إهداء
تقديم
1 - مصر بين الحضارات القديمة والحديثة
2 - خصوصيات مصر الحضارية
3 - حول بعض المشكلات الأساسية في مصر
4 - حول بعض أقاليم مصرية مختارة وقضاياها الراهنة
5 - السياحة كصناعة
6 - مسألة المياه في مصر
7 - ماذا نحن فاعلون في القرن 21؟
8 - من مشكلاتنا الاجتماعية
9 - تنويعات على بعض صفات المجتمع
ملحق الصور
إهداء
تقديم
1 - مصر بين الحضارات القديمة والحديثة
2 - خصوصيات مصر الحضارية
3 - حول بعض المشكلات الأساسية في مصر
4 - حول بعض أقاليم مصرية مختارة وقضاياها الراهنة
5 - السياحة كصناعة
6 - مسألة المياه في مصر
7 - ماذا نحن فاعلون في القرن 21؟
8 - من مشكلاتنا الاجتماعية
9 - تنويعات على بعض صفات المجتمع
ملحق الصور
مصر
مصر
نسيج الناس والمكان والزمان
تأليف
محمد رياض
إهداء
إلى روح مصر الخالدة، وكل المصريين.
وإلى روح زوجتي ورفيقة حياتي، المرحومة أ.د. كوثر محمود عبد الرسول، وإلى أبنائي، عايدة وأحمد الشعراوي، ونادية وأسامة طلبة، وأحمد ومها زاهر، وإلى أحفادي، فاطمة ورياض الشعراوي، محمد ونسمة طلبة، محمد وأسامة رياض.
تقديم
تجولت كثيرا في مصر، وليست الأماكن التي سأذكرها لمجرد تعداد للحركة الدءوبة؛ بل لأن القارئ الكريم يعرف هذه أو تلك من الأماكن، ومئات غيرها تملأ الأسماع وتشكل معمور مصر ولا معمورها.
تجولت مشي القدم بعين الفاحص، ولسان التساؤل عما أرى وعما لا أرى، ولماذا هذا أو ذاك من اعتياد وسلوك، وبنية سكن ونشاط أعمال وتغير أساليب، وغير ذلك كثير على خلفية من القراءات المكتبية، ورؤى الناس وتنظير الباحثين.
في الأربعينيات حفرت داخلي صورة القاهرة القديمة والحديثة، وتلال المقطم، ونيل القاهرة من الجزيرة إلى إمبابة، والمناشي، والقناطر، وروض الفرج، ومصر القديمة، والجيزة، والهرم، وسقارة، وميدوم، والفيوم، ومنذ الستينيات مشيت للدراسة والتفحص والتقصي في قرى مصرية عديدة في الدلتا، والصعيد، والصعيد الجواني، وبخاصة قرى الحواجر: البهنسا، وصندفا الفار، وصليبة شوشة في المنيا، وحمرة دوما، وأبو مناع، والصبريات في قنا، والرمادي، وكوم أمبو، وإدفو في أسوان، وفي أنحاء الدلتا وقراها: ههيا، وأبو حماد، والصالحية، والزقازيق، وبنها، وأشمون، ومشلة، وكفر الزيات، وكفر الشيخ، ودسوق، وفوه، وطنطا، وزفتا.
وتجولت في الصحراء الشرقية من إدفو إلى مرسى علم وعبر وادي الجمال، ومناجم نحاس أم سميوكي، والدرهيب، وقبر الشيخ الشاذلي، ومن قنا إلى سفاجا، ومن الكريمات إلى الزعفرانة.
ومشيت حيث المجموعات البدوية: العبابدة من الأقصر إلى الرمادي إلى دراو وأقليت، وسيالة في أسوان، والنوبة القديمة، وإلى المحمداب والجريجاب في جنوب الصحراء الشرقية، ومجموعة الهوارة في مركز دشنا والفرجان، والجوازي البيض والحمر غرب البحر اليوسفي في المنيا، والجميعات، وعشائر من أولاد علي في الساحل الشمالي، وفي شمال سيناء: العريش، وبير العبد، وبالوظة، وعين جديرات، ووادي العريش، وسد الروافع، ومنجم فحم المغارة، ونخل، والتمد، ورأس النقب، وعيون موسى.
وكنت ضيفا متكررا في سنوات متتالية عاشقا واحات الصحراء الغربية جميعا: سيوة والبحرية والفرافرة والداخلة والخارجة. ومثل ذلك التكرار في جنوب سيناء متنوعة البهاء بين جبالها ووهادها وسواحلها: رأس سدر وأبو رديس وحمام فرعون والطور وشرم الشيخ ودهب ونويبع وطابا وجزيرة فرعون ووادي فيران ومحمية رأس محمد وسانت كترين، وآخرها كان في فندق طابا عندما نسفه إرهابيون!
وفي نيل النوبة القديمة تعددت دراساتي وسياحاتي فترة 61-1963 قبل بناء السد العالي للمجموعات النوبية الأصيلة: الكنوز والفديجة والعليقات، وتابعتهم بالزيارة والتقصي في التسعينيات وإلى اليوم في النوبة الجديدة حول كوم أمبو، وكذا تكررت رحلاتي إلى بحيرة ناصر ومشروع توشكى وأسوان أجمل بلاد الوادي طبيعة وناسا.
ومصب النيل العظيم في دمياط ورأس البر ورشيد وعبر قناة السويس إلى مشروع سرابيوم شرق البحيرات المرة، وفي وادي النطرون بين كنائسه وأديرته وبحيراته ورماله وبعض مشروعات استصلاح زراعية وعمرانية، وفي أماكن كثيرة أخرى من نجوع وقرى البراري الشمالية في بلطيم والرياض والشخلوبة وإدفينا، وإلى بعض قرى غرب الفيوم ووادي الريان، كان ذلك صباحا ومساء طيلة خمسين سنة.
أزور وأكرر الزيارة مرات ومرات كلما سمحت ميزانيتي أو مع زملائي أساتذة وطلبة الجغرافيا في آداب عين شمس في عشرات أسابيع الدراسات الميدانية والتدريب العملي المتعددة في أنحاء مصر، وبخاصة سيناء والصحراء الغربية.
هذا الكتاب هو حصيلة كل هذه التجارب العملية وكثرة المشي خطوة خطوة على أجزاء من أرض مصر الملهمة سواء كانت مزروعة أو ما زالت بكرا رملية أو جبلية، ومن خلال السفر والترحال في نيلها شريان الحياة - أرقب وأدون وأصور وأتابع وأدقق فيما كان وما سيكون - وهو أيضا تجميع لبحوث ومقالات بعضها في محافل علمية وندوات بحثية في مصر وأوروبا وأمريكا، وأغلب ما نشرته في جريدة الأهرام ومجلة روز اليوسف من مقالات موجزة بطول العقد الأخير.
وبعض مما جاء في كتابي مع المرحومة زوجتي «رحلة في زمان النوبة» (1998) وكتابي «القاهرة: نسيج الناس في المكان والزمان» (2001)، الأمل كبير في أن يرى القارئ الكريم بعض ما أراه من أجل خير مصر مع عدم العدوان على التوازن الطبيعي بين الإنسان والموارد المتاحة، وتحري مدى استخدام التكنولوجيا المتقدمة وتوافقها مع الموروث والمورث، ومع اتساع نظام الدولة ليشمل تمثيلا حقيقيا لكل الآراء بالوسائل السلمية، والحرية في الرأي والتعبير، وممارسة حقوق الإنسان في الريف والحضر على السواء مرة أخرى من أجل استعادة التوازنات، والنمو الرشيد في ربوع هذه البقعة الوسط في كل شيء من عالم الكرة الأرضية وحضاراتها، وحتى نرقى على قدر حجمنا للتفاعل الإيجابي كعضو في المجموعة البشرية.
محمد رياض
القاهرة، مارس 2007
الفصل الأول
مصر بين الحضارات القديمة والحديثة
الدوائر الحضارية بين النمو والاضمحلال (1) الحضارة متغير دائم بين التطور والجمود والانفتاح، وكارثة السقوط البشرية المعاصرة
منذ قرنين على الأكثر بدأ الإنسان يدخل دائرة حلزونية متصاعدة متفاقمة بين الطلب والاستجابة للطلب بكثير من الوسائل التقنية الجديدة والمستجدة أو المطورة، لكن ذلك - وإن كان يحل إشكالية الطلب - إلا أنه بعد فترة ما طالت أو قصرت حسب حجم المجتمع وواقع ظروفه الحياتية، يبدأ طلب آخر يستجد من واقع الظروف الجديدة، يروج له بإلحاح جميع وسائل الإعلام، والإعلان المكتوب والمرئي والمسموع بحيث لا فكاك! هكذا تستمر الأمور في دوائر متصاعدة لكنها متزايدة الحجم والنوع، مثل القمع واقف على فتحته الضيقة ويتسع كلما ارتفع المنظور (الطلب/الاستجابة) إلى أعلى؛ فهل يطفح القمع إلى هباء؟
أم هل لا بد له أن يقع وتبدأ دورة جديدة ربما من الصفر في حالة وقوع كارثة؟
أم يبدأ من حيث انتهينا ولكن بكثير من التواضع بديلا للعجرفة السائدة تحت شعار قوة قدرات الإنسان الإبداعية؟
وقوع الكارثة غالبا تحدث مصادفة، كأن يلعب العلماء لعبة الاستنساخ تحت تأثير وتمويل محرك سياسي، هو غالبا عنصري الهدف لتغليب سلالات معينة على أخرى، أو قد تقع الكارثة نتيجة ازدياد الجوع بين الشعوب الفقيرة، ومن ثم هلاك الملايين برغم مساعدات إنسانية تظهر أحيانا بين بعض منظمات الشعوب المتقدمة. وأيضا بالإضافة إلى التفضل على دول العالم الثالث بالمساعدة على إنشاء صناعات هي غالبا ملوثة للبيئة وصحة الإنسان، ولم تعد تحتمل شعوب الدول المتقدمة وجودها بين ظهرانيها، أو صناعات تحتاج أيدي عاملة كثيفة رخيصة غير موجودة إلا بين الدول المتخلفة أو النامية!
النموذج الحي لهذا التصور هو العلاقة بين الإنسان وتقنيته في ابتداع مصادر الحياة من المياه العذبة - أمطار وأنهار - لتنمية وتطوير أشكال عملية إنتاج الغذاء النباتي والحيواني. هذه العلاقة قد تتجمد عند شكل حياتي معين لفترة طويلة - كاستمرار الزراعة وتربية الحيوان من عشرة آلاف سنة وحتى الآن - أو نتيجة العزلة المكانية مع تفاعل حضاري بسيط مع الجيران، كما حدث لعدد من شعوب العالم الثالث وبخاصة في أفريقيا، أو قد تقصر فترة الجمود المجتمعي نتيجة اكتشافات جديدة في عالم المعادن والطاقة، أو تطوير استخدامات المياه لري أراض جديدة أو نتيجة الحروب التي تسرع بالتقاء الثقافات والحضارات برغم بعض الدمار الناجم عن الصراع الحضاري والإمبريالي، أو إلى آخر ذلك من الأحداث التي تكتنف حياة المجتمعات والشعوب على مر الزمن من حيث زيادة أو تناقص أعداد السكان، والجمود أو الانفتاح الحضاري والثقافي وموارد المكان والعلاقات المجالية الناجمة عن التبادل التجاري؛ لأن المجتمعات - حتى القديمة منها - لا تتمتع مكانيا بوجود كل الموارد اللازمة للمنسوب الحضاري الذي يعتاده المجتمع في تغيره كل زمان على حدة. (2) المجتمعات البدائية: المساواة والحس البيئي العالي
أوثق العلاقات بين الإنسان والبيئة هي العلاقة مع المياه العذبة التي هي نتاج تفاعل الدورة الهيدرولوجية العالمية التي تسبب الأمطار وجريان الأنهار، وتكوين البحيرات والمستنقعات والمناطق الرطبة الدائمة، وتكوين الغطاءات الجليدية بتناقص درجات الحرارة، وتكوين المياه الجوفية نتيجة التسرب داخل مسام الصخور، ثم عودة ظهورها في صورة ينابيع متدفقة دافئة أو باردة تسيل أنهارا ونهيرات ترعى مع الأمطار عالم إيكولوجي قاعدته أعشاب وأشجار فوقه عالم الحيوان العاشب وفوقهما عالم الحيوان اللاحم المفترس.
والإنسان القديم يرى نفسه جزءا من هذا الهرم الإيكولوجي يتنافس مع الحيوان اللاحم لصيد الفرائس، وينافس الحيوان العاشب في غذاء من الجذور والأوراق والثمار، لم يغتر البدائي بقدراته التي تتشكل تجريبيا من ممارسات يختزنها عقلا ويطبقها نمطا - وإن كان يضيف إليها تنويعات نتيجة ظرف طارئ أو موقف جديد مناخي أو بيئي بصفة عامة؛ لهذا لم يكن ينظر لنفسه - كما هو الآن - على أنه يقف على قمة الهرم الإيكولوجي، بل واحدا من عناصره متجاوب تماما لشروط بيئته ... لهذا استمر البشر منتشرين هنا وهناك جزءا من البيئة مئات آلاف السنين حتى تحول من مستهلك إلى منتج للغذاء، فكان ما كان من متغيرات أحداثها لم تقتصر فقط على البيئة الطبيعية بل أيضا على تراكيبه وقيمه المجتمعية، سنذكرها بعد قليل.
الخلاصة أنه في ماضي الإنسانية البعيد عاشت المجتمعات ضمن معطيات الأنظمة البيئة المتعددة ونادرا ما عاندتها ولوت ذراعها، وإلا كان نصيبها الفقر والمجاعة والاندثار، يشرب الإنسان ويجمع النباتات البرية وثمارها ويصيد السمك والحيوانات البرية التي يستسيغ لحمها. وإذا أفرط في الشغف بمورد غذائي شجري أو حيواني أو سمكي معين تتصدى للمجتمع آلية «الشامان» رجل الشفافية مع العالم غير المرئي، فيفرض «تابو» (تحريم) إلهي أو رؤى من أرواح السلف تمنع تناول هذه الأنواع المهددة بالاندثار نتيجة الإفراط في جمعها أو بالصيد الجائر، وبعبارة أخرى كانت لدى المجتمعات القديمة آليات تحترم النظام البيئي؛ لأن تخريبه بالتجاوزات يؤدي إلى افتقار المجتمع ويضطر معه إلى الهجرة بحثا عن موطن آخر. (3) الزراعة والاستقرار: حضارة الملكية الفردية والمجتمع الأبوي
ثم اكتشفت النساء الزراعة، بحكم أن تقسيم العمل كان يقتضي ذهاب الرجال عدة أيام إلى عمليات الصيد البري المحفوفة بالمخاطر، بينما كان على النساء البقاء في الموقع السكني لرعاية الأطفال وجمع الثمار والجذور النباتية والحبوب البرية للغذاء اليومي الدائم؛ ولهذا فإن احتكاك المرأة بعالم النبات قد جعلها تلاحظ كيف تنمو البذرة البرية إلى نبات، فقلدت هذه العملية الطبيعية ونجحت في الحصول على المحصول المفضل من الحبوب، ولكن سرعان ما ازداد تأمين العيش باستيلاء الرجال على مهنة الزراعة، ومعها استأنسوا حيوانات صارت أليفة هي الأغنام والأبقار ودواب الحمل والانتقال، وبذلك كف الرجال عن نشاط الصيد إلا في حالات خاصة ربما مرتبطة بطقوس هي فاتحة مواسم الوفرة الغذائية مضاف إليها شكر للآلهة.
ومع انتشار الوفرة المزدوجة من الزراعة أو تربية الحيوان، أو هما معا ظهرت قيمة الأرض والضرع وأصبحت ملكا فرديا متوارثا يتصرف فيه المالك بكل أشكال القانون السائدة بعد أن كانت ملكا مشاعا لكل أفراد العشيرة، ومعها زاد عدد السكان لأسباب منها الوفرة الغذائية المنتجة تحت اليد، ومنها تناقص الوفيات نتيجة قلة المخاطر المرتبطة بالصيد، وقلة مخاطر الوفيات لنقص الطعام أو سوء التغذية، وأخيرا منها رغبة جامحة في حفظ الميراث للأبناء والدفاع عنه بكثرة الولد من تعدد الزوجات، وأشياء أخرى كثيرة متراتبة شكلت في النهاية حضارة المجتمعات الأبوية أو الذكورية التي امتدت إلى اليوم، وتناهضها النساء الآن للعودة مرة أخرى إلى المساواة التي ميزت البشرية البدائية مئات الآلاف من السنين ...
ونتيجة كل هذا الشيء من المتغيرات حدثت متغيرات أخرى في وظائف أفراد المجتمع، أهمها تحول بعض الرجال إلى إدارة التنظيم المجتمعي المتنامي والدفاع عنه ضد غائلة الشعوب الطامعة في تلك الوفرة، وهو أول ظهور التنظيم السياسي في المجتمعات. بعض الشعوب فضل أن يكون الرأي لكبار السن وحكمائهم نتيجة تجاربهم الحياتية أدى إلى استقرار مجتمعي نسبي ينمو داخل أطر قيمية شبه ثابتة، ومن ثم فالتغير عندها بطيء يحتاج إلى قادح إيديولوجي
Catalyst
عميق الأثر في إعادة ترتيب المجتمع كظهور الأديان السماوية، أو الثورات والقلاقل الشعبية كما حدث في مصر الفرعونية مرتين على الأقل، أو ثورة العبيد في روما، وثورة الزنج في جنوب العراق والخليج في العصر العباسي، والثورات الكبرى الحديثة وبخاصة الفرنسية والروسية والصينية، وبعض المجتمعات فضل أن يكون الرأي لكبار القوم من المحاربين، ومن ثم ينشأ مجتمع قابل للتغير بنسبة أكثر، وإن كان هو الآخر داخل أطر قيمية لكنها قادرة على تقبل التغير في الزمان والمكان، كالمغول حين امتصتهم الحضارة الصينية والترك حين اندمجوا في الإسلام، والجرمان حين دخلوا المسيحية.
وهكذا أعيد تقسيم العمل في المجتمع فاحترف الرجال العمل الإنتاجي في الحقول وتربية الحيوان بمساعدة محدودة من النساء التي انكمش عملهن إلى داخل البيت ورعاية الأطفال وتعليمهم تراث الماضي، وكيف يتعايشون في نسيج المجتمع حتى سن البلوغ فيخرج الصبية إلى نادي الرجال ليتعلموا صنعة الرجال والآباء في الزراعة، أو الحرف، أو التجارة، أو الإدارة، أو الكهانة، أو الحرب، بينما تتعلم الفتيات اقتصاديات الحياة المنزلية وأصول الأمومة وتنشئة الصغار. (4) الحضارات النهرية الكبرى
إن كانت الزراعة قد اكتشفت في الوديان الجبلية الصغيرة فيما بين جبال القوقاز وزاجروس وطوروس؛ أي تلك المحيطة بشمال الهلال الخصيب، إلا أن أكبر اتساع سلطوي ونمو مجتمعي تغير إلى تنظيم الممالك السياسي قد حدث في السهول النهرية الخصبة: النيل والفرات والسند وأعالي هوانجهو - النهر الأصفر - مما اقتضى تسميتها الحضارات الهيدرولوجية أو باختصار حضارات الأنهار، هنا حضارات قديمة بعضها لم يستمر أكثر من ألفي عام كالحضارة السومرية في جنوب العراق ووسطه، وحضارات السند الأوسط والأدنى في باكستان، وبعضها استمر إلى بضعة آلاف السنين كالحضارة المصرية والصينية والهندية، وكلها أورثت شعوبها على امتداد الزمن الكثير من جوانب حضارتها، وتراثها المادي والروحي حتى الآن برغم التغيرات الأصولية التي انتابتها سواء في تركيب السكان أو العقائد أو الإيديولوجيات، وفي هذه الحضارات تمت الأصول الجذرية للمعرفة الموثقة بالكتابة، ومن ثم بدأ الإنسان يبني على ما تقدم بدلا من إعادة البناء كل مرة باجتهادات فردية في المجتمعات السابقة على الكتابة. (5) حضارات تموت واقفة
مع الوفرة والتنظيم السياسي زادت أعداد السكان مما استدعى توسع في الزراعة وابتكار آلات رفع المياه وحفر القنوات لري الأرض البعيدة عن النهر، ففي حضارات ما بين النهرين - العراق الآن - أدت كثرة الري وقلة الانحدار الأرضي الذي يسهل التصريف المائي بعد الري في جنوب العراق - حيث نشأت حضارة وممالك المدن السومرية بإجمال - أدت إلى مشكلة خطيرة، هي أن الأرض أصبحت غدقة لارتفاع الماء الباطني بشدة وتمليح التربة نتيجة ارتفاع الحرارة في موسم الصيف، مما كان الشغل الشاغل للسومريين فيما عرف باسم بذل أو صرف المياه وغسل التربة وهو ما صار إلى تدهور إنتاجي وتحرك مراكز القوة السياسية شمالا من ممالك مدن سومر إلى بابل والحضارة البابلية - قرب بغداد، ثم شمالا مرة أخرى إلى نينوي - قرب الموصل - حيث حضارة الأشوريين، وقد استمرت مجهودات استعادة الإنتاج في الجنوب خلال العصر العباسي فيما عرف باسم أرض السواد بالاعتماد على عمالة الرقيق السود الذين تمكنوا من التمرد لفترات طويلة عرفت باسم ثورة الزنج، وما زالت مشكلة الصرف في الجنوب هي إحدى التحديات الكبرى في العراق إلى الآن، ويتضح أن تجاوزات الإنسان للظروف البيئية كان واحدا من أسباب انهيار حضارات ما بين النهرين، والأسباب الأخرى سياسية حربية تمثلت في هجرات الهندو-أوروبيين إلى الهند والشرق الأوسط، فيما بين إيران وكردستان وأرمينيا وتوسع ميديا وبارثيا وفارس إلى سهول الرافدين وما بعدها إلى معظم غرب آسيا ومصر، ثم انتشار الدولة الإسلامية إلى العراق وفارس فيما بعد.
وتتمثل الحضارة النهرية في حوض السند الأوسط والأدنى في آثار مدينتي «هارابا» و«موهانجدارو»، حيث قامت حضارة مدنية كبيرة ذات تنظيم سياسي زراعي تجاري استمرت قرابة ألفي عام ثم اندثرت مرة واحدة، أسباب ذلك غير معروفة؛ لأن الكتابة السندية لم تحل شفرتها إلى الآن، ومن ثم لا نعرف عنها سوى الآثار الكبيرة التي تم اكتشافها، ويرجح بعض الباحثين أن حوض السند تعرض حوالي الألف الثانية قبل الميلاد إلى موجات هجرة بأعداد كبيرة من الهندو- أوروبيين القادمين من وسط آسيا، ربما بسبب موجة جفاف طويلة أو ربما نتيجة تحرك شعوب كالآفار والترك من منغوليا إلى وسط آسيا، وقد كونت موجات الهجرة الهندو-أوروبية فيما بعد الإضافة الأساسية للسكان الأصليين من الدرافيديين بحيث تشكلت المجموعات السلالية واللغوية الحالية لسكان الهند وباكستان، وهنا أيضا نرى أسبابا بشرية ناجمة عن تحرك الشعوب في هجرات واسعة أدت إلى اندثار التنظيم السياسي لحضارة السند، وإن بقيت بعض عناصرها الثقافية في النسيج الحضاري الجديد.
أما حضارة الصين فتشتمل على عدة عناصر من مكونات البيئة والنشاط الزراعي والتجاري والثقافي تداخلت بقوة في نسيج الجماعات المغولية التركية التي اكتسحت الصين، فتحول المنتصرون فيما بعد إلى أن أصبحوا صينيون حضاريا وثقافيا. والأغلب أن المنتصرون كانوا أقل ثقافة برغم قدرتهم التنظيمية العسكرية فامتصتهم الثقافة الصينية وهضمتهم في تركيبها السكاني الساحق ومساحتها الشاسعة.
وأخيرا فإن حضارة مصر-النيل تمثل أصغر المساحات في الحضارات النهرية، ولكنها أدوم تلك الحضارات عمرا وتركيبا. وادي النيل المصري طويل ضيق واضح المعالم، والنهر هادي الجريان معظم السنة مما جعله طريق آمن للنقل والانتقال فيما عدا موسم الفيضان حين تهدر مياهه فتغرق الكثير من سهل الوادي - وهي ظاهرة هيدرولوجية استغلها المصريون أحسن استغلال بابتداع نظام ري الحياض الذي ضمن تصريفا للمياه بعد الفيضان وضمن إثراء للتربة بما يترسب فوق أرض الحياض من الغرين، ومن ثم تكونت أصول الغنى والوفرة التي ميزت مصر عن غيرها من الحضارات النهرية، أما الدلتا فهي أعرض من الوادي وفروع النيل فيها كثيرة مما يسمح بالري والانتقال في مختلف نواحيها، ولكن مناطقها الشمالية أرض مستنقعات دائمة كونت حماية طبيعية ضد الغزو البحري، بقايا المستنقعات ما زالت قائمة في البحيرات الشمالية المتصلة بالبحر - المنزلة والبرلس وإدكو، وأيضا فيما عرف باسم أرض البراري وبحيرة مريوط - شمال محافظات الدقهلية وكفر الشيخ والبحيرة.
اعترت مصر القديمة في أحيان معروفة تاريخيا تفكك سياسي، ولكن الوحدة الحضارية المصرية ظلت قائمة، وعلى أزمان طويلة كان هناك تفاعل مستمر بين الحضارة المصرية والحضارات حولها في غرب آسيا وحوض البحر المتوسط الشرقي وجزره العديدة، فيما بين قبرص والأناضول وفيما بين كريت وبحر إيجة وبلاد اليونان الحالية. وفي عصور النهاية أصبحت مصر فارسية ثم إغريقية بطلمية ثم رومانية ثم ضمن الدولة الإسلامية، ثم استقلت من عهد الطولونيين والإخشيد ثم أصبحت القاعدة الأساسية للدولة الفاطمية والأيوبية والممالك البحرية - الأتراك - والمماليك البرجية - الجراكسة - ثم الدولة العثمانية وفترة بونابرت والحملة الفرنسية، وأخيرا استقلت فعلا منذ محمد على وأسرته، وجاء الاحتلال الإنجليزي، ثم عصر الجمهورية الحالي.
أين راح كل هؤلاء؟ فرس وإغريق ورومان وعرب وكرد وأتراك وشراكسة وأتراك عثمانيين وفرنسيين وإنجليز! لقد هضمتهم الحضارة المصرية لدرجة أن الجاليات اليونانية والإيطالية والفرنسية التي كانت تعيش وتموت في مصر كانوا مصريين بصورة ما، وحين اضطر بعضهم للهجرة إلى بلاد أجدادهم في الستينيات من القرن الماضي كانوا يتحسرون على حياتهم في مصر، ويتوقعون أن تعاملهم شعوب أجدادهم على أنهم أغراب يتكلمون لغتهم بكثير من الرطانة المصرية ويعيشون بكثير من أسلوب الحياة المصرية وقيمها - وحسب قول بعضهم لي على ظهر باخرة إلى إيطاليا (1959): نحن سوف نوصف بأننا إيطاليون «جربانين»!
لكن مصر فقدت في نصف القرن الأخير كثير من القيم التي كانت تؤمن التوازن بين المصريين بصورة مقبولة، ما السبب؟ الإجابة ليست سهلة؛ لأن مربع التفاعلات تضخم نتيجة أبعاد جديدة سياسية وإيديولوجية وقيمية، لكنها لم تحظى بثبات زمني يجعل ممارسة المصريين قادرة على انتقاء القيم الاجتماعية الاقتصادية بالتطور التدريجي من الداخل بحيث تظهر قيم وسلوكيات مقبولة لدى قطاع كبير من الناس.
فهل نشهد جمود أسس حضارة حائرة تطغى عليه أسس جديدة أو سالفة؟
الإجابة على التساؤل صعبة وتتناول الكثير من العناصر الفاعلة؛ أولها: تزايد السكان، وثانيها: الاستجابات السريعة لمشكلة تناقص الأرض الزراعية، وثالثها: المزيد من التحكم في مائية النيل، ورابعها: عدم التوافق بين أنظمة الزراعة الحديثة والموروث عند الفلاح من ممارسات استزراع الأرض، وخامسها: طغيان عوائد البترول والغاز الطبيعي والسياحة وهجرة العمل إلى الخارج مما أدى إلى فقدان التوازن بين استثمارات النشاط الزراعي بإجمال في الناتج الوطني العام، وسادسها: استثمارات محدودة لتطوير الإنتاج الصناعي الكبير والمتوسط مما أدى إلى ضعف مساهمته في الناتج العام، وسابعها: دخول الاستثمارات الأجنبية والرأسمالية الوطنية والأجنبية في الصناعات المصرية الغذائية المنتجة للسوق المصري والشرق الأوسط، وربما هناك عناصر أخرى كثيرة لكننا نتوقف عند هذه العناصر الهامة شديدة التأثير على التوجهات الاقتصادية في مصر، وربما كانت هي أحد أسباب البلبلة في اتجاهات الأنشطة بين الإنتاج - زراعة وصناعة وتصدير خامات الطاقة - وبين الخدمات التي تتوفر في السياحة والتجارة والنقل السلعي ونقل الأفراد.
الخلاصة أننا فقدنا توازنات كثيرة في الاقتصاد القومي ومن ثم العمالة والبطالة، وكلها أنجبت الكثير من القلق الاجتماعي السياسي معا الذي ظهر جليا في تكون أحزاب سياسية متعددة ليس لأغلبها برنامج مدروس بكفاية وإنما معالجات لمواقف منفصلة كحزب لسكان الجنوب أو آخر يدعو إلى العودة إلى نظام الملكية العامة مناهضا للخصخصة، والآخر يعترض على رواسب إنتاج العقود الأخيرة ويطلب إصلاحا سياسيا ديموقراطيا دون أن يكون له كيان سياسي شعبي وبرامج واضحة، وإنما يتخذ شكل تجمع غالبا ينفض إلى شعب متعددة عند مواجهة وقائع الأمور. (6) موجز المشكلات المصرية
مخططات تنموية أم شيزوفرينيا محلية؟
شيزوفرانيا تعني آراء وقرارات متناقضة تجاه نفس الشيء، ولدى الساسة ومتخذي القرار على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي يشمل عدد كبير من المتناقضات الناجمة عن اختلاف النظرية في الحكم والاقتصاد، واختلاف أبعاد الرؤى في كل مجتمع على حدة؛ ففي الأقاليم التي توصف بسيادة النظم الديموقراطية حالات تختلف كثيرا عن غيرها من أنظمة حكم أخرى فيما يخص القوانين والتشريع والتطبيق ومحاسبة كل من يخرج عن الإجماع المتفق عليه؛ بينما في النظم الأخرى التي تملك وتحكم بنظام الأبوة لشعب يحتاج قيادة تتقرر أهداف التغير المجتمعي القانوني والتشريعي بالارتباط بمصالح عليا محلية ودولية. ولأنها عادة غير نابعة من احتياجات الداخل تتساقط أهداف في دائرة النسيان فنعود من جديد نبني نقائض أخرى، وهكذا تسير الأمور غالبا «محلك سر» أو تقود إلى تغيير بطيء شديد التكلفة في الوقت والمال والجهد المبذول، ولو كان العالم النامي يرتب الأوليات والنقائض موضوعيا فلا بد أن الانطلاق سوف يصل إلى هدف أو آخر، لكن التوازنات الدولية والقومية وقوة الأقطاب العالمية لها حسابات أخرى معظمها لصالح القوى والفتات لصالح الشعوب.
هذه المقدمة قد تبدو معماة ولكنها كبد الحقيقة، ولو ألقينا عليها أضواء من تجارب مصر وممارساتنا المضنية سوف تتضح لنا أوضاع موجعة برغم كونها أصلا مفروشة بالنيات الحسنة.
نماذج مصرية خلال إطار زمني طويل أو قصير (1)
إن مصر بحكم تكوينها الجيولوجي فقيرة في المعادن مع استثناءات محدودة العدد، ربما كنا أغنى معدنيا في العصور القديمة، لكن الفراعنة قد استنفذوا الكثير المطلوب آنذاك من المعادن في جبال البحر الأحمر وسيناء الغربية وبخاصة الذهب والنحاس، وفي عصرنا الحالي، وبتكنولوجيا التعدين الحديثة بدأت مشروعات استخدام بعض الموارد التعدينية مثل فحم المغارة في شمال سيناء، وفوسفات أبو طرطور في الوادي الجديد، وحديد الواحة البحرية، فضلا عن موارد الطاقة الحفرية من البترول والغاز الطبيعي في الصحاري والمياه البحرية الإقليمية، ومن المعروف أن أهداف هذه المشروعات لا تتضمن إقامة مستوطنات عمرانية جديدة لحل مشاكل التكاثف السكاني، وتزاحمهم في الدلتا والوادي وفي المدن والحواضر؛ ذلك أن مناطق التعدين في أغلبها الأعظم ليست إلا مجرد معسكرات عمل هي ديموجرافيا معسكرات رجال لا يكونون مجتمعا متكاملا؛ لأن الموارد التعدينية غالبا ذات مخزون محدود حين يستهلك أو يصبح استخراجه أعلى تكلفة من سعره المحلي أو العالمي، يهجر العاملون المكان، وتبقى بعض أطلاله شاهدا على فترة زمنية ماضية مثل أطلال الفراعنة في استخراج المعادن. (2)
ما زال البترول (متناقص الموارد)، والغاز الطبيعي (متوازن المصادر) يشكلان ثروة مصر التعدينية الرئيسية، أما فحم المغارة فهو من نوع رديء (لجنايت) لا سوق له إلا في حالة الضنك التي لم نصل إليها بعد، ومن ثم فشل المشروع بعد إنفاقات استثمارية، والفوسفات أنفق عليه مليارات، وعلى الأغلب هو نوع جيد لكن سوقه العالمي مغرق وبالتالي فقد توقف العمل إلا قليلا، وأنواع الأسمدة الفوسفاتية كثيرة وتقوم عليها صناعة أحماض فسفورية مهمة، وعلى وجه العموم فإن الزراعة في أراض جديدة كمناطق استصلاح تحتاج إلى الأسمدة من كل الأنواع وبالتالي هناك حاجة له في مصر وآسيا وأفريقيا، ولا شك في أن المسئولين يقومون بتقصي حركة السوق العالمي وبخاصة في الصين والهند المستهلكين الأول للأسمدة عالميا.
والخلاصة أن الاستثمارات في الموارد الطبيعية تكاد أن تختصر في إنتاج الغاز والبترول وأعمال الكشف عن حقول جديدة لهما بإشراك شركات عالمية. (3)
المشروعات الكبرى أو أحيانا تسمى مشروعات قومية أنفقنا عليها مليارات من الجنيهات أو الدولارات، أو بأي مقياس آخر بشري مثل كم من جهد آلاف العاملين يقوم بسعر الساعة أو اليوم أو السنة، وكم من آلات وأجهزة ومضخات وكابلات الجهد العالي وتوربينات ووقود وسيارات ولواري استهلكت، وكم من طرق شقت وعبدت، وكم من جسور وكباري وأنفاق و«سيفونات» - أنفاق تحت مجار مائية - بنيت، وكم من ترع وقنوات أنشئت، وكم من مساحات من مئات وآلاف الأفدنة مهدت، وكم من مساكن عمال وفيلات مديرين ومبان إدارية شيدت، وكم وكم ... وكم يقدر ذلك كله مقوما بالمال في زمانه ومقوما بقيمة العملة في زماننا الحالي، ومقوما بالزمن الذي استغرق تشييده ومقوما بالدمار الذي ألحقناه بالبيئة في محاولة تطويع أرض هشة لرغبات جامحة مدعومة بالدعاية والإعلام المطنب المطنطن، ثم الصمت البليغ عن قصور الهدف واختصاره إلى مرحلة أولى لا تليه مرحلة أخرى - كم هي قاسية بيئتنا الطبيعية وكم هي عفوية بيئتنا البشرية تضرب ضرب عشواء دون مراجعة واستذكار وتوقع مستجدات الأمور من إشكالات تسببنا فيها وكنا في غنى عنها! (4)
من أمثلة المشروعات القومية: الوادي الجديد في الواحة الخارجة وتوشكى على بحيرة ناصر في النوبة القديمة، وترعة السلام في شمال سيناء، ومشروعات الزراعة في شرق العوينات، والمشروع القديم للزراعة في شرق البحيرات المرة عبر منطقة سيرابيوم، والمريوطية في غرب الإسكندرية، وتحويل حلوان-التبين إلى «رور» صناعي على النيل يضاهي إقليم الرور على نهر الراين في ألمانيا، وميناء الحاويات في شرق التفريعة شمال قناة السويس، وميناء العين السخنة في جنوب قناة السويس، ومجمع فوسفات أبو طرطور في الواحات، وخط السكة الحديد من أبو طرطور إلى ميناء سفاجة عبر الصحاري الغربية والشرقية، وعبر محافظة قنا إلى البحر الأحمر، ومشروعات أخرى بعضها فشل في المهد كحديد جنوب أسوان شرق بحيرة ناصر، وحلقة المدن التوابع حول القاهرة، والطريق الدائري بغرض حل اختناق القاهرة فأنتج ضواح للصفوة من كبار المليونيرية واختناق لحركة مرور القاهرة الكبرى، وكذا مشروع ممر التعمير المغرق في الأحلام والمتناهي الضخامة والتكلفة، والذي يمتد من البحر المتوسط قرب العلمين إلى حدود السودان في مسار هائل (1200 كيلومتر) غرب الدلتا والوادي ... وغير ذلك كثير على مستويات محلية. (5)
الهدف غالبا ذو قصد حسن من هذه المشروعات، قد يكون الهدف إيجاد حل لمشكلة السكان في محافظات الفقر في جنوب مصر أو شمالها، وذلك بتمهيد أرض استزراع وتهجير الناس إليها، قد يكون الهدف مستقبلي بزيادة المساحة المعمورة من مصر من مجرد 5٪ إلى أحلام 25٪ المستحيلة علما ومنطقا وواقعا، قد يكون الهدف استراتيجيا بمعنى إعمار مناطق مصرية خالية وبالتالي جعلها امتدادا عمرانيا إلى الجنوب في النوبة وبحيرة ناصر وشرق العوينات، ومشروعات على رأسها توشكى التي تفتخر بأنها تضم أضخم مضخات رفع المياه على مستوى العالم، ثم تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، أو إلى الشمال الشرقي في شمال سيناء حيث تجري ترعة السلام إلى لا شيء ملموس يمكن أن يتناسب مع الإنفاقات والمضخات والسيفونات تحت قناة السويس حتى الآن، وقد تكون كل هذه الأهداف معا في مشروع أو آخر مثل استنفاذ غير مبرر لمياه جوفية في واحات الصحراء الغربية محدثا دمارا بيئيا يلخصه نفاذ مخزون المياه الجوفية في فترة زمنية قصيرة، أو مشروعات الزراعة على امتداد مريوط، والوادي الفارغ في منخفض النطرون. (6)
وفي مقابل هذه الاهتمامات بالمشروعات القومية نجد نوعا من الإهمال أو التناسي للقلاع الصناعية المصرية وبخاصة صناعة القطن في المحلة الكبرى وكفر الدوار والبيضا وشبين الكوم وغيرها، لم يقتصر الأمر على تدهور النسيج المصري الذي كان في قمة الإنتاج العالمي، بل زاد الموضوع سوءا على سوء بتناقص إنتاج القطن نتيجة خسارة القطن معركة المنافسة مع الأرز لأسباب كثيرة منها أن السوق الداخلي للأرز في متناول الفلاح والتاجر المحلي، بينما سوق القطن تتناوله أيدي كثر من السماسرة والبورصة والتجار المحليين والأجانب، وتأثره أيضا بمجموعة العلاقات الدولية المصرية بين الكتل السياسية العالمية منذ الستينيات إلى التسعينيات في شد وجذب وازدهار وركود للتوجهات السياسية والتجارة الخارجية. هذا فضلا عن منافسة ضارية في السوق الأوروبية والعالمية لصناعات الملابس من شرق آسيا للصناعة المصرية المماثلة، وأخيرا سياسات الإغراق التجارية الصينية على المستوى المحلي والعالمي ... (7)
انعكاسات كل ذلك ظهرت مؤخرا جدا في صورة إضرابات عمال صناعات القطن المختلفة من الغزل إلى النسيج إلى الملابس في المحلة وكفر الدوار وشبين، وما قد يتلو ذلك في صناعات مصرية أخرى تعاني المنافسة والكساد معا. (8)
هل تظل هذه الإضرابات والاعتصامات التي تطالب بأشياء محدودة كتوزيع الحوافز والأرباح على العمال تدور في هذا المحور الضيق؟ أم ستتسع إلى حركة نقابية أكبر وأقوى؟ أم تلتقطها الأحزاب السياسية المصرية وجماعات الضغط المختلفة - دينية وعلمانية - لتصعيد أكبر لإشكالية معاناة سوق العمل المحلي ودور البطالة والمهمشين من القوى العاملة المصرية؟ (9) «مصر هبة النيل» قول مأثور عن هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد بعد أن راعه هذا الغنى وتلك الوفرة الزراعية في سهول الدلتا والوادي مقارنة بحال الحقول في الوديان الجبلية الصغيرة الفقيرة في اليونان والأناضول وفينيقيا ... «مصر هبة سكانها» قول آخر مأثور لأستاذنا الراحل سليمان حزين، وبرغم مأثورة هيرودوت المدهشة فإنني أميل أكثر إلى أن نشاط الإنسان الواعي المبدع هو سبب أكبر في التميز المصري منذ آلاف السنين، وذلك باعتبار أن النيل والبيئة المصرية كتاب مفتوح يمكن أن يصبح مصدرا للثروة بفضل أهلها وإبداعهم في ابتكار استخدام النهر والتربة بري الحياض كأول مدرسة للزراعة المروية في العالم المعروف آنذاك، أو يمكن أن يظل مجرد مسار نهري يكتنفه اللوتس والبردي والبوص ويتعايش على أسماكه المقيمون حوله دون إبداع يذكر! ... «ومصر هبة الصحراء» قول ثالث لعلماء دراسات ما قبل التاريخ، فقد عاش سكان ما هي مصر الآن في المناطق الصحراوية الحالية التي لم تكن صحراء حقيقية إلا نحو 2500ق.م ومن ثم فإننا نعرف الآن قدرا من جذور الحضارة الفرعونية بدراسة اللقى الأثرية للمصريين منذ أكثر من عشرة آلاف سنة مضت وبخاصة نمط حياة الصيد وبعض الرعي، ومستوطنات سكنية عديدة في وادي الكوبانية (جنوب إدفو) ونبطه-كسيبة (غرب أبو سمبل) وسيوة وسيناء ... إلخ، وبخاصة المعرفة الفلكية والحساب الرياضي والتقويم الفلكي والشمسي (آثار نبطة)، وكلها مقدمات طالها التطوير في العصور الفرعونية التالية! (10)
هذه المقدمة ضرورية لكي نفهم أن استمرارنا في التحكم في مياه النيل منذ عصر محمد علي قد أدى تدريجيا إلى فرض قيد قاس على النهر بإنشاء السد العالي. وهذا السد هو مثار جدل دائم حول المؤيدين والمعارضين، فله مزايا لا تنكر وكذا عيوب لا تنكر ربما ليس هنا مكان الحديث عنهما؛ لكن الأخطر أننا بالغنا في تعظيم الاستفادة من مخزون مياه بحيرة ناصر داخل أراضينا حتى كاد النيل أن «يفقد وعيه»، ويقل تصرف المياه فتشحط كثير من السفن السياحية ويتعرض السياح لمخاطر حياة في ذات الوقت الذي نبذل فيه الشيء الكثير للترويج للسياحة في الخارج، يقل تصرف النهر بالتحكم في كمية المنصرف شمال السد من أجل احتياجات أراض زراعية جديدة في أماكن بعيدة وقريبة مثل أرض مشروع توشكى، وترعة السلام والنوبارية وإمدادات المياه إلى نطاقات المدن السياحية في المشاتي والمصايف في جنوب سيناء، وساحل البحر الأحمر والساحل الشمالي الغربي، هذا فضلا عن نظامنا الزراعي في الدلتا والوادي الذي انتفت فيه فكرة الدورة الزراعية، وإراحة التربة بنمط الشراقي لتجديد قوتها، بل بالغنا في الزراعة الدائمة فأجهدنا التربة ورفعنا مناسيب المياه الجوفية لدرجة تهديد التربة بالشيخوخة والعفن والسموم من كثرة استخدام الأسمدة الكيماوية لإرغام الأرض على إنتاج المزيد.
