنة واستدعى إعادة بناء نظم وبنية مجتمع جديد بمقتضاه نشأت «الدولة» كنظام يرأسه ملك وآلهة ومعابد وكهنة وجيش بتخصيص أفراد من دائرة العمل والإنتاج وتدريبهم على القتال وشئون الحرب. وهذا التنظيم الجديد بما لديه من قوة تكتيكية، وإن كان يحمي المجتمع إلا أنه كان في ظروف معينة حافزا للبطش بدعوى المحافظة على أمن الوطن والمواطن - ولكن غالبها كان لأمن الحاكم من طبقة الملوك ورجال الدين، بينما الكتاب يروجون لبقاء الأنظمة في عباءات مختلفة أكثرها شيوعا نداء الوطن ونداء الآلهة.
وهكذا الصورة حتى الآن مع تغيرات شكل وتطبيق وبقاء المبدأ والمحتوى.
Unknown page
خصوصية الزراعة المصرية
وإذا عدنا مرة أخرى إلى مصر بعد هذا الاستطراد الضروري نجد أن المصريين بعد معرفة الزراعة أخذوا يدرسون أمور المكان بدقة، وهو ما أنتج الفكر الفلكي وأول تقويم للسنة وأمور الهندسة والبناء الحجري الدائم ووسائل النقل المائي للإجابة على تساؤلات حول طبيعة النهر ونمو الزرع: متى يكون الفيضان والجفاف، وإلى أي حد يصبح الفيضان مرضيا أو عاليا أو مدمرا أو منخفضا يشيع المجاعة. وكيف يمكن ترويض مياه النهر لتصل إلى الحقول فتمنحها الرطوبة اللازمة لنمو البذور، وكيف نجعل النهر يلقي بحمولته من الغرين لإضافة خصوبة التربة ...
كل ذلك من السؤال والتساؤل جال بالأذهان بين من يفكرون في المزيد من الأمان الإنتاجي لمحاصيلهم الغذائية وأعلاف حيواناتهم. ولأن المصريين في مجموعهم شعب تجريبي لا يبحث كثيرا عن النظريات لحل أطروحات المواقف المختلفة، فإن ما وصل إليه الفكر الزراعي المصري في هندسة الري من نظام نعرفه باسم «ري الحياض» كان في الحقيقة إنجازا مبهرا وإبداعا عبقريا بكل المقاييس منذ ستة آلاف عام أو يزيد. ولأنه لم يكن نظرية لشخص معين فإن الواضح أنه كان نتاج التجريب هنا وهناك ثم شاع وأصبح نظاما شاملا للري في مصر. وبالمناسبة فإن مصر كانت أيضا رائدة في نظم التحكم بمياه الأنهار، والأغلب أن القناطر الخيرية كقرار سياسي لمحمد علي باشا الكبير، كانت أولى تجارب العالم في العصر الحديث في إنشاء السدود على الأنهار.
محدودية علاقة الشعب والدوائر العليا
ومهما آلت إليه الأمور من صراعات بين ملوك وأمراء وكهنة وكتاب ووزراء وقواد في الدوائر العليا الحاكمة في مصر فإن مردوده على الإنتاج الزراعي كان قليلا ومحسوسا بقدر. فعلاقة الشعب بدوائر القصر والمعبد جد محدودة، لا تظهر سوى من خلال الضرائب العينية على الأغلب أو النذور والوفاء بالمتطلبات الدينية من أجل الحياة الأخرى، أو حمل السلاح للدفاع عن الوطن.
وعلى هذا فسواء كان الحكم المركزي للملوك والكهنة قويا أو ضعيفا فإن العلاقة مع الشعب كانت دائما مباشرة مع الحكام المحليين، سواء كانوا معينين من قبل الدوائر العليا أو عينوا أنفسهم كأمراء حرب ونفوذ إقليمي. ولهذا فالاستقرار بصورة أو أخرى كان الميزة الأساسية في مصر بالمقارنة بسهول غنية مماثلة في ميزوبوتاميا - العراق حاليا. والشيء الوحيد الذي يقض الاستقرار كان دائما من جانب النيل: فيضان منخفض أو كبير مدمر يؤذن بمجاعة أو ما يقرب منها - وهي حالات لحسن الحظ ليست متكررة عدة سنوات متلاحقة إلا في ظروف متغيرات مناخية طارئة وسرعان ما يعود الحال إلى الاستقرار.