ومن هنا بدأنا نفكر في استزراع بعض الصحراء وهي عطشى للماء والمكونات البيولوجية اللازمة لنمو الزرع والضرع، بالغنا في كل شيء: الاستخدام الجائر للتربة، والاستخدام الجائر للمياه، حتى أصبح النهر مقيدا ملوثا غير قادر على تطهير نفسه كما كان أيام النظام الطبيعي من فيضان وتحاريق، هذا فضلا عن وقوع النيل الآن بين مضامين السياسة، فدول الحوض كثيرة وربما تزيد - باستقلال بعض المناطق، والكل يسعى إلى مزيد من المياه عكس ما كان في الزمان الفائت، وهو ما يحدد بالقطع استحالة زيادة نصيب مصر إلا بفتات قناة جونجلي في جنوب السودان - هذا إذا استكملت، مع ما ينقص نتيجة حصص مائية لإثيوبيا والسودان. فأين المفر إذا استمر استحلاب النيل من أجل المزيد من مياه هو غير قادر على توفيرها في ظل المتطلبات الاقتصادية والسياسية المشروعة لنا ولشركائنا في حوض النيل؟ وفوق كل هذا الذبذبة المعروفة في كمية الفيضان من سنة عالية إلى عدة سنين ذات فيضان متوسط أو منخفض. (11)
تتحكم في قراراتنا - بحكم تاريخنا وتراثنا - دينونة إيديولوجية مفادها: أن الزراعة هي المجال الأهم في التنمية؛ لأنها غالبا ما تستدعي إقامة مجتمعات متكاملة من الجنسين من مختلف مراحل العمر. وهذا صحيح في أشكال الزراعة التي يمارسها معظم فلاحي العالم النامي، حيث ننسب كثافة السكان إلى فدان، أو هكتار زراعي فنقول: إن المنافسة عالية جدا في مصر الريف والوادي فهي غالبا حول فدان/10 أفراد عند نهاية القرن بعد أن كانت نحو نصف ذلك في 1975. وباعتبارنا من العالم النامي فقد ثبت في وجداننا أن الزراعة هي الحل الممكن لتخفيف أعباء الكثافة في أرض الوادي والدلتا. وهذه الإيديولوجية غير ممكنة لسببين أولهما: أن نمط الزراعة المروية تستنفذ ما يقرب من ثلاثة أرباع المياه في مصر وغير مصر. وحيث إن القدر المتحصل من مياه النيل هو قدر ثابت في أحسن الظروف فإن تدبير المياه لمساحات زراعية كبيرة - كالقول الشائع الآن أن الهدف هو استصلاح مليوني فدان من الصحراء! هو في الواقع أمر غير ممكن بالنسبة لمياه النيل. والسبب الثاني: أن أراضي الزراعة التي نكسبها من الصحاري المصرية تعتمد في أغلبها على خزان المياه الجوفية. ومصطلح «خزان» يعني أنه محدود الكمية. وأكدت الدراسات المتاحة الآن أن الخزان الجوفي حفري؛ أي إن مياه الأمطار القديمة تسربت إلى باطن الأرض منذ عشرات آلاف السنين حين كانت الصحراء الحالية ممطرة بكمية معقولة. ويقال: إن هناك إعادة تغذية للخزان من مياه المطر المتساقط على تشاد، وربما دارفور وغيرهما جنوب الصحراء المصرية والسودانية. لكن الجفاف - كظاهرة مناخية عالمية - قد حل تدريجيا بهذه الأقاليم بحيث إن خط المطر الصيفي يزحف جنوبا وتميل كميته نحو القلة أيضا. وهو ما يترتب عليه نقص بالغ في إعادة إمدادت الخزان الجوفي بالمياه لتتعادل مع كمية ما نسحبه منه. وإلى ذلك يجب أن نضيف أن سرعة المياه الباطنية بطيئة جدا بحيث قد تتحرك أقل من عدة عشرات الأمتار في السنة؛ ومن ثم فإن الاعتماد على مياه الخزان الجوفي في الصحراء يجب أن يكون مرشدا بدقة حتى لا ينضب بسرعة ويذهب الماء إلى أغوار عميقة. ولنا في هذا المجال درس قاس في مشروع الوادي الجديد وكيف هبطت المناسيب وتصحرت أرض زراعية كسبناها لقليل من السنين، فهبطت التوقعات وخابت الآمال الكبار. (12)
والمطلوب في استزراع المناطق الصحراوية نمط جديد من الري بالرش أو التنقيط أو الري المحوري - حسب نوع المحصول، بعيدا عن الري بالغمر الذي درج عليه الفلاح آلاف السنين. لكن ذلك بعيد المنال لا يتحقق بسرعة فليس بالإمكان تغيير ممارسة الفلاح المعتادة بالسرعة المطلوبة حتى مع الإرشاد. وقد شاهدت ذلك رؤية العين في مناطق استصلاح محدودة وبالذات في بعض المستوطنات الزراعية في واحة الفرافرة وواحة أبو منقار الصغيرة إلى الجنوب منها، حيث هناك قرى صغيرة تشبه إلى حد كبير قرى الوادي والدلتا من حيث تكاثف المساكن واستخدام الحطب والري بالغمر ... إلخ. ومثل هذا في بعض مناطق استصلاح غرب الدلتا وبخاصة مديرية التحرير - سابقا - والنوبارية. هنا أو هناك أساليب زراعية موروثة وناجحة على مقاييس صغيرة؛ لأن الشرط الأول والهام جدا هو وفرة المياه الباطنية في الفرافرة «لكم من السنين؟» أو مياه النيل في الترع والرياحات في مستصلحات غرب الدلتا وشرقها. (13)
تنقسم أبو منقار - على صغرها - إلى قسمين هما: قسم موزع على الأهالي وقسم موزع على الخريجين. وعلى نقيض النجاح النسبي في أبو منقار الأهالي نجد نجاحا متدنيا أو متراجعا في أبو منقار الخريجين. لماذا ينجح الأهالي بدرجة أعلى من الأرض المخططة والموزعة على الخريجين؟ سؤال مهم ليس فقط بالنسبة لحالة أبو منقار، بل أيضا تكاد تنطبق بصور أخرى على أراضي الخريجين بوجه عام مثل أرض البنجر في شمال ترعة النوبارية أو أراضي الحبوب على بحر يوسف في المنيا. هل هناك أسباب معلومة هي المسئولة مثل عدم رغبة الخريج في ممارسة الزراعة؛ لأن هناك أعمالا أخرى وخدمات في المدينة تجذبه وأسرته ومن ثم ينظر إلى الأرض التي وزعت عليه نظرة المالك الغائب فيتركها إيجارا أو مشاركة مع فلاحين حقيقيين لكنهم لا يلتزمون بحسن الأداء؛ لأن الأرض لا تخصهم حيازة أو ملكا؟ أم أن هناك أسبابا أخرى إضافية كالغربة في حقول بعيدا عن قريته أو بلدته وبالتالي هي أسباب نفسية عميقة الأثر. أم هناك مؤثرات إدارية في التوزيع أو في الحصول على مياه الري أو الشرب أو تسويق المحصول لشركة احتكارية واحدة؟ كل هذه أسئلة قد لا نجد إجابة واحدة فكل منطقة لها خصائص مختلفة وناس من موروثات مختلفة وإدارة مختلفة النشاط ... إلخ. (14)
هل مخطط أراضي الخريجين قانون أبدي لا يمكن تدارك بعض أو كل سلبياته؟ ألا يوجد من يصارح بالفشل، أو نجاح غير محسوس ومن ثم تتخذ إجراءات، أو لوائح جديدة، أو تترك للراغبين من الفلاحين سواء كانوا ملاكا أو معدمين. وربما كان الملاك أكثر قدرة على الزراعة في أرض الاستصلاح، وبالتالي تفعيل الهدف من قيام الدولة بالأعمال الأساسية في الاستصلاح وتحصيل إنفاقاتها على سنوات عديدة؟ ولكن علينا أيضا أن نرفع مساحات التخصيص من خمسة أو عشرة أفدنة إلى حدود عشرين أو أكثر كي تصبح الأرض قادرة على الوفاء بحياة الفلاح المالك؛ لأن هذه أرض هامشية الإنتاج باعتبار أصلها الصحراوي، وقد تحتاج لكي تتحسن مكونات تربتها إلى عقد أو أكثر. (15)
ألا يلقى مشروع أراضي الخريجين ضوءا على مشروع مواز هو مشروع أو مشروعات إسكان الشباب؟ ألم يأذن الوضع بمراجعة مثل هذه المشروعات في المدن الجديدة؟ ألا يخرج المسئولون إلى بعض هذه المخصصات ليروا على الواقع كم هناك من شقق وزعت على خريجين، أو شباب لكنها شقق غير مسكونة، أو مؤجرة، أو كالبيت الوقف لا يحل فيه ولا يربط؟ (16)
الموضوع ليس ضد الغرض في مساعدة الشباب والخريجين، ولكن هناك عشرات الأسباب للعزوف ومعظمها معروف، وتتلخص في أن هذه المناطق «منامة» أكثر منها سكن في مدينة متفاعلة بأعمال تستوعب الشباب من خدمات تعليم، وصحة، ورعاية اجتماعية، ومحلات للسلع والأغذية، وغير ذلك من لزوميات المعيشة المستقرة بدلا من أن يسكن في مكان ويدفع يوميا مصاريف انتقال إلى العمل تحصد جانبا من مدخوله المحدود! لماذا لا يعاد النظر ويستفتى المستفيدون أو تترك الأمور لتقدير الناس؟ اللوائح والتشريعات ليست أزلية ويمكن تعديلها، أو تحويلها إلى منافع أجدى ... (17)
المشكلة السكانية هي موضوع آخر كثيرا ما علقنا عليه مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية هو أن النمو السكاني المصري يحصد الكثير من الإسهامات في التقدم الاقتصادي. النمو السكاني عملية تتدخل فيها عناصر بيولوجية، واجتماعية - اقتصادية ودينية وميراث تقليدي عن العزوة العددية. وقد اقتصرت الدعوة إلى تنظيم السكان في مصر على الجوانب البيولوجية وبعض الجوانب الاجتماعية كفرص التحسن الاقتصادي، والتعليمي، والصحي للأسرة. وعاكس الدعوة عناصر أخرى من رجال كافة الأديان والملل واستمرار نسبة الأمية العالية، وتقاليد اجتماعية أخرى على رأسها ضرورة إنجاب ذكور من زيجة أو أكثر؛ ولهذا اعتبر عدد الأبناء مجلبة لقوة اقتصاد الأسرة طوال نمط الأسرة الممتدة التقليدية في المدينة والقرية، حيث يستقر الولد بعد زواجه في بيت العائلة مقابل خروج البنت إلى أسرة زوجها. ولهذا فبرغم الاقتناع العقلاني بضروريات تنظيم الأسرة يظل الوضع متأزما بين الموروث من العادات والمعتقدات، وبين الاحتياج إلى تحسين أوضاع الأبناء بالتعليم، وبشكل من الحياة أوفق مما لو زاد عدد الأبناء. منذ ثلث أو ربع قرن كنا نرى أطفالا وناسا في القرية يلبسون الحد الأدنى من الملابس التقليدية النظيفة وكثير من المرقعات. والآن نرى الأطفال في القرية وقد كثر دولاب ملابسهم بالحديث من الثياب القطنية والصوفية. ربما يكون هذا إشارة إلى أن شكلا جديدا من مناحي الحياة قد حدث غالبا نتيجة التعليم وتحسن الدخل نسبيا، أو تقسيمه إلى عدد أقل من أعضاء الأسرة. ومثل هذا في المدينة وأكثر. (18)
صحيح أن النمو السكاني في مصر مازال عاليا حتى الآن لكنه أقل قليلا من المتوسط العالمي لنمو السكان. هذا المتوسط هو 2,2٪. كان النمو المصري للسكان نحو 2,5٪ في إحصاء 1980، هبط إلى نحو 2,3٪ عام 1990 ثم إلى 1,9٪ في تقديرات 2004؛ أي إننا في نحو عقدين من الزمن نجحنا في الهبوط بنسب النمو السكاني نحو 0,6٪ وهو قدر جيد ويبشر بخير. فلو استمر الهبوط بهذه النسبة فإننا قد نصل إلى 1,3٪ نمو سنوي في الفترة 2004-2024، وإلى نسبة نمو تكاد تقترب من واحد أو أقل قليلا من واحد في المائة ربما 2040. ولكن علينا أن نتذكر أن الهبوط، أو الإقلال من شيء يصبح في بدايته بطيء ثم يسرع الخطى تدريجيا. وبناء على ذلك فإن النسب المتوقعة في الهبوط سوف تزيد - بمعنى أن الهبوط الأولي في عقدي أواخر القرن الماضي كان 0,6٪ وغالبا سوف يزداد الهبوط في العقدين الأول من القرن الحالي ليصبح ما بين 0,7 إلى 0,9٪ وهكذا ربما نصل إلى نسبة نمو واحد٪ حوالي الفترة 2025-2030. لكننا قد لا نشعر بتأثير انخفاض نسبة النمو السكاني؛ لأن الكتلة السكانية المصرية كبيرة ومن ثم فنمو 1,9٪ ما زال يعطي عددا كبيرا من المواليد بينما 1,1٪ سوف يعطي أعدادا أقل، وهكذا تقل أعباء البحث عن وظائف وأعمال للزيادة السكانية السنوية تدريجيا، مع اللون الأخضر الأراضي الزراعية القديمة، والأخضر الفاتح الأرض الجديدة كما في غرب وشرق الدلتا البيضاء، النقاط البيضاء تمثل مواقع ومساحة المدن والقرى داخل الوادي والدلتا. (19)
تأهيل أحسن ينفتح معه أفق أوسع للمهن والوظائف. هذه صورة متفائلة يمكن أن تحدث إذا لم تحدث مداخلات مجتمعية أخرى تعرقل سيرها. (20)
ولا شك في أن نسبة النمو في المدن أقل من تلك بين ساكني الريف بمدنه الصغيرة وبلداته وقراه، وذلك لأسباب على رأسها عنصران هما: (أ)
حياة المدينة ليس فيها التساند الاجتماعي الذي يبدو حتى الآن عاملا فعالا في الريف حيث يعرف الكل الكل على وجه التقريب. والتساند هنا يبدأ من الأقارب إلى جيرة الحارة. أما المدينة فسكان بيوتها ليسوا بالضرورة أقارب، وقليلا ما يكونون معارف، وبالتالي فإن الأعمال غير الماهرة بين الحين والحين هي الضمان الوحيد لتجنب الجوع بين الفقراء، أو الشحاذة أو إرسال «وإلقاء» الأطفال من الجنسين إلى الشارع كي يكسبوا عيشهم - وكثيرا ما ينقادون إلى شتى أشكال الجريمة المنظمة وغير المنظمة. (ب)
متطلبات الحياة في المدينة مختلفة عن ساكني الريف، وربما أكثرها قوة وإلحاحا متطلبات أطفال المدارس الحكومية ومجتمع التلاميذ الذي يفرض متطلبات ملبس وملعب وكتاب غير تلك في الريف؛ وبالتالي فإن ضائقة الإنجاب الكثير تجعل الكثيرون من فقراء المدن يقبلون على تنظيم الأسرة من بين أشياء أخرى اجتماعية وقيمية، وعلى الأخص الحصول على مرحلة تعليمية، أو على الأقل جزء منها تسهم في إبعاد شبح الأمية المخيم على العقول.
الخلاصة أن هذه النماذج وغيرها تعطينا أفكارا عن كم هي معقدة متداخلة ومتشابكة مشكلاتنا المصرية، وأن السبيل للتصحيح هو البدء في كل النواحي وليس اختيار مشكلة أو بعض مشكلة للبداية. ولكي يكون ذلك فلا بد من إيجاد إيديولوجية محددة يلخصها شعار واحد ينتمي إليه جميع المصريين: فقراء وأغنياء، فلاحون وعمال، موظفون وأصحاب عمل، مخططون ومنفذون، استشاريون ووزراء، شعب ونواب حقيقيون، وأن يكون هناك شعار قدوة يلم الناس لنهضة مصر.
ملخص مبدئي للمشكلات المصرية المعاصرة
ولعل الجدول التالي يوضح بصورة مركزة مشكلات مصر المعاصرة والجذور التي تأصلت عنها، علنا نجد بعض الطريق للإنقاذ:
العناصر البشرية
العناصر الطبيعية
بشائر الانتقال الديموجرافي من نمو سكاني سنوي 2,3٪ إلى 1,9٪ غالبا يترتب عليه تناقص الضغط السكاني فيما قبل 2050
المناخ الصحراوي الجاف
العوامل الاقتصادية
الناتج في القطاع الأولي 15٪ والعمالة 27٪
النمو الزراعي يكاد يتوقف بتعادل الفاقد في الوادي مع المضاف من المستصلح
التناقض الظاهري بين غنى الوادي وفقر الصحاري
تناقص العائد الزراعي الفعلي لارتفاع نفقات المحصول (أسمدة/بذور/الصرف/الري الدائم/النقل والتسويق ...)
المياه بين الندرة والصراع الإقليمي ق.21
تناقص الفلاحين بالهجرة للمدن + تحول الجيل إلى وظائف ومهن أخرى أجدى = فقدان فنون الزراعة بالتجربة الموروثة والمعدلة
إهدار مخزون المياه بأشكاله (مياه جارية وباطنية) لتنفيذ مشاريع زراعية مخططة وقتية
التنافس على الأرض الزراعية عال مما يفتت الملكية ويحيلها إلى وحدة اقتصاد غير مجدية نمو محدود للملكيات المتوسطة والكبيرة كوحدات زراعية أجدى = طرد الفلاح إلى مهن أخرى أو أجراء أو هجرة
برغم تناقص مصادر الطاقة الحفرية يجري استهلاكها محليا وتصديرا مع القليل من التخطيط المستقبلي قلة واضحة في استثمار طاقات طبيعية مجانية متعددة (الشمس والرياح والمياه)
نمو الناتج في الصناعة 37٪ والعمالة 20٪
الصناعة تتحول تدريجيا من مصانع العمالة الكثيفة إلى مصانع رأسمال كثيف = بطالة
التأهيل والتدريب الصناعي الحديث أقل مما يجب منهجيا ومهنيا = مزيد من البطالة للعمال فوق الثلاثين والأربعين
تراكيب مصر وإشكالياتها
تناقص خصوبة التربة بالسدود وتآكل السواحل الشمالية نتيجة إنشاء السد العالي للتخزين القرني
الناتج في قطاع الخدمات 48٪ العمالة 52٪
عوامل بشرية وقرارات سياسات
مخططات الاستثمار الصناعي أقل جاذبية من أعمال الخدمات لأسباب داخلية وخارجية والقطاع يستوعب عمالة أكثرها ماهرة مدربة
مركزية الحكم مقابل ضعف الحكم المحلي وهشاشة المحليات
مواقع المدن التوابع = مزيد من الأعباء على المدينة المركزية فوق طاقتها الأصلية أيضا = مزيد من المركزية فكرا وموضوعا
مؤثرات خارجية
صراعات الليبرالية والقوى المحافظة
إشكالات إقليم الشرق الأوسط: التيارات العربية وإسرائيل - التيارات الدينية المتشددة - استراتيجيات القوى الكبرى - إسرائيل في المنطقة - جمود الأنظمة وضعف التعددية
ديمومة المشكلات البنيوية في المجتمع: التعليم والمدارس - الصحة وأمراض مستجدة - شيوع الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية − 24٪ تحت خط الفقر وأمراض السلوكيات والفقر المدقع 10٪
الشركات متعددة الجنسية والعولمة
إيديولوجية الخصخصة
ضعف المؤسسات البحثية والتطبيقية
نماذج شيزوفرينيا عالمية
لكل دولة في العالم النامي أو المتقدم كثير من الإجراءات والقوانين المتناقضة نتيجة تعاقب حكومات ذات إيديولوجيات مختلفة بين المحافظين، والراديكاليين، والاشتراكيين، واليساريين. وبطبيعة الحال فإن التناقضات أقل بين الدول المتقدمة باعتبار أن هناك مساحات واسعة للحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بينما التناقض كبير في الدول النامية بين حكومات متعاقبة، أو ديكتاتورية حاكمة عسكرية، أو حزبية، أو تبعية لسياسات دولة متسلطة من دول الديموقراطيات تفرض مصالحها الاحتكارية، أو الاستراتيجية على شعوب أخرى، أو عولمة لمصلحة الاحتكاريين من كبار مؤسسات العالم الاقتصادية، والثقافية، والمعلوماتية معا.
الأمثلة على التناقضات كثيرة ربما كان أوضحها قطاع تكنولوجية السلاح وما ترتب عليه منذ منتصف القرن الماضي وحتى الآن من انقسام سياسات العالم إلى تبعيات حسب مصادر السلاح. فقد كان هناك معسكر الكتلة الغربية وآخر للكتلة الشرقية. وحتى بعد انهيار الكتلة الشرقية ما زالت هناك تبعيات متعددة لسلاح الغرب وسلاح روسيا أو الصين.
الجميع يدعون أنظمة حكم ديموقراطية حتى صارت الديموقراطية تنوء بمحتويات مختلفة بعضها شكلي وبعضها ابتزازي وبعضها تتناوب فيه السلطة، ولكن الحكم من خلال تولي السلطة يضم أشكالا متعددة من إرهاب الدولة مثل التنصت على الناس وخرق الحرية الشخصية التي تدعيها الديموقراطية كما في أمريكا. والواضح أن سلطة أجهزة الأمن في أحيان أكبر من أن تحتويها الديموقراطية. كل أو بعض ذلك موجود بالتناقض جنبا إلى جنب في الغرب والشرق والشمال والجنوب.
اللعب بالألفاظ سمة عالمية تحتوي الصدق والكذب. مثلا يصف الإعلام الغربي الهند بأنها أكبر ديموقراطية في العالم. هذا الوصف صادق في بعض النواحي مثلا أنها أكبر الدول التي: (1) تتداول فيها السلطة بين الأحزاب. (2) من حيث عدد السكان - نحو مليار فرد. ولكون الهند دولة تضم عددا كبيرا من العرقيات والسلالات والأديان والبيئات الطبيعية والاقتصادية فإن الانتخابات البرلمانية تحتمل في الآونة الأخيرة ظهور قوة الأحزاب الدينية، بعد أن كانت في بداية الاستقلال تسيطر عليها برلمانات حزب المؤتمر الأقرب إلى الديموقراطية في مؤسساته. لكن يبدو أن الهند قد تجاوزت مرحلة التأسيس إلى مرحلة الرأسمالية والعولمة الغربية معا بالتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة في جوانب عدة، أخطرها وأهمها صناعة الصواريخ والأسلحة النووية والإلكترونية ولتصبح بذلك القوة المقابلة للصين.
وتناقض المواقف الأمريكية واضح في مجالات السياسة والمعلومات. فهي باركت دخول الهند وباكستان النادي النووي بينما تعارض بشدة السماح لإيران وكوريا الشمالية الانضمام إلى النادي - وتجد في ذلك تبريرات كثيرة على رأسها أن إيران وكوريا دول شمولية متناسية أن نظام الحكم الحالي في إيران جاء بالانتخاب الحر، وأن النظام الباكستاني الحالي لم يأت بطريق الانتخاب! كما تجنبت أمريكا وأوروبا الكلام عن الترسانة النووية في إسرائيل عشرات السنين باعتبار أن الحكم فيها برلماني تتداول فيه السلطة أحزاب بين الدينية والراديكالية، بينما تتعامل مع دول الخليج العربية كحليف ثانوي برغم أهميته البترولية وقدراته المالية!
غزو أفغانستان والعراق تم بتبريرات ما أنزل بها من سلطان، والادعاء بأن الغزاة سيخرجون بعد الاطمئنان إلى إنشاء نظام حكم ديموقراطي. والتجارب الأمريكية في هذا الشأن في العراق بوجه خاص تشير إلى كم هي واهية تلك المبررات، وكم هو صعب إغلاق «قمم» الصراع المذهبي والديني الذي فتحوه على مصراعيه ...
والخلاصة أن أمريكا والغرب يرون نفس الشيء مرة بمنظار وأخرى بمنظار آخر. وبالتالي تصبح إيران مرة حليف وأخرى من دول الشر كتوصيف الرئيس الأمريكي، والإسلام مرة حليف تساعد في نشأة ورعاية بعض منظماته العسكرية كالقاعدة ثم يصبح في مرحلة تالية عدو قد حل محل المعسكر الشيوعي القديم!
أين إذن الديموقراطية؟ هل هي مصالح أمريكا وأوروبا في بقية العالم التي تتشكل في صور متعددة كلما ضاق الخناق؟ هل تقف أمريكا الآن أمام عتبات مارد جديد متمثلا في الصين؟ وأين الشعوب الأخرى؟ ألم يحن الوقت لكي تصنع لنفسها وبنفسها نظام الحكم الذي ترتضيه؟!
الفصل الثاني
خصوصيات مصر الحضارية
(1) الاسم والصفة: مصر
الاسم «مصر» بالعربية، وهو «كيمي
Kemy » بالقبطية، وهو «كيمت
Kemet » باللغة المصرية القديمة وتعني «الأرض السوداء»، مقابل الاسم «دشريت
Deshret » بمعنى الأرض الحمراء وهي الصحراء المحيطة بالأرض السوداء الغنية في الدلتا والوادي ... هي مصر نفسها على مدار ستة آلاف سنة، ولستة آلاف أخرى مع تحويرات وتحولات لا تصيب الجذور بعطب، ولا تبعدها عن الأصول المتأصلة في هذا المكان الوسطي من العالم.
المصطلح «الوجه البحري» أو «مصر السفلى» باللغة العربية هو في اللغة المصرية القديمة «ميهو
Mehu » أو في الإغريقية «الدلتا» نسبة إلى الشكل المثلث، والنطق لحرف
D
اليوناني. و«الوجه القبلي» أو «الصعيد» أو «مصر العليا» بالعربية هو «شيماو
Shemau » في اللغة المصرية القديمة. هذا التقسيم الجغرافي التاريخي الاجتماعي هو هو منذ الأقدمين.
و«النيل» اسم سائد في جميع لغات العالم أصله كلمة إغريقية، تعني «النهر» وكان أحد أسماء هذا النهر العظيم في اللغة القديمة «إيتيرو
Iteru » ربما بمعنى البحر أو الماء، كما كان يكنى عنه أيضا باسم إله النهر «هابي» أو «حابي».
كيمت: الأرض السوداء والثقوب النجمية السوداء
وما بين كيمت ودشريت شرقها وغربها حالة تشابه بصورة متناهية الصغر حالة ما بين النجوم والثقوب السوداء في عوالم مجرات الفضاء
Stars and Black holes . معروف الآن أن النجم حين يبلغ منتهى عمره ينفجر وتتركز معظم مادته في حجم صغير جدا لكنه شديد الثقل ذو جاذبية عارمة وهو بعد غير مرئي لنا.
1
وهذه الجاذبية الهائلة تبتلع كل أشكال المادة التي تقترب منها فتصبح هي الأخرى غير مرئية بعد سقوطها في دائرة الجذب للثقب الأسود ...
وهكذا حال مصر، كيمت الأرض السوداء تبتلع كل من يأتيها ويقترب منها عبر دشريت الأرض الحمراء، بعبارة أخرى كل من أتى مصر من مجموعات وشعوب شمال أفريقيا والشرق الأوسط والجنوب وغرب آسيا ووسطها، كل هؤلاء سرعان ما تمتصه الحضارة المصرية فلا يبقى منه سوى بقايا خصوصية طوال فترة سيطرته ثم يفقدها وتتوه وسط خضم الحضارة التي ابتلعته، وإن بقيت بعض ملامحها في النسيج المصري الثقافي كونها إضافة من الإضافات العديدة يتقبلها الناس بسماحة ودون تعصب وعنصرية!
وبعبارة أوجز: مصر كانت الحد الفاصل الجاذب الهاضم العاصر بين شعوب ودول الشرق والغرب والشمال والجنوب حولها فيتحولون إلى مصريين بنكهات مختلفة بعض الوقت. البربر والساميون واليونان والرومان والعرب والأتراك والزنوج والزنجانيون (= شعوب خليط بين سلالات شمالية وزنوج)، كلهم خليط دخلوا مصر وذابوا فيها، ولا نعرف لهم سحن معاصرة سوى ما تركوا من فنون وتصاوير على جدران القبور، أو هياكل أجسادهم إذا لم يعتريها العدم، أو بعض سواد البشرة وخشونة الشعر، أو بياض البشرة ودرجات شقرة الشعر والعين، كل ذلك على خلفية اللون «القمحي» السائد بيننا ... هذه هي مصر والمصريون!
إنسان الصحاري والالتجاء إلى وادي النيل
مصر المكان وليدة النيل الذي حولها إلى جزيرة متناهية الخصوبة بفعل أهلها بعد أن التجئوا إليها من جفاف المناخ الصحراوي الذي بدأ يحل على كل شمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا منذ نحو عشرة آلاف سنة تدريجيا. فقد كانوا منتشرين مبعثرين قبل ذلك في كل ما هو صحراء في يومنا ، وآثارهم تملأ أماكن عديدة مثل صناعة الأدوات الحجرية من نواة وشظايا في واحة سيوة وكل المنطقة من المعادي إلى حلوان مرورا بكوتسكا وعزبة والده باشا وعزبة كركور حيث وجدت آثار إنسان العصر الحجري الحديث، وبدايات عصر المعادن، وآثار من الأسر الفرعونية الأولى، وكذلك الأمر في الواحات المختلفة كالبحرية والداخلة في منطقة بلاط. وفي جبال النوبة وواحات صغيرة غربي أبو سمبل - من أهمها حتى الآن آثار نبطة، وفي أقصى الجنوب الغربي في غرب الجلف الكبير مصورات محفورة على الصخر تحكي حياة الناس منذ عشرات آلاف السنين. هؤلاء جميعا كانوا يعيشون على الصيد، وجمع الثمار والبذور التي يمكن معالجتها كغذاء.
من هم ناس تلك الفترة الموغلة في القدم؟
الاتفاق بين علماء الانثروبولوجيا أن شمال أفريقيا بما فيه مصر كانت تسكنه سلالة تسميهم السابقين على البربر
أي الذين تطوروا فيما بعد إلى شعب البربر الذين انكمشت أوطانهم تدريجيا إلى بعض الواحات المصرية وبخاصة سيوة وفي ليبيا وإقليم المغرب كله. هذا الانكماش هو نتيجة زحف واحتلال استيطاني لمجموعات من الشعوب من اليونان القدماء على معظم سواحل مصر وليبيا وإيطاليا، والفينيقيين في تونس - قرطاج، وغيرها في غرب البحر المتوسط، والفاندال القادمين من أوروبا عبر إسبانيا واستوطنوا تونس والجزائر زمنا طويلا، وأخيرا الهجرات العربية اليمنية قبل الإسلام وأكبرها بعد الإسلام والتي يرمز لها بهجرة بني سليم وبني هلال في نحو القرن العاشر الميلادي.
وقد حدث منذ التقاء البربر والعرب كثير من الأخلاط بينهما وأيضا كثير من انسحاب البربر إلى أماكن جبلية حصينة كما هو الحال في الجزائر والمغرب وبعض ليبيا. وبعض الأخلاط استمروا في حياة البداوة وبعضهم سلك طرقا للعودة إلى الشرق - مثلا من برقة إلى مصر كأولاد علي بفروعهم وتفريعاتهم الكثيرة (أولاد علي الأبيض والأحمر والسينانا - ربما الكنانة)، والهنادي الذين استوطنوا جانبا من محافظة البحيرة ثم هجروا أيام محمد علي إلى محافظة الشرقية منعا للصراع الدائم مع أولاد علي. ومنهم الهوارة الذين استقدمهم حكام مصر ليصبحوا ولاة على بعض جنوب الوادي، ومنهم كل قبائل الحاجر الغربي من الجوابي في النطرون والبحيرة وقبائل وعشائر الفيوم والمنيا وبني سويف كالفوايد والجوازي والفرجان والحرابي والبراعصة، وعائلات مشهورة مثل لملوم (فوايد) والمصري (جوازي) والباسل (رماح) والجبالي (حرابي) ... إلخ، وكلهم على الأغلب ينتسبون إلى بني سليم. هذا فضلا عن العشائر القديمة التي تعرف في الساحل الشمالي باسم الجمعيات وفروعهم كثيرة يعيشون مع أولاد علي هنا وهناك، وكذلك في الواحات حيث نجد غالب سكان سيوة من البربر وكذلك القبائل والعائلات القديمة في الفرافرة وغيرها أصلا من البربر المستعربين.
الهجرة إلى الوادي
وحينما حل الجفاف بالتدريج مع تراجع قليل لفترات رطبة ثم جفاف أكثر وأشد قسوة منذ الألف الخامسة قبل الميلاد، أخذ الناس ينسحبون من الصحراء التي زاد جدبها إلى وادي النهر المليء بالمستنقعات وكافة أنواع النباتات المائية من البوص إلى البردي إلى ورد النيل، وعشرات نباتية أخرى من الأشجار والأعشاب ... وحيث تهيم حياة حيوانية في هيراركية المستنقع من أنواع الأسماك إلى التماسيح بقايا الزواحف والديناصورات إلى أنواع الحيوانات العاشبة مثل أفراس النهر الضخام والنعام والزراف وأنواع الغزال والوعول، إلى أنواع البرمائيات من الضفادع إلى أنواع الورل والسحالي، وأنواع الحيوانات المفترسة اللاحمة من قطط صغار وكبار وذئاب وكلاب وثعالب وابن آوي، وأنواع كثيرة من الطيور المقيمة والمهاجرة وغير ذلك كثير وكثير.
التجأ الناس منسحبين من الصحاري الرملية والصحاري الحجرية إلى الوادي المعشوشب محتالين على الحياة بصيد كميات هائلة من الأسماك والحيوانات العاشبة التي استطابوا لحومها كالوعول والغزلان وربما أفراس النهر فضلا عما لديهم مما يرعونه من الماعز والخراف والأبقار والثيران والحمير. ولكي يعيشوا ويصعدوا إلى قمة هيراركية الحياة كان عليهم أن يصارعوا الحيوانات اللاحمة من أسود ونمور وذئاب وضباع وكلاب برية في منافسة دامية لبقاء الأقوى أو الأصلح. وآثار هذه الأقوام كثيرة نعرفها بأسماء الحالية للأماكن التي عاشوا فيها أزمانا، وطوروا احتياجاتاهم من الحجر والفخار وبقايا قراهم وجبانات دفن الموتى مثل حضارة الفيوم ودير تاسا والبداري ونقادة ومرمدة بني سلامة والمعادي والعمري ... إلخ.
قوة الإنسان وقدراته
والإنسان جسديا ليس الأقوى ولكنه بوقوفه على قدمين واستخدام يديه في الرمي والقتال وصناعة أدوات خشبية وحجرية أهلته أن يكون الأقوى وإن لم يكن هو الأسرع، أو الأضخم، أو الأكثر عضلا ... ليس فقط بقدراته على عمل هذه الأدوات ولكن باستخدام سلاح أمضى وأشد هو التجمع العددي في أماكن مختارة للدفاع والهجوم حسب المواقف المختلفة. هذا النوع من الاستراتيجية هو الذي مكن الإنسان من التفوق والسيادة من الماضي السحيق إلى غد البعيد. وقد ساعده على السيادة تقهقر المناخ الرطب وأشكال النباتات، ومن ثم انسحاب الكثير من الحيوان المفترس إلى المناطق المدارية جنوبا، وبقاء الميدان شبه حر يطلق فيه يد الإنسان الجامع للغذاء النباتي والحيواني والسمكي دون الكثير من منافسة الحيوان المفترس.
التحول من الصيد إلى الزراعة
ثم جاء حين من الدهر في نحو الألف السابعة قبل الميلاد أن عرف إنسان المنطقة الزراعة كإيديولوجية اقتصادية جديدة تؤهل الإنسان لإنتاج الغذاء بدلا من جمعه وصيده بريا. وكان ذلك بمثابة الثورة الاقتصادية الأولى! لكن الانتقال كان تدريجيا من حياة الصيد والجمع إلى حياة الفلاحة، ولا شك في أن تأمين غذاء نباتيا تحت الحوكمة سنويا أو متجدد موسما. كان هو الحافز والدافع الحقيقي لأمور عدة على رأسها انتهاء حياة التجوال والاستقرار في تجمعات قروية ثابتة لزراعة ذات قطعة الأرض سنة بعد سنة - وهو ما بدأ به عصر المواطنة والوطن لظهور قيمة المكان والدفاع عنه للبقاء فيه. وهذا الاستقرار لم يستند فقط على المحصول الغذائي النباتي بل أيضا إبقاء حيوان التربية إلى جواره يرعاه ويستخدمه في كل شئون الغذاء المباشر ومنتجات الألبان، وربما تاجر به كنوع من تبادل المنتجات - وهذه هي بداية العلاقات التجارية بين المجتمعات المحلية.
ومع الزراعة بدأ عهد المناحرة والحرب والحسد بين من لديه ومن ليس لديه من المجتمعات - أي بين البادية والجماعات الجائعة (في حالة الجفاف) من ناحية، وبين الجماعات المستقرة التي تعيش في بحبوحة ووفرة في إنتاج الغذاء (في غالب الأوقات). هذا الصراع شمل مجموعات كثيرة وبخاصة بين سكان الجبال القاسية، وسكان السهول الغنية، وأخذ ذلك طابع موجات من الهجرة والاجتياح في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، شواهده مسجلة تاريخيا لدى الشعوب المستقرة الآمنة في حضارات مصر وسومر وبابل ... إلخ، وهو ما أحدث اضطرابا في مجموعة العلاقات الآمنة واستدعى إعادة بناء نظم وبنية مجتمع جديد بمقتضاه نشأت «الدولة» كنظام يرأسه ملك وآلهة ومعابد وكهنة وجيش بتخصيص أفراد من دائرة العمل والإنتاج وتدريبهم على القتال وشئون الحرب. وهذا التنظيم الجديد بما لديه من قوة تكتيكية، وإن كان يحمي المجتمع إلا أنه كان في ظروف معينة حافزا للبطش بدعوى المحافظة على أمن الوطن والمواطن - ولكن غالبها كان لأمن الحاكم من طبقة الملوك ورجال الدين، بينما الكتاب يروجون لبقاء الأنظمة في عباءات مختلفة أكثرها شيوعا نداء الوطن ونداء الآلهة.
وهكذا الصورة حتى الآن مع تغيرات شكل وتطبيق وبقاء المبدأ والمحتوى.
خصوصية الزراعة المصرية
وإذا عدنا مرة أخرى إلى مصر بعد هذا الاستطراد الضروري نجد أن المصريين بعد معرفة الزراعة أخذوا يدرسون أمور المكان بدقة، وهو ما أنتج الفكر الفلكي وأول تقويم للسنة وأمور الهندسة والبناء الحجري الدائم ووسائل النقل المائي للإجابة على تساؤلات حول طبيعة النهر ونمو الزرع: متى يكون الفيضان والجفاف، وإلى أي حد يصبح الفيضان مرضيا أو عاليا أو مدمرا أو منخفضا يشيع المجاعة. وكيف يمكن ترويض مياه النهر لتصل إلى الحقول فتمنحها الرطوبة اللازمة لنمو البذور، وكيف نجعل النهر يلقي بحمولته من الغرين لإضافة خصوبة التربة ...
كل ذلك من السؤال والتساؤل جال بالأذهان بين من يفكرون في المزيد من الأمان الإنتاجي لمحاصيلهم الغذائية وأعلاف حيواناتهم. ولأن المصريين في مجموعهم شعب تجريبي لا يبحث كثيرا عن النظريات لحل أطروحات المواقف المختلفة، فإن ما وصل إليه الفكر الزراعي المصري في هندسة الري من نظام نعرفه باسم «ري الحياض» كان في الحقيقة إنجازا مبهرا وإبداعا عبقريا بكل المقاييس منذ ستة آلاف عام أو يزيد. ولأنه لم يكن نظرية لشخص معين فإن الواضح أنه كان نتاج التجريب هنا وهناك ثم شاع وأصبح نظاما شاملا للري في مصر. وبالمناسبة فإن مصر كانت أيضا رائدة في نظم التحكم بمياه الأنهار، والأغلب أن القناطر الخيرية كقرار سياسي لمحمد علي باشا الكبير، كانت أولى تجارب العالم في العصر الحديث في إنشاء السدود على الأنهار.
محدودية علاقة الشعب والدوائر العليا
ومهما آلت إليه الأمور من صراعات بين ملوك وأمراء وكهنة وكتاب ووزراء وقواد في الدوائر العليا الحاكمة في مصر فإن مردوده على الإنتاج الزراعي كان قليلا ومحسوسا بقدر. فعلاقة الشعب بدوائر القصر والمعبد جد محدودة، لا تظهر سوى من خلال الضرائب العينية على الأغلب أو النذور والوفاء بالمتطلبات الدينية من أجل الحياة الأخرى، أو حمل السلاح للدفاع عن الوطن.
وعلى هذا فسواء كان الحكم المركزي للملوك والكهنة قويا أو ضعيفا فإن العلاقة مع الشعب كانت دائما مباشرة مع الحكام المحليين، سواء كانوا معينين من قبل الدوائر العليا أو عينوا أنفسهم كأمراء حرب ونفوذ إقليمي. ولهذا فالاستقرار بصورة أو أخرى كان الميزة الأساسية في مصر بالمقارنة بسهول غنية مماثلة في ميزوبوتاميا - العراق حاليا. والشيء الوحيد الذي يقض الاستقرار كان دائما من جانب النيل: فيضان منخفض أو كبير مدمر يؤذن بمجاعة أو ما يقرب منها - وهي حالات لحسن الحظ ليست متكررة عدة سنوات متلاحقة إلا في ظروف متغيرات مناخية طارئة وسرعان ما يعود الحال إلى الاستقرار.
وإذا كانت الأمور قد استقرت هكذا آلاف السنين فإن معنى ذلك دوام واستمرار المبادئ في الفكر والتطبيق والفولكلور والفن ومعظم نظم حياة المجتمع آلاف السنين هو الآخر. صحيح أن الزمن وأن العلاقات بين الحضارات تؤدي إلى تغييرات ما، لكن التغيير يحدث سريعا في ممارسة المنتجات المادية كسلاح الحرب أو آلات الزراعة ورفع المياه إلى الحقول أو زراعة أنواع جديدة من المحاصيل كالتبغ أو القطن أو البطاطس، بينما التغيير بطيء جدا في القيم والخلقيات والسلوك والاعتيادات والعقائد وغير ذلك كثير، بل إننا نجد بعض التغيير في معتقدات معينة حين تدخل عقيدة فوق أو محل أخرى، فإن العقيدة القديمة تغزو الجديدة من أسفل وتتداخل في بعض طقوسها؛ أي إننا نجد استمرارية تشبه بصورة أو أخرى الممارسات السابقة لمعتقد مع تغير اسم صاحب الممارسة الطقسية من واحد من آلهة وإلاهات قديمة إلى قديس أو قديسة أو ولي أو شيخة. فالمزار والموسم والدعوات وطلب الشفاعات من صاحب المكان والالتجاء إليه حسب الطلب والنذور وغيرها من الطقوس كلها واحدة أو متغيرة قليلا، ولكنها في النهاية تهدف إلى طلب الوساطة مع الضراعة وتوقع نجاح المسعى الذي من أجله جاء من بعيد وعليه أنفق الكثير ...
وفيما يأتي بعض هذه الاستمرارية في التواصل الحضاري المصري على مر الزمن في صورة شديدة الاختصار لكنها تنقل إلينا هذا الصمود المصري طويل الأجل ... (2) تواصل التراث الحضاري في مصر آلاف السنين
نموذج المعبد والكنيسة والجامع
الغرض الأساسي من الموضوع هو تأكيد أن بعضا من عناصر ثقافات الماضي لها استمرارية طقسية وضمنية في الحاضر، وإن اختلفت المسميات والعقائد. ولا شك أن الموضوع مفتوح للبحث والتقصي في الشكل والمضمون في الحاضر كما كان في الماضي وكما سيكون في المستقبل.
انظر
ملحق الصور .
الديانة المصرية القديمة ليست عقيدة وكتاب مقدس، إنما هي ممارسات طقسية لكل إله على حدة، على رأس الطقوس الهبات والأضاحي والنذور مع تلاوات وأدعية. يقوم الكاهن بالمساعدة خلال الطقوس بينما تودع الهبات - لحوم، أوز، طيور، أسماك، عجول، أو أراض وأطيان ... إلخ - مخازن المعبد وتضاف في قائمة إلى كاهن المعبد الرئيسي لهذا الإله.
لهذا كانت هناك أعداد كبيرة من الآلهة المحلية (حسب البعض 2000 إله) + آلهة خاصة للبيت، بينما كان هناك نحو 80 إلها وإلهة كبارا لكثير منهم معابد متعددة في مدن وأقاليم رئيسية، ومعظم الآلهة لهم صفات مشتركة عامة ومهام تميز كل منهم مثل إله الشمس أو القمر أو الخصب أو الموتى أو المحارب أو العدل أو الحب أو الخمر أو أبو السرور والبهجة.
وأغلب ما نعرفه عن الآلهة الكبار أنهم شديدو الارتباط بالأحداث السياسية، ومن ثم يمكن أن يكون رع إله الشمس في هليوبوليس ثم تنتقل بعض صفاته إلى إله العاصمة الجديدة في طيبة فيصبح آمون رع، أو حورس الإله المحارب القديم ليصبح جزء من ثالوث إيزيس وأوزير لينتقم من عمه ست مغتصب الملك من أوزير وقاتله، وتنشأ بذلك قضية الثأر كعنصر مجتمعي دائم، أو يصبح حورس حوراختي في فترة لاحقة في طيبة الأقصر ... إلخ.
لهذا كان سهلا أن تقبل الديانة المصرية إضافات إلهية حتى لو كانت من الخارج، فالمصريون لم يكونوا متشددين قليلي التسامح بل نظرتهم عقلانية مرتبطة بالواقع المادي ومتقبلة للجديد في صوغ متناغم متناسب مع النسيج العام. لهذا أيضا تقبل المصريون بسهولة الفكر المسيحي القائم على الثالوث المقدس؛ لأن له صدى متناسق مع الديانة الشعبية دائمة الفعالية بين المصريين والمتمثلة في ثالوث إيزيس - أوزير - حور، وعشرات غيره من ثالوث إلهي لمدن وأقاليم عديدة مثل ثالوث آمون - موت - خنسو في الأقصر. ومن ثم تقبل الشعب بيسر وسهولة الثالوث المقدس المسيحي بغض النظر عن الاختلاف الفكري الفلسفي بين آباء الكنيسة.
استطرادا ربما نقول: إن لآل البيت النبوي صفة متماثلة في مثلث علي وفاطمة والحسين، ولهذا نجد بين المصريين حتى اليوم تعاطفا واحتراما زائدا لآل البيت لدرجة قبلت التشيع بسهولة في العصر الفاطمي، وما زالت أكبر الموالد في مصر هي لأفراد من آل البيت: الحسين والسيدة زينب وزين العابدين والسيدة نفيسة بغض النظر عن الوجود المادي للرفات من عدمه، وربما يجد المتخصصون صورا مشابهة في المناسبات الدينية القبطية في الأماكن التي زارتها العائلات المقدسة مثل المطرية والدير المحرق ... إلخ.
وفي عصر ما قبل التاريخ هناك شواهد أدلة في آثار حضارة جرزه ومرمدة بني سلامة والمعادي ونقادة ... إلخ. على الاعتقاد في الخلود والحياة في عالم آخر ومن ثم كانت المدافن تحت الأرض. واستمرارا لهذا المعتقد وتحسينه في صورة أدق وأرقى كان الركن الهام من مكونات ثالوث إيزيس أن هناك يوم الحساب والقيامة يشرف عليه أوزير إله الغرب والموتى. وسواء كان مقياس الحياة الأخرى هو وزن القلب فمن خفت موازينه نعم بالحياة الأخرى ومن ثقل قلبه ألقي في بركة من نار، أو من أوتي كتابه بيمينه دليل الإيمان والصدق ... فالأمر متشابه بصورة مجازية وهو ما ساعد على سرعة تقبل المصريين للمسيحية أو الإسلام باعتبار تشابه العقيدة في التأكيد على الحياة الأخرى كوازع للعمل الصالح في الحياة الدنيا.
شيء آخر مهم في ثالوث إيزيس هو أن الناس كلهم سواسية في الحياة الأخرى لا سطوة أو سلطان على أحد، وبعبارة أخرى ديمقراطية حياة الآخرة وعدالتها. وهذا الموقف الخلقي هو ما يحبذ على حسن التعامل واتباع صالح السلوك في الحياة الدنيا.
كل هذه تمثل فعلا سلاسة الانتقالات الفكرية والدينية بين المصريين آلاف السنين دون تحزب أو إكراه إلا في حالة واحدة هي مرحلة فرض عبادة آتون أو آتن بواسطة العقيدة الجديدة للملك اخناتن. وربما يرمز لعدم التعصب والتشدد أن نفس البناء يستخدم لطقوس دينية مختلفة في عصور مختلفة، وعلى رأسها معبد الأقصر الذي حلت كنيسة في جزء منه فترة وحل جامع أبو الحجاج على جزء منه منذ فترة. ومثل هذا في دير سانت كاترين الذي يضم ضمن أسواره مسجد إسلامي، وكذلك حلت كنائس وأديرة محل معابد قديمة مع تحويل الرسوم داخلها إلى الصور المسيحية المعهودة.
حالة عدم تقبل اليهودية بصورة واضحة نتيجة لعدد من العوامل نذكر منها: (1)
التعصب السلالي لليهود نتيجة نص في العقد الإلهي مع بني إسرائيل يميزهم على سائر البشر. (2)
أن اليهودية جاءت بإله واحد كآتون إله الشمس عند إخناتن، وبالتالي كانت هذه أو تلك نقيض الثقافة الدينية التعددية المتسامحة والثقافة المجتمعية المصرية بإطلاق، فلم يقبلوها. (3)
ومن ثم كان الخروج الإسرائيلي بمثابة هروب أو خروج جماعة خارجة على الإجماع والقانون والعرف العام؛ ولهذا لم يرحب غالب المصريين باتباع اليهودية وهي ديانة متشددة وأتباعها شديدو العنصرية.
والمسألة ليست فقط مادية لبناء تتحول وظيفته جزئيا إلى ديانات أخرى، بل إن بعض الطقوس القديمة تظل تمارس كطقوس لمقام آخر. ففي الأقصر كانت رحلة آمون السنوية من الكرنك إلى معبد الأقصر لها مراسم وطقوس كهنوتية وشعبية حين ينتقل للزيارة بقارب حقيقي، ما زالت الطقوس تمارس للآن مع بعض التغيير في مولد أبو الحجاج الأقصري حيث يحتفل الناس بنقل قارب فوق عربة «كاروو » كجزء هام من طقوس المولد، والشاطر في النهاية من يحصل على قطعة من حبال الجر للبركة.
إله الشمس هو الإله الدائم المسيطر وربما أبو الآلهة وخالقهم جميعا سواء كان اسمه رع أو آمون أو أتون - فالشمس - النور هي عنصر مسيطر على أشكال الحياة عكس الظلام؛ ومن ثم الشمس تنير في رحلتها النهارية في قاربها الذهبي، وتتعرض لمخاطر في رحلتها الليلية لتعود منتصرة مشرقة صباح كل يوم على الدوام. وعند المصريين كان الذهب - وما زال - هو رمز الشمس، أي الحياة، وإن كان للبعض أفكار قيمية أخرى باعتباره رصيد مادي يقي صاحب الذهب شر الفاقة، وفكر آخر مقتضاه أن ملامسة الجسد لأساور الذهب ومجوهراته يعطي حامله قوى السحر والخلود.
فكر المصريون عن الخلق مشابه بصورة ما للنصوص الدينية التالية: فمن العدم أو البحر المائج المظلم ظهر النور ورفع الله الأرض فوق الماء - أحيانا يرمز لبهو الأعمدة الشاهق في الكرنك على أن الأرض ارتفعت فوق الخضم المظلم، وفي بعض التفاسير أن الإله الأكبر خلق نفسه بنفسه على مبدأ التوليد الذاتي
Self or auto generate
مثل فيضان النيل يحيي الأرض، ثم بعد ذلك خلق الآلهة ثم البشر.
بدون أشكال الديانة المصرية لما وجدنا الآثار الباقية للحضارة المصرية - معابد ومقابر وتحنيط وكتابات وتماثيل وصور. وهو أمر ينطبق أيضا على الديانات الأخرى حيث الكنائس والأديرة والجوامع والأضرحة هي شواهد الحضارة أيا كانت ديانتها.
واحدة من أسس الحياة الدينية الفرعونية هي وجود الإلهة «ماعت
Ma’at » التي هي العدل والحق وبالتالي هي دستور تعاملات الحياة - والمبدأ نفسه هو أساس المسيحية والإسلام تحت عنوان «الدين المعاملة».
من الأشياء التي تمثل امتداد واستمرارية سلوكيات المصريين في كل العصور الاعتقاد في العين: عين حورس وعين رع والعين التي ترى من وراء القبر، والعين الشريرة وعين الحسود والسحر والسحرة واللعنة المكتوبة كلها أشياء ممارسة، وربما بأسماء وطقوس مختلفة كالسحر والزار والحسد والأحجبة على سبيل المثال.
في كل الأديان شيع ومدارس فلسفية وعقائدية. والكثير من هذه المدارس لها مقيميها فيما يشبه الأديرة والصوامع ولهم أدعية وتراتيل خاصة وطقوس اختبارية للانضمام إلى الجماعة ... إلخ، وهو أمر وارد في المسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية ومدارس الصوفية في الإسلام كما كان وما زال قائما في البوذية والهندوسية.
وفي مصر كانت نشأة الرهبنة في أقدم أشكالها في دير الأنبا أنطون والأنبا بول - جبل الجلالة القبلية على البحر الأحمر - في القرن الرابع الميلادي، منها انتشرت الرهبنة إلى بقية العالم. وأديرة مصر كثيرة أكبر تجمع لها في وادي النطرون وفي كثير من جهات الصعيد.
ومثيل الأديرة حركات الفكر الصوفي في الإسلام. وكانت مصر تمتلئ بالخانقاوات التي تشبه الأديرة كأماكن للعبادة وترتيل أفكار صاحب المدرسة الصوفية وطقوس أخرى. وأمثال ذلك كثرة تأسيس الطرق الصوفية في القرن 13 (بين 1200 إلى 1300م.) معظمها من المغرب، وعلى رأسها الشاذلية وأبو العباس المرسي وتلميذه أحمد البدوي، وعبد الرحيم القناوي وإبراهيم الدسوقي ثم انتشرت في أرجاء مصر. وبدأ من ق16 انتشرت طرق أخرى تركمانية وتركية الأصل كالبكتاشية والمولوية والرفاعية والنقشبدنية ... إلخ.
ولهؤلاء من أقطاب الصوفية وشهداء المسيحية وقديسها موالد ضخمة ذات طقوس يشترك فيها عشرات آلاف الناس، كأنها استمرارية مؤكدة لمواسم آلهة المعابد القديمة في بوتو وأبيدوس والكرنك وهليوبوليس من حيث الزفة والهبات والأوقاف والنذور، وذلك باعتبار أن الأولياء والقديسين هم خير وسطاء لقضاء حاجات الناس.
والأديرة والخانقاوات والتكايا هي أيضا مدارس لتطور الفكر الديني ونشره في صورة رسائل عديدة وبالتالي قامت في أحد وظائفها على التعليم والتثقيف وإحداث ما يلزم في المذاهب لتلبية أشكال التغير في الحضارة والثقافة، وإن كان عمادها الأولى هو الفائدة الروحية للممارسين مثل رهبان الدير وشيوخ الصوفية.
في آراء أن الصوفية نشأت في مصر بواسطة ذو النون المصري (860م)؛ إذ يعتبر المنبع الرئيسي الروحي للصوفية وأنه صاغ كثيرا من أفكاره في الحب الإلهي من معرفته باللغة المصرية القديمة وكتاباته في الطب والكيمياء والسحر.
وبالرغم من أن مصطلح الصوفية له رنين عربي مستمد من لبس الصوف كنوع من التقشف والزهد، إلا أن الأصل - عند الباحث مصطفى جاد الله - مصري مستمد من
seph/soph
كمقطع من اسم مصري متداول من معانيه الحكمة والنقاء. ولكن إذا كان لذي النون معرفة باللغة المصرية المعروفة في عهده فالأغلب أن أصول الكلمة يونانية بمعنى الحكمة التي تداخلت مع المصرية القديمة قرونا طويلة، كما أن العرب في تلك الفترة ترجموا ونقلوا علوما يونانية كثيرة، فهل هذا هو الأصل؟
وفي آراء أخرى أن الصوفية مستمدة من خليط فكري أفلاطوني أفلوطيني مسيحي شاماني،
2
وإنها لا تهدف إلى تنظيم مجتمع بل تنصب حول الفرد لتطهير الروح. وكلمة الحب هي الأكثر ورودا ولا تستعمل مبادئ التجمع لإحداث ثورة أو تغيير فقهي. لهذا لا يتقبلهم رجال الدين أو المتشددين منهم. ولكننا نستثني بعض الاتجاهات الإصلاحية الدينية لأقطاب من المجتهدين - لكنهم ليسوا صوفيين - تنتهي باستخدام السياسيين بغرض إشاعة المذهب والتنظيم السياسي عنوة كالوهابية والسنوسية، والمهدية، أو تنظيم القاعدة الحالية، أو حركات المتشددين والسلفيين المعاصرة.
وأخيرا فإن في ممارساتنا العادية وأمثالنا الشعبية كثير من الاستمرارية الثقافية القديمة، وكمثال واحد نرى أن الرقم 7 سبعة رقم سحري هو ومضاعفاته، فهو عند القدماء رمز الكمال وإتمام العمل على أحسن صورة، وكانت هناك 7 عقارب تحمي إيزيس في بحثها عن أوزير الذي قطعه الإله ست 14 قطعة رمى 7 منها في الدلتا و7 في الصعيد. وكذلك أن كبير الآلهة «رع» أمر الآلهة بالاحتيال على الإلهة سخمت - هاتور في أحيان - لتوقف تدمير البشر وقتلهم واستغرق ذلك 700 برميل من الخمر لكي تسكر وتتوقف عن القتل، على ظن أنها أبادت الناس جميعا باعتبار اللون الأحمر للخمر. وعندنا 7 سنوات عجاف وسبع سواقي وسبع نخلات ... إلخ.
وأحدث أشكال الاستمرار الحضاري المصري ديانة جديدة في أمريكا تسمى كيمتك ويكان
KEMETIC WICCAN ، والكلمة الأولى مستمدة من كيمت
kemet
وهو اسم مصر باللغة المصرية القديمة وربما تعني «الشعلة أو الذبالة المصرية»
3
وهي ديانة أو عقيدة تدور حول ثالوث أوزير - إيزيس - حورس، وقد أصبحت منذ 1980 ديانة معترف بها في الولايات المتحدة لكن البعض يرونها ديانة سحر قديمة.
انظر
ملحق الصور . (3) استمرارية أسماء الأماكن ومعاني بعض الأسماء الفرعونية
الكثير من أسماء الأماكن والمدن هي أسماء منذ عصر فرعوني أو آخر تحورت - ربما من أجل سهولة أو سلامة النطق
4 - في العصر القبطي وأخذتها اللغة العربية فيما بعد وأيضا بتسهيل النطق.
والآتي نماذج لبعض هذه الظاهرة ابتداء من الجنوب على ما درج عليه القدماء باعتبار أن النيل يأتي من الجنوب. ويلاحظ أن الحرف (م) = لغة مصرية، والحرف (غ) إغريقي، والحرف (ر) روماني، والحرف (ق) قبطي، وأخيرا الحرف (ع) عربي - والغالب أنه الاسم الحالي ما لم يذكر غيره في مرحلة ما طوال العصر العربي حتى الآن.
بلاد النوبة:
تاسيتي (م) بمعنى أرض الرمي بالقوس.
أسوان:
سونو (م) بمعنى السوق، وسوينت (م)، وسوان (ق).
جزيرة أسوان:
آبو (م) بمعنى العاج، ومن المعنى اشتق اسم الفنتين (غ) بمعنى جزيرة الفيل.
كوم أميو: «أومبوس» (م).
إدفو:
تبوت (م)، أتبو (ق).
إسنا:
سيني (م)، سينيت (غ)، وأحيانا تسمى لاتوبوليس (غ) اسم شهرة لنوع من الأسماك الكبيرة.
الأقصر:
واست (م) الصولجان أو نيوت (م) بمعنى «المدينة»، طيبة (غ) اكسرون (ر) بمعنى الحصن ومنها اشتق اسم الأقصر (ع) الحالي.
قوص:
نتر وي (م) بمعنى مدينة الإلهين (حور-ست).
الدلتا:
من الفضاء.
دندرة:
تانترت (م) هي مدينة الإلهة حتحور أو هاتور أو أفروديت في الإغريقية.
المقاطعة الثامنة حول سوهاج: «تا-ور» بمعنى الأرض العظيمة وعاصمتها طينة.
التينة:
طينة (م) ثينيسا (غ) تن (ق) - هل هي جرجا أم أبيدوس؟ أهميتها أنها منشأ الأسرة الأولى (والثانية؟) نحو 3200ق.م.
العرابة المدفونة:
إبدجو أو أبودو (م) أبيدوس (غ) معابد وربما أول جبانة ملكية كبيرة.
أخميم:
خنت مين أو خنت خم (م) بمعنى بيت الإله مين (ربما يساوي آمون)، شيمين (ق).
جرجا:
جرج (م) منطقتها كانت تسمى وازت بمعنى الباب إلى الشمال.
أبو تيج:
تبو (م) أبوتكي (غ) تابوخي (ق).
أسيوط:
ساوت أو سيوت (م) بمعنى الحارس، ليكوبوليس (غ) بمعنى الذئب؛ لأن رمزها هو ابن آوى. منطقة أسيوط كانت تعرف أيضا تب شمع بمعنى بداية الجنوب.
أبنوب:
بر حور نب (م) بمعنى بيت الإله حورس.
البهنسا:
بر مسا (م) بمعنى مكان عصر العنب، أوكسيرنخوس (غ) بمسا (ق).
القيس :
كاسا (م) سينوبولس (غ) بمعنى بلد الكلب أو ابن آوى.
الشيخ عبادة:
تونة (ق) تاناييس (غ) تونة الجبل (ع) وكذا الأشمونين (ع).
تل العمارنة:
نسبة إلى بني عمران هي مكان أخيتاتون عاصمة إخناتن.
بني سويف:
بوفيسة (م؟) منفسوية (ع).
إهناسية:
حنن نوت (م) هناس (ق).
أبو صير:
بر أوزير (م) بوصيرص (؟).
سدمنت:
ست منت (م).
الفيوم:
شيدت (م) بمعنى الجزيرة باعتبار أنها كانت بحيرة، بر سوبك (م) مكان التمساح، وكروكوديلوبليس (غ) و«بي يوم» (ق) بمعنى مكان اليم أو البحر - أيضا باعتبار البحيرة.
هوارة:
هات ورت (م).
اللاهون:
راحنو (م) بمعنى فم التمساح، وهي مدخل بحر يوسف إلى منخفض الفيوم.
قارون:
تاحنو مرور (م) موريس (غ).
حلوان:
حر أون (م) بمعنى أون العليا - أي عين شمس الجنوبية.
طرة:
دارون (م) طروخون (ق).
عين شمس:
بر رع (م) بمعنى بيت الإله رع، يونو أو أون (م)، هليوبوليس (غ) بمعنى مدينة (إله) الشمس الذي هو «رع».
منف:
إنيب هيدج (م) بمعنى السور الأبيض، وهي عاصمة مصر لفترات طويلة، وكذلك أطلق عليها اسم «مين نفرو مير» في عهد بيبي الأول واختصر إلى مينف (م) وإلى ممفيس (غ) ومنف.
سقارة:
مكان الإله سوكر (م) وهي جبانة كبرى لمعظم العصور القديمة.
بولاق:
بي لاك (م) بمعنى مرسى السفن.
أبو قير:
كانوب (م).
راقودة:
محلة سكنية قريبة من الإسكندرية وأصبحت جزء منها بعد توسع الإسكندرية، وربما راقودة في مكان ما بين شيديا والإبراهيمية.
مريوط: «بر مرت» (م) بمعنى مكان الماء، وهو كذلك اسم مصري لمدينة بائدة على ساحل بحيرة مريوط التي كانت بحيرة عذبة؛ لتلقيها المياه من الفرع الكانوبي القديم للدلتا، وقد كان لها دور هام في حياة الكتلة السكنية في منطقة الإسكندرية من حيث الإنتاج الزراعي والحماية الدفاعية من الجنوب في كل حياة الإسكندرية، وتملحت مياه البحيرة بواسطة الجيش الإنجليزي مرتين؛ الأولى: في المعركة ضد الحملة الفرنسية، والثانية: أثناء حملة فريزر كنوع من فرض الحصار على المقاومة السكندرية بقطع القناة المائية التي تورد المياه العذبة إلى الإسكندرية. واليوم حال البحيرة إيكولوجيا في سوء ما بعده سوء؛ نتيجة صرف مخلفات المصانع التي تحتوي على سموم كيماوية بالغة الضرر إلى البحيرة المسكينة.
الإسكندرية:
نشأتها إغريقية كما نعرف لكنها اتسعت وضمت راقودة شرقا والكثير من الأحياء غربا التي نشأت بعد تضخم أعمال الميناء. وفي الحقيقة كانت منطقة الإسكندرية آهلة بعمران متفرق منذ زمن بعيد يتمثل في وجود جبانات والمقابر المحفورة في الصخور في الشاطبي، ومصطفي كامل، والأنفوشي، وكوم الشقافة.
فأهمية أي مكان وبلوغه الذروة لا تنشأ من أعمال الإنسان فقط - كنشأة المدينة بعمل الإسكندر والبطالمة، ولكن يرفد النجاح البشري عوامل وعناصر طبيعة منها الموقع الجغرافي المساعد على علاقات اقتصادية، وتبادلات تجارية، وتراكيب حضارية. وفي حالة هذه المنطقة كانت العلاقات عبر البحر إلى بلاد اليونان عامل نشط في ازدواجية مع التراث الحضاري القديم أدى إلى نمو الإسكندرية إلى قمة العالم في الحرية الثقافية والمعرفية والمالية ...
مرسى مطروح:
الاسم القديم «باراتيونيون» هو وغيره من أسماء على الساحل الشمالي أصوله إغريقية من قديم وتحول إلى باراتنيوم (ر) ثم إلى البرطون (ع).
مراقيا:
اسم عربي على تنويعات إغريقية لاسم يصف المنطقة الساحلية باسم «مرمريكا».
دمنهور: «دمان حور» (م) نسبة إلى الإله حور، «تمحور» (ق) ومنها الاسم الحالي.
نقراش: «نوكراتيس» (غ).
منوف: «بانوف ريز» (م).
أشمون: «أشموم» (ق) ومنها الاسم الحالي.
تلا: «تا لا ناو» (؟).
الباتنون: «با تنون» (؟).
صا الحجر: «سايس» اسم مصري ربما هو «ساو» ثم أضيف إليه اللاحقة الإغريقية «يس» وهي مدينة قديمة صارت عاصمة لمملكة غرب الدلتا في العصور الفرعونية المتأخرة.
سمنود: «سب نترت» (م) بمعنى الأرض المقدسة، «بينيوس» (غ)، «سمنوت» (ق) وكانت لها أهمية سياسية في العصور الفرعونية المتأخرة.
طنطا: «طنطنت» (؟) طندتا (ع) ثم خففت إلى الاسم الحالي.
المحلة:
دي دو سيا (؟) «دقلا» (ق)، محلة دقلا (ع) ثم أصبحت المحلة الكبرى تميزا لها عن قرى ومدن باسم الملة أو محلة؟
زفتا: «زيته» (؟) منية زفته.
كفر الشيخ: «دمين قون»، «دميلا قونه» (ق،ع؟) ثم في العصر العثماني نسبت إلى الشيخ طلحة.
سخا: «خاسوت» (م)، زوس (غ )، سخوى (ق).
بيلا: «بيولا» (؟).
تل الفراعين: «بو تو» (م)، «إبطو» وهي مدينة هامة في الحياة الروحية لمصر منذ ما قبل الأسرات.
شباس: «كباسيا» كباسيون (غ أور).
فوه: «بويي» (؟).
البرلس: «بارالوس» (غ).
المنزله: «زندوكسي» (غ) «بي متر والي» (ق) بمعنى دار الضيافة، ثم الاسم الحالي.
طلخا: «طرخا» (؟).
دميره: «تميره» (ق).
تل بسطه: «بر باست» (م).
بلبيس: «بال ست» (م) «بلبس» (ق).
واحة: «راح» اسم مصري قديم ومنه اشتق المصطلح العربي «واحة» والإفرنجي «أوازس».
الخارجة: «هيبس» (م) بمعنى المحراث.
باريس: «تيخو نميرس» (ر)، ثم أخذ المقطع «ميرس» وتحور إلى ياريس ثم باريس الحالية.
موط:
موط: موط (م) نسبة للإلهة «موط
Mut » زوجة آمون وأم خنسو إله القمر، وكانت موط تطلق على كل واحة الداخلة في العصر الفرعوني، ثم خصصت كاسم للعاصمة الحالية للواحة بعد القصر.
القلمون: «قلعة آمون» (؟).
سيوه: «شاءو» هو اسم بربري - من البربر - قديم حرف الآن إلى «شالي» ويطلق على البقايا للمدينة القديمة المسورة المحصنة ضد غارات البدو - كما هي العادة في كل الواحات المصرية. وقد أسماها العرب «سنتريه» وغالبا حرف هو واسم شاءو إلى سيوه، وفي هذه الواحة تجمعين: شالي وأغورمي وللأخيرة شهرة واسعة؛ لوجود معبد آمون جوارها والذي كان كهنته يشتهرون بإطلاق النبوءات. وكانت كل الشعوب في الشرق الأوسط وأوروبا وبخاصة اليونانيون القدامى يؤمنون بالنبوءات في بلادهم وأشهرها نبوءات «دلفي»
Delphi Oracle ، وهو الاعتقاد الذي حدا بالإسكندر إلى رحلته التاريخية إلى سيوه حيث حصل على نبوءته بالانتصار. ولهذا اشتهرت واحة سيوه بين الكتاب الأوروبيين باسم واحة آمون. وبقايا المعبد ما زالت قائمة في حالة متوسطة من الحفظ. (4) دينامية العمران ودورته
في ختام هذا الفصل نشير بإيجاز إلى المكان الذي يختاره المصريون في القديم والحديث لإقامة محلاتهم السكنية، مدنهم وقراهم - باختصار ضوابط المكان الجغرافي:
في البداية كان السكان ينتشرون على مسطح مصر بصورة أكثر تعادلا من تركيزهم الآن، أعدادهم قليلة؛ لأن اقتصادياتهم تعتمد على الصيد وجمع بعض الغذاء من عالم النباتات.
مع الجفاف اتجه الناس إلى أمان المياه على مقربة من الوادي ، حيث هم قريبون من النهر يتعايشون عليه بالصيد وبعض الحيوان والنبات، لكنهم بعيدون عن غائلة الفيضان وإيكولوجية البيئات الرطبة والمستنقعات. لهذا فالمحلات السكنية في تلك الفترة هي على أطراف الوادي والدلتا.
مع معارف الزراعة أخذ الناس يتقدمون إلى داخل الوادي والدلتا، ومع سيادة نظم ري الحياض اختار الناس الأماكن المرتفعة نسبيا داخل السهل لإقامة المدن والقرى، أو يحيطون المدن بأسوار والقرى بكميات كثيفة من التربة والطمي للحماية من المياه خلال فترة إطلاق المياه في الحقول. ونظرا لاستمرار زراعة نفس الأحواض مئات السنين كانت القرى تعلو رويدا بإعادة بناء المساكن فوق أكوام البيوت القديمة المتهدمة. وعلى هذا ثبتت القرى في مواقعها آلافا مؤلفة من السنين؛ لأن الوفرة صارت عاملا في نمو أعداد السكان من القلة إلى الكثرة، ومن البعثرة إلى التركز.
وحين اتبعت مصر نظام الري الدائم منذ نحو قرن ونصف لم تعد مياه الفيضان تغرق الأرض، وتحيل القرى إلى جزر يتحرك الناس فيما بينها بقوارب خفيفة أو فوق مسارات الفواصل الطينية بين الحوض والآخر. وبرغم الفائدة الاقتصادية من التراكم الرأسي للثروة من نفس الحقل بزراعته مرتين على الأقل في السنة، برغم ذلك فقد كانت له ردة تعتبر ضارة من وجهة نظر انكماش مساحة الأرض المزروعة لصالح امتداد العمران القروي والحضري داخل الزمام الزراعي؛ ذلك لأن القرى والعزب والمدن بدأت في الانتشار على السهل الزراعي خارج نطاق الأكمات القروية العالية القديمة.
ونتيجة الإغارة على الحقول يعلو الآن صوت الإعلام محذرا من تآكل المساحة الزراعية، وداعيا إلى بناء القرى على الحواجز - أي أطراف الوادي والدلتا مع الدعوة إلى «غزو» الصحراء! وسواء صح هذا أو كان غير ذلك فما يعنينا في هذه المداخلة أن الإنسان لا يخترع جديدا بل يحاول أن يستعيد من أشكال الدينامية القديمة. ولو لخصنا هذه الدينامية السكنية في جملة متتالية بين الشكل والسبب سنجدها كالآتي: (1)
انتشار عريض لمجموعات بشرية صغيرة متناثرة قبل أن تصبح الصحراء صحراء جدباء مع ممارسة مهنة الصيد والجمع، وبالتالي قلة أعداد الناس. (2)
التجاء الناس إلى أطراف الوادي مع حلول الجفاف واستمرار الصيد وقلة الناس. (3)
الدخول إلى قلب الوادي والدلتا باكتشاف الزراعة بنظام ري الحياض، وزيادة عدد الناس، وتركزهم السكني في محلات محدودة. (4)
تغير نظم الري من الحوضي للري الدائم، وانتشار القرى خارج كوردوناتها مؤديا إلى تناقص مساحة الأرض المنتجة زراعيا. (5)
طلب العودة إلى الأطراف الصحراوية حفاظا على ما بقي من الحقول الزراعية. (6)
العودة مرة أخرى إلى الصحراء بمشروعات استزراع مكلفة، وغالبا أعداد سكانية متزايدة حتى لو كانت نسبة الزيادة 1٪ سنويا. (7)
المحصلة النهائية غالبا أن التعمير الزراعي في الصحراء لا يعيش طويلا؛ لأن المياه متناقصة سواء تلك هي المياه الباطنية التي لا تتجدد، أو هي من مياه النيل محدود الكمية المنقولة في رياحات وترع وقنوات وأنابيب ...
قد يبدو الموقف محبطا، وهو فعلا كذلك. لكن ما زال في جعبة الإنسان أفكار ضد اليأس يمكن الآن تلخيصها سريعا في الآتي:
الاستمرار الجاد في الدعوة إلى ضبط النسل، وهي عملية تحتاج جيلا كاملا على الأقل لكي تظهر نتائجه الناجحة.
إذا كنا قد استنفدنا طاقة الأرض الزراعية بالإنتاج السنوي الدائم، فلا شك أن إقامة منشآت اقتصادية أخرى غير زراعية خارج الأرض الزراعية أو داخلها وعليها سوف تستوعب جانبا بطالة العمالة الكثيفة التي كانت صفة للزراعة لكنها انتفت الآن بإدخال ميكنة كثيرة في العمل الزراعي.
أول المنشآت الاقتصادية المطلوبة صناعات تبدأ من التصنيع الغذائي والنباتي وتنتهي بالتكنولوجيا العالية. ومع تحسين شكل الحياة نتيجة ارتفاع الدخل من مصادر متعددة سيرتب أشياء من بينها تقليل الإنجاب، وتحسين السكن، ونمو وعي أكبر في تسييس المجتمع المحلي والوطني.
نتيجة شمولية لكل ذلك انتشار العمل في قطاع الخدمات وهو شديد التنوع كثيف العمالة. والنتيجة النهائية بقاء الناس حيث هم دون الهجرة للمدن الكبرى فمجالات العمل أمامهم عديدة.
وأخيرا فإن هذا يكفينا مغارم اللجوء إلى مشروعات شديدة التكلفة في الصحراء هي مؤكدة العمر القصير - فالإنسان إلى الآن وباكر لا يستطيع قهر عناصر طبيعية كالمناخ، ولا يستحسن أن يتصادم معها فهو ليس لها ندا ...
الفصل الثالث
حول بعض المشكلات الأساسية في مصر
(1) في مسألة السكان
المشكلة السكانية في مصر تمثل التحدي الأكبر للنمو، والتنمية الشاملة والمستدامة حسب إجماع الآراء من قديم. لقد راع المتخصصين في علوم المصريات من أجانب ومصريين الإنجازات الحضارية المصرية واستمرارية الحضارة على مدار آلاف السنين، أذهلتهم تلك الاستمرارية دون أن يحدث لها اندثار كما حدث لحضارة مجاورة في أرض العراق أو فينيقيا - بل وحتى في اليونان.
والأغلب أن تلك الاستمرارية المصرية قد حدثت نتيجة الاستقرار السياسي والسكاني النسبي دون أن تجتاحه جحافل الغزاة المدمرة مرارا وتكرارا كما حدث لغيرها من أراضي الشرق القديم. صحيح تعرضت مصر في بعض أوقات ضعفها لغزوات من الخارج، كما حدث عند غزوة الملوك الرعاة «الهكسوس»، وغزوة الفرس الطويلة، وغزوات أقصر عمرا كالأشورية والبابلية، وموجات من الهجرات البحرية من اليونان القدماء والقبائل الغربية الليبية. لكن هؤلاء جميعا إما طوردوا وطردهم المصريون من مصر كالهكسوس والأشوريين والبابليين، وإما تمصروا بعد فترة من الزمن مارسوا فيها عنصريتهم على سواد المصريين كبعض الهكسوس وكل أسرة البطالمة، وإما حكموا مصر على الطريقة المصرية إداريا كالفرس أو الليبيين أو الرومان أو العرب قبل أو بعد الإسلام أو العثمانيين. أما الطولونيون والفاطميون والمماليك فقد مدوا جذورهم في مصر وازدهروا فيها وأصبحوا جزءا من نسيج مصر الاجتماعي والعسكري والإداري معا قرونا طوال.
ومن ثم كانت هناك محاولات لمعرفة عدد سكان مصر في زمانها الطويل، وتراوحت التقديرات بين ثمانية ملايين ومليونين حسب فترات الازدهار والركود. وهذه الأعداد تمثل حجما غير مسبوق في تلك العصور القديمة حينما كان متوسط العمر المتوقع هو في حدود 40-45 سنة، وباختصار فإن عددا حرجا من الناس - ربما مليونين من الأنفس - يشكلون ركيزة البقاء واستمرار أشكال الحضارة والثقافة حتى في أحلك الظروف كفترة الضغط الأشوري البابلي أو فترات الاضطهاد الروماني.
ونتيجة للازدهار الاقتصادي في القرن التاسع عشر فإن عدد سكان مصر بدأ في الانتعاش برغم حروب محمد علي الكثيرة. التغير الاقتصادي باستخدام الأرض للزراعة الصيفية جنبا إلى جنب مع الزراعة الشتوية التقليدية أدت إلى انتعاش الريف، بإدخال محاصيل صناعية على رأسها القطن الذي يكنى عنه باسم «الذهب الأبيض»، والتحول إلى الصناعات الحديثة ساهم أيضا في الرخاء الاقتصادي الذي غمر مصر نحو سبعة عقود ثلاثة منها في نهاية القرن 19 نتيجة الحرب الأهلية الأمريكية وازدهار سوق القطن المصري طويل التيلة وتثبيت أقدامه عالميا، والعقود الأخرى في بداية القرن 20 نتيجة نشأة صناعات الأقطان الحديثة وتجارتها.
ومع الازدهار والتحديث في مصر وزيادة العناية الصحية بدأ المصريون في التزايد عدديا بإيقاع سريع حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من تضخم عددي. لكن التوازن كان قد اختل بين مصادر الثروة وعدد السكان، ولم نعد نرى توافقا بين العنصرين سوى أفكار تنظيم النسل حتى يمكن إجراء ما يمكن من أنشطة اقتصادية تستوعب الناس وتنتقل بهم إلى حالة اقتصادية معقولة وإلى عصر العولمة الذي لا يستطيع شعب أن يدخله ويحافظ على كيانه دون أن يكون متقويا بمصادر حياتية تكفل له عيشا بالكرامة. وفيما يأتي محاولة لفهم مشكلة مصر الأولى: السكان. (1-1) ثلاثي المتاعب المصرية
المشكلة السكانية
منذ سبعة عقود كان ثلاثي متاعب مصر يلخصه شعار القضاء على «الفقر والجهل والمرض». وما زالت أجزاء كبيرة من هذا الثالوت قائمة حتى الآن وإن أخذ بعضها في التضخم كالفقر أو التحول والاستشراء بدخول أمراض جديدة، بينما نحو نصف المجتمع - عمليا - ما زال أميا. أما الثلاثي الجديد: فهو عدد السكان - أو كما يقول المغالون في الأمر: إنها القنبلة السكانية، ثم البطالة وإشكاليات الاقتصاد، وأخيرا سلوكيات المجتمع وأساليب التعامل الفردي والجماعي، والصلة ليست منعدمة بين الثلاثي القديم والحديث، بل في الواقع إن الثلاثي الجديد قد تولد جزئيا من الثلاثي القديم وتطور وتضخم على عامل الزمن بما أتى به من أشكال جديدة في تكنولوجيا الحياة وأنماط الإنتاج والاستهلاك، والتغير في شرائح المجتمع على ضوء تغير مدلول القيم.
وسوف نقتصر هنا على المسألة السكانية، بينما نفرد للعنصرين الآخرين من عناصر الثلاثي الحالي موضوعا خاصا في فصول أخرى من هذا الكتاب لتبين دلالاته وأثره على تكوين المجتمع المصري المعاصر. هذا مع العلم أن هذه العناصر متداخلة مترابطة مؤثرة ومتأثرة بعضها بالبعض الآخر بصورة يصعب فك اشتباكها كما أسلفنا.
تنبيهات محمد عوض محمد منذ 70 عاما
إحساسنا بالمشكلة السكانية بمعنى نمو عددي أكبر من نمو الناتج المحلي العام وبالتالي مؤشرات الفقر والمشكلات الاجتماعية، ترجع إلى الثلاثينيات من القرن العشرين حين أشار إليه أستاذنا الراحل الدكتور محمد عوض محمد، أحد رواد المعرفة الحديثة. فقد راعه نسبة النمو السكاني المرتفعة بين تعدادات وتقديرات 1882-1927، بحيث تضاعف السكان مرتين في تلك الفترة من 6,8 ملايين إلى 14,2 مليون نسمة. لهذا هو ينبه في كتابه الشهير «سكان هذا الكوكب» (الطبعة الأولى 1936) إلى ضرورة أن تتشكل في مصر هيئة رسمية أو غير رسمية تعنى بدراسة موضوع السكان كله؛ لأن مشكلة السكان في مصر «هي من أعقد المشكلات وأحقها بأن توجه إليها جميع الجهود» (المقدمة). فإذا كان ذلك التحذير الذي أطلقه محمد عوض منذ سبعين عاما كان يعبر عن حقيقة في ذلك الزمان، فنحن اليوم أولى بالتأكيد عليه وقد زدنا على سبعين مليونا!
سكان مصر في تعدادات 1947-1996 وتقدير 2003
سكان محافظات الحدود ق2003 = 158 ألفا البحر الأحمر، 295 سينا الشمالية، 63 سينا الجنوبية، مطروح 163، الوادي الجديد 255.
ويتابع محمد عوض الحديث عن ضرورة تحديد النسل كوسيلة ناجعة لمواجهة المشكلة، ويشرح كيف كانت هذه الدعوة مثار اعتراض كبير في أوروبا في الربع الأخير من القرن 19 ثم قل المعترضون لجدية الموضوع وعلمية نتائجه. ويقول: «ليس في الناس من ينادي بأن وسائل منع الحمل يجب أن تكون حديث المجالس، ولكن تجنب الكلام بتاتا في موضوع مرتبط أوثق الارتباط بصحة الأم وتربية الأطفال وهناء الأسرة أمر لا يمكن أن ينصح به منصف.» (ص187)، ويعرف محمد عوض أن الموضوع سيكون مثار اعتراض من قبل رجال الدين فيقول: «أما الدين الإسلامي فليس فيه، فيما يبدو لنا، ما يدل على تحريم تحديد النسل ... بل إن ما لدينا من الأدلة يشير صراحة إلى أن الدين يبيح الالتجاء إلى تلك الوسائل ...» ويستشهد في ذلك بكتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي، وبخاصة الفصل الخامس منه. وبناء على استمرار مجهوداته نجح محمد عوض في الحصول عام 1937 على فتوى من الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية آنذاك مؤيدة للدعوة إلى تحديد النسل؛ لأن كثرة النسل الضعيف لا خير فيه. (2) جهود وبحوث ولكن المشكلة متفاقمة
ومنذ ذلك التاريخ المبكر فإن الديموجرافيين والجغرافيين المهتمين بالموضوع السكاني كتبوا منبهين إلى أن مشكلة المشاكل في مصر هي النمو السكاني المتسارع، مثل كتابات الدكاترة محمد صبحي عبد الحكيم، ومحمد السيد غلاب، وعبد الفتاح وهيبة وغيرهم كثير. ولا شك في أن كثرة الاقتصاديين والاجتماعيين قد اقتربوا كثيرا من المشكلة السكانية، وكان قرار استضافة الدولة للمؤتمر السكاني الدولي في القاهرة عام 1995 تعبيرا صادقا عن أهمية الموضوع وجديته وإدراك الدولة بخطورة موضوع السكان.
منذ كتابات الجغرافيين وبعض الاجتماعيين فإن الجهد العملي الذي أضيف إلى دراسة وفهم المشكلة السكانية كان إنشاء المركز الديموجرافي بتمويل من صندوق السكان بالأمم المتحدة الذي ازدهرت أعماله تحت قيادة أستاذنا الراحل الدكتور سليمان حزين ومن تلاه.
ويركز البرنامج الدراسي في هذا المركز الدولي على الجانب الديموجرافي من الموضوع السكاني (الشق البيولوجي؛ أي حركة الحياة من المولد إلى الوفاة)، مع القليل من المعالجات الاجتماعية كسبب لحركة السكان بين المولد والوفاة. وأيا كان الأمر فالحقيقة أن الجانبين الاجتماعي والبيولوجي معا يشكلان العوامل المؤثرة في الخصوبة والتكاثر والوفيات والأمراض بالارتباط بكل عناصر الحياة من المعتقدات الدينية إلى النمط الاجتماعي السائد، وأشكال النشاط الاقتصادي ومردودات كل ذلك على الإنجاب والتعليم والصحة والعمل.
لكن خريجي المركز نادرا ما يشتغلون بالموضوع السكاني. فهم إما فئة تضيف شهادات عليا إلى شهاداتها الجامعية وتسعى في دروب الوظيفة التي تشغلها بالترقي إلى درجة إدارية ومالية أعلى. وإما فئة من المتدربين الأكاديميين - المعيدين - في الجامعات تساعدهم على تواصل البحث لنيل درجات الماجستير والدكتوراه. والكثير من هؤلاء تغمرهم فيما بعد واجبات المهنة التدريسية ونادرا ما يشاركون في العمل السكاني إلا من خلال محاضراتهم النظرية للطلاب أو بحوث تلقى في المؤتمرات. بعض هذه البحوث مبنية على دراسة عملية في أحد أقاليم الدولة أو في واحد من الموضوعات السكانية مثل الاكتظاظ والتزاحم أو الفقر والهجرة المصاحبة من الريف إلى الحضر وغير ذلك من الموضوعات. (2-1) مجهودات الدولة مترددة
وإلى جانب هذا الإطار النظري والإعداد الأكاديمي فإن الدولة كانت منذ فترة طويلة نسبيا تسعى إلى معالجة المشكلة السكانية على أرض الواقع. ولكن سياسة الدولة ترددت بين عدة مفاهيم أقصاها تحديد أو ضبط النسل وأدناها المساعدة على تنظيم النسل. ومن خلال هذه السياسة أو تلك أنشأت الدولة أجهزتها الإرشادية وأطلقت حملاتها الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية، لكن معظم التوجه كان في الريف المصري المعروف بالمحافظة لدرجة الجمود، بينما كان في الإمكان أيضا تكثيف العمل والإعلان بين الفئات الفقيرة في المدن التي تعج بالمهاجرين من الريف دون أن يكون لديهم تأهيل مهني مناسب لحياة المدينة الاقتصادية، والاجتماعية، والصحية. وفوق هذا كانت هناك قوى مناهضة لأشكال تنظيم النسل من جوانب كثيرة كتنافس شرائح المجتمع في التكاثر واستمرارية الضغط التاريخي نحو فكرة الكثرة، وجماعات إيديولوجية تحارب هذا التنظيم على أنه عمل مناف لطبيعة البشر والمعتقدات الدينية، أو تنظيمات مناهضة للحكومة تعمل على تقويض سياساتها السكانية والتنموية كجزء من هدف الوصول إلى الحكم.
ومع ذلك فإن هناك بشائر انخفاض في نسبة النمو السكاني السنوية وبخاصة في المدن الكبرى، بينما الريف بمدنه الصغرى وقراه ما زال ينمو بمعدلات أعلى من المدينة. فإذا صحت أرقام التعداد العام لسنة 1996 فإن نسبة النمو السكاني العام في مصر قد هبطت من 2,2٪ سنويا إلى 2٪ فقط، ولكن نسبة الهبوط اختلفت من مكان لآخر. ففي القاهرة الكبرى على سبيل المثال هبطت نسبة النمو في محافظة القاهرة إلى 1,2٪ سنويا للفترة 1986-1996 بينما ظلت شبرا الخيمة تنمو بمعدل 2,2٪ والجيزة بمعدل +5,3٪؛ وذلك لاستمرار الهجرة الريفية وضم كثير من القرى إلى مدينة الجيزة.