وإذا كانت الأمور قد استقرت هكذا آلاف السنين فإن معنى ذلك دوام واستمرار المبادئ في الفكر والتطبيق والفولكلور والفن ومعظم نظم حياة المجتمع آلاف السنين هو الآخر. صحيح أن الزمن وأن العلاقات بين الحضارات تؤدي إلى تغييرات ما، لكن التغيير يحدث سريعا في ممارسة المنتجات المادية كسلاح الحرب أو آلات الزراعة ورفع المياه إلى الحقول أو زراعة أنواع جديدة من المحاصيل كالتبغ أو القطن أو البطاطس، بينما التغيير بطيء جدا في القيم والخلقيات والسلوك والاعتيادات والعقائد وغير ذلك كثير، بل إننا نجد بعض التغيير في معتقدات معينة حين تدخل عقيدة فوق أو محل أخرى، فإن العقيدة القديمة تغزو الجديدة من أسفل وتتداخل في بعض طقوسها؛ أي إننا نجد استمرارية تشبه بصورة أو أخرى الممارسات السابقة لمعتقد مع تغير اسم صاحب الممارسة الطقسية من واحد من آلهة وإلاهات قديمة إلى قديس أو قديسة أو ولي أو شيخة. فالمزار والموسم والدعوات وطلب الشفاعات من صاحب المكان والالتجاء إليه حسب الطلب والنذور وغيرها من الطقوس كلها واحدة أو متغيرة قليلا، ولكنها في النهاية تهدف إلى طلب الوساطة مع الضراعة وتوقع نجاح المسعى الذي من أجله جاء من بعيد وعليه أنفق الكثير ...
وفيما يأتي بعض هذه الاستمرارية في التواصل الحضاري المصري على مر الزمن في صورة شديدة الاختصار لكنها تنقل إلينا هذا الصمود المصري طويل الأجل ... (2) تواصل التراث الحضاري في مصر آلاف السنين
نموذج المعبد والكنيسة والجامع
الغرض الأساسي من الموضوع هو تأكيد أن بعضا من عناصر ثقافات الماضي لها استمرارية طقسية وضمنية في الحاضر، وإن اختلفت المسميات والعقائد. ولا شك أن الموضوع مفتوح للبحث والتقصي في الشكل والمضمون في الحاضر كما كان في الماضي وكما سيكون في المستقبل.
Unknown page
انظر
ملحق الصور .
الديانة المصرية القديمة ليست عقيدة وكتاب مقدس، إنما هي ممارسات طقسية لكل إله على حدة، على رأس الطقوس الهبات والأضاحي والنذور مع تلاوات وأدعية. يقوم الكاهن بالمساعدة خلال الطقوس بينما تودع الهبات - لحوم، أوز، طيور، أسماك، عجول، أو أراض وأطيان ... إلخ - مخازن المعبد وتضاف في قائمة إلى كاهن المعبد الرئيسي لهذا الإله.
لهذا كانت هناك أعداد كبيرة من الآلهة المحلية (حسب البعض 2000 إله) + آلهة خاصة للبيت، بينما كان هناك نحو 80 إلها وإلهة كبارا لكثير منهم معابد متعددة في مدن وأقاليم رئيسية، ومعظم الآلهة لهم صفات مشتركة عامة ومهام تميز كل منهم مثل إله الشمس أو القمر أو الخصب أو الموتى أو المحارب أو العدل أو الحب أو الخمر أو أبو السرور والبهجة.
وأغلب ما نعرفه عن الآلهة الكبار أنهم شديدو الارتباط بالأحداث السياسية، ومن ثم يمكن أن يكون رع إله الشمس في هليوبوليس ثم تنتقل بعض صفاته إلى إله العاصمة الجديدة في طيبة فيصبح آمون رع، أو حورس الإله المحارب القديم ليصبح جزء من ثالوث إيزيس وأوزير لينتقم من عمه ست مغتصب الملك من أوزير وقاتله، وتنشأ بذلك قضية الثأر كعنصر مجتمعي دائم، أو يصبح حورس حوراختي في فترة لاحقة في طيبة الأقصر ... إلخ.