ولإحساس الدولة بخطورة المشكلة السكانية في مصر فقد أفردت في جهازها التنفيذي وزارة خاصة بالسكان. لكنها للأسف لم تعمر طويلا وتحولت إلى هيئة خاصة لها جهاز إداري وإمكانات محدودة. ثم ألغت الدولة هذا التشكيل وألحقت المشكلة السكانية بوزارة الصحة. هذا التردد بين وزارة ثم هيئة ثم ملحقية يوضح لنا حيرة في مواجهة مشكلة تقض البال في مصر، بل ربما هي مشكلة المشاكل وأولى الأسافي في المجتمع، وعليها تنبني سياسات كثيرة في الصحة والتعليم وميادين العمل والتنمية الاجتماعية الاقتصادية على وجهها الشمولي.
إن إلحاق السكان بوزارة الصحة أساسه أن النظرة إلى المشكلة السكانية هي نظرة قاصرة على مجرد التعداد والنمو السنوي - أي نظرة بيولوجية للإنسان من أجل الحد من تكاثره. ولكن كما قلنا سابقا هي نظرة إلى جانب واحد من الموضوع. فالتكاثر بالإنجاب تتحكم فيه علاقات أخرى إلى جانب العلاقة البيولوجية الزواجية. مرة أخرى يجب أن ننظر للمشكلة من جوانبها الاجتماعية والأطر التي صاغتها من عناصر دينية واقتصادية. على سبيل المثال استمرار قوة النظرة الاجتماعية الاقتصادية التقليدية على أن كثرة العيال عزوة عددية، تشكل دخلا إضافيا للأسر بالعمل كقوة عمل زراعي أجير لدى ملاك الأراضي أو أعمال أخرى لدى أصحاب الأعمال، أو أعمال خدمات شخصية مهمشة - غالبا إناث - لدى الأسر الكبيرة في القرية أو المدينة. والآن تحولت الأهداف في ظل التعليم المجاني إلى أن يكون الأبناء طاقات عمل إداري ومكتبي يتقاضون رواتب شهرية مؤكدة مما أدى - في أحد جوانبه - إلى مشكلة نقص الأيدي الزراعية، برغم زيادة عدد سكان الريف سواء كانوا يعملون في الفلاحة أو أعمال أخرى في المدينة المجاورة! (2-2) إشكالية السكان تحتاج عمل جماعي متناسق لهيئات عديدة
ربما يجوز لنا الاقتراح بأن تتولى إشكالية السكان هيئة أو مفوضية عليا مستقلة لها موارد كافية بحيث لا تضيع في خضم وزارات الخدمات. وأن تشترك هذه المفوضية المقترحة اشتراكا فعليا في العمل مع وزارات عديدة، منها على وجه خاص وزارات الصحة والشئون الاجتماعية والتعليم والأوقاف والهيئات الدينية الإسلامية والمسيحية والإعلام والبيئة وأجهزة تنمية الريف وتنمية المجتمع وأجهزة العشوائيات في كل المحافظات. فلهذه الأجهزة والوزارات سياسات خاصة في معالجة ناحية أو أخرى من المشكلة السكانية. لكنها، للأسف، تتشكل في صورة أقرب إلى أن تكون «جزائر» منعزلة، نادرا ما تتكامل معا في مواجهة كل المشكلة السكانية، بل هي في أحيان تتصادم فيما بينها! هذا ولا يجب أن تكون المفوضية التي نقترحها بمثابة المنسق بين هذه السياسات المنفصلة، بل يجب أن تنبع عنها السياسة السكانية بشمولها وأن توظف بعض ما لدى الوزارات، وبخاصة وزارات التعليم والصحة والأوقاف والإدارة المحلية، من تجهيزات وميزانيات وقوى عاملة داخل إطار السياسة الشاملة للموضوع السكاني بشقيه البيولوجي والاجتماعي الاقتصادي معا.
قرن من تطور سكان مصر 1897-1996، والنسبة المئوية لسكان القاهرة إلى مجموع سكان مصر
وربما يكون من التوصيات إنشاء عدة معاهد على مستويات تعليمية متعددة تنتظم فيها برامج سريعة لأسابيع محدودة لتعليم الناس وتوعيتهم بمخاطر المشكلة السكانية - على أن يكون لها ثقل برامجي تطبيقي مختلف في الريف عنها في أحزمة الفقر حول وداخل المدن من أجل تخريج عاملين أو تكوين متفهمين لمحاذير الموضوع السكاني من داخل كل مجتمع، فهم على الأغلب أكثر تأثيرا في مجتمعهم من موظف أو خبير قادم من القاهرة. كما يجب مراعاة الإكثار من عقد دورات نقاشية يشارك فيها الناس بالرأي من منطلقاتهم، على أن يكون لهذه الآراء مردود إيجابي يوصى به في إقليم أو مجتمع له ظروفه الخاصة. وبهذا تكون تطبيقات تنظيم النسل ذات مرونة وليست مجرد آراء وتعليمات تنبع من القاهرة ومطلوب تنفيذها على مستوى الدولة كلها.
وأخيرا فالمرجو إنشاء مركز مصري لدراسة موضوع السكان بشقيه على أساس قومي، وظيفته الأساسية الاتصال الدءوب بكل الأجهزة الحكومية والشعبية والأهلية لإحداث التنسيق المطلوب على أرض الواقع من أجل إنجاح دعوة تنظيم النسل بالقدر الممكن في مراحل مختلفة. وربما يلحق هذا المركز فيما بعد بمركز بحوث اجتماعية كجزء هام من تشكيلات المجتمع، وربما يكون من مهام المركز تخريج خبراء على مستوى عال إحصائي ديموجرافي؛ ليصبحوا الكوادر الأساسية في وزارة أو مفوضية عليا للسكان تكون هي المبتدأ لمخططات تنمية المجتمع في كافة جوانبه. (3) المسألة السكانية مرة أخرى
هذه هي المرة الثانية في خلال شهر أو نحوه التي أكتب فيها عن المسألة السكانية المصرية كواحدة من ثلاثي المتاعب المصرية المعاصرة . والذي حفزني إلى الكتابة - بشيء من الاستفاضة - عن هذا الموضوع الخطير أنه صار من الاهتمامات الاستراتيجية لرئيس الدولة في خطاباته الأخيرة وأن رد الفعل كان سريعا في مجلس الوزراء ووزارة الصحة والسكان بحيث ظهرت تحقيقات صحفية تتكلم عن «طوارئ لمواجهة المشكلة السكانية»، كأن الموضوع حادث طارئ كسيل عرم أو زلزلة مفاجئة. لكن كل الناس الذين لديهم بعض إلمام بالشئون المصرية يعرفون أن المسألة السكانية عملية مستمرة لنحو قرن من الزمان، ويعرفون قدر العبء الذي يكونه التزايد السكاني على الحياة العامة المصرية من التعليم والصحة إلى العمل والسكن. لكننا درجنا على أن نضخم الأمور. (3-1) مشكلة - إشكالية - أم مسألة؟
وفي البداية أحب أن أوضح أن استخدام كلمة «مشكلة» قد تعني أن وضعا متأزما قد حدث، وبالتالي يمكن إيجاد بعض الحلول لتقويم الوضع على منسوب معين في المدى القريب، كما لو أنه حدث طارئ. بينما تعني «إشكالية» استمرارا لمشكلة ما عويصة متشعبة. أما «مسألة» ما فتعني أن هناك موضوعا مستمرا لحالة السكان، سواء كانوا أقل أو أعلى من الموارد المتاحة، وبالتالي يستوجب معالجته على مدى طويل الأمد من جميع أطرافه وتداعياته.
وبهذا التوصيف فإن الموضوع السكاني في مصر هو «مسألة» مزمنة متراكمة وليس «مشكلة» طارئة - هو «إشكالية» وليس «مشكلة». قد تنبه لها المفكرون منذ أمد طويل وتنبه لها السياسيون منذ وقت قصير. ولهذا فإن الكلام عن «طوارئ» وزارة الصحة لمواجهة المشكلة ليست في محل صحيح، فالنمو السكاني وليد عمليات بيولوجية اجتماعية اقتصادية متفاعلة معا يصح إيجازها بأنها «عمليات حياتية» على زمن طويل في أي مجتمع، ولا تعالجه أية إجراءات طارئة بل سياسة طويلة النفس. (3-2) محتوى المسألة السكانية
إن الاهتمام المشدد من جانب الدولة لمشكلة التزايد السكاني قد أعطى لحقيقة واقعة أبعادا تنفيذية من جانب المسئولين. وهذا في حد ذاته أمر جدير بالاعتبار. فالطرح هنا على أنها جزء لا يتجزأ من مساعي الإصلاح والتنمية الحالية والمستقبلية وبدون التصدي لها كما يجب تتعثر أشكال التنمية ومساعي النهضة. ومن ثم أصبح كلام المسئولين واضحا وصريحا عن الحاجة إلى رصد ميزانيات كبيرة على مدى عدة سنوات. على أن هذه الإنفاقات لا يجب أن تخصص فقط للدعوة إلى إنشاء مراكز جديدة لتنظيم الأسرة أو الدعاية التلفازية الناجحة لحث الناس على العقلانية في الإنجاب، بل يجب أن تكون هناك سياسات شاملة لشتى المؤثرات الخدمية والتأسيسية لتنظيم النسل. فدرجة النمو السكاني متعددة الأسباب والجوانب كما نعلم جميعا.
من أمثلة ذلك كيف تخصص الملايين من أجل نشر التعليم بجدية أكثر ومحاربة التسرب من التعليم مع مزيد من التأكيد على تعليم البنات، في مقابل الكف عن النظر إلى الأطفال من الجنسين على أنهم قوة عمل خفية تجلب الرزق لأسرهم؟
وكيف ننفق ملايين أخرى لنشر وتدعيم فكرة أن الأديان لا تحض على الكثرة العددية فقط بل على النواحي النوعية بالأساس، وأن الكثرة الكمية ما هي إلا نوع من أنواع إلقاء المجتمع إلى التهلكة وهو عكس ما تدعو إليه الأديان.
ونحتاج ملايين أخرى لتغيير منظور المجتمع للمرأة على أن دورها الأساسي يكاد يقتصر على كونها أداة للإنجاب، ومن ثم تكاد العاقر أن تعزل عن المجتمع بينما تتمتع الولود - وبخاصة المنجبة للذكور - بقيمة اجتماعية عالية، وإن ظل دورها الاجتماعي في غير ذلك محكوما بقوة مجتمع الذكورة الذي نعيشه!
وإنفاقات أخرى لتحسين وتطوير مناهج التعليم لكي نخرج التخصصات المطلوبة لحياة المجتمع بدلا من تخريج موظفين وكتبة أو حملة شهادات عليا ينضمون إلى فئة العاطلين في ظل ظروف مجتمعنا الحالي. ونحتاج أرصدة أخرى لموضوعات متشعبة لتصحيح موقفنا السكاني.
لقد تأخرنا كثيرا في مواجهة المسألة السكانية بالقدر المطلوب. وسبق أن ذكرت أن أستاذنا الدكتور محمد عوض قد حذر من تنامي سكان مصر منذ 1936 - أي منذ ثلاثة أرباع القرن، وأنه حصل على فتوى من المفتي آنذاك تجيز تنظيم النسل. وهناك مجهودات كثيرة أخرى في هذا المجال لكنها كانت لا تلقى آذانا صاغية، وإن وجدت الآذان لم توجد الوسائل لتنفيذ تنظيم النسل، ولو كنا اجتهدنا منذ ذلك التاريخ لما كانت عندنا اليوم إشكالية عويصة تستدعي من رئيس الدولة التنبيه والإشارة إلى مخاطرها.
هناك خطوط أساسية لمعالجة المسألة السكانية ربما أهمها: (أ)
شكل وتنظيم الهيئة الخاصة بإدارة الموضوع السكاني. (ب)
أشكال الهجرة الخارجية الدائمة وهجرة العمل المؤقتة. (ج)
الانضباط الذاتي لدى المصريين لخفض نسبة النمو السكاني. (أ) مفوضية عليا لإدارة الموضوع السكاني
سبق لي أن اقترحت أن على رأس المعالجة الموضوعية صياغة الجانب الهيكلي في إدارة المسألة السكانية في صورة تشكيل «مفوضية عليا للسكان»، فلا يخفى أن مدى النجاح في أي مشروع يرتبط أساسا بشكل إدارته. والمفوضية العليا للسكان المقترحة هي بالقطع أشمل من تخصيص الموضوع بانتماء إدارته إلى وزارة الصحة فقط. فلا يخفى أن جانب الصحة يعالج الموضوع من جوانبه البيولوجية بالأساس في حين أن الموضوع يحتاج إلى تضافر جهود كبيرة من التخصصات الخدمية - على رأسها التعليم والشئون الاجتماعية، والتخصصات الإنتاجية - الزراعة والصناعة - لتحسين أحوال السواد الأعظم من السكان، وعالم الاتصالات لكي يجلب الناس إلى ما يضطرب به عالم اليوم من مدخلات ومؤثرات في داخل الوطن والعوالم خارجه فيدرك مخاطر المسألة السكانية، مثل هذه المفوضية العليا سوف تجلب التناغم والتفاعل المشترك بين مجهودات الوزارات والمحافظات المختلفة في مسار رئيسي يتجنب التكرار والتضارب وتعدد الإنفاق الإداري وتعدد الوظائف المتكررة ... إلخ، مما يحجم الإنفاق الإداري ويوجه الجهود المبذولة مباشرة إلى الهدف. (ب) الهجرة وحواجز الحدود
في الماضي كانت الدنيا مفتوحة على بعضها بحيث تجد الشعوب متنفسا للزيادة السكانية بالهجرة إلى أراض جديدة. ولكن مع نشأة الدولة القومية في أوروبا فيما بعد القرن السابع عشر ضاقت الدنيا بالحدود المفتعلة والحروب الاستعمارية لتقسيم العوالم الجديدة. وحتى الأقاليم القديمة الواسعة كالشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية وأفريقيا، قسمت هي الأخرى بين البرتغال وإسبانيا وهولندا وانجلترا وفرنسا ولحقتها في أواخر القرن 19 إيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة. وحين استقلت المستعمرات أخذت بنظام الدولة القومية شكلا وليس مضمونا. ومن ثم شهدنا التكالب الشديد على حدود صنعها الاستعمار ليست وليدة التطور السياسي لقومية معينة وهو ما أدى إلى صراعات داخلية بين مجموعات ثقافية مختلفة داخل الوحدة السياسية الجديدة ، وبالتالي مساع ناجحة أو مؤجلة للانفصال وتكوين وحدات سياسية جديدة على أسس من السلالة أو اللغة أو الدين. وفي عالمنا العربي نشهد مثل هذه المساعي الانفصالية في السودان بين الجنوب والشمال - بطبيعة الحال بتداخلات ومؤثرات خارجية سعت إلى ذلك التقسيم منذ بداية الحكم الإنجليزي في السودان، كما يتردد مثل ذلك في بعض مخططات أمريكا وإسرائيل بالنسبة لمستقبل العراق.
مع ترسيم الحدود الجديدة انغلق باب الهجرة إلا من فتحات ضيقة يدخل منها ذوي التأهيل العالي والمكانة العلمية والمالية من شعوب العالم الثالث إلى أمريكا وأوروبا فيما يسمى استنزاف العقول
Brain Drain ، واستنزاف رأس المال للاستثمار في الحوافظ المالية في الدول المتقدمة.
أسباب ذلك كثيرة منها التهيئة العلمية والمعملية والأنشطة الاقتصادية دائمة التطور في العالم الأورو-أمريكي بالقياس إلى ما هو موجود في أوطان العالم الثالث. وباختصار فإن في عصر العولمة «كارت بلانش» أو باب مفتوح للمؤهلين، وباب مغلق وشبه مغلق - موارب - أمام الملايين الأخر من بلاد العالم الثالت. وربما كانت هجرة مسلمي تركيا وشمال أفريقيا إلى أوروبا شاهد على أن الوقت ليس في صالح التقاء الشعوب كما كان في قرون مضت، رغم احتياجهم البعض للآخر. فالأوروبيون يحتاجون عمالة رخيصة لأعمال لم يعودوا يقتربون منها لارتفاع أجورهم وتأميناتهم، وبالمثل يحتاج المهاجرون المسلمون إلى تلك الأعمال؛ لأنها تدر عليهم أضعاف ما يحصلونه في بلادهم إذا وجدوا عملا، ومع ذلك يظل نموذج الهجرة إلى العالم الأورو- أمريكي مفيدا حتى وإن ظلت هناك بقايا عنصرية بغيضة وتنافر بين المهاجرين من سلالات، وثقافات وأديان ومذاهب متباينة.
وفي عالمنا العربي فإن أبواب الهجرة الدائمة أيضا مغلقة بين العرب بعضهم البعض لأسباب عديدة على رأسها العوامل الآتية:
أولا: انقسام الدول العربية إلى فئتين (1)
دول عربية غنية - غالبا الدول النفطية في الخليج وليبيا والعراق - لا تريد مهاجرين وإنما عمالة مشروطة، وربما كان ذلك رغبة في الإبقاء على مستوى عال من الدخل والخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية للسكان الأصليين. ولا شك في أن لذلك مبررات وبخاصة أن معظم هذه الدول قد حدثت فيها تغييرات اقتصادية اجتماعية أدت إلى تركيز متكاثف للسكان المحليين وغيرهم في العواصم ومدن قليلة العدد، وندرة سكانية في المناطق الريفية أو الصحراوية وارتفاع أسعار إمدادات مياه الشرب. وطبيعي أن فتح باب الهجرة سيزيد من مصاعب الحياة في المدن القليلة، وربما يؤدي إلى عشوائيات هي في غنى عنها. ولكنهم في ذات الوقت في حاجة إلى عمالة رخيصة عربية وآسيوية للوفاء بمتطلبات المجتمع الجديد منذ ثلاثة عقود لسببين؛ الأول: قلة أعداد المواطنين، والثاني: تأهيلهم للأعمال الجديدة. السبب الأول ما زال ذو فاعلية بينما تنامى التأهيل بين المواطنين مما يضيق فرص عمل غير المواطنين وبخاصة في الأعمال العليا والإدارة، ومن ثم ما زال الاحتياج إلى عمالة خارجية في المستويات المنخفضة من الأعمال. (2)
من بين الدول العربية ذات المساحات القابلة للسكن المهاجر السودان والعراق. وهما على طرفي نقيض: السودان شاسع يضم بيئات عديدة من الصحاري إلى غابات وحشائش مدارية، ويتميز بمصادر مائية عديدة وأمطار لا بأس بها، لكنه لأسباب كثيرة ما زال فقيرا، فالتنمية الحديثة في الزراعة والثروة الحيوانية لم تبدأ بعد بدرجة معقولة إلا في مناطق محدودة على مياه النيل، وما زال الصراع العرقي والقبلي والديني والإقليمي يقلل من توازن السودان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا مما لا يؤدي إلى جاذبية هجرة دائمة قبل فترة زمنية في المستقبل لسنا بقادرين على التنبؤ بمداها؛ لكثرة المدخلات السودانية الذاتية والتداخلات الخارجية معا.
أما العراق فهو من دول البترول الغنية ويتميز بسهول كثيرة ذات درجة جيدة من الخصب، وموارد مائية معقولة ونشاط زراعي معظمه تقليدي يمكن تنشيطه بدرجة عالية،
1
ولكن ظروفه الراهنة تحت الاحتلال والاقتتال الطائفي تؤجل دوره كجزء فاعل في حركة العرب داخل البلاد العربية. وهكذا كان يمكن للعراق والسودان أن يصبحا صمام أمن عربي باستيعاب هجرات عربية ومصرية بقدر ولو محدود ففقدناه - ليس فقط للأسباب الداخلية والخارجية في كل منهما، بل أيضا لأسباب أخرى جوهرية، نوجزها في الآتي: علينا أن نعترف أنه برغم عروبتنا الثقافية وسيادة العقيدة الإسلامية فإن هناك مكامن للمشاعر القومية الحديثة تحيل المصري والسوري والعراقي والفلسطيني والخليجي والليبي والسوداني ... إلخ. حضاريا إلى قوميات ليس من السهل تجانسها وتظهر معالم تعصبها عند أول اختبار. وهذا التزاحم حول قومية وحدود مستوردة لم تكن في طبائع الأمور بهذا القدر من الفجاجة، مما يجعل إقامة المهاجرين عسرة تعتريها ذبذبات كثيرة برغم الترحيب الرسمي للدولة بالمهاجرين. غالب المهاجرين نشطاء لتبرير وتثبيت وإنجاح هجرتهم، ولكن النجاح الذي يحققونه يصبح في أحيان كثيرة مثار حفيظة تولد احتكاك مع المواطنين الأصليين ترتب عليه أحداث مؤسفة محزنة معروفة. والخلاصة أن الهجرة لا تنجح لمجرد التسهيلات الرسمية من جانب حكومات المهجر، بل يجب أن يلحق ذلك تأهيل للمواطنين والمهاجرين على العيش معا؛ لأنهما سيكونان نسيج المواطنة الجديد، وهو ما لم يحدث بفعل خارجي لمنع التآلف بين الناس؛ لأنه يهدد مصالحهم أو وجودهم في الشرق العربي.
ثانيا: الاحتمالات المسموحة لحركة الناس بين الدول العربية
لهذا فإن هجرة العمل المؤقتة إلى البلاد البترولية هي أكثر أشكال الهجرة نجاحا؛ لانتظامها في أشكال قانونية سواء من دول منبع العمالة أو الدول المستوردة لها. ولقد أدت هذه الهجرة إلى تأجيل بعض المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها دول المنبع، لكنها أدت إلى أنواع من المشكلات الاجتماعية الاقتصادية تعاني منها هذه الدول حيث لم تكن هناك أجهزة وإرشادات لحسن التصرف في المدخرات التي يأتي بها العامل من الخارج، فضلا عن نهب جوانب من المدخرات بواسطة مغامرين تحت مسمى «توظيف الأموال». كما أن هذا النوع من الهجرة المؤقتة هو آخذ في النقصان لسببين؛ أولهما: ما سبق ذكره من تكوين كوادر محلية تحل محل العمالة الوافدة، وثانيهما: تذبذب الدخل الوطني بتأرجح أسعار البترول، والتزام الدول بتشغيل مواطنيها قبل توظيف الوافدين.
ثالثا: الحدود العربية بين البراجماتية والجمود
وأخيرا وليس آخرا فإن تخفيف قيود الحدود السياسية للدول العربية بشكل أو آخر ضمن إطار جامعة الدول العربية والاتفاقيات الثنائية؛ قد يساعد على إيجاد صيغة «الأواني المستطرقة» بين سكان العالم العربي، كما كان الحال دائما في الماضي البعيد وغير البعيد، حين كان السكان ينساحون بدرجات مختلفة على الأراضي العربية. لست أدعو الآن إلى صيغة مماثلة للاتحاد الأوروبي، وإن كان ذلك ممكنا في وقت ما. ففي مستقبل قريب لن تكون هناك عالميا كيانات صغيرة قادرة على العيش المستقل. بل تكتلات كبيرة تضم ثقافات ولغات مختلفة لكنها قادرة على إيجاد إطار متوازن من الأنشطة الاقتصادية المتقدمة يشمل كل المجتمعات داخل التكتل الكبير. ونحن في العالم العربي نملك تجانسا ثقافيا ولغويا تحسدنا عليه مجموعة الاتحاد الأوروبي، وليس في تاريخنا حروبا مميتة وصراعات مزمنة كما كان في أوروبا. كل ما علينا أن نتجاوز بالتدريج التناقضات العربية في الدخل القومي وأشكال الإنتاج وأعداد السكان وتحييد المؤثرات الأجنبية الداعية إلى الإبقاء على الانقسامات، حتى يحدث في النهاية نوع ما من التوازن بين الأقاليم الجغرافية داخل عالم العرب. في هذا الموضوع أقوال وحجج كثيرة مؤيدة ومعارضة معروفة فلا داع لتكرارها. والمطلوب نمو إيديولوجية عربية تجريبية على مهل، بعيدا عن الطنطنات الخطابية، بحيث تنمو بالارتباط التدريجي للمصالح العملية المشتركة بين الدول العربية. ربما يبدأ ذلك بمشاركة الشعوب في اتخاذ القرارات. (ج) الانضباط الذاتي للنمو السكاني
الموضوع الأخير القابل للتحكم والسيطرة داخل مصر هو ما نسعى إليه جميعا لخفض نسبة النمو السكاني على سبيل المثال من 2٪ سنويا إلى 1٪ بالتدريج. كيف يكون ذلك؟ هناك تفسيرات عديدة لانخفاض الخصوبة وضبط الإنجاب من أشيعها: (1)
السكن في المدن باحتياجاته السكنية والمعيشية والتعليمية والوظيفية يساعد على إدراك الناس تدريجيا أن تقليل الإنجاب هو من ضرورات حياة المدن. وباستثناء المدن الحضرية الأربعة
2
فقد زادت أعداد المدن في الدلتا من 51 مدينة عام 1947 إلى 108 مدينة عام 1996، وفي الوادي من 44 إلى 78 مدينة.
3
وفي نفس التاريخ زاد عدد سكان مدن الدلتا والوادي من 12٪ إلى 23٪ وهبط سكان الريف من 70٪ إلى 57٪.
4 (2)
ارتفاع دخل الأسرة والغنى والرفاهية في المجتمع تساعد أيضا على تقليل الإنجاب.
5 (3)
تعليم البنات جنبا إلى جنب مع الذكور مع التشدد في تأخير سن الزواج لكلا الجنسين؛ هما من العوامل الحاسمة في خفض الخصوبة. فمثلا تنخفض نسبة الأمية بين الإناث (+10 سنين) في محافظة القاهرة إلى 31٪ مقابل 44٪ في محافظة الجيزة؛ لأنها تضم قطاعا ريفيا كبيرا ، وكذلك نجد 31٪ في الإسكندرية مقابل 66٪ في محافظة قنا وأسيوط، و40٪ في السويس مقابل 70٪ في المنيا ... إلخ. وهو ما يوضح تأثر المعيشة في المدن على تخفيض أمية النساء مقابل ارتفاعها في الأرياف.
وفي الحقيقة فإننا لا نخصص سببا واحدا في انخفاض نسبة النمو السكاني، بل إن مجموعة الأسباب تتفاعل معا في حالات كثيرة وبخاصة في الدول النامية. وفي بعض الحالات يكون الغنى والوفرة المجتمعية العامة سببا فعالا في استمرار انخفاض الخصوبة إلى درجة خطرة، كما نلاحظه في أوروبا الغربية التي قد تسعى لتعويض التناقص السكاني بتقبل هجرة من شرق أوروبا أو البلقان. أما في بلاد العالم النامية فالأغلب أن سكن المدن وتعليم البنات عنصران متفاعلان في الريف والمدينة لتقليل الخصوبة.
على سبيل المثال فإن النمو السكاني العام في مصر ربما كان اليوم أقل قليلا من 2٪، بينما كان نمو سكان محافظة القاهرة في حدود 1,2٪-1,5٪. ولكن يجب أن نميز بين نمو السكان في أحياء المدينة؛ فهي نسبة نمو عالية في الأحياء الفقيرة ومنخفضة في الأحياء الغنية، وهنا يدخل تفسير الفقر والغنى في ارتفاع أو انخفاض الخصوبة على مستوى أحياء المدينة، وأيضا بين المدينة الريفية أو الخدمية أو التجارية ... إلخ. ففي الريف بصفة عامة نوع من التساند الاجتماعي المعيشي، بحيث لا يجوع لحد الجوع فرد أو أسرة ريفية، فمجال العمل اليدوي مفتوح في خدمة البيوت الغنية كأنه صدقة مغطاة للحفاظ على آدمية الإنسان. أما في المدينة فإن مثل هذا التساند نادر الوجود بطبيعة أن السكان من أخلاط ومهاجر شتى: كل شخص أو أسرة حبيسة تأهيلها في العمل والتعليم.
يمكن أن نستمر في تخصيص الأمثلة التي تدلنا على أن معالجة المسألة السكانية شديدة التشعيب بين المعتقدات الموروثة، واحتياجات الحياة المعاصرة في الريف والمدينة - أيا كان حجمها - على حد سواء. وبذلك تحتاج هذه المسألة العويصة إلى تضافر جهود كثيرة من المفكرين والساسة والمنفذين؛ لكي نخطو قدما قدما وخطوة خطوة على الطريق الصحيح.
ولعله من الأوفق أن تتشارك محليات الأحياء في المدن والقرى في الريف والجمعيات غير الحكومية مع مخطط الدولة العام في تعميم أفكار أن «الأسرة الصغيرة هي الأسرة السعيدة.»
13 / 8 / 1999 (4) تأملات في مسائل السكان والإدارة في مصر والقاهرة
على ضوء كراسات التعداد العام للسكان 1996 الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وبعد قرارات تحليلية متأنية للنتائج العامة وتلك الخاصة بالقاهرة، يعن لي أن أبدي بعض الملاحظات الآتية: (4-1) التقسيم التقليدي للمحافظات
لماذا نستمر على تقسيم الجمهورية إلى أربع محافظات حضر و17 محافظة ريفية في الدلتا ووجه قبلي وخمس محافظات حدود؟ (1)
محافظات الحضر (القاهرة، الإسكندرية، بورسعيد، السويس) علما بأن القاهرة والإسكندرية تضم أراض زراعية مهما كان حجمها، وأن السويس تضم نحو 17 ألف كم
2
من الأراضي الصحراوية والجبلية وقليل من الزراعات، وكذا بورسعيد التي تضم نحو 1200 كم
2
من الرمال والملاحات بينما معمورها الحضري لا يتجاوز مائة كم
2 . وماذا عن الكثافة الحضرية العالية في مدن كالمحلة (+400 ألفا) وطنطا والمنصورة والأقصر (+380 و370 و360 ألفا على التوالي)؟ (2)
محافظات الدلتا وتشمل من الإسماعيلية شرقا إلى البحيرة غربا. الإسماعيلية 52٪ سكانها حضر وركنها الاقتصادي مرتبط أساسا بالملاحة في القناة، وركنها الآخر تمثله المعابر إلى سيناء، وركنها الثالث سياحة وترفيه وركنها الرابع زراعة في شرق وغرب القناة. وبذلك فإن ثلاثة أرباع المحافظة مدني حضري النشاط الاقتصادي، ومع ذلك يصر تقسيم التعداد وتقسيمات وزارة الداخلية، على أنها محافظة ريفية! وتضم الدلتا أيضا محافظة القليوبية على أنها ريفية أيضا مع أن 41٪ من سكانها يصنفون حضرا في التعداد! وكلنا نعرف أن مركزي شبرا الخيمة وقليوب هما بالأساس مناطق حضرية يتركز نشاط سكانهما في أعمال الصناعة والتخزين والنقل. وهي في الأخير جزء متمم للقاهرة الكبرى مرتبطة بها بكل الروابط المهنية والسكنية والثقافية. فكيف تصبح ضمن محافظات الريف؟ وبالمثل فإن مركز كفر الدوار صناعي شديد الارتباط بالإسكندرية سكانا وخدمات. (3)
محافظات الوجه القبلي وتبدأ تقليدا من الجيزة في شريط طويل متعرج إلى أسوان. ولا نعرف لماذا يبدأ وجه قبلي بالجيزة التي تمتد حدودها الشمالية إلى قرب الخطاطبة على فرع رشيد؟ وربما كان الأوفق ضم هذه المنطقة الشمالية من الجيزة إلى محافظة المنوفية. ثم كيف تصبح الجيزة محافظة ريفية ونحو 55٪ من سكانها حضر. والجيزة من القناطر إلى البدرشين والحوامدية كثيفة الاتصال بالقاهرة، بل إن أقسام مدينة الجيزة من المناشي والوراق وإمبابة إلى ساقية مكي والمنيب والهرم وبولاق الدكرور والبدرشين، وقرى المحور من إمبابة إلى 6 أكتوبر هي جزء من منظومة القاهرة الكبرى، وتشكل مناطق سكنية وأماكن عمل متبادلة مع القاهرة عبر النيل. وهي مدينة 6 أكتوبر، والواحة البحرية من أرياف الوجه القبلي؟ والسؤال المطروح هو لماذا لا يبدأ الوجه القبلي بمحافظة بني سويف، وتترك أواسط الجيزة جزء من إقليم العاصمة التي تسيطر عليها تماما؟ (4)
محافظات الحدود وتشمل نحو 95٪ من مساحة الجمهورية. إن هذه التسمية ترجع إلى عصر الإدارة البريطانية في مصر حينما أنشأت لها مصلحة الحدود تهيمن عليها ويمنع المصريون التنقل فيها إلا بتصريح خاص من تلك المصلحة، كأننا ننتقل إلى أراض أخرى ذات سيادة! واستسهالا وتقليدا بيروقراطيا نقلت الإدارة المصرية هذا التقسيم التعسفي، وظلت الحركة في هذه المحافظات غير حرة إلى وقت قريب. لهذه المحافظات أسماء معروفة تاريخية أو جغرافية كسيناء، أو البحر الأحمر، أو الصحراء الغربية التي قسمت بعد مشروع تنمية الواحدات إلى مطروح والوادي الجديد في الستينيات. وربما يعاد تقسيم الوادي الجديد إداريا إلى الواحات وتوشكى والعوينات تمشيا مع المشروعات الجارية الآن. وتتفق هذه المحافظات في اتساع المساحة والتراكيب الرملية والصخرية والوديان الجافة الخطرة وقت السيول والسكن البشري المبعثر البدوي أو الواحي، لكنها الآن تشكل جزءا مرموقا من الناتج المحلي المصري بما تحتويه من ثروات طبيعية مستغلة - البترول والغاز الطبيعي والحديد والفوسفات والأملاح ... إلخ، أو التي يخطط لاستخدامها كطاقة الرياح والطاقة الشمسية أو القرى الصناعية والنقل البحري في شمال خليج السويس وشرق التفريعة أمام بورسعيد، وهي أيضا مجال التنمية الزراعية في سيوة والفرافرة والداخلة وتوشكى وشرق العوينات وشمال سيناء. وهي أيضا المجال الرئيسي للسياحة المحلية والعربية والأجنبية في المشاتي والمصايف على طول سواحل سيناء الشمالية وسيناء الجنوبية وعلى طول البحر الأحمر من العين السخنة إلى مرسى علم والشلاتين وحلايب، وعلى طول الساحل الشمالي من الدخيلة إلى مرسى مطروح. فأين هي إذن صفة الحدود؟ أليس شمال الدلتا حدودا بحرية من بورسعيد إلى الإسكندرية، وبالمثل فإن أسوان هي الأخرى حدودا جنوبية؟ لقد أصبحت هذه المحافظات كل متفاعل مع بقية المحافظات الأخرى وبالتالي فقدت وظيفتها العازلة المنعزلة، فكيف نستمر على تسمية فقدت الكيان والمضمون؟ وإذا كان ولا بد من تسمية جامعة فلماذا لا تسمى «المحافظات الصحراوية».
مقترحات التقسيمات الجديدة
وبناء على هذا فالمقترح الذي قد يتفق عليه الكثيرون أن تتغير هذه التقسيمات التي بلي عليها العهد وما زلنا نمارسها تقليدا دون نظر أو تمحيص وتحليل مستقبلي، فهي ليست تقسيمات أزلية. فلسفة الفصل بين المعمور الزراعي والعمران الحضري والصحراوي ربما كانت لها مبرراتها الماضية، لكن التكاملية واضحة ومطلوبة في القرن القادم لسلامة وسلاسة الأداء الاقتصادي والإداري والسياسي للدولة. المشكلة ليست أي التقسيمات هي الأرجح، وإنما الشيء المهم أن نتفق على مبدأ التغيير. وكإسهام مني أقترح التقسيمات العامة الآتية بدلا من حضر ووجه بحري وقبلي وحدود - علما بأنها قابلة للتأييد أو الرفض أو التعديل حسب الإجماع. (1)
محافظات الشمال: تشمل سيناء الشمالية والجنوبية ومحافظات القناة الثلاث ومحافظات الدلتا والإسكندرية ومطروح، ونستثني من ذلك جنوب القليوبية. ومجموع هذا القسم يشتمل على ثلث مساحة الجمهورية ونصف سكانها. (2)
محافظات الوسط: تشمل القاهرة الكبرى ومحافظات الجيزة وبني سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وواحتي البحرية والفرافرة. ويشتمل هذا القسم على نحو عشر مساحة مصر و38٪ من سكانها، وهو دليل على التشبع السكاني بما لا يتطلب مزيدا من مشروعات الإسكان إلا بقدر يسير، أو بالتناقص بالهجرة إلى أماكن أخرى في الجنوب أو الشمال. (3)
محافظات الجنوب: تشمل محافظات البحر الأحمر وسوهاج وقنا وأسوان والوادي الجديد الحالي وما قد ينقسم إليه من وحدات إدارية جديدة. ويشتمل هذا القسم على نصف مساحة الجمهورية و12٪ من السكان. ويعني هذا وجود إمكانات للتنمية إذا توفرت شروطها المادية والتمويلية في مساحات معقولة وعدد من النقاط محدود؛ بسبب ندرة المياه التي تعاني منها مصر والتي هي عنصر طبيعي محدد وملزم.
وعلى أي الحالات نرجو أن تتفق كل الهيئات المعنية وعلى رأسها وزارات الداخلية والتخطيط والمالية والضرائب والإعلام وجهاز التعبئة والإحصاء ومركز دعم اتخاذ القرار، على شكل جديد من التقسيمات؛ لأنه سوف يساعد على سيولة المعلومات والتعامل معها بالصورة الكمبيوترية والمحاسبية والإدارية والتعليمية والصحية ... إلخ. (4-2) حول مساحة مصر والمحافظات (1)
ورد في تعداد 96 أن مساحة مصر 997738 كيلومتر مربع، فهل يشتمل هذا الرقم على مساحة مثلث حلايب البالغة نحو 18 ألف كم
2 ، وفي قول آخر نحو 12 ألف كم
2 ؟ إذا لم يكن الأمر كذلك فإن مساحة مصر تصبح نحو 1015738كم
2 . وفي مصادر الأمم المتحدة تظهر مساحة مصر على أنها 1019600كم
2 ، وأحيانا 1001450كم
2 !
برجاء تحقيق رقم المساحة الكلية والتنويه به في المنشورات الرسمية القادمة، فمن العيب أن تتضارب أرقام المساحة ولو كيلومترا مربعا واحدا! (2)
ما زال التعداد بحسب المساحات التقليدية للمحافظات، بينما تظهر أرقام مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار لسنة 1995 مساحات أخرى أقرب إلى واقع متغيرات الحدود الإدارية لبعض المحافظات. وتتضح فروق المساحة من مجموعة الأرقام الآتية: (3)
القاهرة 214كم
2
في التعداد مقابل 457كم
2
في أرقام مركز المعلومات. والرقم الأخير أوفق باعتبار التوسع العمراني الملحوظ إذا كان المقصود مساحة الأراضي المبنية. فالمعلوم أن محافظة القاهرة تمتد إلى قرب منتصف طريق السويس، بمعنى أن مساحتها قد تبلغ عدة آلاف من الكيلومترات المربعة. الإسماعيلية 1441كم
2
في التعداد مقابل 4483 في أرقام مركز المعلومات، وبورسعيد 72كم
2
مقابل 1351كم
2 ، وكلتا المحافظتين قد أضيفت إليهما أراض من سيناء الشمالية شرق القناة. دمياط 589 مقابل 1029، كفر الشيخ 3437 مقابل 3748، بني سويف 1321 مقابل 9576، الفيوم 1827 مقابل 4949، قنا 1850 مقابل 12734، أسوان 678 مقابل 34608كم
2 . فأي الأرقام صحيح؟ علما بأن محافظات الصعيد زادت بضم مساحات كبيرة من الأراضي الصحراوية إليها، سواء على حساب محافظة البحر الأحمر أو محافظة مطروح. فهل كان ضم هذه الأراضي بعد، أو أثناء الدراسات المسحية لأجهزة تعداد 1996؟
وعلى أي الحالات هل يجوز للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وهي الهيئة الرسمية العليا للتدقيق والإحصاء، تجاهل ما حدث من تعديلات في حدود المحافظات والتساهل باعتماد الحدود القديمة كأن شيء لم يكن، خاصة وأن نشر البيانات الأولية وغيرها قد تأخر ما يزيد عن عام كامل ليصل إلى القارئ؟! (4-3) هجرة سكان وسط القاهرة
وسط القاهرة تعني القاهرة الفاطمية المملوكية، وقاهرة الخديو إسماعيل ومن خلفه من الملوك إلى الأربعينيات، وهي ما نسميه الآن وسط البلد. وبذلك فهي تشمل الأقسام من باب الشعرية والجمالية والدرب الأحمر في الشرق إلى بولاق ومصر القديمة في الغرب، شاملة أقسام الموسكي والأزبكية وعابدين والسيدة زينب والخليفة. كان سكان هذه المنطقة من ثلاثة أرباع قرن يشكلون 74٪ من سكان القاهرة، والآن هم يشكلون 13٪ فقط. ففي 1927 كان عددهم 786 ألفا، زادوا إلى مليون و210 ألفا في 1986، ثم انخفض العدد إلى 897 ألفا في 1996 أي عود على بدء في سبعين عاما!
هذه الحقيقة الرقمية توضح أن هذه المنطقة المركزية قد تشبعت سكانا بما فيه الكفاية، وأن الزيادة السكانية وبعض السكان المقيمين يهاجرون إلى خارجها في اتجاه أحياء الشمال والغرب والجنوب والشمال الشرقي من القاهرة الكبرى. ودليل ذلك انخفاض عدد سكان أقسام المنطقة المركزية كما هو واضح من الحالات الآتية في عشر سنوات (86-1996): باب الشعرية من 79 إلى 60 ألفا بانخفاض ربع السكان، الجمالية من 90 إلى 59 ألفا بانخفاض ثلث السكان، الدرب الأحمر من 105 إلى 78 ألفا (−26٪)، السيدة من 199 إلى 155 ألفا (−22٪)، الأزبكية من 45 إلى 30 ألفا (−33٪)، الموسكي من 43 إلى 29 ألفا (−33٪)، عابدين من 63 إلى 49 ألفا (−22٪)، بولاق من 124 إلى 75 ألفا (−40٪)، والزمالك وقصر النيل معا من 40 إلى 29 ألفا (−27٪).
وفي الخمسينيات إلى الثمانينيات كانت هناك هجرة كثيفة إلى كل أقسام منطقة شبرا بحيث بلغ عددهم مليون وثلث المليون، لكن هجرة مضادة حدثت بين 86 و96 وانخفض العدد بمقدار مائتي ألف نفس، وهو الوقت الذي زاد فيه سكان منطقة شبرا الخيمة بمقدار نحو 160 ألفا (714 إلى 871 ألفا = +22٪). وزاد سكان محور القبة-المرج بمقدار نحو 450 ألفا، ومحور البساتين-حلوان بمقدار 400 ألف، وكذلك كانت الزيادة أقل قليلا من 400 ألف في مدينة الجيزة بأقسامها المختلفة. وكانت أكبر زيادة هي محور الشمال الشرقي من مصر الجديدة إلى مدينة نصر وما حولهما من الأقسام، فبلغت نحو ثلاثة أرباع المليون للفترة نفسها.
وفي الحقيقة إن هجرة السكان من المنطقة المركزية كانت قد بدأت في الستينيات، ولكن بقدر محدود لم يزد عن خمسة في المائة فقط في أقسام الموسكي والأزبكية وباب الشعرية وقصر النيل فقط. أما هجرة 86-96 فقد تراوحت بين 22 إلى 28٪ في السيدة زينب والدرب الأحمر وباب الشعرية وقصر النيل، وبين 33 إلى 35٪ الجمالية والموسكي والأزبكية، وبلغت أقصاها في بولاق 40٪.
وتعد الهجرة عامة لأسباب عديدة منها قدم المباني وانهيار بعضها أو تهدد بعضها بالانهيار، وعدم الوفاء بمتطلبات الحياة العصرية من البنية التحتية في الحارات والشوارع الضيقة، وتطلع الأسر الجديدة إلى وحدات سكنية حديثة. ولكن إلى جانب ذلك يجب أن نعرف أن احتياج شركات الأعمال إلى مبان كبيرة وتغير شكل الأسواق والمحال التجارية من الدكاكين إلى «سوبر ماركت» ثم إلى ال «مول»، والبنوك الجديدة والفروع الكثيرة للبنوك الأقدم، كلها تأخذ نصيبا محترما من تحويل المناطق السكنية القديمة إلى مناطق عمل وخاصة في أحياء عابدين وقصر النيل وبولاق.
وحبذا لو كانت استمارة التعداد قد أكدت على تسجيل محل مولد الأفراد من أقسام القاهرة وليس المحافظات فقط. حينئذ يمكن دراسة عدد المهاجرين مثلا من عابدين أو الجمالية ويسكنون وقت التعداد في حلوان أو العجوزة أو مدينة نصر. وبمثل هذه الصورة نتتبع موجات الناس وحركتهم السكنية داخل محافظات القاهرة الكبرى. وينطبق هذا أيضا على كل أشكال الهجرة في الجمهورية؛ لأنها الشغل الشاغل لمشاكل مصر المعاصرة بدون جدال. وبتتبع بعض استبيانات استمارة التعداد يمكن فعلا التعرف على أسباب الحركة السكانية: هل هي بسبب تغير مكان العمل، أو ارتفاع الدخل؟ مما يتطلب السكن في حي أحدث، أو تقوض السكن الأصلي لقدم الأبنية ... إلخ، ولو كانت الاستمارة تحتوي على هذه البيانات فالحاجة ملحة لنشرها في كراسات منفصلة تفيد المخططين والاجتماعيين والديموجرافيين والجغرافيين، وتساعد على تبين حقيقة الدوافع للهجرة واتجاهاتها، ومن ثم العمل التخطيطي الموازي لها بحيث يقبل عليه الناس؛ لأنه يلبي احتياجاتاهم، وذلك تماما عكس الجاري حاليا من إنشاء أحياء في أماكن متباعدة باسم إسكان الشباب أو الزلزال أو إيواء العشوائيين، لكن نسبة إشغالها تظل منخفضة؛ لأنها، وإن كانت تلبي احتياج السكن، إلا أنها لا تلبي احتياج السكان من الخدمات الأساسية والاجتماعية فضلا عن بعدها المكاني عن أماكن العمل المتاحة، مما يستقطع قدرا كبيرا من موارد الأسر المالية في الإنفاق على الانتقال والحركة اليومية.
هل نستفيد من مقولة أنه «إذا ترك الناس لحالهم فإنهم سوف يضبطون أحوالهم.» التخطيط هو أن نعرف اتجاهات الناس ونحاول حثهم على التوجه إليها لتجنب تجارب الخطأ والصواب، وليس إجبارهم على مخطط مرسوم أصلا في مكتب سواء كان المخطط وحدة سكنية أو حي جديد في لا مكان!
إن الإخلاء الاختياري لسكان المنطقة المركزية يعطي الفرصة الذهبية للمخططين لتحديثها بإعادة تخطيط واستخدام الأرض في هذه المنطقة الحيوية، بديل بقدر كبير عن الاتجاه إلى إنشاء مدن وأحياء جديدة في أطراف القاهرة، كالقاهرة الجديدة وبدر والشروق ... إلخ، قيمة الأرض في القاهرة المركزية عالية جدا وسوف تزداد ارتفاعا إذا ما نفذ مخطط رئيسي لإعادة تأهيل المنطقة بكافة أشكال البنى التحتية ذات الطاقات المستقبلية، بما فيها شق وتوسيع الطرق التي كانت كافية للحركة منذ نصف قرن، والآن هي مكتظة لدرجة الانفجار الحقيقي. (5) بين المحافظة والتجميل والوجه الحضاري
المتصور في مثل هذه الأعمال التحديثية الحفاظ المتشدد على مجموعات الأبنية الأثرية التراثية في القاهرة الفاطمية المملوكية، سواء كان ذلك مساجد وأضرحة وخانقاوات وأسبلة، أو بيوت وأرباع وخانات ووكالات وأسواق وطرق وحارات مسقوفة، وبقايا أسوار المدينة ومشاغل الحرف التقليدية. وفي مقابل ذلك إزالة الأبنية الحديثة التي تمثل نشازا معماريا يؤذي العيون المتأملة المستغرقة في صفحات التاريخ التي ترسمها هذه الأبنية التراثية. ويمكن أن تحل محلها أبنية حديثة يشترط أن تأخذ الطابع المعماري التراثي في واجهتها على الأقل، كما حدث مؤخرا في ميدان الأزهر-الحسين. أو تحل محلها حدائق ونافورات تعيد ما كانت عليه هذه المدينة التاريخية من بهاء ورفعة.
أما في بقية المنطقة المركزية الحالية (CBD) Central Business
، أو كما يقول الأمريكان:
Down Town
أي قاهرة أواسط القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن الحالي، فالمطلب الأساسي هو تجميل الشوارع، وإعادة تظليلها بالأشجار؛ لكي يتمكن الناس من الحركة على الأقدام بين المحال التجارية حتى في أيام الصيف الحار. هناك فرق بين الاستخدام الشائع الآن «الوجه الحضاري» وبين التجميل الشامل المتناسق لشارع أو ميدان أو منطقة، وهو ما يعرف باسم
Landscaping
بمعنى التنسيق والتناسق، وله خبراؤه ونظرياته وتطبيقاته، بما في ذلك الأخذ بعين الاعتبار لمسلك طرق النقل العامة والخاصة، وربما هذا ما نفتقده في استعادة ما كان عليه الحال في وسط البلد أو قريبا منه حفاظا على العراقة. الحدائق شيء هام افتقدناه بتقطيع أوصال حديقة الأزبكية وإزالة حديقة ميدان رمسيس. ميدان التحرير الآن كتلة من الأسفلت شديدة الازعاج مفتقرة إلى الجمال ويمكن لمهندسي اللاندسكيب ترويضها بأنواع معينة من الأشجار ذات الألوان وارفة الظلال وأحواض الزهور ومتسعات الحشائش والجازون. ومع بعض النافورات ذات التماثيل المستمدة من أساطير التراث المصري العريق أو الشخصيات المحورية في حياة مصر قديما وحديثا سوف يتحول ميدان التحرير إلى درة جمالية بين أبنية متعددة الطابع المعماري: المتحف المصري روماني العمارة، والمجمع ومجموعة الفنادق حديثة الطابع وقصر الخارجية القديم ذو الطابع الأوروبي للقرن الماضي، بينما تمثل أبنية جامعة الدول العربية والجامعة الأمريكية الطراز المعماري الشرقي، وقوس من العمارات المتناسقة معماريا ترجع إلى أوائل القرن. ويمكن أن تمتد عمليات التجميل إلى ميدان الأزهار وباب اللوق وميدان قصر عابدين أكبر قصور مصر وربما أروعها، بحيث تكون النتيجة طريق أخضر «بروميناد
» يصبح ممشى جميل من عابدين إلى التحرير.
وعلى هذا النحو يمكن أن يعمل مهندسو الجمال في شوارع رئيسية كالقصر العيني ونوبار وشريف وعماد الدين/محمد فريد وسليمان باشا/طلعت حرب و26 يوليو، وميادين باب الخلق والسيدة زينب والسيدة عائشة وابن طولون وميدان القلعة وشوارع محمد علي والجيش والأزهر وعبد العزيز. ميدان العتبة الخضراء كان من أجمل الميادين وتقلب عليه الزمن كثيرا بين الإهمال والتخضير والهدم والبستنة. ونأمل تخضير هذا الميدان وتشجيره مرة أخرى بعد انتهاء أعمال النفق - وربما رفع كوبري الأزهر العلوي؛ لكي يشكل مع ما تبقى من حديقة الأزبكية وميدان الأوبرا رئة خضراء واسعة في خضم حركة وسط المدينة بضوضائها وتلوث جوها.
6
توسيع الشوارع ليست عملية مستحيلة، وما صنعته محافظة القاهرة في عدد من الشوارع القديمة أمر مشكور يحتذى. والمثال الحي هو تحويل شارع السد عند مسجد السيدة زينب من شارع ضيق فأصبح شريانا واسعا يستكمل شارع الخليج إلى فم الخليج. وكذلك تتم عمليات التوسيع المستمرة في قطاعات من شارع الخليج من السياح إلى غمرة وميدان باب الشعرية الذي يحتاج إلى تحسين وتجميل وتشجير كثير.
لكن هذا أو ذلك من أعمال اللاندسكيب لا يجب أن يتم عشوائيا مرة في العتبة ومرة في باب الخلق وأخرى عند الإسعاف ... إلخ، بل يجب أن يكون لدينا من الصبر والتؤدة ما ينتهي بمخطط شامل
Master Plan
على الأقل لكل وسط القاهرة من السيدة زينب إلى باب الحديد، على أن يتم التنفيذ على مراحل وأماكن مترابطة لغرضين: أولهما: التجميل العقلاني، والثاني: تسييل حركة المرور لتجنب الارتباك الاختناقي الحالي الذي يمرض هذه المدينة العاصمة - أو إن شئت هي مدينة النور في الشرق الأوسط، وإن احتاجت إلى تنظيف زجاجها من أتربة وكدر لكي يغمر إشعاعها الحضاري مساحات واسعة ...
ديسمبر 2005 (6) مسلمون وأقباط
مصر خلال آلاف السنين لم تعرف من التعصب سوى للمواطنة يلخصه نشيد الفنان الخالد سيد درويش «أنا المصري سليل ...» فكل الذين يعيشون على أرضها مواطنون بغض النظر عن السلالة واللون والدين. ومصر اليوم هي نتاج ذلك التاريخ الطويل. ومكوناتها متعددة نتيجة نمط الحياة بين الفلاحين والبدو على أطراف الصحاري وفي أغوارها، ومنها الفلاحون في الدلتا مقابل أهل الصعيد في الوادي، ومنها غالبية المستقرين في مقابل سكان الواحات وفي مقابل سكان النوبة، وأخيرا منها وربما على رأسها اختلاف الناس بين الإسلام والمسيحية القبطية التي هي قلبا وقالبا مسيحية مصرية أولا وأخيرا بحكم الآباء القدامى للكنيسة المرقصية، والتاريخ الطويل تحت ظل اضطهاد مسيحي من كنائس أخرى وتحت ظل الحكم الإسلامي أربعة عشر قرنا من الزمان.
ما زالت الفروق بين البداوة والزراعة محسوسة، وكذا الاختلاف بين أهل الواحات وبقية سكان الوادي والنوبيين وغيرهم من المواطنين. وقد استعلى المصريون على الكثير من هذه الفروق بما يعرف في الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا باسم «علاقة النكتة
Joking relationship » - وهي معروفة لا تحتاج لتبيان وخاصة تلك حول جدية أهل الصعيد أو سذاجة الريفي البسيط سواء كان مسلما أو مسيحيا، ويتقبلها الجميع برحابة صدر.
ولكن الفروق بين مسلم وقبطي نالتها تقلبات بين التصعيد والتوتر، أو المهادنة والإخاء في فترات معينة، وهو ما يحتاج الكثير من التقصي للتعرف على أسباب التوتر الذي يشوب من حين لآخر علاقات الحياة المتآلفة معظم الوقت. فهم يعيشون جنبا لجنب في القرية والمدينة وفي الوظائف وفي شتى الأعمال. والتفريق بينهم صعب في أي من ملامح الثقافة والسلالة والملبس والغذاء، والاهتمام بالدين والحياة الأخرى، وكثير من طقوس الحياة الاجتماعية باستثناء التفرقة بين صلوات الجمعة والأحد. والعلاقات عادة حميمة بينهم بغض النظر عن فرقة الجمعة والآحاد - الأصول واحدة بغض النظر عن دعوى أن الأقباط سلالة الفراعين، فقد امتزجوا باليونان والرومان أزمانا، وأيضا عدم صحة أن المسلمين سلالة العرب أو غيرهم من الوافدين والمستقرين في مصر، فهم في غالبيتهم الساحقة من ذات الأصول التي نشأ عنها الأقباط. وهو ما ينفي ادعاءات نقاء جنس وسلالة؛ لأن الناس تعيش في محيط وليس في جزر منعزلة!الحقيقة المؤكدة أنهم أقباط ومسلمون ينحدرون في أكثر من ثلاثة أرباع أصولهم من قدمائنا الأمجاد الذين اختلطوا بغيرهم بنسب محدودة طوال آلاف السنين.
ومثل بعض النوبيين الذين ينفتحون لدعاوى خارجية فإن بعضنا مسلمين وأقباطا منفتحون على دعاوى أخرى يستمدونها من سلف كانت لهم ظروفهم ولا يمكن بحال انطباقها على أحوال اليوم. ليس معنى هذا أن تغييرا قد حدث في مبادئ الديانات والعقائد، لكن ما شرعه وفسره الناس في الماضي كان استجابة لظروفهم التي اختلفت عن أسلافهم، وما نأخذه منهم يجب أن يكون ملائما للعصر وما فيه من مستجدات. وأكبر المستجدات أن العالم الآن يتفاعل مع أحداث في أماكن قصية في ذات الوقت للأحداث، بينما كانت علاقات الناس في الماضي تقتضي شهورا لكي ينتقل خبر من مكان لآخر مضاف إليه تفسيرات وروايات تجعل الخبر صغيرا وتضخم الرؤية تماما، كما كانت الحواشي تطغى على المتون وتسلبها ما أراد مؤلفها من إبلاغ معرفة أو عظة ...
ولحسن الحظ أن الإسلام والمسيحية فيهما من التقارب والأصول المشتركة الشيء الكثير - على عكس الفروق الكبيرة بين ديانات أخرى كالهندوسية أو البوذية - وهو ما جعل التعاطف سياسة أصيلة. فالإسلام حض على ذلك التفاهم والتعاطف وفي القرآن الكريم من الآيات ما يبين ذلك.
فما الذي حدث أو يحدث ليقض مضاجع المواطنة المصرية وسلام الجيرة، ويثير ما أثير ويثار من تنافس قد يصل إلى البغضاء؟
معروف أن لكل فعل رد فعل وأن ظهور الكثير من غلاة التشدد في تنظيمات أو جماعات تتسم بصيغ ومسميات إسلامية يقابله نفس الشيء بين دوائر من الأقباط. بناء كنيسة يرد عليه في الحوار بناء جامع وهكذا دواليك ... ومن ثم ندخل «دائرة رديئة
Vicious circle » تطحن الهواء لكنها تثير جدلا أخطر في صورة قصص وتفسيرات تؤجج عواطف تسخن وتتصاعد إلى تساؤلات لسنا في حاجة إليها وقت الغضب.
وأول التساؤلات: «كم عدد الأقباط؟» ويليها «هل أعداد الكنائس متناسبة مع عدد الأقباط؟» وما هي المراسم واللوائح لكي تصدر الموافقة على بناء كنيسة وما هو الخط الهمايوني؟ وهل يمكن الفكاك منه؟
واستطرادا يلي ذلك «كم هي نسبة الوظائف العليا التي يتولاها أقباط - هل هي متناسبة مع العدد أم أقل أو أكثر؟» وغير ذلك قضايا عديدة ...
عدد الأقباط مشكلة فعلا. في التعدادات القديمة كانت هناك أرقام للأقباط في التعداد ولكن التعدادات الأخيرة حدث تجنب لها - لماذا؟ هل وراء ذلك فلسفة المواطن بغض النظر عن الدين، أم هو تجنب لحساسية ما من جانب الأقباط إذا كان الرقم صغيرا، أو من جانب المسلمين إذا كان رقم الأقباط كبيرا؟ وحتى لو ذكرت أرقام ففي الغالب سوف يسود نقد من نوع آخر مفاده أن هذه أو تلك هي أرقام «مسيسة» بمعنى تدخل السياسة لسبب أو أمر ما. والخلاصة أننا في متاهة من لا يعجبه العجب.
ولا شك في أن الحل الأقرب إلى التعقل وحسم الأمور هو إظهار الأرقام الفعلية والنظر إلى واقع الأمور بعين مجردة، فلا يحدث ما يحدث الآن من تضارب رقمي وبلبلة يؤججها المضاربون ، بينما نحن في غنى عنها ويكفينا أن الكل سواسية أمام الوطن سواء كانت النسبة 10٪ أو 12٪ أو 15٪. ليس هذا هو المهم فالمهم أن ننشر رقما رسميا وكفى. ففي الدول المتقدمة تذكر أعداد المؤمنين بعقائد أو بغير عقائد وأتباع المذاهب والفرق الدينية، فهو ليس بالسر الخطير الذي يهدد استراتيجية دولة. بينما في العالم النامي نجد الفقر وعوامل أخرى داخلية وخارجية تتكالب لتسييس أعداد أتباع دين أو آخر.
ونحن في الماضي القريب لم يكن لدينا هذا الهاجس الديني الذي يستشري أحيانا في عقودنا الأخيرة. وأخطر ما فيه هو المطالبة بنسبة في الوظائف العليا والعامة تتناسب مع عدد الأقباط أو المسلمين. ذلك أن هذا المطلب سيؤدي بكل تأكيد إلى فرقة أبناء الشعب الواحد إلى أكثرية وأقلية وهو وضع غير مبرر علميا وحضاريا. فللأقليات أوضاع وأسس غير واردة في مصر بين عنصري الأمة، حيث لا توجد ثقافات ولا لغات ولا سلالات ولا عرقيات مختلفة، الاختلاف الديني هو الفارق الوحيد، وحتى هذا هو اختلاف أديان وحدانية الإلوهية. هذا فضلا عن تشابه بعض الطقوس والممارسات الشعبية لكونها مستندة إلى تراث قديم كما أسلفنا.
إن المزيد من الفرقة حول الوظائف وقيمة هذه أو تلك من الوظائف تقود إلى ثغرات في نسيج الشعب تتسع شيئا فشيئا لتمزيق الوحدة الوطنية التي نباهي بها سائر الأمم: أننا أول وأصلب وطن لكل الثقافات والأديان في العالم. فإذا حدث ذلك التمييز والتمزيق فإننا الخاسرون جميعا مسلمين وأقباطا، وكأننا «نلعب في الوقت الضائع» - بلغة كرة القدم.
ولا شك في أن نمو النظم الديموقراطية المأمولة حاليا في مصر ستسد الكثير من جوانب التمييز الطائفي وتعالج قضايا كثيرة بالمشاركة الإيجابية من الجانبين في ميادين الحياة السياسية فتصبح كما هو الحال في ميادين أخرى حاليا في العلوم والاقتصاد والتجارة والاستثمار ... إلخ، حيث يتعايش الناس ويتعاملون جنبا إلى جنب بدون حساسيات اختلاف الديانة في شتى مناحي الحياة.
ديسمبر 1997 (7) ثلاثون عاما من دعوات المؤلف إلى تغيير أقاليم مصر الإدارية
تقديم لموضوعات الأقاليم الإدارية والحكم المحلي
في 1972 كتبت مقالا مطولا نشر في مجلة «الطليعة» الشهرية التي كانت تصدر عن الأهرام (عدد 7 السنة الثامنة يوليو 1972) عن مشكلات القاهرة وضرورة نقل العاصمة السياسية إلى مكان آخر هو بالتقريب مكان مدينة السادات الحالية. ومن خلال مناقشة الأوضاع تطرقت إلى أن نقل العاصمة يتضمن تقليل المركزية، وتنمية الحكم المحلي في أقاليم سبعة أسماها حكومات محلية، وهي:
حكومة مصر العليا: «وتشمل محافظات أسوان وقنا وسوهاج وأسيوط والوادي الجديد والقسم الجنوبي من البحر الأحمر».
حكومة مصر الوسطى: «المنيا وبني سويف والفيوم وجنوب الجيزة وواحة البحرية».
حكومة القاهرة: «القاهرة ووسط وشمال الجيزة وجنوب القليوبية حتى القناطر».
حكومة القناة: «بورسعيد والإسماعيلية والسويس وسيناء وشمال البحر الأحمر».
حكومة شرق الدلتا: «الشرقية والدقهلية ودمياط ووسط وشمال القليوبية».
حكومة وسط الدلتا: «المنوفية والغربية وكفر الشيخ».
حكومة غرب الدلتا: «الإسكندرية والبحيرة والصحراء الغربية».
وفي 1990 نشر المؤلف بحثا بعنوان «الجغرافيا وتخطيط الأقاليم الإدارية في مصر» ضمن كتاب عن قسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة الإسكندرية (نشر دار المعارف، الإسكندرية). وفي هذا البحث استمر المؤلف على المطالبة بتغيير الأقاليم الإدارية؛ لأنها ليست شيئا خالدا بل يعتريها التغيير من حين لآخر حسب مقتضيات الأحوال التي تمر بها مصر. وقد غير المؤلف بعض المفاهيم والتسميات التي وردت في بحثه عام 1972، فتراجع عن تسمية «حكومة» إقليمية لما لها من حساسية لدى الحكومة المركزية، ولم يستبعد تسمية «الإقليم» باسم «محافظة» وإن كان له اعتراض على مفهومها - المحافظة قد تعني بالأساس الشئون الأمنية وتبعية أساسية لوزارة الداخلية وإن أضيف إليها أعباء كثيرة أخرى في شئون المجتمع والخدمات. ثم زاد إقليما ثامنا حول منطقة النطرون في حال إنشاء عاصمة سياسية جديدة لمصر. والأقاليم التي ذكرها أصبحت كالتالي: (1)
إقليم السويس: «شاملا محافظات القناة الثلاث ومحافظتي سيناء وشمال البحر الأحمر». (2)
إقليم الشرقية أو الشرق: «الشرقية والدقهلية ودمياط والقليوبية». (3)
إقليم الدلتا: «المنوفية والغربية وكفر الشيخ». (4)
إقليم مريوط أو الغرب: «البحيرة والإسكندرية ومطروح». (5)
إقليم القاهرة: «ويشمل القاهرة الكبرى في محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية». (6)
إقليم مصر الوسطى: «الفيوم وبني سويف والمنيا والبحرية والفرافرة». (7)
إقليم الصعيد: «أسيوط وسوهاج وقنا والوادي الجديد ووسط البحر الأحمر». (8)
إقليم أسوان: «يمتد من البحر الأحمر الجنوبي حتى العوينات والجلف الكبير».
وهو يؤسس التشكيل الإداري المقترح على مجموعة من العناصر أهمها تقليل التباين والفروق في المساحة وأعداد السكان التي تتصف بها المحافظات الحالية، مع إيجاد نوع من التكامل الاقتصادي الذي تؤهله مقومات الأرض وعلاقات المكان. ويعطي مثالا تفصيليا عن التكامل الذي يمكن أن يصوغ إقليم السويس من حيث مصادر البترول والعلاقات البحرية الدولية والمقومات السياحية ومناطق الصناعة والتجارة الحرة وشبكة طرق جيدة في سيناء والقناة. بينما تتميز الشرقية أو الدلتا بالتركيز على الإنتاج الزراعي وصناعات الأغذية ... إلخ. أما أسوان فهو يفرد لها إقليما خاصا؛ لما تتصف به من مجموعات قبلية متعددة ووجود بحيرة ناصر والسياحة الفريدة والمشروعات التنموية.
وفي 1999 واصلت الاهتمام في بحث باسم «تقسيم إداري جديد لمصر»، نشر في أعمال «ندوة الأقسام الإدارية في مصر» التي نظمتها لجنة الجغرافيا في المجلس الأعلى للثقافة. وفي هذا البحث أسميت الأقاليم بنفس الأسماء التي ذكرتها في 1990 مع تغيير اسم السويس إلى إقليم سيناء-السويس، مع جداول توضح حجم المساحة وعدد السكان في الأقاليم المقترحة بالقياس إلى المحافظات الحالية. فأكبر الأقاليم ستكون مصر العليا نحو 300 ألف كيلومتر مربع مع عدد من السكان يبلغ نحو عشرة ملايين فرد، بينما في التقسيم الحالي تبلغ مساحة محافظة الوادي الجديد نحو 376 ألف كم مربع يقطنها قرابة مائة ألف فرد فقط. وبالمثل مساحة إقليم الغرب سيكون 225 ألف كم يسكنه نحو تسعة ملايين مقابل محافظة مطروح الحالية ومساحتها 212 ألف كم ويسكنها أقل من ربع مليون شخص.
وأيا كانت الأقسام الجديدة فإن أسباب التغيير الإداري ترجع إلى الرغبة في إيجاد مسطح من الأرض، وعدد من الناس يكفي للتشغيل الاقتصادي والمعاش الأكثر تلاؤما مع احتياجات العصر، ويعطي فرصا للعمل داخل الأقاليم ويسهم في تكوين رأي عام محلي وقيادات فكرية مجتمعية داخل إطار من الحكم المحلي المرتبط مباشرة بالأرض والناس، وهو ما يساهم في النهاية على تحجيم تيار الهجرة إلى القاهرة والمدن الكبرى ويوقف نمو العشوائيات التي هي مرقد التطرف في كل الاتجاهات: السياسية والخلقية والقانونية وأشكال الجريمة.
وفي الختام «إن أي تغيير في شكل الأقسام الإدارية ليس هو الحل السحري لتحسين الأحوال، ولكن تشكيل أقاليم كبيرة ذات كيانات مفوضة في اتخاذ القرار هو الحل التدريجي في تنمية الإدارة وتنمية الديموقراطية ببرلمانات إقليمية ممثلة بصورة أكثر فعالية للناس من أجل محاولة إيجاد الصيغ الملائمة للدخول إلى القرن القادم.»
وأخيرا في سنة 2001 يعود المؤلف مجددا إلى تأكيد أهمية موضوع إعادة صياغة التقسيم الإداري في كتابه المعنون «القاهرة: نسيج الناس في المكان والزمان ومشكلاتها في الحاضر والمستقبل» (نشر دار الشروق) فيؤكد من جديد أن القاهرة لا تعيش في فراغ بل بالارتباط الوثيق بمشكلات مصرية عديدة على رأسها إعادة تقسيم مصر الإداري وتدعيم الحكم المحلي وتخفيض مركزية القاهرة.
وهكذا نجد خطا بحثيا لا يمل ولا يكل حول مفهوم محدد للإصلاح - كواحد من مفاهيم إصلاحية أخرى - من خلال الدعوة إلى إعادة صياغة أقسام مصر الإدارية وتدعيم الحكم المحلي بشكل عملي، على طول ثلاثين عاما من الكتابة العلمية الجادة. (8) الجغرافيا وتخطيط الأقاليم الإدارية (8-1) علاقة الجغرافيا والتخطيط
اهتمامات الجغرافيا هي بدرجة أساسية دراسة العلاقات المجالية والمكانية على سطح الأرض في محاولة لفهم تكامل الأشياء: المكان والناس وأعمالهم في المجال الحيوي الذي يهيئه لهم منسوبهم التكنولوجي - كل ذلك في تشابك واصطراع مع المحيط البيئي، سواء كان ذلك سلبا أو إيجابا.
وبالمثل يهتم التخطيط بمثل هذا التكامل. ولكنه حتى وقت قريب كان يقع تحت سيطرة منطلقات محددة نابعة عن تفاقم مشكلة تظهر على سطح المجتمع بإلحاح، كالمشكلة الاقتصادية وإيجاد فرص عمل للعاطلين، أو المشكلة السكانية ومشكلات الإسكان والنمو العشوائي للمدن؛ لهذا كان يسيطر على أجهزة التخطيط إما اقتصاديون أو مهندسون أو هما معا باعتبار أن المشاكل الملحة هي في انتقال النمو والتنمية في جانبيها الفيزيقي والاقتصادي.
ودخول الجغرافيا إلى مجالات التخطيط في العالم هو أمر حديث، قد لا يعود إلى الأربعينيات في العالم المتقدم، وبشائره لم تظهر إلا بتواضع في الدول النامية - وذلك لغلبة مشكلات السطح في المجتمعات النامية، وبخاصة التلاحق بين النمو السكاني ومشكلة النمو المدني واستمرار القصور في مجالات الاقتصاد التقليدي نتيجة لقلة التمويل في حركة التحديث، ونتيجة للتبعية الواضحة لدوائر التجارة والتكنولوجيا الدولية.
وفعلا هناك هذا الكم من المشكلات في العالم النامي - وأكثر. وفعلا هناك انبهار بنتائج الدراسات الرقمية في التحليل الاقتصادي الكبير والمصغر
Macro-Micro . ويوجد مثل هذا الانبهار أيضا في جانب دراسات الجدوى (وما قبل الجدوى) حول الكتلة السكانية الحرجة المفروض نقلها (أو نزعها) من محيطها لتسكن بعملية أشبه بالجراحية في أماكن المشروعات الاقتصادية الجديدة، وبالتالي احتياجاتها السكنية (مع «وصفة» معروفة عن نسبة الطرق والأماكن المفتوحة للكتلة السكنية) والقاعدة الإنتاجية لهؤلاء الناس. وغالبا ما تكون هذه الدراسات - على جدواها - أقل من التوقعات في التدفق السكاني أو المنشآت الاقتصادية، مما يؤدي إلى عجز خطير من البداية بحكم أنه صعب تعديل التخطيط الفيزيقي دون أن يكون قد فطن من أول الأمر إلى مرونة التعديل بترك فراغات مكانية مناسبة لاحتمالات النمو. مثال ذلك حالة النمو في المنشآت الصناعية في مدينة 10 رمضان، وبطء النمو المقابل في القطاع السكني.
ولكي لا يكون هناك تحيز لرأي أو جهة يجب التأكد بأن لكل جانب شرعيته ودوره الضروري، لكن الأمر الواقع أن الدراسات المؤهلة لإنتاج خريطة تخطيطية لم يعد ملكا لعلوم الهندسة كما لم تعد موجودة في الحوش الخلفي للتحليل الاقتصادي فقط. بل هي شركة لعلوم كثيرة وبخاصة في المجالات الاجتماعية كعلوم الحضارة والاجتماع والجغرافيا والعلوم الإدارية المختلفة.
الشيء الثاني الهام في قضية التخطيط: هو أن خلاصة أي دراسة تخطيطية يجب أن تطرح على المستفيدين - أو في أحيان المتضررين. ذلك أن تبادل الرأي والحوار بين الدراسة العلمية والناس بخبراتهم العملية هو محك حقيقي لفاعلية التخطيط. كما أنه يمكن طرح مشروع مخطط رائد استكشافي أي على نطاق استطلاعي محدود لتبين صحة أو فشل بعض أركانه من خلال التجربة على أرض الواقع. صحيح أن هناك مخططات منطلقها قومي مثل ضرورة استراتيجية في الاقتصاد كالسد العالي، أو الأمور العسكرية كتخصيص منطقة تجارب حربية. وتنفيذ مثل هذه المشروعات من الضرورة بحيث إن تأخيرها قد يؤدي إلى أضرار قومية. لكن حتى هذه يجب أن تخضع لعمليات جس نبض قبل البدء. وكذلك يجب أن يتضمن المخطط عرض افتراضي لوجهات نظر أخرى تطرح على المخطط الجديد كمدخلات اعتراضية لضمان مرونة التطبيق ومرونة التعديل على مدى زمني طويل، بل ومرونة البديل المستقبلي باعتبار أن أي خطة ليس لها صفة الديمومة. فلا يجب أن يكتسب أي مشروع أسطورة بقاء غير مشروعة أصلا حتى لا يصبح الكلام عن البدائل محرما - وفي أحيان يعد خيانة، فإن وظائف الأرض تتغير في المكان بتغير الزمن.
وقد أثبتت التجربة أن الجغرافي يستطيع أن يكون جزءا من هيئة متخذي القرار في التخطيط لسببين: (أ)
الجغرافي بتدريبه الميداني وبطبيعة الجغرافيا كعلم متعدد الاتصال مع علوم أخرى في الجوانب الفيزيقية والاجتماعية، واتصاله بأساليب البحث الكمي وإنتاج خرائط التوزيع العادية والرقمية لهو أكثر قابلية للعمل مع غيره من المتخصصين في فروع أخرى كفريق عمل متفاهم، وعلى الأغلب ناجح. (ب)
إن اهتمامات الجغرافيا الحديثة مرتبطة بمجموعة من نقاط البحث على مشكلات تواجه الدول المتطورة والنامية بدرجات متعددة. منها:
الضغط السكاني على الأماكن المعمورة حاليا، والعزوف عن تنمية أماكن أخرى لحاجتها لاستثمار عال في البنية التحتية المكلفة.
النمو المتسارع للمدن وبخاصة النمو الجامع للمدن المليونية بصورة تخرج عن إمكانات الإشراف والتحكم وتحيلها إلى مدن متسلطة تفرض قوانينها على المشرعين والمخططين، وفي هذا المجال يجب أن نذكر أن الجغرافيا هي العلم الذي أسهم أكثر من غيره في دراسة المدن بصورة متكاملة.
تأثير المدن على أقاليمها بصور شتى بدأ من التغلغل العمراني خارج حزام المدينة إلى استقطاب السكان وتحويل إقليم المدينة إلى فناء خلفي يختلط فيه بنية سكنية ضعيفة مع إهمال في أشكال الإنتاج الأصلية لهذا الإقليم.
دراسة التوازن بين أقاليم النمو والركود والتعرف على دور وتأثير وسائل النقل، وبخاصة السيارة، على التصرفات التي واكبت متغيرات الاقتصاد ومشتملات الحضرية في أقاليم الدولة. عصر السكة الحديدية كان مسببا لنمو معين وثبت أشكالا من التنمية حتى النصف الأول من هذا القرن. ولكن السيارة غيرتها بسرعة؛ لتداخل الطريق البري من الباب للباب داخل المدن والقرى كما سنوضح فيما بعد. (8-2) فلسفة التقسيم والتعديل الإداري
يتردد في دوائر كثيرة أن المشكلة الأساسية في مصر ليست في نقص الموارد البشرية المدربة والموارد المالية المتاحة، وإنما المشكلة تكمن في أسلوب إدارة هذه الموارد لتوظيفها في الاتجاهات الملائمة، وقد يكون في هذه المقولة بعض مبالغة ولكنها تنطبق حقا على واقع كثير في مصر. (8-3) آلية إنشاء التقسيمات الإدارية
بداية التركيب الإقليمي في أقسام إدارية ربما يعزى إلى عاملين أساسيين - من بين مجموعة عوامل أخرى يبرز بعضها في مكان وبعضها الآخر في مكان آخر كمسببات نهائية لتميز إقليم عن غيره:
العامل الأول هو تطور أو تغيير سريع في شكل الاقتصاد والعمران وسوق العمل.
العامل الثاني هو قدر وقدرة خطوط الحركة والاتصال - الطرق على تعددها ووسائل انتقال المعلومات - على استيعاب عملية النمو أو التنمية، بل وسبقها بتكوين بنى تحتية تهيئ لمزيد من النمو.
وفيما يختص بالعامل الأول نجد أن المراحل الأولى من تغير أشكال الإنتاج - مثلا التغير إلى محاصيل السوق أو بدايات صناعة ما - تتأثر بقرار يتخذه المتنفذون في الإقليم من كبار ملاك أو تجار أو صناع. مثال ذلك كفر الزيات التي بدأت بجسر السكة الحديد وكمركز إقليمي لبورصة قطن في غرب الغربية والمنوفية وجنوب البحيرة، ومن ثم جاء التوجه إلى صناعات أولية للقطن - كبس وحلج - ثم زيوت البذرة. ومنذ ذلك أخذ سوق العمل طابعا جديدا يبدأ في مزيد من التغيرات التنظيمية لقطاعات الإنتاج والعمالة والملكية والنقل والإدارة. وبتأصيل هذه الجذور تتهيأ الأرض لصناعات موازية أو مكملة أو تابعة، وكلها في إطار إيديولوجية الإنتاج الجديد.
وحتى لو حدث اضطراب عمراني جذري بسبب حرب وهجرة السكان فإن الطابع الذي نشأ يعود بطريقة تلقائية إلى الإقليم بعد انتهاء حالة الاضطراب. فقوة التقاليد في سوق العمل تساوي قوة استمراره برغم تعثره مؤقتا. مثال طيب على ذلك منطقة القناة. فتوجهات سوق العمل في السويس (صناعة )، وبورسعيد (تجارة ترانزيت)، والإسماعيلية (إدارة وياقات بيضاء) عادت إلى ما كانت عليه بعد انقطاع نحو عشر سنوات (67-1976) من الحرب والهجرة. ولو كان هناك تخطيط شامل لمنطقة القناة واقتناص فرصة إعادة البناء بعد دمار الحرب لكانت الوظيفة الصناعية بمواصفات وشروط ميسرة للاستثمار القومي وغير القومي قد أضيفت إلى بورسعيد بدلا من التجارة الحرة أو جنبا إلى جنب معها، مع استغلال تسهيلات النقل البحري لتصبح بورسعيد مركز التسويق للسلع المصنعة وشبه المصنعة والمجمعة بترخيصات عالمية إلى إقليم شرق المتوسط والبحر الأحمر فضلا عن السوق المصرية الكبيرة.
الثورة الاقتصادية الأولى في مصر الحديثة، والتي أدت إلى التشكيل الإداري الذي نحتفظ بجزء كبير منه للآن، بدأت في النصف الثاني من ق19 بمنشآت الري الدائم التي دشنها محمد علي بالقناطر الخيرية، والتي توجها في بداية القرن سد أسوان وعمليات تعليته مرتين. هذه الأعمال الهندسية كانت تعبيرا عن سياستي التوسع الرأسي للمساحة المحصولية والتغير إلى إيديولوجية محاصيل السوق - القطن بصفة مميزة، وقد شابه أثره في مصر أثر البترول على دول الأوبك، وإن كان القطن قد استمر فترة أطول ومهد لصناعات عديدة حوله.
والنقلة الاقتصادية الثانية في مصر بدأت بالدعوة للتصنيع في الثلاثينيات من هذا القرن. لكن الدفعة الحاسمة في رفع مساهمة الصناعة من الناتج المحلي العام إلى نحو مرة ونصف قدر مساهمة الزراعة الآن، بدأت في الستينيات مع سياسة التصنيع الشاملة. وبرغم أن مقدمات السد العالي كانت استكمالا واستمرارا لفكرة التخزين القرني لمياه النيل - التي سادت حتى الخمسينيات - إلا أن السد العالي كان يتوجه بصفة أولى إلى تدبير الطاقة الكهربائية كمحرك أساسي لكهربة المدينة والقرية ومفهوم أساسي للصناعة - تطبيق لفكر كهربة الاتحاد السوفيتي في الثلاثينيات. وفعلا أدى شيوع الطاقة الكهربائية إلى تكوين البنية الأساسية للتحولات الحضارية والمهنية في القرية المصرية.
لكن عصر الهدف الواحد من مشروع ما كان قد ولى . ولهذا كان للسد العالي هدف ثان يدعم التوسع الأفقي للمساحة المزروعة كبديل لفكر التوسع الرأسي. والحقيقة أن أحد مكونات السد كان التوسع بالري الدائم في أقاصي الصعيد ، إلا أن التوسع الرأسي كان قد بلغ منتهاه في مصر وبدرجة قياسية على المستوى العالمي. ومن ثم كان العود إلى أفكار الاستصلاح والامتداد الأفقي في حواجر الصعيد وهوامش الدلتا.
أما العامل الثاني وهو دور النقل، وبخاصة النقل البري، في التنمية الحديثة فإننا نجد في العلاقة بين المدينة والريف وهجرة الريف للمدن وسقوط عزلة الريف مجالات جيدة في التعرف على دور السيارة بأنواعها.
لقد مهد نمو السكك الحديدية المصرية والسكك الحديدية الضيقة بنية تحتية للنمو الاقتصادي والحضاري المصري منذ منتصف القرن الماضي - مواكبا ومساعدا للتغيير مع نمو نظام الري الدائم. ومع قدر التغيرات الاقتصادية والصناعية منذ نحو منتصف هذا القرن سقط دور السكك الحديدية الضيقة في الريف - الدلتا والفيوم، كما انتهت عقود شركات النقل البري الأجنبية؛ لقصورها عن تلبية احتياجات الانتقال المتزايدة بين الريف والمدينة. ومع توجهات واعية بتقليل الفوارق بين الريف والمدينة، وبتأثير المزيد من احتياجات النقل، مدت شبكة الطرق البرية الأساسية والفرعية الأسفلتية والممهدة، مما أدى إلى تيسيرات هامة في استخدام أعداد متزايدة من سيارات النقل العام والسلعي والسيارات الخاصة. وما زال هناك ضغط لمزيد من الطرق بين الريف والمراكز الحضرية والعواصم الإدارية والمدن المهيمنة.
وقد أشاع هذا التسهيل في حركة الأفراد والسلع - مع غيره من عوامل التغيير المجتمعي (صحي - تعليمي - ثقافي - مهني) قدرا من التوازن بين الريف والمدينة قضى على خصوصية الريف الرومانسية التي كرسها من قبل النقل الحديدي المتباعد الخطوط والمحطات. وقد ساعد هذا على الاستجابة لمتطلبات المدن من الأيدي العاملة الريفية مدربة أو غير ماهرة. ولكن بالرغم من أن الوظائف في المدن والصناعة أو في أعمال الخدمات لها سقف احتياج واستيعاب من الأيدي العاملة، فقد استمرت حركة الريفيين إلى المدينة. فتيار الهجرة متى بدأ لا يتوقف اتجاهه حتى لو صيغت دونه قوانين وتشريعات، وهو يبطئ أو يتوقف فقط إذا ظهرت مناطق أخرى جاذبة للحركة أو تحسن الأداء الاقتصادي في الريف - مثلا بإقامة تعاونيات زراعية متكاملة من اختيار المحصول إلى تسويقه بحيث يضمن للمارسين عوائد أعلى مما هي عليه الآن.
حرية الحركة للأفراد مكفولة ويجب أن تبقى كذلك. ولكن استمرار تيار الهجرة إلى المدن الكبرى قد أدى إلى أزمة النمو المتسارع للمدن المصرية، ليس فقط في إيجاد وظائف مناسبة بل أيضا إلى مشكلة إسكان هؤلاء المهاجرين، فضلا عن إسكان أولئك الذين فاقت بيوتهم أعمارها الافتراضية نتيجة خامة البناء غير المؤهل لاستخدامات المياه الجارية وبالوعات الصرف الصحي. وقد استجابت إدارات لمشروعات الإسكان الشعبي. وأيا كانت الدوافع في إقامة المساكن الشعبية فقد كانت من الناحية الموضوعية فخا نصبته الإدارة الحكومية والبلديات لنفسها. فهي أقل قدرة مالية وتنفيذية عن الوفاء باحتياجات سكان المدن، وأبطأ بكثير من سرعة الهجرة والاحتياج السكني الجديد، فضلا عن تحميل الدولة ميزانيات تشغيل وإدارة هي في غنى عنها لو كانت تركت المبادأة في الإسكان للأفراد والمقاولات الخاصة على أن تكون في إطار شروط بناء ملزمة.
لكن الأهم من ذلك هو أن سوق العمل المتاح قد توقف عن النمو المقابل لنمو السكان والهجرة الريفية. ولم يكن - لأسباب سياسية ودولية - بإمكان القطاع الخاص والعام خلق الوظيفة بالقدر العددي الملائم. هذا فضلا عن تحدد أشكال الخبرة المطلوبة للوظيفة الجديدة نتيجة للاستثمار الرأسمالي الكثيف في أعمال إنتاج وخدمات ذات طبيعة حديثة تستخدم الآلية والأوتوماتية أكثر من استخدام الأيدي العاملة. ومن الصعب على المجتمع أن يغير بنيته إلى مهارات العمل الحديث بنفس سرعة التغير في أساليب وإدارة وبرمجة وتنظيم وآلية الأعمال الجديدة. ومن ثم سقطت أعداد كبيرة من قوة العمل في هوة الفئات الدنيا غير المصنفة - على أحسن الفروض غير المدربة، وهي الخطوة الحاسمة التي تنتهي بالبطالة المقنعة كما هي ممارسة ومحسوسة في مصر والبلاد النامية بصفة أساسية.
بطبيعة شكل الدلتا المروحية الامتدادات بين مراكز عمرانية كبرى في أطرافها وداخلها تشكلت خطوط الحركة الحديدية والبرية في صورة شبكة تربط المراكز والنواحي في شتى الاتجاهات . بينما كان لامتداد الصعيد الشريطي أثره في بقاء المجال الحركي فيه خطى تتوازى فيه الطرق الحديدية والبرية والنهر دون تكوين شبكة متعددة الاتجاهات. وترتب على ذلك أن فرص الحركة في الصعيد كانت دائما ذات توجه خطي إلى الشمال إلى القاهرة والإسكندرية والقناة. ومن ثم أدى ذلك التباعد والعزلة النسبية لريف الصعيد عن مدنه، بل التباعد النسبي بين مدن الصعيد، وبخاصة كلما أوغلنا جنوبا.
وأخيرا فإن هناك فقدان آخر للتوازن السكاني والحضاري والاقتصادي بين المعمور واللامعمور المصري، وظلت أقاليم الصحاري مجالات يصعب العمل فيها، بل تصعب زياراتها؛ لوقوعها طويلا ضمن سيطرة مصلحة الحدود التي لم تكن تسمح بالحركة إلا لحاملي تراخيص مرور تصدرها كل مرة. وبالرغم من انتهاء هذا الخطر فما زالت أقاليم الصحراء بعيدة المنال في التحولات المرغوبة والمعلنة باستثناء السياحة والاصطياف والتعدين. وهناك بداية ضعيفة لدخول سوق الإنتاج في مناطق محدودة جدا كالمشروعات الزراعية وبخاصة مريوط وشمال سيناء. ولكن العامل الحاسم في استمرارية مساحات كبيرة لا معمورة هو ندرة المياه - وهو أمر لا حيلة لنا فيه. صحيح يمكن الحصول على الماء من النيل في هوامش الصحاري بأقدار محدودة، أو المياه الجوفية المحدودة أيضا في الصحاري، ولكن هذه وتلك تبقى مساحات صغيرة قدرتها على استيعاب الهجرة الريفية محدودة؛ لصغر مساحتها؛ ولأن الزراعة فيها يجب أن تتبع أساليب الري بالرش والتنقيط؛ لندرة المياه وتجنبا لهدرها بالتبخر، وبالتالي فهي زراعة غير تقليدية ولا تستطيع أن تتحمل نفس الكثافات السكانية التي نجدها في ريف مصر.