لهذا كان سهلا أن تقبل الديانة المصرية إضافات إلهية حتى لو كانت من الخارج، فالمصريون لم يكونوا متشددين قليلي التسامح بل نظرتهم عقلانية مرتبطة بالواقع المادي ومتقبلة للجديد في صوغ متناغم متناسب مع النسيج العام. لهذا أيضا تقبل المصريون بسهولة الفكر المسيحي القائم على الثالوث المقدس؛ لأن له صدى متناسق مع الديانة الشعبية دائمة الفعالية بين المصريين والمتمثلة في ثالوث إيزيس - أوزير - حور، وعشرات غيره من ثالوث إلهي لمدن وأقاليم عديدة مثل ثالوث آمون - موت - خنسو في الأقصر. ومن ثم تقبل الشعب بيسر وسهولة الثالوث المقدس المسيحي بغض النظر عن الاختلاف الفكري الفلسفي بين آباء الكنيسة.
استطرادا ربما نقول: إن لآل البيت النبوي صفة متماثلة في مثلث علي وفاطمة والحسين، ولهذا نجد بين المصريين حتى اليوم تعاطفا واحتراما زائدا لآل البيت لدرجة قبلت التشيع بسهولة في العصر الفاطمي، وما زالت أكبر الموالد في مصر هي لأفراد من آل البيت: الحسين والسيدة زينب وزين العابدين والسيدة نفيسة بغض النظر عن الوجود المادي للرفات من عدمه، وربما يجد المتخصصون صورا مشابهة في المناسبات الدينية القبطية في الأماكن التي زارتها العائلات المقدسة مثل المطرية والدير المحرق ... إلخ.
وفي عصر ما قبل التاريخ هناك شواهد أدلة في آثار حضارة جرزه ومرمدة بني سلامة والمعادي ونقادة ... إلخ. على الاعتقاد في الخلود والحياة في عالم آخر ومن ثم كانت المدافن تحت الأرض. واستمرارا لهذا المعتقد وتحسينه في صورة أدق وأرقى كان الركن الهام من مكونات ثالوث إيزيس أن هناك يوم الحساب والقيامة يشرف عليه أوزير إله الغرب والموتى. وسواء كان مقياس الحياة الأخرى هو وزن القلب فمن خفت موازينه نعم بالحياة الأخرى ومن ثقل قلبه ألقي في بركة من نار، أو من أوتي كتابه بيمينه دليل الإيمان والصدق ... فالأمر متشابه بصورة مجازية وهو ما ساعد على سرعة تقبل المصريين للمسيحية أو الإسلام باعتبار تشابه العقيدة في التأكيد على الحياة الأخرى كوازع للعمل الصالح في الحياة الدنيا.
شيء آخر مهم في ثالوث إيزيس هو أن الناس كلهم سواسية في الحياة الأخرى لا سطوة أو سلطان على أحد، وبعبارة أخرى ديمقراطية حياة الآخرة وعدالتها. وهذا الموقف الخلقي هو ما يحبذ على حسن التعامل واتباع صالح السلوك في الحياة الدنيا.
كل هذه تمثل فعلا سلاسة الانتقالات الفكرية والدينية بين المصريين آلاف السنين دون تحزب أو إكراه إلا في حالة واحدة هي مرحلة فرض عبادة آتون أو آتن بواسطة العقيدة الجديدة للملك اخناتن. وربما يرمز لعدم التعصب والتشدد أن نفس البناء يستخدم لطقوس دينية مختلفة في عصور مختلفة، وعلى رأسها معبد الأقصر الذي حلت كنيسة في جزء منه فترة وحل جامع أبو الحجاج على جزء منه منذ فترة. ومثل هذا في دير سانت كاترين الذي يضم ضمن أسواره مسجد إسلامي، وكذلك حلت كنائس وأديرة محل معابد قديمة مع تحويل الرسوم داخلها إلى الصور المسيحية المعهودة.
Unknown page