ملخص ما سبق أن تراكمات كثيرة قد حدثت مما أدى إلى فقدان توازن سكاني وعمالة بين المعمور التقليدي في الوادي والدلتا وبين الصحاري من ناحية أولى، وبين الريف والمدينة من ناحية ثانية. وقد دعت هذه الأوضاع المخططين إلى مشروعات عديدة محلية، أو قومية منها حلقات المدن التوابع حول القاهرة - وهي مشكلة المشاكل حاليا، أو أحياء سكنية جديدة في مدن كمنطقة القناة، أو مشروعات عمرانية في أقاليم واسعة كالصحراء الغربية أو سيناء، مع إعادة في شكل المحافظات وتعديل حدودها أو توسيعها أو تقسيمها؛ لتمكين الإشراف على المخططات الجديدة. ومع ذلك فإن الأمر في حاجة إلى أكثر من مثل هذه التعديلات لأسباب سنعاود شرحها فيما بعد. (9) تقسيم إداري جديد لمصر
أوضاع وخيارات مصرية للقرن القادم
بعد عامين فقط تواجه مصر مواقف وخيارات عند دخولها القرن ال 21 أهمها الآتي: (1)
استمرار الشعور بالحاجة إلى تطبيق إشراف مركزي لتخطيط وتنفيذ سياسات التنمية القومية. وهذه المركزية تناهض وتتنافس مع الحاجة إلى دفع الأقاليم المحلية إلى تحمل المسئولية والمساعدة على نشأة الروح الخلاقة بالتخطيط الاقتصادي والبيئي على مستوى الإقليم، وشرعية المبادأة في طرح مشروعات تنمية المجتمع بدأ من أشكال التعليم والتأهيل البشري والمهني والإرشاد، ومنتهيا بالرعاية والتكافل الاجتماعي لمن يحتاجونه. (2)
تفترض السلطات المركزية أن بقاءها يتطلب استمرارها في الهيمنة على مجريات الأمور واستمرار رقابتها عليها، وذلك على الرغم من اعترافها الصريح بالقوى الاقتصادية الاجتماعية الجديدة التي تشكل جماعات ضغط من أجل ثنائية أكبر تمكنها من تنفيذ أهدافها البنائية في مجالات الحياة الاقتصادية.
وفي هذا المجال هناك صراع فكري وإيديولوجي حول الاختيار بين بقاء بعض أشكال القطاع العام كالمواصلات الحديدية والاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل الجوي بين المدن وهيئة قناة السويس، وغيرها من المؤسسات الكبيرة، وبين التقدم في عمليات الخصخصة بصورة أكبر وأشمل. جانبا هذا الصراع يتخذ من شعار رعاية المصالح الوطنية مظلة له ولكن من منطلقين مختلفين أكثرهما اندفاعا وقوة في الوقت الحاضر التأكيد بأن القطاع الخاص أقدر على الإدارة الرابحة من القطاع العام مما يفيد المستهلك، بينما يرى مؤيدو بقاء أنواع من القطاع العام، ومشاركته بنسبة ما في مشروعات القطاع الخاص أنه أقدر على حماية المستهلك من القدرات الاحتكارية للقطاع الخاص.
والذي يهم في هذا المجال أن النمو الذي نشهده الآن للقطاع الخاص إنما هو تعبير اقتصادي عن ضرورة تراجع المركزية المصرية واقتصارها على التخطيط ورسم الأهداف وإشراف بقدر، وخاصة في المشروعات القومية الكبرى.
ولأن الموضوع الاقتصادي مرتبط بقوة بنظام الإدارة فإن تكوين وحدات إدارية في مصر أكبر من الأقسام الإدارية الحالية من أجل متسع إقليمي وسكاني للمبادآت الاقتصادية للقطاع الخاص غالبا من سيكون المطلب التالي الذي يضغط عليه القطاع الخاص لتحقيقه. وقد بدأت بعض الخطوات في هذا الاتجاه بتوسيع مساحات بعض المحافظات. وإن كانت حدود تلك التعديلات لا تزال غامضة وتلبي مطالب جيدة لكنها أعمال فرادى لا تشكل منظومة واضحة، إلا أنه مع ذلك بداية للتعديلات في أعداد وأحجام المحافظات في مستقبل قريب. (3)
نتيجة لعدم وضوح الحدود الفاصلة بين الوزارات الحالية بعضها البعض من ناحية، وعدم التفويض اللازم للسلطات المحلية من ناحية ثانية، وبخاصة المجالس المحلية المنتخبة؛ فإن الرؤية بين الأجهزة المختلفة أصبحت غير واضحة. بل تؤدي هذه الأوضاع إلى تضارب وسلبيات ساعدت على نشأة فراغات يستخدمها الأصوليون بأنواعهم في الدعوة إلى حماية الموروثات التقليدية في مواجهة التحديث والعلمانية.
الخلاصة أن المركزية تقليد مستمر في مصر لفترات ليست بالقصيرة. ولكن في بعض الفترات كان هناك حكم شبه محلي في بعض أقاليم مصر. ولا نقصد بذلك فترات تفكك الدولة في جزء من التاريخ الفرعوني، لكن القصد أن التغاير الإقليمي في الناس والإنتاج واستراتيجية المواقع وبطء الاتصالات قد جعل الفرعون يعطي تفويضا حقيقيا لبعض حكام الأقاليم ليعالجوا المواقف وهم على أرض الواقع. وقد كان هذا هو الحال بصفة شبه مستمرة في أقاليم الحدود كحكام أسوان وسيناء وغرب مصر.
ومثل هذه الأوضاع ربما تتضح للمدققين والمحللين في تاريخ الإدارة المصرية خلال كافة العهود من الفرعوني إلى المسيحي والإسلامي. لكن البحث والتقصي في هذا الموضوع يحجبه عن الرؤية قوة المقولة التي تؤكد أن المركزية المصرية وراثة ناجمة عن ظرف بيئي هو أن تنظيم مياه النيل يقتضي حكومة مركزية. هذا صحيح في جانب واحد هو تقدير الضرائب التي تذهب للخزينة المركزية، وخزائن المعابد والأبروشيات، والحكام المحليين في كل عصر من عصور مصر الطويلة. ومن هنا كان مقياس النيل ضرورة لا غنى عنها حتى الآن. وليس معنى هذا أن الأحوال تتردى خلال فترات تراخي المركزية؛ فالنيل يجري عاليا، أو منخفضا أيا كان شكل الحكم.
والحقيقة أن المركزية هي إحدي الإيديولوجيات الإدارية من أجل التنظيم الإقليمي وليست ضرورة حتمية لمكان بيئي محدد كمصر. وهي بذلك نظام قابل للتغيير حسب الظروف التي تمر بها مصر. المشكلة هي في قدر الاستجابة للتخفيف من المركزية. فإذا أمكن «فض الاشتباك» بين التخوف من فقدان السيطرة على الأمور من جانب أصحاب الفكر المركزي، وبين تطبيق أوفق لأشكال من الحكم المحلي الحالي فإن الأمور تأخذ مجرى سلس لديموقراطية أشمل على مستويات متعددة من القاعدة إلى العاصمة.
والزعم بأن المركزية الحالية قادرة على تنفيذ سياستها في كل مصر زعم فيه كثير من المبالغة. فالتحليل الدقيق يوضح كيف تستطيع الصفوة المحلية تطويع وإعاقة متطلبات القاهرة في مجالات عدة مثل زراعة محاصيل غير منصوح بها مقابل غرامة قد تدفع بالكامل، أو إقامة المساكن خارج كوردون المدن والقرى، ومن ثم الدعوة إلى تحديد كوردون جديد - هذا فضلا عن أن الكوردونات لم يتم وضعها كلها لنقص وقصور في تطبيق الصور الجوية على الخرائط المساحية.
7
كذلك علينا أن نرصد الضغوط من جانب الناس، أو مستجدات المواقف الاستثمارية الجديدة التي دعت الحكومة المركزية إلى إيجاد التعديلات الملائمة مثل تغيير حدود بعض المحافظات المصرية من منطلق أن ضم أراض صحراوية إلى المحافظات في الصعيد أو القناة يزيد من فرص الاستثمار والاستطيان خارج المعمور، وكذلك بالنسبة لمشروعات استثمارية كإنشاء المناطق الحرة وتكوين إقليم ذي مميزات إدارية خاصة في مدينة الأقصر وضواحيها. وقد احتاجت هذه التعديلات إلى مبادآت من رئيس الجمهورية لتخطي مركزية القرار. (10) لماذا نحتاج إلى تغيير الوحدات الإدارية؟
بناء على الأوضاع المصرية الحالية سابقة الذكر فإن الحاجة تدعو إلى إعادة تنظيم أقسام مصر الإدارية؛ لكي تتواكب مع معطيات الأمور الآنية والقادمة. ولا شك في أن إعادة تخطيط الحدود الإدارية الحالية إنما يعبر عن ضغوط مقتضيات الأمور ومستجداتها. هناك أمثلة كثيرة لذلك نذكر منها التفكير في إنشاء محافظة جديدة شمال شرقي القاهرة تتمركز حول العاشر من رمضان، وإنشاء كيان خاص للأقصر، وامتداد لسان المنوفية عبر النهر إلى مدينة السادات، واللسان الطويل للجيزة إلى الواحة البحرية، وتقسيم سيناء إلى شمالية وجنوبية، وامتداد محافظات الصعيد مسافة ما شرقا وغربا فوق حافات الوادي إلى الهضاب الصحراوية، والمستقبل الإداري لمنطقة توشكى والنوبة وشرق العوينات، والمستقبل الإداري لمنطقة القاهرة: هل تبقى محافظة القاهرة شرق النيل لامتدادت إلى الشرق والشمال لا نعلم مداها، أم هي القاهرة الكبرى على جانبي النيل من القطامية إلى السادس من أكتوبر، أم تنقل الوظيفة السياسية من القاهرة إلى عاصمة جديدة في مكان آخر من مصر يخصص لها إقليم إداري منفصل؟ وغير ذلك أشياء أخرى كثيرة في إقليم الإسكندرية وامتداده غربا إلى برج العرب، وتعديلات الحدود في محافظتي البحر الأحمر والوادي الجديد.
كل هذه إرهاصات تفكير جدي في إعادة التركيب الإداري في مصر بدلا من التعديلات العديدة الفردية التي تظهر من حين لآخر لمواجهة مواقف جديدة. فما هو الشكل الجديد لأقسام مصر الإدارية؟
يتردد الفكر الإنساني بين نوعين من الأقسام أو الوحدات الإدارية والسياسية، بل ووحدات العمل والإنتاج. فهناك الفكر الذي يرى أن الصغير أجمل وأوفق، ويمكن تدبير أموره ومعرفة دقائقه، وهناك الفكر المضاد أن الكبير أكثر حيوية لما يتمتع به من تنوع موارد واتساع مجالي يسمح بحركة تعدل وتطور من كينونته خلال الزمن، بينما الصغير له سقف حركة محدود، مثال ذلك سويسرا مقابل الولايات المتحدة، أو الشركات القومية مقابل الشركات متعددة الجنسيات، أو المصانع الكبرى مقابل الصغيرة، وكذلك المزرعة الصغيرة مقابل الكبيرة.
وفي الوحدات الإدارية الصغيرة ميزات لا تنكر؛ لأنها تعرف دقائقها ومجالات تخصصها. مثلا دمياط كمدينة لها خصائصها التقليدية منذ عدة قرون. لكن نموها الاقتصادي السكاني تجمد مكانيا إلى أن اتسعت حدودها لتشمل إقليما إداريا أوسع قابل للاستثمار المالي والصناعي الزراعي الدمياطي بلغ 589كم مربعا، لكنها مع ذلك محافظة صغيرة المساحة. وبلغت الضغوط الاقتصادية الدمياطية من القوة ما ساعد على إنشاء ميناء بحري حديث ومدينة جديدة واستثمارات عامة وخاصة كبيرة. لكن تشغيل ميناء دمياط ينمو ببطء نتيجة لإشكاليات «بيروقراطية؟» في العمالة والاستثمار والنقل إلى بقية الدول لكي يقوم بمهامه القومية. وقد أدى التراجع النسبي في صناعة صيد الأسماك في المحافظة مع النمو السكاني (2,4٪)
8
أدى إلى ظهور هجرة دمياطية عبر حدود المحافظة إلى بورسعيد، وانتقال فروع للصناعات الدمياطية التقليدية إلى مدن خارج دمياط وخاصة القاهرة .
ومثل هذا محافظة بورسعيد التي أنشئت كمدينة حرة لكنها من الصغر المساحي (72كم مربعا) بحيث بدأت تشعر بثقل النمو في المساحة الصغيرة. ولأنها أعلى محافظات مصر في دخل الفرد
9
فإنها تعاني من تدفق الهجرة إليها بدليل أن نحو 15٪ من السكان يعيشون في سبعة أحياء عشوائية.
10
وفي مقابل ذلك تتمتع محافظة البحيرة بمساحة كبيرة بعد ضم أقسام الاستصلاح الزراعي غرب النوبارية (1029كم
2 )؛ لهذا فهي أقل المحافظات المصرية - باستثناء المحافظات الصحراوية - في الكثافة السكانية التي تبلغ 385 فرد/كم
2
مقابل كثافة سكانية تبلغ نحو ثلاثة أضعافها في بقية الدلتا ونحو ستة أضعافها في محافظات الصعيد. لهذا فإن مستقبل النمو والاستثمار في البحيرة هو أعلى منه في كثير من المحافظات في الوادي والدلتا.
الخلاصة أنه بالرغم من ميزات الوحدات الصغيرة إلا أنها تعاني من سقف محدود في حركة النمو والاستثمار، مما يدعو إلى استمرار تيارات الهجرة الخارجة التي تتجه في غالبها إلى مدن ومناطق ليست في حاجة إلى التدفق الذي يريف المدن ويفقرها ويزيد البطالة بدلا من التوجه إلى مناطق يمكن أن تستفيد من هذه العمالة الزائدة عن الريف في الدلتا والصعيد بوجه خاص.
11 (11) الأقاليم الإدارية المقترحة
من المنطلقات سابقة الذكر، وبناء على تجربة مصر في شكل الأقسام الإدارية الحالية يظهر لنا أن هناك ضرورة لتجميع المحافظات الحالية في عدد قليل من الأقاليم أو المحافظات ذات مساحات أكبر وأعداد سكانية ذات حجم يسمح بإدارة محلية بمحتواها الدستوري ويسمح بممارسة أشكال من التنمية على الواقع المحلي. والأقاليم المقترحة ومكوناتها هي كالآتي: (الشكل
1 ). (1)
إقليم القاهرة:
يشمل محافظة القاهرة، ووسط محافظة الجيزة: مركزي الجيزة وإمبابة، وجنوب القليوبية: مراكز قليوب والقناطر وشبرا الخيمة. (2)
إقليم الغرب:
يشمل محافظات الإسكندرية والبحيرة ومطروح ومركزي فوة ومطوبس. (3)
إقليم الدلتا:
يشمل محافظات المنوفية والغربية وكفر الشيخ ومركز كوم حمادة. (4)
إقليم الشرق:
يشمل محافظات دمياط والدقهلية والشرقية والقليوبية الوسطى والشمالية. (5)
إقليم سيناء-السويس:
يشمل محافظات سيناء الشمالية والجنوبية وبورسعيد والإسماعيلية والسويس، والقسم الشمالي من محافظة البحر الأحمر حتى مدخل خليج السويس. (6)
إقليم مصر الوسطى:
يشمل محافظات بني سويف والمنيا والفيوم والجزء الجنوبي من الجيزة، ويمتد غربا ليشمل واحات البحرية والفرافرة إلى الحدود الليبية. (7)
إقليم مصر العليا:
يشمل محافظات أسيوط وسوهاج وقنا والجزء الأوسط من البحر الأحمر من مدخل خليج السويس إلى مرسى علم والقسم الأكبر من محافظة الوادي الجديد. (8)
إقليم أسوان:
يشمل محافظة أسوان ويمتد شرقا إلى البحر الأحمر من مرسى علم إلى حلايب وغربا إلى شرق العوينات والجلف الكبير إلى التقاء الحدود المصرية الليبية.
وهناك نقاط يجب ملاحظتها هي:
أولا:
إن أسماء بعض الأقاليم يمكن تغييرها حسب جمهرة الرأي. مثلا إقليم الشرق يمكن أن يصبح الشرقية، ومصر العليا يمكن أن يصبح الصعيد، وأسوان يمكن أن تصبح الجنوب، وذلك حفاظا على بعض أسماء ومفاهيم جغرافية تقليدية.
ثانيا:
إن التسمية «إقليم» يمكن أن تعدل إلى «محافظة» باعتبار أنها أكثر شيوعا، لكن مفهوم المحافظة لا يؤدي إلى المعنى المقصود من إقليم له متطلبات الحكم المحلي.
ثالثا:
أرقام المساحة والسكان الواردة في
الجدول
الملحق بالشكل (2) هي تقريبية وتعتمد على تخطيط حدود الأقاليم التي يمكن أن تعدل نتيجة لوجود علاقات قائمة لسهولة الانتقال. مثال ذلك أن منطقة كوم حمادة أقرب اتصالا بكفر الزيات منها بدمنهور، وكذلك منطقة دسوق أكثر روابط مع دمنهور والإسكندرية من طنطا وكفر الشيخ.
ويتضح من الشكل والجداول الملحقة الأوضاع المساحية والسكانية في المحافظات الحالية، والأقاليم الثمانية المقترح أن تصبح هي أقسام مصر الإدارية، وبتحليل عام للشكل - مع جداول الملاحق - تبرز عدة نقاط أهمها الآتي: (أ)
هناك تناسب سلبي بين أعداد السكان والمساحة في التقسيم الإداري الحالي. ففي محافظات الدلتا والوادي ضغط سكاني على مساحات صغيرة، وفي المحافظات الصحراوية مساحات كبيرة وندرة سكانية. (ب)
الصورة السابقة موجودة بصورة معدلة في مقترح إقليمي الدلتا والشرق بحكم الموقع الجغرافي، وموجودة بكثير من التعديل في إقليمي السويس-سيناء وأسوان. (ج )
في أي حالة هناك عدم تناسب بين السكان والمساحة في إقليم القاهرة شأن المدن الكبرى. (د)
هناك إيجابية واضحة في تكوين التناسب بين سكان ومساحة أقاليم الغرب ومصر العليا ومصر الوسطى على التوالي.
جفرافيا يعبر عن التناسب بين الأرض والسكان بالكثافة السكانية. لكن لكون مصر حالة خاصة بين المعمور التقليدي والصحراء، فإن التعبير بأرقام الكثافة غالبا لا يعطي الانطباع المقصود. وما نقصده هنا هو توضيح درجة التشبع المساحي بحيث لا يعطي متنفسا لاستيطان أرضي داخل الإقليم الواحد، أو أن هناك متسعا من الأرض لأشكال من التعمير الصناعي أو الزراعي أو السياحي أو الخدمي. وفي هذا المجال تصبح أقاليم الدلتا والشرق والقاهرة مصادر لفائض سكاني إلى أقاليم سيناء-السويس أو أسوان أو مصر العليا، بينما يكتفي إقليم الغرب بمتسعه المساحي. أما مصر الوسطى فقد تكتفي هي الأخرى بمواردها المساحية في مرحلة لاحقة من التنمية والاستثمار. وعلى أي الحالات فإن مناطق التنمية سوف تجتذب السكان النشطين من أي إقليم داخل الجمهورية. (12) المكونات العامة للأقاليم المقترحة (12-1) من حيث المساحة (1)
لا توجد مساحات صغيرة كتلك التي نشهدها حاليا. أصغر الأقاليم مساحة هو إقليم الدلتا (نحو 7500كم مربع) بحكم موقعه بين فرعي النيل، وذلك مقابل معظم مساحات محافظات الدلتا والوادي الحالية التي لا تزيد عن ألفي كم
2
باستثناء البحيرة والشرقية والدقهلية وكفر الشيخ. (2)
تتعدد المحافظات كبيرة المساحة في الأقاليم المقترحة. أكبرها مصر العليا التي تمتد من ساحل البحر الأحمر إلى الحدود الليبية (نحو 300 ألف كم)، يليها إقليم الغرب ثم أسوان والسويس-سيناء ثم مصر الوسطى، وكلها أكبر من مائة ألف كم. وهي بذلك تعطي أفقا رحبا للحركة الاقتصادية السكانية. (3)
يتسع إقليم القاهرة، أو الإقليم المركزي إلى أكثر من عشرة آلاف كم مقابل المساحات المجهرية الحالية للقاهرة ومركزي الجيزة وإمبابة. (12-2) من حيث أعداد السكان (1)
هناك تناسب ملحوظ في أعداد السكان في غالب الأقاليم التي تضم مساحات صحراوية فسكان إقليم سيناء-السويس يضم نحو مليونين وربع المليون من الأشخاص مقابل أعداد في حدود نصف المليون أو أقل في بورسعيد والسويس، ونحو مائة ألف في سيناء. وعلى أية حال فإن هذا الإقليم مؤهل لتلقي هجرة سكانية ربما تكون الأكبر في شكل الهجرة الداخلية المصرية لما يحتويه من مقدرات اقتصادية تقليدية وغير تقليدية. ومثل هذا إقليمي الغرب وأسوان، وبصورة ما إقليم مصر العليا ذو الطاقة البشرية الكبيرة (نحو عشرة ملايين شخص). وباختصار لم تعد هناك أقاليم إدارية نادرة السكان كما هو الحال في المحافظات الصحراوية الحالية - مجموع سكان محافظات مطروح والوادي الجديد والبحر الأحمر وسيناء الشمالية والجنوبية معا لا يزيد عن ثلاثة أرباع المليون في مساحة قدرها 853 ألف كم. (2)
سوف يقتصر عدم التناسب بين المساحة والسكان على ثلاثة أقاليم هي القاهرة والشرق والدلتا بديلا عن عدم التناسب المستمر في كل محافظات الدلتا والوادي الحالية. ولا شك أن إقليم القاهرة بحكم كمية المتداخلات التاريخية والسياسية والاقتصادية سيظل إقليما ضخم السكان. لكن المأمول أنه مع تعدد مشروعات التنمية في بقية الأقاليم أن يخف ضغط الهجرة على القاهرة ويصبح النمو الطبيعي هو العامل الأساسي في نموها. ومثل هذا يمكن أن يحدث في إقليمي الدلتا والشرق - أي أن تكون أشكال التنمية داخل كل إقليم عاملا في خلق فرص عمل تقلل الهجرة الخارجة إلى حدود متطلبات مناطق التنمية في أقاليم الغرب وسيناء - والسويس وأسوان. (12-3) من حيث مكونات الموارد الاقتصادية (1)
تتوزع موارد الثروة الاقتصادية المصرية الحالية إلى موارد تعدينية في المحافظات الصحراوية وموارد زراعية صناعية في محافظات الدلتا والوادي، وموارد خدمية وثلاثية مركزة في عدد قليل من المدن الكبيرة وأشرطة ساحلية. هذا الانفصال بين أشكال الموارد غالبا ما سينتهي في صورة الأقاليم المقترحة. (2)
فإقليم كالسويس-سيناء سوف يضم مصادر الطاقة - حقول البترول وفحم المغارة، وأشكال من الطاقة غير التقليدية الشمسية والرياح - إلى جانب الإنتاج الزراعي في منطقة محافظة الإسماعيلية الحالية غرب وشرق القناة، والمستهدف الزراعي على مياه ترعة السلام، والإنتاج الزراعي المطري في شمال سيناء وبعض استثمارات ري في أودية جنوب سيناء وفي وادي العريش الأوسط، وزراعة بستنه على آبار سيناء وعيونها مثل منطقة وادي جديرات قرب الحدود مع إسرائيل. السياحة عنصر هام في سيناء: في الشمال سياحة مصرية عربية، وفي الجنوب سياحة دولية ودينية وسياحة ساحلية بحرية لشواطئ المرجان وصيد البحر وألعاب الماء وفي الوقت نفسه مصايد لأسماك ذات القيمة في البردويل وقشريات البحر الأحمر. (3)
وبالنظر إلى تذبذب أسعار البترول الخام عالميا فإن المرجح التعامل مع خليج السويس - الذي هو خليج البترول المصري - على أنه منطقة تصنيع لمنتجات البترول ومشتقاته، وبالتالي إقامة عدة معامل للتكرير وصناعات البتروكيمائيات. مثل هذه الصناعات تحتاج إلى عمالة ماهرة من مهندسين إلى فنيين إلى إداريين، وإلى نشأة مدن تستقطب هؤلاء وتستقطب خدمات المدينة من الأيدي العاملة. وباختصار سوف يكون إقليم سيناء-السويس قطب جاذب لأشكال متعددة من المهاجرين ابتداء من أصحاب المقاهي البلدية إلى دور التسلية الأرقى إلى الفنيين والخبراء ومعاهد التعليم المتخصصة ومراكز التدريب ... إلخ. (4)
وعلى هذا النسق يمكن أن نرى في إقليم الغرب تنوع الموارد الزراعية في البحيرة والنوبارية ومريوط والنطرون وموارد الطاقة الغازية والبترولية على هوامش منخفض القطارة، والسياحة الاصطيافية على طول الساحل إلى مرسى مطروح، فضلا عن الصناعات الثقيلة والخفيفة في برج العرب والعامرية وعلى طول منخفض مريوط، وأعمال ميناء الإسكندرية التجارية والصناعية، ونقل الطاقة في سيدي كرير، ومشروعات زراعية وتربية أنواع من الحيوانات على طول الساحل الشمالي الغربي. ويمكن أن تجدد إدارة هذا الإقليم دراسة جدوى لمشروع منخفض القطارة لتوليد الطاقة، وتحسين النخيل في واحة سيوة والواحات المجاورة. (5)
وفي إقليمي الدلتا والشرق يمكن استثمار أراضي البراري الشمالية في زراعة أنواع من الخضروات التي يمكن أن تنمو على مياه ذات ملوحة أعلى من المعدل، وخاصة الطماطم التي نجحت على مثل هذه المياه في أمريكا. ويمكن لهذين الإقليمين أن يقيما صناعات زراعية ناجحة من أجل السوقين الداخلي والخارجي - خاصة السوق العربية، مع الاهتمام بصناعة التغليف والإعداد. هذا فضلا عن الصناعات القائمة للغزل والنسيج والأصواف والسجاد ومضارب الأرز والزيوت والصابون وكيميائيات أخرى وفواكه متعددة على رأسها المانجو والموالح. (6)
في إقليم مصر الوسطى موارد زراعية غنية في الوادي وغرب البحر اليوسفي ومنخفض الريان وواحتي البحرية والفرافرة، وخاصة الفرافرة المبشرة بمياه جوفية وفيرة وتحتاج إلى تنظيم وإدارة جيدة لاستقبال المستثمرين وتوزيع الأرض على الأفراد أو جمعيات زراعية خاصة - أي غير حكومية، والتصرف في الأراضي المخصصة للخريجين الذين لا يستثمرون أراضيهم وسكنهم. وفي مصر الوسطى نجد من المعادن المستغلة حاليا مناجم الحديد في الواحة البحرية. وربما أدت بحوث إدارة الإقليم إلى مصادر أخرى معدنية أو مصادر للطاقة في بحر الرمال غربي عين دله، أو مياه جوفية في القسم الغربي من الإقليم أو قرب مصبات الأودية الشرقية القادمة من جبال البحر الأحمر. والواحات بصفة عامة من مقاصد السياحة الأجنبية يجدون فيها البيئة كاملة الغربة بالنسبة لهم. (7)
الكلام نفسه ينطبق على مصر العليا وأسوان فيما عدا أن في مصر العليا ثروة معدنية كبيرة متمثلة في فوسفات السباعية وهضبة أبو طرطور - بين واحتي الخارجة والداخلة، والذي يمكن أن يعالج صناعيا في نفس المكان من أجل الحصول على مشتقات كيميائية ذات قيمة عالية في الصناعات. أما ساحل البحر الأحمر في إقليم مصر العليا فهو منتجع سياحي عالمي في الغردقة وسفاجا. ومثلهما في مرسى علم ورأس بناس والشلاتين وحلايب بالنسبة لإقليم أسوان الذي يتمتع الآن بمشروعات زراعية كبيرة في توشكى وشرق العوينات، وربما في الواحات الصغيرة الممتدة على طريق درب الأربعين. (13) لماذا التغيير الإداري؟
سبق أن ذكرنا أن تجربتنا خلال نحو قرن من التقسيم الإداري الحالي - مع بعض التعديلات كاقتسام أراضي الغربية بإنشاء محافظة كفر الشيخ، وضم أراض إلى محافظتي الدقهلية ودمياط، وضم بعض أراضي المنوفية إلى القليوبية في منطقة كفر الجزار المواجهة لمدينة بنها، وكذلك منطقة كفر شكر من الدقهلية إلى القليوبية ... إلخ، في محافظات الصعيد أيضا - قد أدت إلى نشأة 26 محافظة غير متوازنة مساحة وسكانا.
إن الأهداف الأساسية من تغير التركيب الإداري لأقسام مصر من 26 إلى 8 محافظات هي:
أولا:
إيجاد مجالات مساحية وسكانية بالحجم والقدر الذي يمكن من تخطيط إقليمي متلائم مع الظروف البيئية والتاريخية والموارد الاقتصادية للإقليم الواحد. ومثل هذا الوضع يشحذ عملية الاستثمار الداخلي في الإقليم بمساحته وطاقاته البشرية المعقولة في مجالي الإنتاج والتسويق. ويساعد بذلك على افتتاح أعمال في أشكال متعددة من الأنشطة الاقتصادية تخلق فرص عمل جديدة تنمي الدخل الفردي ، ومن ثم زيادة القوة الشرائية وتوسيع الأسواق، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تغذية مرتدة لمزيد من النمو الإقليمي وتقليل فرص الهجرة خارج الإقليم.
والمحافظات الحالية بأحجامها المساحية والسكانية الصغيرة غير جاذبة بالقدر الكافي للاستثمار، ومن ثم تخرج رءوس الأموال الاستثمارية في داخل المحافظة تبحث عن موقع لها في سوق العمل للمدن الكبرى. لهذا تنمو أشكال كثيرة من الأعمال، وبخاصة التجارية والخدمية في القاهرة الكبرى والإسكندرية الكبرى ومدن القناة، بينما تبقى الأعمال في مدن المحافظات على ما هي عليه أو تنمو بإضافات بطيئة.
لو أخذنا مجال الإعلام كنموذج سنرى كيف تترابط موضوعات التنمية في سلسلة من التأثير والتأثر، بحيث يؤدي إنشاء مشروع إلى فتح أبواب تنشط معها وظائف جديدة، وهذه تعود بتغذية راجعة على المشروع فتنميه، وهكذا دواليك. صحيح أن الدولة لم تقصر في مجال التلفاز والإذاعة فأنشأت الكثير من المحطات الإقليمية - هي بمحض الصدفة ثمانية محطات، لكن القاهرة تحتكر ثلاثا منها - فضلا عن المحطات الفضائية. وتجتهد المحطات الإقليمية ألا تكون صورة باهتة لمحطات القاهرة، ولكنها في حالة حسن تمويلها من داخل الإقليم سوف تخلق فرصا للعمل والإجادة، وتشكل أقطابا جيدة للمبدعين من داخل الإقليم في مجالات عديدة نذكر منها التأليف والكتابة الدرامية ومقدمي البرامج الذين يفتحون ندوات مرئية عن الإقليم في كافة النواحي الثقافية والحياة الاقتصادية، وهموم البيروقراطية ومشروعات التنمية البشرية والصناعية والحسن من أشكال الأنشطة والعمل. وهذا هو ما يساعد على تكوين الرأي العام في الإقليم، وظهور قيادات مجتمعية وفكرية. هذا فضلا عن نمو وظائف فنية عديدة في التصوير والإنتاج والإخراج واكتشاف الممثلين ... إلخ.
ومثل هذا تماما في مجال الإرسال الإذاعي الذي يتغلغل أكثر من التلفاز بين الناس. أما الصحف الإقليمية التي تفتقر إليها كثيرا لصغر حجم القراء في المحافظات الحالية، فسوف تنفتح على جمهور أكبر في الإقليم الواحد. وإذا ما ابتعدت جزئيا عن أخبار الرسميات داخل الإقليم فإنها ستكون مجالا طبيا للأخبار المحلية والأنشطة الاقتصادية والتسويقية، وتوعية المنتجين بأنواعهم وتوجيه الاهتمام إلى المشكلات الكثيرة في الإقليم من أول خدمات النقل إلى موضوعات حيوية كتنظيم الأسرة ومواجهة التطرف ... إلخ. والصحافة بهذا الشكل تخلق وظائف جديدة من عامل الطباعة إلى المحرر وصاحب العمود، فضلا عن انتشار مكاتب توزيع الصحف والجرائد في أماكن لم تعرفها إلا لماما.
هذه الأجهزة الإعلامية الثلاثة سترتبط مع بعضها في علاقة تنافس وتكامل معا مما يفتح أبوابا كثيرة مغلقة في تكوين فكر ورأي عام واسع يساعد مجالس الإدارة في الإقليم من المحافظ إلى أجهزته التي يدير من خلالها على حسن التوجه إلى مشكلات الإقليم الصغيرة قبل الكبيرة. وهكذا نرى تفاعل عنصر واحد يعود بتغذية مرتدة على واجهات عديدة من حياة المجتمع.
ثانيا:
ليس الغرض من تقليل عدد الأقسام الإدارية من 26 إلى 8 وحدات هو تخفيض عدد العاملين المكتبيين فقط، وإن كان ذلك وارد كواحد من عوامل دفع العمالة إلى مجالات نافعة. ولكن الغرض الجوهري هو ما أشرنا إليه سابقا، وهو إيجاد أقسام إدارية ذات قاعدة عريضة سكانا ومساحة من أجل فتح المجال التنموي لذوي الدخول العالية في كل إقليم، وحفز المستثمرين من خارج الإقليم على استكشاف آفاق جديدة في الأقاليم بدلا من التركيز على الاستثمار داخل نطاق العاصمة والمدن الكبرى. وقد ظهرت بوادر ذلك في دعوة الدولة إلى تنمية جنوب الوادي، ولو أنها كلمة ذات مفهوم غامض: هل يقصد بها مشروعات توشكى وشرق العوينات أم كل الصعيد؟
وفي هذا المجال يمكن لإدارات الأقاليم بحث وتخطيط مشاريع التنمية ودعوة المستثمرين إلى عمل دراسات الجدوى اللازمة قبل الإعلان عن مناقصات أو مزايدات تنفيذها. وواحدة من أهم أسس التنمية هو مد الأشكال المناسبة من البنية الأساسية إلى المناطق المرجو تنميتها: طرق ومياه وكهرباء وصرف صحي واتصالات هاتفية بأنواعها السلكية واللاسلكية الحديثة.
ثالثا:
إذا كان هذا هو المطلوب من الإدارة الجديدة للأقاليم، فكيف يمكن لهم عمل ذلك بإيجابية؟
يكمن الحل ببساطة في تطبيق التفويض الذي نص عليه الدستور منذ 1971 (مواد 160-63)، والذي ينقل اختصاصات الوزارات تدريجيا إلى المحليات. وبدون نقل السلطة يفقد الحكم المحلي جوهره. فهو أولا ينهي الازدواجية الحالية بين المحافظ ووكلاء الوزارات الذين يأخذون تعليماتهم من القاهرة، وما يترتب على ذلك من إبطاء العمل أو إيقافه. والتفويض يعطي استقلالية في اتخاذ القرار المناسب لظروف المحافظة - أشكال المجالس المحلية المتعددة الحالية ليست بمبشر قوي للإصلاح والتنمية. يقول بعض المحافظين: إن الوجاهة الاجتماعية وتحقيق المصالح الخاصة هي دوافع الغالبية العظمى من الذين يتقدمون للترشيح في انتخابات المجالس المحلية. وبغض النظر عن بعض إيجابيات مثل هذه المجالس فإن غياب الرأي العام والفكر الحزبي مسئول عن الأداء الحالي لهذه المجالس، بينما المفروض أن تكون الانتخابات والمجالس المحلية هي مدرسة الديموقراطية الأولى في مصر.
وربما يوضح المثال الآتي مدى تضارب السلطة في المحافظات الحالية. الطرق شريان حيوي في أي مكان. ولكن الطرق تتبع عدة جهات لكل أولوياتها: فالطرق الإقليمية تتبع الهيئة العامة للطرق والكباري، والطرق التي تسير فوق الجسور تتبع مديرية الري، والطرق المحلية تتبع مديرية الطرق بالمحافظة، والطرق خارج الكتل السكنية تابعة للجمعيات الزراعية، والطرق داخل الكتلة السكنية تتبع الوحدات المحلية. وفي غياب السلطة المفوضة للمحافطة فإن حالة الطرق تظل رهنا بأحد الجهات سالفة الذكر. فهل هذه الأوضاع جاذبة لمشروعات تنموية بأي مقياس؟
ويتضح من تاريخ مصر الطويل كيف تغيرت الأقسام الإدارية مرات ومرات وعدلت بما يظاهر متغيرات الأمور في مصر ما بين تقوقعها على الوادي والدلتا، وبين توسعها الإمبراطوري إلى السودان وبلاد الشام والغرب الليبي في مختلف العصور الفرعونية والهلينيستية والعربية والعثمانية، واستقلالها منذ عصر محمد علي واستقلالها النهائي منذ انتهاء الحماية الإنجليزية.
ونحن الآن نمر بفترة تغيير في موضوعات شتى من شئوننا الداخلية وعلاقاتنا الدولية. أهمها الشئون الآتية: (أ) التدرج في التغيير من نظام مركزية الدولة في شئون الاقتصاد إلى نظام الخصخصة. (ب) التغير في التوجهات العربية وخاصة قضية إسرائيل- فلسطين. (ج) التغير في التوجهات العالمية في ظل ظروف العالم الانفتاحية. (د) التغير في التوجهات من مدرسة الري التقليدية العظيمة التي كانت تدور حول قناطر النيل والترع والري الدائم والسدة الشتوية إلى مدارس التكنولوجيا الحديثة في استزراع أنواع جديدة من التربات والأراضي على حافات الدلتا والوادي، أو أغوار المياه الجوفية في الصحاري. (ه) التوجه نحو استخدام بيئات السواحل المصرية في أنشطة السياحة الدولية والاصطياف المصري. (و) التوجه الصناعي من القلاع الصناعية الكبيرة كالمحلة وحلوان وكفر الدوار إلى المصانع صغيرة الأحجام عالية التقنية ونمو صناعات التجميع والصناعات الإلكترونية ومتغيرات أخرى في الاستثمار الصناعي الخاص.
الغرض من التغيير ليس التغيير في حد ذاته، لكن لكي تتطابق أقاليم مصر الإدارية مع الظروف والنشاطات الاقتصادية المتغيرة التي نعايشها الآن ومستقبلا، فالأقسام الإدارية الحالية ليست كيانات خالدة الوجود، وقد نبعت عن تقسيم أرضي أساسه الاقتصاد الزراعي بصورة عامة مع بعض التراث التاريخي للتقسيمات، بينما الحاجة الآن هي إلى كيانات إدارية واسعة المجال في المساحة والموارد والسكان والتشغيل الأوفق لهذه العناصر الثلاثة معا في ظل التحديث الإداري والاقتصادي العالمي.
والسؤال الأكبر هو لماذا الاحتفاظ بمحافظتي القاهرة والجيزة وهما مكونان لنسيج واحد منذ أكثر من نصف قرن؟ لماذا لا يصبحان إقليما واحدا له خصائصه التي لا ينكرها أحد؟ ومثل هذا بقاء شبرا الخيمة والمدن الجديدة على محور أوتوستراد الإسماعيلية تابعة لمحافظة القليوبية بينما هم للقاهرة أكثر ارتباطا عمرانا وحركة واقتصادا.
سؤال آخر هو إلى أي حد يمكن استقلال سيناء عن منطقة القناة، أو البحر الأحمر والوادي الجديد عن محافظات الصعيد وأسوان، أو مطروح عن الإسكندرية؟ هذه المحافظات الصحراوية كبيرة المساحة شحيحة السكان ليست سوى وراثة لتقسيم من مخلفات الإدارة الإنجليزية عفى عليه الزمن بمقتضاه كانت هذه الأقاليم حدود لا يمكن لمصري التجول فيها بدون إذن كتابي من مصلحة الحدود.
أخيرا: إن أي تغيير في شكل الأقسام الإدارية في مصر ليس هو الحل السحري لتحسين الأحوال. ولكن تشكيل أقاليم كثيرة ذات كيانات مفوضة في اتخاذ القرار هو الحل التدريجي في تنمية الإدارة وتنمية الديمقراطية ببرلمانات إقليمية ممثلة بصورة أكثر فعالية للناس؛ من أجل محاولة إيجاد الصيغ الملائمة للدخول في القرن القادم.
تقدير أعداد السكان حسب النوع بالمحافظات ونسبتهم المئوية في 1 / 1 / 2005.
جدول 3-1: عدد السكان بالألف عن «الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء».
المحافظات
النسبة المئوية
جملة السكان
إناث
ذكور
القاهرة
110,9
7765
3787
3987
الإسكندرية
54,6
3821
1866
1955
بورسعيد
0,77
538
261
277
السويس
0,70
489
239
250
دمياط
1,54
1078
528
550
الدقهلية
7,05
4932
2418
2514
الشرقية
7,31
5155
249
2626
القليوبية
5,54
3875
1874
2001
كفر الشيخ
3,7
2590
1286
1304
الغربية
5,61
3929
1938
1991
المنوفية
4,62
3231
1566
1665
البحيرة
6,7
4693
2301
2392
الإسماعيلية
1,23
863
423
440
الجيزة
8,06
5644
2730
2914
بني سويف
3,22
2255
1105
1150
الفيوم
3,46
2422
1167
1255
المنيا
5,78
4049
1983
2066
أسيوط
4,89
3422
1668
1754
سوهاج
5,44
3808
1861
1947
قنا
4,19
2935
1459
1476
أسوان
1,6
1120
559
561
الأقصر
0,60
422
205
217
البحر الأحمر
0,27
186
81
105
الوادي الجديد
0,24
170
82
88
مطروح
0,39
270
129
141
شمال سيناء
0,44
310
149
161
جنوب سيناء
0,09
65
26
39
الجملة
100
69997
34180
35817
خريطة الأقاليم الإدارية المقترحة.
تشمل الأقاليم الثمانية والمقترحة على كل أو بعض المحافظات الحالية على النحو الآتي:
إقليم سيناء والقناة:
محافظتي سيناء ومحافظات القناة الثلاث، البحر الأحمر، إقليم الشرق: محافظة دمياط والدقهلية والشرقية ووسط القليوبية، إقليم الدلتا: محافظات كفر الشيخ والغربية والمنوفية مع امتداد عبر فرع رشيد من كفر الزيات، وجنوبا إقليم الغرب: محافظات الإسكندرية والبحيرة ومطروح، الإقليم المركزي أو القاهرة: محافظة القاهرة وشمال ووسط الجيزة حتى البدرشين وجنوب القليوبية، إقليم مصر الوسطى: جنوب محافظة الجيزة ومحافظة بني سويف والفيوم والمنيا وواحتي البحرية والفرافرة، إقليم مصر العليا: محافظة أسيوط وسوهاج وشمال ووسط الوادي الجديد ووسط البحر الأحمر، إقليم الجنوب أو أسوان وجنوب البحر الأحمر وجنوب الوادي الجديد حتى حدود ليبيا.
جدول 3-2: مكونات السكان في الأقاليم المقترحة 2005.
الإقليم
المساحة (ألف كم
2 )
السكان (مليون فرد)
الكثافة السكانية (فرد/كم
2 )
سينا-السويس
150
2,4
16
الشرق (شرق الدلتا)
8,5
13,4
1580
الدلتا (وسط الدلتا)
8,5
10,0
1178
الغرب (غرب الدلتا)
225
8,8
39
القاهرة (الإقليم المركزي)
11
13,5
1,3
مصر الوسطى
130
10,2
78
مصر العليا (الصعيد)
300
10,8
36
أسوان (الجنوب)
170
1,4
8
مساحة الأقاليم الإدارية المقترحة وتقدير السكان عام 2005 (أرقام المساحة والسكان تقريبة)
تشتمل الأقاليم على: إقليم الشرق: سيناء بقسميها + محافظات القناة الثلاث + القسم الشمالي من البحر الأحمر حتى خليج جمشة. شرق الدلتا: الشرقية والدقهلية ودمياط ووسط وشمال القليوبية. وسط الدلتا: كفر الشيخ والغربية والمنوفية. إقليم الغرب: البحيرة والإسكندرية ومطروح. القاهرة = القاهرة وجنوب القليوبية ومعظم الجيزة. مصر الوسطى = بني سويف والفيوم والمنيا وواحتي البحرية والفرافرة. مصر العليا = أسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وواحتي الداخلة والخارجة ووسط البحر الأحمر. أسوان = بحيرة ناصر ومركز أسوان ومركز إدفو وجنوب البحر الأحمر وكل جنوب مصر. (14) الحكم المحلي والإقليمي
إن أحسن تأصيل للتفاعل الضروري بين النظرية والتطبيق هو قول أحد فلاسفة الآسيويين: «اذهب إلى الرجال العمليين وتعلم منهم طرائقهم، ثم ضع تجاربهم وخبراتهم في مبادئ ونظريات، ثم عد مرة أخرى للعاملين واطلب منهم وضع النظرية موضع التطبيق لحل المشاكل التي يواجهونها، والحصول بذلك على السعادة.»
عن مدرسة الديموقراطية: أحسن مدرسة للديموقراطية هي الممارسة من القاعدة - أي من الرجال والنساء العاملين، حيث نجد الواقع ومشكلاته بدون زيادة أو نقصان. وبعبارة تطبيقية نقول: إنه يجب الاهتمام بالمجالس المحلية للقرى أو لأحياء المدن بحيث تكون أحد أهم ساحات الأحزاب في المعارك الانتخابية؛ لأنها أولى حلقات السلسلة المتصاعدة إلى بلديات المدن والمجلس النيابي الإقليمي، وأخيرا مجلس النواب القومي.
عن الحجم: لقد تربينا طوال القرنين 19 و20 على أن الأكبر أحسن، وأن تطور الأمور هو من الأصغر للأكبر، وهذا حق في قوانين البيولوجيا. واستعار علماء المجتمع هذه المقولة على أن الحركة هي من الفرد إلى تجمع العصبة والقبيلة ثم الأمة والدولة. وإذا استمرت هذه الآلية الفوقانية فالأحسن هي الدولة ذات المستعمرات ومن ثم دولة القطب تحكم العالم. ومثل هذه الدولة بطبيعة الحال ستزهق حقوق الصغار أمام مقولة: الأكبر أحسن. ولكن ذلك هو مكمن الخطر ومن ثم ظهرت آراء ملخصها: أن «الصغير هو الأجمل» - وهذا صحيح بيولوجيا أيضا وربما كان سياسيا هو الأفضل. والعالم الآن ينقسم تحت سمعنا بين دولة صغيرة كالدانمرك ودولة متعملقة كالولايات المتحدة.
القصد من هذا الاستطراد تأكيد أن المجالس التمثيلية - سواء تلك في مرحلتها الأولية القروية أو المجلس النيابي القومي - هي متكافئة من حيث الأهمية ومختلفة من حيث الوظيفة ودائرة الاهتمام. فهناك مشكلات الواقع المباشر لمساحة محدودة وعدد محدود من الناس داخل الحدود المجالية لمجالس القاعدة، بينما المشكلات القومية هي مجال الاهتمام الأساسي للمجلس النيابي القومي الأعلى. ولا يمكن تصور عمل كامل العطاء للمجلس النيابي الأعلى بدون أن يدعمه عطاء المجالس المحلية. (14-1) تكوين مجالس الحكم المحلي والإقليمي (1)
في المناطق الريفية مجالس قروية. ومن الأمور الواجبة تحديد القرية وتوابعها من عزب وكفور حتى عدد معين من السكان، أو مساحة معينة متفق عليه في كل إقليم على حدة - مثلا دوائر الدلتا مساحة وسكانا غير تلك في سيناء - على ألا يقتطع التحديد وحدة قبلية أو علاقات قروية تاريخية ومجالية. (2)
ثم مجلس محلي للمركز كوحدة إدارية، تراعي في تحديده أيضا المواصفات سابقة الذكر. (3)
في المناطق الحضرية تنتخب مجالس بلديات في المدن الصغرى، ومجالس أحياء، ثم مجلس بلدي في المدن الكبيرة. (4)
مجلس نيابي إقليمي: وهو واحد من مجالس النواب في الأقاليم الثمانية الكبرى المقترحة لتقسيم مصر إداريا بديلا عن المحافظات الحالية. (5)
مجلس تنفيذي يقترب من شكل حكومة لكل إقليم على حدة، منتخب هو ورئيس المجلس الذي قد يساوي وظيفة المحافظ الحالية.
عن التغيير:
التغيير سنة من سنن الحياة البيولوجية والاجتماعية والإدارية. ولا يحدث التغيير لمجرد ضرورة التغيير، بل يجب أن يحدث نتيجة مدخلات تغير جمع من عناصر البنية والتركيب الاجتماعي الاقتصادي السياسي. فإذا لم يحدث تغير مناسب للحال صار الأمر إلى ركود. وقد غيرت الإدارة المصرية نفسها مرات آخرها تحويل المديرية إلى محافظة أخذا بمتغيرات الحكم المحلي خارج العاصمة. فالمدير يحكم نيابة عن السلطة المركزية بينما المحافظ يرأس سلطة إقليمية، وهو بذلك سلطة وسط بين المركز القومي وبين ناس ومصالح في مكان معين. لكننا غيرنا ولم نغير: ففي ذات الوقت الذي يمنح فيه المحافظ سلطاته نجدها تنكمش وتتحدد إزاء السلطة المركزية بدرجة كبيرة. ويكفينا القول: إن المحافظ يعين وليس للناس أو الأحزاب رأي في هذا التعيين. وبعبارة أخرى فإن نظام الحكم المحلي موجود لكنه ضعيف إزاء قوة الحكم المركزي، وبهذا تحرم الأداة الحاكمة من اقتراب حقيقي من الأرض. هذه ناحية.
وناحية أخرى إن حدود المحافظات تتغير من حين لآخر. وهذه التغيرات هي عبارة عن زحزحة الحد لتكبر محافظة على حساب أخرى - أي كأنه غزو واستيلاء له ما يساق من مبررات كثيرة بعضها تعبير عن واقع محسوس يراد تصحيحه فعلا. لكن هذه الزحزحات لم تتناول جوهر قضية التغيير من أجل تصحيح واقع راكد غير متفق مع مقتضى تحولات المجتمع والاقتصاد والسياسة. فالمحافظات الحالية كان لها مبررها حين كانت السياسة المصرية تنظر إلى الداخل فقط - أي المعمور من الوادي والدلتا، بينما الأقاليم الصحراوية هي محافظات الحدود التي تحكمها مصلحة الحدود التابعة لوزارة الحربية. أما السياسة المعلنة الراهنة فتنظر إلى مصر كلها على أنها الداخل، لا فرق بين معمور وغير معمور. ومن ثم برزت أفكار تصالحية بين التفتيت الذي تمثلة محافظات الوادي والدلتا وبين المحافظات الشاسعة خارج الوادي والدلتا. ولعل ظهور فكرة الأقاليم التخطيطية الثمانية هي من هذا النوع التصالحي فهي تحتفظ بهياكل المحافظات كما هي في كل نواحيها، وتحاول إيجاد مخططات تنموية لمجموعة محافظات متجاورة تعاملها كأنها إقليم موحد. وكان يمكن أن يقدر النجاح لهذا الفكر التوفيقي لولا عدم وجود قوة تنفيذية لدى هياكل الأقاليم التخطيطية فضلا عن أن تنفيذ أي مخطط يعتمد على الرغبة الحسنة لدى المحافظين داخل الإقليم التخطيطي. وحيث إن المسألة تتعدى المحافظ الواحد إلى عدة محافظين، فإن الكثير من المخططات ظلت أوراقا في أدراج!
إن الأمور الآن في حاجة إلى تغيير هيكلي حقيقي متناسب مع خروج حدود المحافظات إلى الصحاري المجاورة، وبعض هذا الخروج غريب وشاذ مثل لسان الجيزة الممتد بشكل غير واقعي على الإطلاق إلى واحة البحرية بدعوى وجود خط حديد مناجم الحديد، أو لسان المنوفية غريب الشأن الممتد إلى مدينة السادات، وتحول الطريق الصحراوي إلى اختصاصات أربع محافظات هي الجيزة والمنوفية والبحيرة والإسكندرية! لهذا فالمقترح التخلي عن المحافظات التقليدية وإنشاء هياكل إقليمية جديدة هي أقرب ما تكون إلى الأقاليم التخطيطية، مع التعديلات اللازمة لمراعاة شروط جغرافية: مساحة وناس ومعمور وصحراوي، في صورة ثمانية أقاليم حكم محلية بدلا من 26 محافظة غير متناسبة مساحة وسكانا وموارد. (14-2) مهام وظائف المجالس المحلية والإقليمية
ليس المفترض أن تكون هناك علاقة سلبية بين المحليات والحكومة المركزية.
عقد اجتماعات شهرية، تزيد عند مقتضى الحال لجميع المجالس المحلية، ودورات انعقاد لبرلمان الإقليم.
تشكل المجالس لجان متخصصة في شئون محددة كالري أو الصرف على سبيل المثال، على ألا تكون العلاقة مع الجهات التنفيذية الإقليمية والمركزية سلبية إلا في حالات عدم موضوعية التنفيذ.
علاقة المجالس بالأحزاب هي علاقة مستمرة؛ لأن الأعضاء يمثلون أحزابا مختلفة لهذا نجد تنفيذا لسياسات حزب ما إذا تشكل أعضاء مجلس ما من أغلبية لهذا الحزب. لكن حيث إن هناك مواجهة مستمرة بين الناخبين والأعضاء في المجلس المحلي، وحيث إن كل أعضاء المجلس لديهم مشكلات كل القرى والتجمعات العمرانية التي يمثلونها، فالمتوقع أن تكون قرارات المجلس المحلي متسمة بدرجة كبيرة من الموضوعية بحكم اقترابها من الواقع. بل المتوقع أن يغذي أعضاء المجلس أحزابهم بآراء من الواقع كي يتبناها الحزب لتصبح ضمن إطار إيديولوجية الحزب. وهكذا نرى تصعيدا مستمرا من القاعدة إلى أعلى، وهو الأمر الذي نفتقده كثيرا.
ولو افترضنا أن ما سبق ذكره قد حدث فربما رأينا سياسات تعليمية مختلفة في الأقاليم مثلا ربما اتجه التعليم الإعدادي إلى الحرفية الماهرة في الصناعات البتروكيمائية وصناعة استخراج البترول والمنصات البترولية في إقليم سيناء والقناة؛ لأن خليج السويس هو محور هام في اقتصاديات الإقليم. وربما اتجه التعليم في الصعيد إلى المهن المرتبطة بنسيج الكتان والكليم والسجاد ومنسوجات الأقطان متوسطة التيلة، وصناعات غذائية مثل إعداد البقوليات والبصل ... إلخ، والأغلب أننا بمثل هذه الطريقة نحل المشكلة العويصة وهي: التزام الدولة بتعيين الخريجين في وظائف لا وجود لها في عالم الإنتاج والخدمات الحالية. (14-3) الخدمات التي تقدمها المجالس المحلية
الخدمات التالية مسئولية وزارات في حكومة الإقليم، تنفق عليها في الإنشاء والصيانة والرواتب والمعاشات ... إلخ.
خدمات التعليم الابتدائي والإعدادي: تقترح وزارة التعليم الإقليمية على المجلس الإقليمي نوعيات تعليمية جيدة في المنهج والتخصصات دون الجامعية، وأيضا تقترح إنشاء المدارس ورواتب المدرسين من ميزانية وزارة التعليم الإقليمية وبقرار منها.
خدمات الأمن المحلي، وخدمات شرطة المرور وإسعاف السيارات، وخدمات الإطفاء والإنقاذ المائي.
خدمات الصحة العامة بما فيها الوقاية والعلاج والإسعاف وإقامة المستشفيات العامة والمتخصصة.
خدمات المدينة والقرية في البنية الأساسية وإمدادات المياه والصرف الصحي والكهرباء والغاز والاتصالات.
الخدمات الاجتماعية والدينية ورعاية كبار السن والأيتام والفقراء ... إلخ. (14-4) بعض مهام المجالس المحلية والإقليمية
رسم حدود العمران - كردون القرية والمدينة - لمنع الزحف غير المنظم أو تآكل الأرض الزراعية، ومراعاة قوانين البناء، وإنشاء أبنية الخدمات العامة وصيانة الطرق والجسور.
تنظيم التجارة الداخلية من حيث أماكن الأسواق الأسبوعية وتطويرها وتركيزها في حيز محدد بدلا من انتشارها على جوانب ملتقى الطرق الرئيسية في القرية أو المدينة الصغيرة، مما يتسبب في اختناق المرور ساعات طوال. وكذلك الإشراف عليها من حيث شروط الصحة العامة وصلاحية الأغذية والكشف البيطري على الحيوانات المتداولة في الأسواق حتى لا تتسبب في انتشار أمراض معينة بين الحيوانات ... إلخ.
قرارات إقليمية حول الترفيه والمسارح ودور العرض بما يتفق مع الضوابط والأذواق المحلية، وما يرقى بالذوق إلى الاستمتاع بالجمال كالمتنزهات والورود وكذلك إقرار إنشاء محطات إذاعة «وتلفزيون» وصحافة محلية على الأغلب بواسطة القطاع الخاص.
الإرشاد الزراعي والإشراف على الجمعيات الزراعية والتعاون مع الجمعيات التعاونية التي تنشأ لمنتجي محصول أو سلعة معينة من أجل حماية مصالحهم في الإنتاج والنقل والتسويق. (14-5) تمويل المجالس المحلية
من البديهيات أن مثل هذه الهياكل المنتخبة تصبح مجرد واجهات عرض إذا لم يكن لديها الاستقلال المالي عن الحكومة المركزية بدرجة كبيرة. ويأتي التمويل مصادر عديدة على رأسها حصة كبيرة من الضرائب العامة التي تفرضها الحكومة المركزية، إلى جانب الرسوم المختلفة على أشكال الخدمات وتصاريح البناء والمؤسسات التجارية والصناعية ... إلخ. وفوق هذا يمكن أن تكون هناك حصص دائمة من الخزانة المركزية لكل إقليم، فضلا عن إمكان الحصول على قروض ائتمانية من البنوك وبيوت المال التي يمكن أن تنشأ في الأقاليم مستقلة عن التكدس المالي في العاصمة، ربما تقام بورصة إقليمية تتميز باهتمامات في صناعات أو تجارة معينة كالنسيج أو صناعات زراعية، هذا فضلا عن حصيلة الحكومة المحلية من الإعلانات التجارية والفنادق وغير ذلك كثير. على أن الشرط الأساسي هو عدم إرهاق الناس برسوم وضرائب جديدة فوق ما يدفع للحكومة المركزية. (14-6) المتوقع
تخفيف ضغط تيار الهجرة على القاهرة والمدن الكبرى بإفساح المجال للتنمية المحلية داخل كل إقليم بصورة تمتص نسبة من البطالة الإقليمية لكثرة المعروض في سوق عمل متعدد الوجهات، وتنقذ الكثير من الأموال التي تستثمر في شراء مساكن لا ضرورة كبيرة لها في العاصمة الإقليمية أو مدن مكدسة، فتحولها إلى استثمار إنتاجي وسكني داخل الأقاليم.
إعطاء فرصة للتحول من البيروقراطية المركزية إلى البيروقراطية المحلية، وهي أقل خطرا؛ لأنها تخضع بصورة أو أخرى لرقابة قريبة منها صادرة أولا عن السكان واحتياجاتهم، وثانيا عن برلمان الإقليم ومجالسه المحلية متعددة المستويات في القوة والقدرة على التقويم الرشيد.
والخلاصة: أن انشغالنا الدائم بحبكة القوانين لا يفيد: أولا: لأن وجهة النظر المركزية هي الطاغية في الفكر العام، وثانيا: لأن القوانين ليست أبدية، بل تعدل أو تتغير بناء على ظهور ما تحتاجه متغيرات اجتماعية سياسية اقتصادية. وقوة المجالس المحلية أو الإقليمية قد تخيف المتمرسين في الحكم المركزي في دولة مثل مصر. لكن المجالس المحلية في الواقع سوف تضيف قوة إلى شكل الحكم القومي باقترابه من الأرض وواقع الأمور أكثر من أشكال المركزية.
وأخيرا فإن الإصلاح الإداري في مصر يجب أن يكون في منظومة واحدة تسعى، ليس فقط للإدارة المحلية، بل الإصلاح الإداري العام محلي ومركزي معا.
8 / 1 / 2003 (15) خصخصة الإدارة المحلية
بالرغم من جو الخصخصة الذي أحاط بنا خلال بضع السنوات الماضية فإن ما أدعو إليه في هذا الموضوع ليس إهداء الإدارة المحلية إلى شركات تبيع وتشتري حسب رائدها من الربح والخسارة. إنما المقصود هو خلخلة قبضة المركزية المصرية العامة على الإدارة المحلية، تماما كما تفك الخصخصة الشركات الراكدة إلى شركات متخصصة قادرة على اتخاذ القرار دون الصعود والهبوط لمكاتبات ورقية للرأي والقرار، والموضوع الذي نحن بصدده يطرق أبوابا معروفة سبق لي وللكثيرين غيري الحديث والكتابة عنها بصور مختلفة وفي مناسبات متعددة وبأساليب تتراوح بين الموضوعية الهادئة والعواطف الفوارة.
الركيزة الفلسفية للموضوع تنطلق من محورين أساسين، أولهما: هو المفاضلة بين المركزية بأشكالها المتشددة والمخففة، وبين تفويض الأمور للمحليات أيضا بصور متعددة. وثانيهما: أن ثبات الأمور على حال واحدة ليس من موجبات الحياة، فلا شيء يحيا إذا جمد على شكل واحد دون تغير وتطور من ذاته ناجم عن التفاعل مع غيره من مكونات المجتمع، أو تغيير وتطوير بفعل السياسات المختلفة لكل زمان. (15-1) المركزية والمحلية
إذا بدأنا بهذا المنطلق فعلينا من البداية أن نحذر من المقولة الشائعة: إن مصر دولة مركزية الحكم منذ بضعة آلاف السنين. فهذه المقولة في مجملها لا تحكي الحقيقة؛ لأننا في دراسة التاريخ درجنا على أن ننسب الزمان لأشخاص الحكام وليس إلى حركات الناس. صحيح أن بعض الحكام الأقوياء كان لهم صولة وضجيج أو ينسب إليهم أمور هي بالفعل حاسمة في التاريخ العسكري والسياسي: مثلا «مينا» (نارمر) موحد القطرين، وإن كانت هناك حركات توحيد سابقة أو على الأقل إرهاصات توحيد استمرت عقودا ومئات من السنين وحان قطافها عندما تولى مينا حكم الجنوب. وتحتمس والرعامسة وصلاح الدين وبيبرس ومحمد علي كانوا من الملوك والحكام المحاربين، وغالبيتهم بطبيعة الحال كانت تحكم بمركزية مطلقة.
ولكن أين جمهور الشعب في هذا التاريخ الطويل؟ لا شك في أن الشعب هو الباني الأعظم لكل لبنات الحضارة والثقافة المصرية سواء كان الشعب مصري أو مضاف إليه ومنصهر فيه مهاجرين من الشعوب المجاورة بأعداد مختلفة في أزمان مختلفة. هذا الشعب هو الذي يحرك السياسات والاتجاهات على المدى الطويل ويقبل شكلا من التنظيم الحاكم فيثبته أو يرفضه بالمقاومة السلبية التي تظهر في روح الفكاهة والنكتة، كما تظهر في قلة الإقبال على الأعمال الإنتاجية فيفقر النظام وتهتز أركان الحكم بعد فترة، مثل فرار الفلاحين من الحقول كوسيلة من مقاومة ظلم الجبايات والضرائب. أو أن يتخذ الشعب سبيل القوة ليقاوم قدر إمكاناته لتغيير مثل هذا النظام. وفي العصر الحديث كان مثل ذلك ثورة 1919 التي استندت إلى مراجل غضب شعبي ودعوة للاستقلال على طول ثلاثة عقود، وجدت رمزها في سعد زغلول والوفد ونجحت بحشود المقاومة الشعبية في كل مكان. ومثل ذلك أيضا «ثورة» 1952 التي استندت أيضا إلى إفرازات الحياة الحزبية المصرية - إيجابية وسلبية. فعلى مدى ثلاثة عقود - الثلاثينيات إلى الخمسينيات - من الصراعات بين الليبرالية والمحافظة والتنظيمات اليمينية واليسارية وشبه اليسارية أصبحت الدعوة إلى تغيير شكل الحكم أمرا متداولا ومقبولا، وبذلك بنيت الأسس الإيديولوجية للتغيير التي وجدت طريقها التنفيذي في صورة تنظيم الثورة العسكري، فتقبلها الناس بشيء من الحذر خاصة في سنتيها الأول. (15-2) التقسيمات الإدارية لمصر
في غالبية الفترات التاريخية كانت السلطة مقسمة - بنسب مختلفة في كل فترة زمنية - بين مركزية حكومة الحاكم وقوى السلطة الدينية من جانب، وبين أقاليم الدولة بأشكال من تسيير الأمور تختلف قدرا من إقليم لآخر. صحيح أن هناك سياسات عامة تخضع للمركز كالضرائب العامة أو تجييش الجيوش، لكن فيما عدا ذلك كانت الأمور في الأقاليم هي من شأنها؛ بل إن بعض الأقاليم كانت من القوة بحيث تصبح أقوى من المركز، كما حدث في فترات عديدة من التاريخ الفرعوني أو قوة حكام الصعيد وولاته في العهد العثماني.
إن تقسيم مصر إلى أقاليم أو مديريات ومحافظات أمر درجنا عليه منذ القدم، لكن هذه التقسيمات لم تكن دائمة بل تحدث فيها تغييرات بمقتضاها تكبر الأقسام أو تصغر، تنمحي تسميات مثل المرتاحية والأطفيحية والأخميمية والنستروانية، وتتغير حدود إدارية للأقاليم والمديريات. ولقد كانت الأقسام الإدارية في الثلاثينيات 14 مديرية، بالإضافة إلى أقسام الحدود في شرق مصر وغربها. ومنذ ذلك التاريخ أخذت الأقاليم الإدارية نهج اقتطاع أجزاء من محافظات وتحويلها إلى محافظات خاصة كدمياط من الدقهلية والغربية، وبورسعيد والإسماعيلية من محافظة القناة، وسيناء الشمالية والجنوبية من محافظة سيناء. ومطروح والوادي الجديد من الصحراء الغربية ... إلخ، بحيث أصبح لدينا 26 محافظة منها 4 محافظات حضرية و17 ريفية وخمس صحراوية. ولنا على ذلك ملاحظات ندمجها كالآتي:
الملاحظة الأولى:
أننا نجد أن مسمى حضري وريفي وصحراوي آخذ في فقدان قيمته اللفظية ومحتواه الفعلي؛ نتيجة التطورات العمرانية الآخذة بالاتجاه إلى الصيغة الحضرية في قلب الريف وفي أماكن التركز السكاني السياحي والاصطيافي في غالبية المحافظات الصحراوية، فأي مدينة صغيرة أو كبيرة تعاني من تضخم عددي بمن يزحفون عليها من القرى المجاورة. أين المنيا منذ الخمسينيات من المنيا اليوم التي تمتلئ بالعشوائيات واحتاجت إلى إنشاء منيا جديدة؟ وبني سويف التي كانت ناعسة على النيل استفحل حالها أيضا مما دعا إلى بناء مدينة جديدة، وكفر الزيات كسرت الطوق وزحفت على القرى المجاورة في كتلة عمرانية تلتحم قريبا مع الدلجمون المتضخمة وتواجه المسئولين بمشكلات كثافة الحركة والانتقال كأي مدينة متوسطة الحجم. ومثل ذلك كثير ومتكرر بدرجات مختلفة في الدلتا والوادي. والشيء نفسه عن قرى الاصطياف ومراكز السياح في مطروح وسيناء والبحر الأحمر التي تنمي ما حولها من تجمعات صحراوية أصلا إلى مدن صغيرة تتشكل كمراكز حرف وتجارة وخدمات ومدارس ومراكز صحية وإدارية كالحمام والطور ونويبع والغردقة.
الملاحظة الثانية الهامة:
أن التغيرات التي حدثت في الأقاليم الإدارية عبر التاريخ لم تكن بدون سبب. فهناك أسباب اقتصادية عقارية ومالية - الضرائب بوجه خاص، وأسباب أمنية تدعو إلى تحسين الإدارة وتسهيل أعمال الناس وضبط الأمور سياسيا. فعلى سبيل المثال فإن تغيير محمد علي الأقسام الإدارية السابقة إلى مأموريات ثم مديريات كان سبب إنشاء نظام الري الدائم في الدلتا، وما تلى ذلك من تغيرات اقتصادية في المركب المحصولي الزراعي، وإنشاء الصناعات ونشرها في أماكن متعددة من مصر. ومن ثم كان إجراء التغيير في الوحدات الإدارية هو استجابة إلى متطلبات حقيقية للناس والحكم معا. وبالمثل فإن التغيرات التي حدثت في عهد إسماعيل من تقسيمات داخلية في المديريات كانت أيضا بسبب تطور طبقات المجتمع الاقتصادية، ودخول رأس المال الأجنبي في الكثير من الأعمال وخاصة بورصة القطن ومصانع الزيوت والنسيج ... إلخ.
واليوم فإننا نمر أيضا بتغيرات جسام في اقتصاديات مصر الزراعية والصناعية والخدمية والتعدينية والمالية تعيد تشكيل المجتمع على أسس جديدة من الإيديولوجيات والسلوكيات بالتناسب مع متغيرات العالم حولنا. وأكبر تغيير هو أن عدد الممارسين للزراعة يكاد أن يجمد عند حد معين يتناسب مع متطلبات الأرض، بينما يتوجه بقية سكان القرية إلى العمل في المدينة القريبة والبعيدة مع بقائهم في بيوتهم في القرية. هؤلاء سكان ريف لكنهم اقتصاديا حضريون يتعايشون مع كل أشكال حياة المدينة، ويجلبون معهم إلى القرية بعض أشكال الحضرية. وعلى أية حال فإن هذا الشكل من التغيير وغيره قد أدى إلى أن تزيد معه أعباء الخدمات التعليمية والصحية والضمانات الاجتماعية والأعمال البنكية والاستثمارات في جميع المحافظات بمدنها وقراها ... إلخ. مما يؤدي إلى تشابك تراكيب جديدة ومنطلقات حديثة.
والخلاصة متغيرات كثيرة تفور بها مصر بغض النظر عن بعض التهاون والتسيب وجرائم المال والبيروقراطية التي غالبا ما تظهر على السطح خلال أوقات التغيير والفوران الاجتماعي الاقتصادي، وتنتهي باستقرار الأوضاع على التشكيل المناسب. وبالمثل هناك متغيرات أقوى نتيجة متغيرات العلاقات الاقتصادية والثقافية مع العالم الخارجي تظهر في مصر في عالم الصناعة والشركات المندمجة وعالم الخدمات والصحة والتعليم، كإدخال الكمبيوتر في المدارس والأقوال الكثيرة عن الحكومة الإلكترونية، وكلها مما يساوي إرهاصات تغيير حاد جاد.
وفي مقابل هذه المتغيرات تقف الإدارة المصرية جامدة أمام ضرورة تشكيل إداري جديد مناسب للحياة الجديدة. ما زلنا متمسكين بالمحافظات الحالية، بل ربما تزيد بإنشاء محافظات أخرى، كمطلب البعض إنشاء محافظة بين القاهرة والشرقية تتمحور حول مدينة العاشر من رمضان - أو كما قد يعن قريبا من فكر لإنشاء محافظة جنوب الوادي الجديد تضم توشكى وشرق العوينات وهضبة الجلف الكبير!
هذا التفتيت إلى كيانات إدارية صغيرة ليس له في الوقت الحاضر ما يبرره. الكيانات الأكبر مساحة وسكانا هي بالقطع أكثر تلاؤما مع متطلبات التنمية، وأكثر اقتصادا وتوفيرا في عدد الوظائف والتراكيب الإدارية البيروقراطية. في العقود الأخيرة من القرن الماضي قسمت مصر إلى سبعة أقاليم تخطيطية، كل إقليم يضم عدة محافظات، والغرض منه تنسيق العمل والاقتصاد في رقعة أوسع من المحافظات. لكن هذه الأقاليم لم تجد لها تفعيلا حتى الآن؛ لعدم تحديد أين تبدأ وتنتهي حدود إدارة الإقليم وحدود إدارة المحافظة بالإضافة إلى نوع ما من التنافس البيروقراطي بين الكوادر والهيئات.
وقد كان هذا متوقعا؛ لأننا بهذه الأقاليم التخطيطية خلقنا ثنائية إدارية (أمر غير عملي) لتحسين الأداء المجتمعي مع إبقاء الشكل الإداري الراسخ للمحافظات منذ عقود وتتمثل فيه مصالح كثيرة أغلبها بيروقراطية المكاتب. فكأننا أردنا - ربما دون قصد - إيجاد منافسة إدارية بين تنظيمين أحدهما: (الأقاليم) أعلى من الآخر (المحافظة)، أو نتساءل: هل كان المقصود من الأقاليم التخطيطية أن تنجح؟ وربما كان التساؤل أين يذهب التركيب الإداري القائم في 26 محافظة إذا انتهى الأمر بتقليص الوحدات إلى سبعة أو ثمانية أقاليم. (15-3) الأقاليم الإدارية الكبرى
الأقاليم التخطيطية كانت: القاهرة، الإسكندرية، القنال، الدلتا، شمال الصعيد، أسيوط، جنوب الصعيد، ولكن هناك أوجه سالبة في هذا التقسيم منها ضخامة الدلتا سكانا واقتصادا وعمرانا، وعدم ظهور المناطق الصحراوية في هذه الأقاليم، وتخصيص أسيوط كوحدة دون مبرر. وفي بعض كتاباتي السابقة رجحت أن تكون الأقاليم إدارية وليست تخطيطية فقط - أي إزالة اللبس بين الإقليم والمحافظة، وأن تكون مكونات هذه الأقاليم هي: (1) القاهرة الكبرى: (محافظة القاهرة وشبرا الخيمة ووسط محافظة الجيزة). (2) إقليم الغرب: (البحيرة بتعديلات، الإسكندرية، مطروح). (3) إقليم الدلتا: (المنوفية والغربية وكفر الشيخ). (4) إقليم شرق الدلتا: (الشرقية والدقهلية ودمياط ووسط وشمال القليوبية). (5) إقليم سينا-السويس: (بورسعيد والإسماعيلية والسويس وسيناء الشمالية والجنوبية وشمال البحر الأحمر حتى قرب الغردقة). (6) مصر الوسطى: (جنوب الجيزة وبني سويف والفيوم والمنيا وواحتي البحرية والفرافرة وامتداد إلى البحر الأحمر حول الغردقة). (7) إقليم الصعيد: (أسيوط وسوهاج وقنا وواحتي الخارجة والداخلة وامتداد إلى وسط البحر الأحمر نحوا من سفاجا والقصير إلى مرسى علم). (8) إقليم أسوان-الجنوب: (أسوان وجنوب البحر الأحمر من مرسى علم إلى حلايب وشرق العوينات والجلف الكبير).
وسواء خافت المركزية من فقدان سلطاتها فأبقت على تنظيم المحافظات الحالي، أو أخذت خطوة شجاعة بتغير كيانات المحافظات الحالية إلى أقاليم أرحب مساحة وسكانا وموارد وطاقات تنموية، فإن الأمر في النهاية يوجب على السلطة المركزية تفويض جوانب كثيرة من سلطاتها إلى الأقاليم أو المحافظات من أجل خلق روح عمل ومبادرات محلية تبدأ من الواقع في كل الجهات وعلى كل الأصعدة. فلقد درجنا على أنه لا يبت أمر بدون الوزير، ولما لم يكن في استطاعة أي وزير استطلاع العمل في كل إداراته ووكالات وزارته في 26 محافظة إلا إذا قام برحلات مكوكية دائمة غير معلنة؛ ولهذا ففي الواقع تظل أجزاء كثيرة من العمل في الأقاليم عليها ظلال وحجب تظهر من حين لآخر حين يقوم الوزير بزيارة قد لا تكون مفاجئة - كزيارة وزير التربية الأخيرة لبورسعيد. كما أننا نطالع باستمرار في الصحف القومية مشكلات غالبيتها حيوية في كثير من المحافظات مما يؤكد قصور المركزية عن متابعة كل شيء، إلا إذا تحولت بعض الوظائف إلى عيون ترصد وتبلغ، وهو أمر ممجوج حقا إذا تحولنا إلى دولة بوليسية، وإذا استشرى ذلك فإنه سوف يحجم روح المبادأة عند الكثير من المجتهدين الغيورين على الصالح العام فيتوقف عطاء كان يمكن أن يكون مفيدا للناس أو محقا للحق قدر الإمكان.
الفصل الرابع
حول بعض أقاليم مصرية مختارة وقضاياها الراهنة
تمهيد
الموضوعات التي عالجتها في هذا الفصل أختيرت بعناية بغرض التعريف بأقاليم ومناطق مصرية ليست معرفة غالبية المصريين بها بالقدر الكافي وإنما في صورة عامة وتفصيلاتها في المجموع ضبابية. لهذا كانت خياراتي بعيدة عن الدلتا والوادي؛ لأن غالبية الناس يعرفونها بحكم أصولهم. وبرغم معرفة جيدة لدى الناس عن الساحل الشمالي كمصيف مصري ذائع الصيت إلا أن الاختيار وقع عليه لاعتبارات كثيرة، معظمها الهدر في اقتصاديات القرى الاصطيافية وتدمير البيئة باعتبارهما معا من النواتج السلبية التي تهدد الشواطئ الشمالية. وكذلك الحال بالنسبة إلى البحر الأحمر وسيناء الجنوبية التي صار الناس يعرفونها لكثرة السياحة الداخلية إليهما في الآونة الآخيرة، لكن مشكلة السيول وتدمير الطرق هي الجانب الهام من هذه المعالجة. وبالنسبة لموضوع الصحراء الغربية قد حدتني الرغبة إلى تقديم نبذة عنه؛ لاتساعه الهائل ومكوناته المحدودة من الواحات وموارده المهدرة في الطاقة الطبيعية، وما يتعرض له أحيانا من استنزاف جائر لمخزون المياه الباطنية بدعوى إقامة مجتمعات زراعية. وأكثر واحات الصحراء الغربية بعدا وانزواء هي الفرافرة التي اتخذتها كمثال لمزيد من المعرفة لهذا الركن البعيد ومستقبل الواحة التنموي الذي يحتاج إلى ضبط كثير وتؤدة في الخطوات حتى يكون ناجحا. والإقليم النائي الثاني هو النوبة قديما وحديثا، وعن مشكلات التنمية بالنسبة للسكان الأصليين: هل يسمح لهم بالعودة إلى مواطنهم أم هناك مهبطات ومثبطات أمام العودة، ولماذا؟ وأخيرا فإن منطقة قناة السويس معروفة جيدا ولكن فيها مشروعات تنمية جدلية في شرق بورسعيد وشمال خليج السويس توضح تردد الدولة في أولية أيهما، وإن كان الاتجاه قد فضل في النهاية خليج السويس كأولوية، وأبقى على جزء من مشروع شرق التفريعة باعتبار أن العمل في الميناء كان قد بدأ فعلا ولا سبيل إلى التراجع. (1) الحضارة والتاريخ
مصر بلد حضارة ستة آلاف سنة والقاهرة مدينة الألف مئذنة - هما من بين العبارات الرمزية الكثيرة التي نذكرها الحين بعد الحين نلخص بها مواصفات مصر أو ترمز إلى القاهرة في إيجاز شديد. ولكن الحضارة المصرية تغوص في أعماق أكثر من ستة آلاف بكثير، ولو كان لدينا تعداد لعدد مساجد القاهرة ومآذنها لتعدت الألف بكثير. والغرض من كلمة الألف هو العدد الكثير، وهو عد ينطبق على الماضي غير البعيد يصف الشىء بالكثرة المتناهية. بينما نحن الآن نستخدم المليون والمليار للعدد الذي لا ينتهي. فنحن اليوم نستخدم رموزا تعطي وصفا ملخصا لمصر شاع على الألسن، قد يكون «مصر بلد السبعين مليونا من البشر» أو «القاهرة بلد الخمسة عشر مليونا»، أو أن «الميزانية المصرية هي كذا مليارا» من الدولارات أو الجنيهات.
فالعبرة في الأقوال الملخصة لحالة بلد ما تنبع من أهم ظواهرها المعاصرة، سواء كانت ظاهرات مجيدة أو أخرى مزعجة. وليس معنى هذا أن الرموز القديمة التي ترجع إلى زمن فات قد انتهت صلاحيتها، بل هي تخرج من دائرة الضوء لتكمن في الظلال حتى تأتي مناسبة تستدعيها فتظهر مرة أخرى لفترة محدودة تعود بعدها إلى الظل في العقل الخلفي. مثال ذلك اكتشاف أثري مثير، أو تحديد عمر أثر أو مومياء بالزائد أو الناقص عن تقدير سابق، ومن ثم نعدل المقولة إلى «مصر بلد حضارة السبعة آلاف أو العشرة آلاف سنة.»
ولأن الحضارة صيغة لازمة لكل الشعوب فالرمز الحضاري لا يموت، فما بالنا بحضارة مصر الرفيعة التي تعد أقدم الحضارات والثقافات العليا التي تشمخ منجزاتها المعمارية والعلمية، سواء في المسلات والمعابد أو في باطن القبور من توابيت رائعة الصنعة ومومياءات تتحدى التآكل البيولوجي آلاف السنين، وأدوات الحياة وعروش الفراعين ولوحات جدارية ما زالت ألوانها تنبض بالحياة. وفوق كل هذا سجلات كتابية هي بصفة عامة كتاب التاريخ الضخم الذي لا نظير له في العالم يحكي لنا مساعي المصريين في إقامة مجتمع سلام منظم داخل أطر حياتية مقننة دينيا وخلقيا وتشريعيا بين الثواب والعقاب وبين الحياة الأرضية والحياة الآخرة. كل ذلك في استمرارية ودينامية بمنطوق العصور الطوال التي استغرقتها الحضارة المصرية آلاف السنين حتى مع تغير القوى السياسية من فرس وبطالمة ورومان وعرب وترك وفرنسيس وإنجليز.
صحيح أن الفتى يقول: أنا من أنا وليس من كان آبائي وأجدادي، لكن صحيح أيضا أن الفتى وما يدركه من نجاح هو محكوم أيضا بتراثه القريب والبعيد معا. فما بالنا إذا كان هذا التراث مجموعة من دواعي الفخر المجيد! (1-1) القدر الحيوي من التاريخ
أحزن كثيرا حينما أعرف طلابا في الجامعة لا يعرفون سوى النذر القليل من تاريخ الحضارة المصرية. بل تختلط في أذهانهم العصور المصرية، ولولا وجود أهرام الجيزة لما عرفوا من هو خوفو. بل لعل غرابة أسماء خوفو (خنوم خوفو؟) وخفرع (خف-ن-رع)، ومنقرع (منكاو رع) هي التي تدعو إلى التندر المصحوب بالمعرفة الاسمية فقط. ناهيك عن الجهل بتحتمس الثالث أبو العسكرية الفرعونية جهلا يكاد أن يكون مطبقا! بينما أصبح اسم رمسيس شائعا لاستمراره كاسم بين المواطنين ولتسمية شارع رئيسي باسمه ولكثرة تماثيله وعظمتها وضخامة معابده وخاصة أبو سمبل. والحقيقة أن رمسيس كان محظوظا كأحد الفراعين العظام أكثر من غيره في حياته الطويلة وبطولته الشخصية وانتصاراته الجزئية على الحيثيين وعقد الصلح معهم، ومن ثم صار شخصية إعلامية على مستوى عالمي.
وماذا عن أحمد بن طولون وقطز وبيبرس وقلاوون وقايتباي والغوري. كلهم معروفون كبناة مساجد عظيمة أو قواد محنكين. ولكن ماذا عن الحياة المصرية والرخاء التجاري في تلك الفترات والعهود؟ وماذا عن بناء مصر الحديثة والدور البارز لمحمد علي السياسي البارع، وإبراهيم بن محمد علي أبو العسكرية المصرية في القرن التاسع عشر، وإسماعيل بن إبراهيم صاحب تحديث مصر؟ الصورة التاريخية معتمة لهؤلاء العظماء الذين أخذوا بجريرة أحفادهم توفيق وفؤاد وفاروق بدون وجه حق. فالحكم على ممارساتهم السياسية يجب أن يقاس على منظور زمانهم العالمي وليس زماننا.
لا شك أن المعرفة بالتاريخ - صفحاته البيضاء والسوداء على حد سواء - أفضل كثيرا من الجهل أو التعتيم. فالجهل يخلق مجالات للاختلاقات غير الصحيحة والتي يقع فيها بعض الروائيين فيكتبون القصص الممتعة يضفون عليها حبكة درامية أو فكاهية يتقبلها الناس كوقائع تاريخية، وهي ليست كذلك. ولا يحدث هذا في مصر فقط بل في أجزاء كثيرة من العالم، مع فارق المغالاة التي درجنا عليها في مصر.
والغرض هو أن تكون مناهج التاريخ في التعليم العام أرحب مما هي عليه الآن، بحيث يدرك التلاميذ أبعاد المكون الحضاري المصري بصورة مركزة غير موغلة في الأسماء وغير متحيزة «للأنا المصرية»، وغير غارقة في تفصيلات يجب أن تترك للذين يتخصصون في التاريخ في الدراسة الجامعية. فكل حضارة لها ارتفاع وهبوط وازدهار وركود. ومن حظنا الحسن فإن الحضارة المصرية عاشت هذه المراحل دون أن تموت - كما حدث لبعض الحضارات وخاصة في العالم الجديد، فالنسيج الحضاري كان من التداخل والقوة بحيث تتسلل عناصره وخيوطه من عصر زاه إلى عصر باهت، ثم عصر زاه مرات متعددة مكتسبة عناصر مضافة فصارت كصنعة «الأبليك» في حرفة الخيامية القديمة: تنسجم فيها الإضافات لونا وحجما داخل منظومات وتشكيلات الإطار العام.
إن أرض مصر في الوادي والدلتا والصحاري الغربية والشرقية وسيناء الجنوبية والشمالية مليئة بالآثار لمن ينقب ويبحث ويدرس وينشر ويحفظ هذه اللقى الأثرية في محلها كمتاحف مفتوحة أو في دور الآثار كمتاحف مصانة. وهذه الآثار لا تختص فقط بالعصور التاريخية منذ الفراعنة إلى وقتنا هذا. فهناك آثار للناس قبل التاريخ غير جذابة للعامة ولكنها على قدر عظيم من الأهمية للمختصين والمنقبين عن أصول الحضارة المصرية كرءوس السهام والفئوس الحجرية والمنتجات الفخارية.
26 / 3 / 2001 (2) الصحراء الغربية والتنمية برفق
تنقسم مصر إلى عدة أقسام طبيعية هي وادي النيل والدلتا، والصحراء الشرقية وسيناء والصحراء الغربية. ومن الناحية العمرانية تنقسم إلى المعمور المصري الأساسي في الوادي والدلتا، وهوامش المعمور على أجزاء من سواحل البحر المتوسط والبحر الأحمر وخليجي السويس والعقبة، ومساحات صغيرة داخل الصحراء الغربية تتمثل في الواحات المصرية ذات الشهرة قديمة الأزل. المعمور المصري يبلغ نحو 6 إلى 7٪ من مساحة مصر على أعلى تقدير وبقية مصر صحراء جدباء: رملية في الغرب والشمال ومعظم الجنوب وصخرية جبلية في الشرق والجنوب الشرقي. وتشكل الصحراء الغربية أقل قليلا من ثلثي مساحة مصر، وتحتوي إداريا على محافظتي مطروح في الشمال والوادي الجديد في الوسط والجنوب. (2-1) ميزان الحياة المتغير
ولقد مر حين من الدهر كانت فيه الصحاري المصرية وافرة المطر والعشب والشجر والحياة الحيوانية العاشبة واللاحمة. ولكن ذلك لم يكن مستمرا. فقد تقلب الميزان الحيوي للصحاري بين القحط والمطر عدة مرات خلال المليون سنة الأخيرة. وتدل الكشوف الأثرية على ظهور الإنسان منذ نحو مائتي ألف عام في الصحراء الغربية في الفترة التي يسميها الأركيولوجيون ودارسي ما قبل التاريخ باسم العصر الحجري القديم «الباليوليتي». أما لماذا اختصت الصحراء الغربية بذلك، فهذا أمر يرجع إلى أشياء كثيرة على رأسها أن الغطاءات الرملية الكثيرة قد حفظت آثار الإنسان، حتى نقوشه على صخور الكهوف وجنبات الوديان - كما في هضبة الجلف الكبير على سبيل المثال - حفظتها الرمال وانتظرت قدوم العلماء يزيلوا بعض الرمال ويكتشفوا هذه السجلات الأثرية الموغلة في القدم. أما الصحاري في سيناء والبحر الأحمر فقد طغى عليها آثار الإنسان الأحدث، وبخاصة منذ قبيل نشأة دولة مصر الفرعونية وإلى العصور التالية لكثرة حركة الناس والتجارة والتعدين والهجرات البشرية والحملات العسكرية وتكوين القبائل والممالك والشعوب في الشرق الأوسط ذو العلاقة الحميمة بمصر خلال نحو ستة آلاف سنة. بينما كانت الصحراء الغربية باتساعها وترامي أطرافها وعدم وجود نويات أمم قوية في ليبيا وما بعدها غربا؛ قد أدى إلى حركات محدودة لقبائل البربر بطول الساحل الشمالي وعبر مسالك ودروب صحراوية إلى الواحات من سيوة إلى البحرية والفرافرة والداخلة والخارجة. وكذلك حركات محدودة لقبائل هم أجداد التبو الحاليين إلى الداخلة والخارجة قادمين من الجنوب الغربي.
والأغلب أن تذبذب المناخ واتجاهه إلى الجفاف قد أدى بسكان الصحراء الغربية - ومعظمهم ينتمون إلى السلالة السابقة على البربر الحاليين - إلى الهجرة صوب وادي النيل الذي كان آخذا في التكوين وتشوبه الكثير من المستنقعات في نحو الألف العاشرة قبل الميلاد. فالرسوم المنقوشة على الصخور وآثار الإنسان الحجرية كرءوس السهام والفئوس الحجرية والمنتجات الفخارية في أنحاء كثيرة من الصحراء الغربية من الفيوم إلى الجلف الكبير هي في الواقع سجل يؤرخ البيئة المصرية في زمن مضى، ونشاطات الإنسان صيادا للحيوانات أو راعيا للأبقار، حسب ظروف المناخ المتغير.
وأقدم منطقة أثرية متكاملة للإنسان الحديث في النطاق المصري هي تلك الحفريات والهياكل التي وجدت في منخفض صغير اسمه «نبته» (نبطه)، على بعد نحو مائة كيلومتر إلى غرب الشمال الغربي من أبو سمبل، وليس بعيدا عن طرف منخفض توشكى. فيه وجدت عدة جبانات تعود إلى الإنسان في أواخر العصر الحجري القديم (12 إلى 10 آلاف سنة من الآن)، وأخرى لإنسان العصر الحجري الحديث «النيوليتي» (نحو ثمانية آلاف سنة)، وهو العصر الذي يؤرخ للثورة الزراعية الأولى في العالم. والجماعات الأول كانوا يعيشون على الصيد البري، بينما كانت جماعة النيوليتي تربي الأبقار - وربما بعض الزراعة. وفي العصرين كانت ظروف المناخ أحسن والأمطار أكثر، فصلت بينهما فترة من الجفاف النسبي. وربما كانت هذه أقدم آثار للإنسان الحديث في مصر؛ إذ إن الباب ما زال مفتوحا لمزيد من التنقيب والكشف الذي قد يأتي بجديد.
والحقيقة أن آثار مصر سماوات مفتوحة لجهود مشتركة ومفردة لهيئات بحثية جليلة على رأسها مجهودات الهيئة المصرية للآثار والمعهد الفرنسي للآثار بالقاهرة والتمويل الكندي والألماني والأمريكي والبريطاني وغيرهم كثير. ففي الواحة الخارجة رأيت مجهودا مصريا مثلا في قصر الزيان، ومجهودا فرنسيا في واحة دوش في أقصى جنوب الخارجة. وفي الداخلة مجموعات من الأثريين الأجانب يعملون في موط وجنوب الداخلة بتمويل كندي، وألمان في بلاط بالداخلة أيضا. وفي البحرية جهود رائعة لهيئة الآثار المصرية منذ فترة طويلة.
الكشوف الأثرية أمر مكلف للغاية. ولهذا ولغيره من الأسباب بالإضافة إلى اهتمام العلماء والهيئات العلمية الأجنبية، فقد سبقت مصر في مجال الآثار أفكار العولمة - لكنها عولمة على قدر عظيم من الاحترام والجدية؛ لأن هذا ليس تراث مصر فقط بل هو جزء لا يتجزأ من التراث العالمي.
ومنذ العصور الفرعونية حتى أوائل القرن العشرين، كان السكان الزراعيون في الواحات يقيمون قراهم السكنية مترابطة متداخلة على مرتفع من الأرض محروسة ببوابات وأسوار وحارات منحنية ليست مستقيمة لمزيد من الدفاع. بقايا هذه القرى الواحية ما زالت قائمة للآن فيما يسمى بالقصر: قصر الخارجة أو قصر الداخلة وقصر الفرافرة ... إلخ، أو «شاله» في واحة سيوة. القصر كلمة عربية بينما شاله كلمة بربرية من لغة سيوة الأصلية، وهما معا يعني القرية القديمة المركزية المبنية على مرتفع من الأرض تحوطها الأسوار من أجل الحماية من الجماعات البدوية الغازية التي كانت تفاجئ السكان قادمة من جوف الصحراء تنهب وتقتل وتسبي. آخر هذه الغزوات الكبار ذكرها كبار السن في قصر الداخلة لأحد الرحالة الأوروبيين في أوائل القرن 19. وربما كانت آخر حركات السكان في هذه الصحراء القاحلة المجدبة هجرة نحو 500 من سكان واحة الكفرة الليبية بأسرهم وأطفالهم؛ فرارا من الاحتلال الإيطالي عام 1930، عابرين على الأقدام بحر الرمال الكبير إلى هضبة الجلف الكبير. هلك الكثيرون ولولا مساعدة السلطات المصرية لهم على الانتقال إلى بعض أجزاء الواحة الداخلة، وخاصة منطقة تنيدة، لكانوا قد هلكوا جميعا. (2-2) الزراعة والتنمية برفق
والقصد من ذكر الصحراء الغربية كمثال عما في أرض مصر من الإمكانات لو حسن اختيار المكان والتكنولوجيا الملائمة للبيئة. إن الإنسان المعاصر متسلح بتكنولوجيا عالية يزهو بها. مثال ذلك إمكان دق الآبار إلى أعماق مئات الأمتار لم يكن يحلم بها الإنسان في مطلع القرن. وقد حدث هذا بصفة خاصة في واحة الخارجة فيما عرف باسم «الوادي الجديد» الذي بدأ قرار إنشائه من أجل تنمية مساحات زراعية في الواحات عام 1958، ونمت في الستينيات بصورة دعت إلى إنشاء 14 قرية بأسماء مدن عربية تمشيا مع المد السياسي العربي . مثال ذلك صنعاء وبغداد والجزائر وفلسطين والكويت وجدة ... إلخ. ولكن انتهت الآمال بالفشل لأسباب كثيرة على رأسها أن الآبار العميقة قل إيرادها المائي؛ لأن المخزون الجوفي في طبقات الحجر الرملي هو مياه غير متجددة. المساحات التي زرعت في البداية على المنشآت الهندسية الجديدة انكمشت. وما زال المسافر يرى الوادي الجديد في الخارجة بعض أراض زراعية هجرها أهلها تفصل بينها مساحات شاسعة من الرمال والتراكيب الصخرية الصحراوية، وفي بعض التقديرات المتحفظة أن مساحة الأراضي الزراعية الحديثة والقديمة معا لا تزيد عن 1 إلى 2٪ من مساحة منخفضات الواحات. (2-3) مشكلة الماء والصرف في الواحات
والمشكلة الأساسية في الواحات هي الماء. وقد تعامل الناس مع الماء لمدة أكثر من ثلاثة آلاف سنة بأشكال مختلفة وتكنولوجيات بسيطة. هناك العيون التي تخرج طبيعيا كما هو الحال في سيوة بينما يشيع في غيرها من الواحات الآبار التقليدية التي قد لا تتجاوز 30 مترا مبطنة من الداخل بالحجر وأفلاج النخيل حتى لا تنهار جدران البئر، وهناك أخيرا الدهليز أو الكهريز، وهو عبارة عن نفق محفور تحت سطح الأرض يميل ميلا متدرجا من منطقة تجمع مياه جوفية ليروي مساحات محدودة من الأرض المنخفضة على بعد عدة عشرات أو مئات الأمتار. وتظهر هذه الأنفاق في أماكن محدودة مثل «مناور» في شمال واحة دوش، آخر واحات الخارجة في الجنوب، وفي واحة البحرية حيث تسمى في أحيان «منافس» لوجود فتحات تهوية على السطح بطول النفق. هذا النوع من الري منتشر في إيران وأفغانستان وعمان وشمال أفريقيا وله في كل مكان اسم معين كالقناة في إيران والأفلاج في عمان والفجارة في شمال أفريقيا. وكان الشائع أن هذا النمط استعارة حضارية من إيران، ولكن العالم الأثري الراحل أحمد فخري يجد الدهليز في البحرية من عهد الأسرات المتأخر، وبالتالي فهو أقدم من المؤثرات الفارسية.
وعلى هذه الأنماط من تكنولوجية الحصول على الماء - وبالأخص الآبار التقليدية - عاش سكان الواحات وازدهروا في العصور التاريخية من الفرعوني إلى الروماني إلى المملوكي. وكانت فواكه الواحات وأعنابها وتمورها وزيتونها ذات جودة مطلوبة في بقية مصر.
وبعد أن جربنا التكنولوجيا الحديثة وعرفنا منافعها ومضارها بالنسبة للمخزون الجوفي للمياه في الواحات، فالمطلوب إذن منهاجا وسطا لا يضر بالآبار التقليدية ولا يضخ الماء الجوفي بكميات كبيرة تؤدي إلى نضوب سريع غير مرغوب.
ففي الفرافرة كميات كبيرة من الماء تضخ لدرجة تمكن من زراعة الأرز! ومجرد تصور الأرز ذو المتطلبات المائية العالية وسط الصحراء هو أمر مثير للعجب والجدل. ولكن ربما لكثرة تدفق مياه بعض الآبار الحديثة في الفرافرة فقد أصبح الأرز محصولا ملائما. ماذا لو قننت مياه هذه الآبار بحيث تعطي القدر المناسب لمحاصيل أقل نهما للمياه بحيث تطيل عمر المجتمعات الزراعية الحديثة التي تنشئها الدولة والمستثمرين أفرادا أو جمعيات تعاونية؟
وبالرغم من أن الحصول على الماء أصبح ممكنا بواسطة المضخات الحديثة إلا أننا لا يجب أن نتصور أن الآبار ستكون ممكنة في كل أجزاء الواحة - بمعنى أن المياه الجوفية ليست بأقدار متشابهة في كل مكان. فبعض الآبار ذات إنتاج مائي وفير وأخرى إنتاجها من المياه متوسط إلى قليل. وعلى أية حال فليس من المستحسن دق آبار كثيرة حتى لا نكرر في الفرافرة أو الداخلة ما حدث في الخارجة منذ ثلث قرن، بل يجب أن نتعلم الدرس ونعيه جيدا حفاظا على المورد المائي الجوفي الذي هو غير قابل للتجدد بإجماع أكثر الآراء العلمية حتى الآن. وحتى لو كان هناك تجديد فإن ذلك يستغرق مئات السنين بشرط عدم استهلاكه طوال هذه الفترة أو نحوها.
وإذا كان الماء مشكلة عسيرة لها بعض الحلول فإن المشكلة العويصة بحق في الواحات هي مشكلة صرف مياه الري. ذلك أن الواحات هي عبارة عن منخفضات أرضية مغلقة أو شبه مغلقة على سطح الهضبة الصحراوية. كما أن قيعان هذه المنخفضات ليست مستوية أو ذات انحدار تدريجي في اتجاهات معينة، بل هي ذات مناسيب مختلفة مما يكون أحواضا متفاوتة المساحات تفصلها عن بعضها ميول أرضية مختلفة من الأرض القاحلة الرملية أو السبخية أو الحجرية. هذه الأحواض هي واحات صغيرة قد تكون متتابعة ومجموعها يساوي ما نسميه إجمالا الواحة الخارجة أو الداخلة أو سيوة ... إلخ. ومن ثم لا يوجد انحدار طبيعي تنصرف إليه مياه الري كالصعيد والدلتا. وعلى مر آلاف السنين لم تكن هناك مشاكل صرف بالقدر الذي نراه الآن؛ أولا: لأن الآبار التقليدية كانت تضخ القدر المناسب من المياه، وثانيا: فإن الزراعات التقليدية من أشجار الفواكه والنخيل والزيتون وبعض المحاصيل الحقلية لم تكن نهمة للماء - بمعنى أنها كانت متوافقة تماما مع معطيات البيئة الطبيعية والسكانية وسوق الاستهلاك. وهذا هو سر بقاء الواحات معطاءة بقدر معلوم وقابلة للسكن الدائم المتناسب مع ظروفها الخاصة عبر الزمن.
ولكن مع كثرة الماء الذي تضخه الآبار الحديثة فقد أصبح الصرف مشكلة ذات مخاطر كبيرة. وحلا للمشكلة أنشئت برك واسعة تضخ فيها مياه الصرف الزراعي، لكنها امتلأت وما زالت تمتلئ وأصبحت كالبحيرات التي بدأت نباتات البوص وغيره تملؤها. وأصبح نشع هذه البرك «يطبل» الأرض الزراعية المجاورة كأننا في الدلتا. والتمليح يظهر بحدة نتيجة الحرارة العالية والتبخر الكبير معظم أشهر السنة. فهل هذا يعني أننا نفقد أرضا أورثنا إياها الأجداد وأجداد الأجداد؟
الصحراء الغربية هي أمل تنمية مكانية للفلاحين والإنتاج الزراعي بدرجة مقبولة. ففيها إمكانات لا بأس بها يمكن أن تنتج وأن تعمر طويلا لو أحسنا استخدام كل مقومات البيئة الصحراوية ومواردها من المياه الجوفية. وأحسن إرشاد للمستثمر والفلاح المهاجر وشباب الخريجين هو التأكيد على الطريقة المناسبة في استخدام الأرض والمحصول والماء من أجل إقامة كيانات حياة معمرة، وليس من أجل إقامة مشروع ينتهي في أجل قريب بعد أن تكون موارد البيئة التي عاصرت الإنسان آلاف السنين قد دمرت ولم تعد هناك وسيلة لاستعادتها!
وباستثناء الواحات فإننا نجد أن مشروع شرق العوينات هو الوحيد من المشروعات الإعمارية الحالية في الصحراء الغربية الذي يقوم على المياه الجوفية على سطح الهضبة وليس في منخفضاتها. ولأنه في بواكير عمره فإن الحكم على هذا المشروع صعب في هذه المرحلة. أما باقي المشروعات: توشكى، غرب بحر يوسف في المنيا، ومناطق التحرير، والنوبارية، وبهيج في غرب الدلتا، فكلها تتركز على الهامش الشرقي للصحراء الغربية وتعتمد أساسا على مياه النيل مباشرة أو مياه جوفية مرتبطة بمياه النيل. ربما كانت هذه المشروعات أكثر ضمانا لمورد المياه، ولكننا نعلم أن مياه النيل مورد له حدود طبيعية وسياسية لا يمكن تعديلها.
وفي المجموع فقد آن الأوان أن نولي توجهاتنا إلى أبعد من النيل - ليس باندفاع وإعلام كبير، ولكن برفق لهشاشة البيئة الصحراوية. (2-4) موارد الصحراء الأخرى
البترول والحديد والفوسفات هم أهم الخامات التعدينية في الصحراء الغربية. ولكن هناك موارد أخرى ذات قيمة للصناعة وعلى رأسها النطرون في وادي النطرون، وفي الواحات المنعزلة الصغيرة غير المأهولة في أقصى الجنوب كمنطقة بير الشب. هناك الكثير من الأملاح في منخفض القطارة الشاسع لم تمسح وتقدر قيمتها وتستغل بعد.
البترول هو الملك غير المتوج في معادن الصحراء الغربية، وإن كان إنتاجه وإنتاج الغاز الطبيعي هو أقل بكثير من إنتاج خليج السويس - خليج النفط المصري. ذلك أنه سلعة لها سوقها العالمية والداخلية والشركات القائمة بالتنقيب عنه شركات ضخمة مصرية ومتعدية الجنسية. فلا غرو أنه يتصدر قائمة الموارد التعدينية في الصحراء الغربية - بل وفي كل مصر، وحتى الآن فالبترول والغاز ينتجان من شمال الصحراء الغربية. وفي شرق وسط الصحراء الغربية يعدن الحديد في شمال الواحات البحرية، ويستخدم كمورد أساسي لصناعة الحديد والصلب المصرية. وأخيرا فإن فوسفات هضبة أبو طرطور بين الواحتين الخارجة والداخلة ما زال في مراحل أولية في الإنتاج. كان القصد تصدير الكميات الكبيرة من هذا الفوسفات عبر ميناء سفاجا على البحر الأحمر. ومدت إليه سكة حديد مكلفة. لكن سوق الفوسفات العالمي فيما يبدو أصبح متخما، وأصبح من الواجب إيجاد بدائل لاستخدام هذه الخامة على وجه يعوض ما أنفق عليها من طائل الأموال.
ومما لا شك فيه أن عمليات التنقيب والتعدين تغير البيئة المحيطة بالمناجم والحقول البترولية بما تقيمه من منشآت ومساكن ومخازن وصهاريج وطرق. لكنها تغييرات في مساحات محدودة وتلزم التضحية لما لها من فوائد على الاقتصاد والمجتمع معا.
الشمس والهواء
أكبر الطاقات الطبيعية في الصحاري هما الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ونحن قد دخلنا عصر هذه الطاقات متأخرا ومتباطئا. تفكيرنا غالبا أحادي النظرة. فلفترة ثلث قرن أو تزيد كانت أفكارنا للطاقة مرتبطة بإنتاج الكهرباء من محطات مائية كالسد العالي، أو حرارية - بترول وغاز، وهي الأكثر انتشارا، ودخلت الكهرباء غالب القرى المصرية والسواحل والواحات. ودخلنا عصر الشبكات الكهربائية الموحدة الدولية. وهذه هي أعمال متميزة، لكنها نهاية المطاف بالنسبة للكهرباء بصورتها الحالية التي تستوعب لإنتاجها كميات ضخمة من إنتاج الغاز الطبيعي المحلي.
والآن هناك مشروعات لإنتاج الكهرباء من حقول ضخمة من مراوح الرياح على البحر الأحمر - زعفرانة والغردقة، فمتى يأتي دور الصحراء الغربية في إنتاج الطاقة الكهربائية من مقومها الأساسي وهو الشمس والرياح. الجميع يعرف ساعات سطوع الشمس في الواحات وكم هي كثيفة وكم هي تحتاج إلى فكر ابتكاري لتوليد الطاقة المرغوبة على نطاق واسع. والكل يعرف أيضا قدر الرياح الدائمة في الصحاري. صحيح أنها متغيرة الاتجاه في حدود معروفة وتحتاج إلى مراوح متزامنة مع تغير اتجاه الريح لضمان طاقة مستمرة. وعلم كل هذا عند المختصين في علوم الطاقة وفيزيائها. فمتى يتسع صدر المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة للخروج من القوالب المنتجة حاليا إلى تشجيع ميادين الابتكار والتطبيق؟ (2-5) السياحة والصحراء الغربية
الشمس والهواء من مكونات السياحة العالمية. وإذا كان البحر الأحمر يزهو بشواطئ المرجان وسباحة الغطس والشمس، فإن الصحراء الغربية تزهو بمكونات أخرى تجعلها قبلة لنوع آخر من السياح. فكرة الواحة الكلاسيكية: غدير ونخيل وظلال وثمار تتباعد وسط قفر ورمال مئات الكيلومترات عن بعضها البعض. هذه هي حقيقة موجودة وكامنة في الصحراء الغربية، هناك سيوة الأسطورية والفرافرة في ظل هضبة القس أبو سعيد وأبو منقار جيب في جوف الرمل والصخر وقصر الداخلة يترك الخيال يسرح في جنبات حياة القرون الفائتة، وما إلى ذلك الكثير الذي يعبر بالسائح الأوروبي الزمن سراعا إلى ماض مسحور!
وفي الصحراء البيضاء - شمال شرقي الفرافرة، ومواضع أخرى نحتت الطبيعة مئات الأشكال من الصخر الطباشيري تترك للمشاهد العنان كي يتصور هذا النحت البارع جملا أو أسدا أو وجها يطل من علياء، وفي الينابيع ذات المياه الباطنية الساخنة يسبح السائح أو يترك جسمه تتخلله هذه المياه المعدنية الدافئة فتصحح ما يشعر به من آلام الحضارة الحديثة.
وفي عين دالة - أو ضالة - شمال هضبة القس، أو جنوب واحة أبو منقار، يقف المرتحل على حافة بحر الرمال الأعظم: مئات من الكثبان الطولية الثابتة تمتد كأجسام الحيتان الواحد خلف الآخر مئات الكيلومترات إلى داخل ليبيا، فيشعر بضآلته كأنه وظله نقطة سوداء متناهية الصغر في محيط أصفر بني لا ينتهي. (2-6) كوكب المريخ والصحراء الغربية
كل هذه عايشتها رؤية العين وإحساس البدن، ورأيت عشرات الألمان يتنقلون كالمأخوذين في هذا الخضم الحافل بالماضي والجمال والمخاطر. ولكن الذي لم أره - وأتمناه - رحلة إلى هضبة الجلف الكبير في أقصى جنوب مصر عبر نحو 400 كيلومتر من الواحة الداخلة، ونحو مثلها شرق العوينات. ومهما قيل عن استمرار خط خطه الإنسان مثل مسار سيارة، فإنه يظل عشرات السنين لا يعتريه تغيير للجفاف الشديد وسكون الهواء، ومهما قيل عن وديان الجلف الكبير الجافة وعلى رأسها وادي عبد الملك ووادي صورة، فإن أكثر ما يثير هو اهتمام مشروعات الفضاء الأمريكية بتصوير هذه المناطق بكل أساليب التصوير الفضائي والرادار - ليس حبا في بيئة هذه المنطقة، ولكنها في اعتقادهم أكثر الأماكن على سطح الأرض شبها بتضاريس سطح كوكب المريخ!
وقد ساهم العالم المصري فاروق الباز في بعض - أو كل - هذه العمليات، واكتشف مع غيره في معامل الفضاء الأمريكية وجود مسارات مطمورة لشبكة وديان نهرية على أعماق ليست كبيرة من سطح الأرض! هل هي أنهار العصور الجيولوجية القديمة؟ وهل تحتوي بعض مسامها على ماء؟ وأسئلة أخرى كثيرة يريد العلماء قياسها على ما يتشابه معها من سطح المريخ. لا شك أن نتائج هذه الدراسات لها مردود على هذه المنطقة النائية من مصر التي تقع قرب نقطة تلاقي حدود مصر وليبيا والسودان. فما هي النتائج الاستراتيجية المترتبة على ذلك؟
هكذا تفصح الصحراء الغربية عن مكنوناتها شيئا فشيء لنعرف عن الماضي والحاضر والمستقبل شيئا مفيدا . (3) واحة الفرافرة: المقومات وتجربة الاستصلاح الزراعي في التسعينيات
تمهيد
في نوفمبر 1995 صحبت إحدى أسابيع الدراسة الميدانية للبرنامج البحثي بين جامعتي عين شمس وهلسنكي الفنلندية لدراسة ظواهر مورفولوجية لعصور قديمة في الواحات المصرية، وكانت الدراسة في واحة الفرافرة. الشكر واجب للبرنامج البحثي، والورقة التالية هي نتائج استطلاعات الدراسة التي قمت بها، وفيها الكثير من الاستفهامات والإيماءات لمزيد من الدراسة لمن يريد المتابعة والتمحيص بعامة أو في نقاط معينة. (3-1) الفرافرة ما هي؟
هي آخر المعمور المصري في وسط الغرب. اسمها غير مألوف في العربية كأسماء الواحات الأخرى الأكثر ألفة والمعبرة عن علاقة مكانية. ويضاهي الفرافرة في غرابة الاسم واحة سيوة، لكن سيوة اسم مطروق على الأخص منذ تنصيب إسكندر المقدوني ملكا فرعونيا من خلال طقوس الإله آمون في معبده، الذي كان شهيرا في واحة سيوة لدرجة أنها كانت تعرف أحيانا باسم واحة آمون.
وهناك أسطورة سائدة بين سكان الفرافرة أن هذه التسمية ترجع إلى ملك قديم يقال له: «فرفور»، وأنه كان هناك ملكان آخران في الجوار أحدهما الملك حنس والآخر الملك أبو منقار. ولعل الأسطورة تشير إلى وحدات سياسية أو عشائرية قبلية قديمة بمقتضاها كان حكم فرفور في منطقة الفرافرة المركزية، بينما كان حكم أبو منقار في ذلك المنخفض المستقل الغني بالماء والذي يبعد نحو مائة كيلومتر جنوب الفرافرة، وتكتنف السير فيه مصاعب من كثيف الرمال ووعورة المنحدرات. أما الملك حنس فيشير إلى وادي حنس شمال شرقي الفرافرة بنحو مائة كيلومتر، وهو الوادي الذي يرسل إليه أصحاب الإبل إبلهم لمرعى الشتاء والربيع إلى نحو وقتنا هذا، وبالتالي فلعل حنس تشير إلى تنظيم عشائري رعوي قديم.
وتحمل أسماء الظاهرات الاستيطانية القديمة أسماء فيها رنين لغة البربر أو لهجات شمال أفريقيا. مثال ذلك أسماء العيون: عين أبشوي وعين فالاو وعين أبساي وعين شميندة وعيون قلقام والهاقة وهيدية والعكوة ... إلخ، ولعل ذلك يشير إلى أصول بربرية لمؤسسي الاستقرار في الفرافرة على نحو ما نعرف في سيوة، وموقع الواحتين في غرب مصر هو الأكثر مواجهة لمواطن شعوب شمال أفريقيا طوال الحقب. ولنا عودة للموضوع فيما بعد قليل. (3-2) التجمعات السكنية في الفرافرة
التجمعات الأصلية لسكان الواحة قليلة معظمها في قصر الفرافرة، وقليلها في واحة صغيرة جنوبها تسمى حطية الشيخ مرزوق . أما باقي التجمعات السكانية فهي حديثة أقامها مستثمرون من الوادي والدلتا من خلال جمعيات تعاونية. وهناك أسماء مستوطنات حالية بعضها يشير إلى المكان الواحد باسمين: مثلا مستوطنة اللواء صبيح كانت هي بئر سبع، ومستوطنة النهضة تشمل مستوطنتين هما: عائشة عبد الرحمن وعبد المجيد الدغيل، والأخيرة كانت تعرف أيضا باسم عين النص التي هي عين رومانية قديمة في مكان يبعد الآن عن الدغيل بنحو كيلومترين إلى الشرق. هذه التقلبات تعكس غالبا مراحل تنموية وتسميات تكريم لشخصيات أدت للواحة خدمات مشكورة. بينما أسماء أخرى تعبر عن آمال وطموحات المستقبل مثل الكفاح والنهضة والأمل، وأسماء أماكن مصرية مثل أبو الهول وبلقاس، أو أرقام أحواض زراعية مثل زراعة 3 أو 5 ... إلخ، وكلها أسماء فترة الاستزراع المعاصرة.
السؤال المطروح هو هل يؤدي التوسع العمراني الزراعي الحالي إلى إنشاء مجتمع مندمج من المجتمعات المختلفة الحالية المكونة من الواحي الأصلي والمهاجرين القادمين من واحات الوادي الجديد ومن وادي النيل والدلتا، أم ستظل المجتمعات متفرقة عدة أجيال؟ (3-3) جغرافية المكان والصفات العامة
تحتل منطقة الفرافرة حوضا نائيا بين ذراعين من أذرع بحر الرمال العظيم، الذراع الشمالي يمتد عند عين دله في ألسنة داخل وادي الأبيض شمالي كتلة هضبة القس أبو سعيد الذي يحيط بها بحر الرمال من الغرب ويمتد جنوبا إلى منخفض أبو منقار، حيث يمتد الذراع الجنوبي لبحر الرمال فيدخل جنوب حوض الفرافرة ويستمر شرقا إلى ما بعد بئر كروين. ونستطيع أن نقول: إن هضبة أبو سعيد شكلت حماية غربية لحوض الفرافرة. وترتفع هذه الهضبة إلى نحو 200-250 مترا فوق منسوب حوض الفرافرة الذي يرتفع في المتوسط بين 60-110 مترا فوق سطح البحر. وتمتد الهضبة في محور شمال شرقي-جنوب غربي لمسافة نحو 70 كيلومترا، وعرض بين 20-30كم. وهي بذلك ظاهرة طبوجرافية قوية الظهور خاصة وأنها تنحدر إلى الحوض في صورة حائط مستمر قليل التدرج وقليل النتوءات، تظل في مواكبة الرائي في تجواله شمالا أو جنوبا على طول الطريق الوحيد الموازي لحائط الهضبة على مبعدة نحو 12-15كم شرقي الحافة. والسؤال هو هل للهضبة هيدرولوجيا دور في إمداد الحوض بالمياه الجوفية؟ والمراقب لتوزع العيون التقليدية أو آبار الاستصلاح الجديدة لا بد له أن ينتظر نتيجة دراسة لم تتم بكفاية عن الخزان الجوفي في المنخفص والهضبة معا.
أما الحوض فيأخذ شكلا بيضيا محوره شمال شرقي-جنوب غربي بامتداد يزيد قليلا عن 110كم وعرض يتراوح بين 40كم في نطاقه الأوسط إلى نحو 10كم في طرفه الشمالي الممتد صوب الواحة البحرية. ويرتفع الحوض تدريجيا من نحو مائة متر عند نطاق الواحة المركزية إلى كنتور 200 متر في قطاعه الجنوبي؛ تمهيدا للدخول في خط تقسيم المياه بين منخفضي الفرافرة وأبو منقار - أعلى نقط في الفاصل بين المنخفضين هي 287 مترا، وفي شرق منخفض الفرافرة يوجد منخفض صغير يحدده كنتور 100 متر حول بئر كروين وبئر مر، وهو المكان الذي تقترحه بعض الدراسات لإقامة مشروعات استصلاح زراعي أخرى، وربما يكون قد تم التعاقد على إعداد بعض هذه المساحة، علما بأن طريقا مرصوفا طوله نحو 60كم قد ربط المنطقة بالقطاع المركزي في الفرافرة. (3-4) أقسام الواحة
ويمكن أن نقسم ما يدخل في نطاق الفرافرة إداريا إلى الأقسام الآتية: (1)
المنطقة المركزية:
هذه تدور حول الواحة التقليدية ومركزها السكني الوحيد هو «قصر الفرافرة»، وعيونها المتعددة بزراعتها وحدائقها التقليدية حسب النظام الواحي في استخدام الأراضي. وإلى الشرف من القصر بنيت منشآت إدارية ومنطقة سكنية جديدة وبعض الفنادق الصغيرة ومحطة زراعية. (2)
القطاع الشمالي:
يشتمل على أراضي الاستصلاح الشمالية ومستوطناتها التي تعرف جميعا تحت اسم النهضة - مشروعات اللواء صبيح وعائشة عبد الرحمن وعبد المجيد الدغيل. (3)
القطاع الأوسط:
ويمتد فوق كنتور مائة متر ويسمى جمعا «الكفاح» ويضم عددا كبيرا من المستوطنات بعضها أقامته الدولة للخريجين - الكفاح وأبو هريرة، وبعضها أقامته شركات - الوادي، وبعضها أقامته جمعيات تعاونية مساهمة أبو الهول والأمل وبلقاس الجديدة وزراعات 10، 14، 15، 16. (4)
القطاع الجنوبي:
ينحصر في منخفض أبو منقار ذو المعالم الواضحة في أقصى جنوب منطقة الفرافرة. ويشمل المنخفض قرية للخريجين في شرق المنخفض وشرق الطريق بين الفرافرة والداخلة، وقرية للمستثمرين غرب الطريق، وهي أكثر حيوية ونشاطا من قرية الخريجين. (3-5) أبعاد الحلم والواقع
كم هي مساحة الأرض الجديدة التي يمكن أن تدور حولها التنمية؟ قد لا نجد إجابة معبرة عن الحقيقة. فالحقيقة يختلط فيها المأمول استصلاحه بالمساحات التي يمكن أن تكون في طور التنمية، والكل يختلط بالمساحات المستصلحة المنتجة فعلا.
في هذا يتردد القول: إن مساحة الفرافرة التي تبلغ نحو عشرة آلاف كيلومتر مربع تحتوي على قدر كبير من الأراضي الصالحة للزراعة، وتحتوي على قدر عظيم من المياه الجوفية قريبة المنال والتي يمكن أن تحيل الآمال إلى واقع ملموس بالقسط والتدريج. وعلى هذا تدور التساؤلات: هل الفرافرة هي الغرب البري
Wild West
بالنسبة لمصر؟ هل هناك مليون أو نصف مليون فدان قادرة على استقبال وإعاشة مليون مصري وأكثر من مليوني رأس من الماشية، أكثر أو أقل؟ ليس لهذه التساؤلات إجابة قاطعة واحدة، نعم هناك إجابات ولكن عن قطاعات من التساؤلات. مثلا قد يكون هناك نحو من مليون فدان تربتها من الصلاحية بحيث يمكن استزراعها إذا توافرت شروط أخرى. ولكن هناك تقديرات أقل من ذلك، كما جاء في دراسة محمد عاطف عبد السلام ومصطفى إسماعيل (موسوعة الصحراء الغربية ج4 معهد الصحراء لعام 1985) التي قدرت أن أراضي الدرجة الأولى لا تزيد عن 15 ألف فدان بينما أراضي الدرجتين 2,3 هما الأشيع، وتشملان مساحة تقدر بنحو 700 ألف فدان.
وعن المياه يبدو أنها متوفرة بدرجة مقبولة حسب الاندفاع الحالي للآبار الارتوازية، لكن قد لا يكون هناك إجابة جيدة عن الحوض الجوفي حتى الآن، ولا شك هناك إجابات بالإيجاب عن الآمال والأماني المعقودة لدى الساسة ومتخذي القرار. وفي الحقيقة ليست كل هذه الإجابات معبرة عن أوضاع محسوبة مدروسة وإنما هي إجابات واعدة فقط، فهل يمكن التخطيط على وعود؟
وإذا نزلنا لعالم الموجود على الأرض سنجد أيضا تضاربا في حقيقة المساحة المزروعة أو تلك في طور الاستصلاح حتى على منسوب المستوطنة الواحدة.
مثلا نجد في القطاع الأوسط الممتد من مستوطنة الوادي إلى أبو هريرة المساحة المستهدفة هي نحو 27 ألف فدان، المستصلح منها والمنتج نحو 7300 فدان فقط، والباقي مرحلة ثانية - وبعضه فعلا تحت الإصلاح. ومساحة القطاع الشمالي المنزرعة فعلا هي نحو ثلاثة آلاف فدان وهناك أيضا مرحلة أخرى من الاستصلاح. أما مساحة الأرض القابلة للزراعة حسب الرفع المساحي في القطاع الجنوبي فتبلغ عشرة آلاف فدان المنتج منها هو 2700 فدان، وجاري استصلاح 1200 فدان أخرى.
هكذا إذا استثنينا الحدائق والعيون التقليدية نجد أن الاستصلاح الزراعي في الفرافرة قد أثمر فقط نحو 12-13 ألف فدان، وأن المتوقع استصلاحه مستقبلا في كل أرجاء المستوطنات الحالية هو نحو 30 ألف فدان، وبعبارة أكثر تفاؤلا فإن الآمال قد تنعقد على 40-50 ألف فدان في المستقبل ربما إذ تضمن العد مشروع كروين. وهكذا نرى الآمال الكبار تحتاج إلى معالجة إدارية وتقنية للاستصلاح بطريقة غير تلك التي واكبت التنمية الحالية، كما أنها تحتاج قبلا إلى تفهم أمور منها: (1)
المشروعات الزراعية: هي مشروعات طويلة الأجل في تنفيذها وتحتاج إلى صبر في وضع اللوائح والقوانين، فهي ليست مثل المشروعات الصناعية التي يمكن ضبطها بالمفتاح عند اللزوم، ومن ثم لا بد من إيجاد لوائح مرنة خاصة بكل منطقة استصلاح زراعي على حدة، حيث إن أراضي استصلاح النوبارية غير تلك في شمال سيناء غير واحات الغرب. فالزراعة تنفرد بالتنوع في التلاؤم البيئي وتنفرد بمحاصيل لها كينونة خاصة، وذلك عكس علاقة الصناعة بالبيئة التي هي ليست جوهرا ملزما لصناعة سلعة ما. (2)
تخطيط مرن اقتصادي اجتماعي معا لتلافي إشكاليات كثيرة أثناء السنوات الأولى للمشروع الزراعي وبالأخص دعم الفلاح في مواجهة الفشل مرة وأخرى، والسماح للتعاونيات التي ينشئها الناس بمحض إرادتهم أن تكون لها آراء يؤخذ بها، فالناس هم المعنيون الأول بالموضوع. (3)
أن تتعامل الإدارة مع موضوع الماء بدرجة أكثر فاعلية بدءا من دراسة الخزان الجوفي وحفر آبار استكشافية متعددة في الأماكن التي تصلح لإقامة أي مشروع زراعي، وعلى ضوء ذلك يخطط نوع المستوطنة وعدد الأسر العاملة ونمط الري والمحصول الأول من أجل مسعى أساسي هو الحفاظ على الماء الجوفي وتعظيم قدر الإفادة منه، فليس بخاف دور الماء في الصحراء.
المياه
المياه هي العامل المحدد للزراعة. وقد حفرت آبار كثيرة في الفرافرة معظمها يصل إلى أعمال 800-900 متر، وأثبت بالفعل أن هناك طبقة حاملة للمياه عند هذه الأعماق تعود إلى تكوينات الحجر الرملي النوبي، وتندفع المياه بالضغط الطبيعي منذ بضع سنوات، كما أن هناك طبقة أخرى حاملة للمياه في التكوينات الجيرية أعلى الرملي النوبي. وتشير دراسة كمال فريد سعد: (الموارد المائية في الصحراء الغربية - معهد الصحراء 1985 الجزء الثالث) أنه يمكن الحصول على نحو 700 مليون متر مكعب مياه سنويا في الفرافرة، لكن هناك بطبيعة الحال اختلافات في تصرف الآبار بعضها عن البعض الآخر. فمثلا في منطقة أبو منقار نجد الآبار 1، 6، 7، 8، قوية، وحوض تصريفها يشتمل على 320 فدان لكل منها، بينما آبار 2، 3، 4 أقل تصرفا وتروي كل منها ما بين 260-280 فدانا فقط. وهناك الآبار 10 إلى 13 في طريقها للتجهيز والعمل. وإلى جانب هذه الآبار الإنتاجية هناك آبار اختبارية لمعرفة تصرف البئر وقدراته مثل بئري 3 و4 في الدغيل بالمنطقة الشمالية. أما في مشروع مستوطنة الوادي في القطاع الأوسط فقد قل التصرف فجأة عام 94 / 95 بحيث أصبحت هناك مشكلة زراعية!
والمياه برغم تدفقها الإيجابي في معظم منطقة الفرافرة إلا أن الرقابة قليلة وعدد الفنيين قليل، والآبار تتدفق مياهها دون أن تكون هناك تجهيزات للتحكم في كمية التدفق باستثناء وسائل ميكانيكية بسيطة تقلل اندفاع الماء، وذلك ربما خوفا من انهيار البئر، كما لا توجد تجهيزات تخزين والنتيجة أن المياه تنطلق في الترع حتى في الأوقات التي لا تحتاجها الزراعة، ومن ثم حفرت في الفرافرة برك لصرف المياه في الشمال والوسط، وفي الشمال علت مياه برك الصرف عن منسوب المياه في المصارف، مما أدى إلى إنشاء محطة طلمبات بها ثلاث مضخات كل منها قوته 20 حصانا، تعمل معا أو بالتناوب لرفع مياه الصرف إلى بركة الصرف. وقد اتسعت بركة الصرف كثيرا وملأها البوص والغاب وشتى نبات الماء. وجاءت فكرة تحويل البرك إلى مزارع سمكية: نجحت في الشمال ولكن الصياد يقاسي عنتا وسط النباتات لكي يصل إلى صيده. ولا يفوتنا أن نقول: إن الكثير من المياه التي تضخ في برك الصرف هي مياه عذبة متدفقة من الآبار في مواسم عدم الاحتياج للزراعة، وإن الكثير من الفلاحين من فئة واضعي اليد - وخاصة في القطاع الشمالي - يقومون بالزراعة على طول المصارف لصلاحية المياه مما يساعد على تقليل عرض بعض المصارف، وهو ما يؤدي لسرعة ارتفاع مياهها فوق جوانبها!
ولا شك في أن هناك إهدارا للمياه حاليا، فالأرض التي يمكن الامتداد فيها لم تتم تجهيزا، والناس الذين يمكن أن يزرعوا الامتدادات - بدلا من الجوانب الملاصقة للترع والمصارف - غير موجودين عدديا بالوفرة المطلوبة أو القدرة المالية والكفاءة الفنية اللازمة لاستزراع أراض جديدة.
والقول الشائع بين المستثمرين والمنتفعين أن: «مستقبل الماء هو على الله.» وإن المتوقع أن يقل ضغط هذه الآبار الارتوازية كثيرا في نحو عقدين، وحينئذ يحتاج الأمر إلى استخدام المضخات لسحب المياه، فهل هذه تكون بداية النهاية للزراعة المزدهرة والمياه المتدفقة كما حدث من قبل في الواحة الخارجة؟ ولحسن الحظ فإن العيون الطبيعية تتغذى من طبقة الماء في الصخر الرملي النوبي، ومن ثم تبقى أسس الحياة الواحية - إلا إذا تمرد عليها السكان الملاك مقابل وظائف وأعمال العصر الحالي.
والخلاصة أن هناك تضاربا بين الوضع المائي الحالي المفرط وبين الصورة المتشائمة للغد. ولكن علينا أن نتذكر أن الفوضى المائية الحالية ربما هي وليدة السنوات الأولى للمشروع، حيث إن أبعاد كل شيء ليست مدركة تماما، والمنفذون حائرون بين نتائج التدفق الكبير واحتياجات الناس في الإنتاج المحصولي. الأمور ليست في نصابها بعد، والقليل من الروتين سوف يجعل الرؤية أكثر وضوحا أمام الإداري والمنتفع والمستثمر فتأخذ الأمور أوضاعا واضحة على جانب من الاستقرار. (3-6) أعداد السكان
إذا أخذنا تعداد 1986 على أنه مؤشر لعدد سكان الواحة بدون المهاجرين الذي بدءوا في التوافد الكبير في أواخر النصف الثاني من الثمانينيات، فإن العدد كان 2435 شخص في المنطقة المركزية والواحة الصغيرة جنوبها المعروفة باسم حطية الشيخ مرزوق. ويذكر صبري حمد (المردود السكاني للتنمية في واحة الفرافرة - مجلة كلية الدراسات الإسلامية، جامعة الأزهر، عدد 13 لسنة 1995، ص163-203) أن عدد السكان في مستوطنات الإصلاح بلغ «في سبتمبر 1994» نحو 4344 شخصا، وفي المسح العام الذي أجريته في نوفمبر 1995، كان العدد الاجتهادي على النحو الآتي: سكان القطاع الشمالي نحو 3000 شخص، القطاع الأوسط نحو 2200 شخص، والقطاع الجنوبي نحو 1200 شخص، فضلا عن نحو 2500 شخص في المنطقة المركزية ونحو 150 شخصا في الشيخ مرزوق، فيصير إجمالي السكان الآن نحو ثمانية إلى تسعة آلاف شخص.
والملاحظ أن أرقام السكان - وكذا مساحة الأرض المزروعة - هي أرقام زئبقية لأسباب منها: (1)
أن عدد الخريجين على الورق أكثر منه في الواقع برغم الميزات الكثيرة التي تعطى للخريج الحائز: بيت مستقل من غرفة وصالة ومنافع وحديقة كما أضاف بعض الخريجين غرفة وزربية، فضلا عن معونة شهرية مالية قدرها 50 جنيها و50 كجم جبن، وشاي وزيت بالإضافة إلى قروض ميسرة من الجمعية الزراعية لشراء بقر وأغنام بحد أقصى خمسة رءوس في حدود 10 إلى 12 ألف جنيه + سلفيات دواجن. وهناك أسباب كثيرة لهذه الإحجام عن الممارسة الزراعية للحائز بعضها حواجز نفسية والآخر حواجز بيروقراطية فضلا عن ضعف الممارسة الزراعية لدى الكثير من الخريجين. (2)
عدد الأعضاء المستثمرين في الجمعيات الزراعية ليس هو العدد المقيم دائما. مثلا في جمعية أبو الهول نحو 120 مستثمرا (لكل الآن نحو 14 فدانا + 10 أفدنة مرحلة ثانية)، لكن المقيمين هم نحو 42 مستثمرا بالإضافة إلى نحو عشرين مستثمرا يترددون بين الحين والآخر حسب موسم العمل الزراعي، خاصة إذا كان قد انتهى من بناء دار تأويه، كذلك يشرف البعض على زراعات البعض بالتناوب. (3)
إن هناك «واضعي يد» على أرض غير داخلة في حصص الجمعيات، والغالب أنها - كما سلف - أراض واقعة على المصارف ونهايات الترع. وبالرغم من أن هؤلاء لا يعدون سكانا من حيث فقدانهم لشرط الحيازة الرسمي، إلا أنهم أكثر فئات السكان التزاما بالأرض؛ لأنهم حين هاجروا لم يخلفوا شيئا وراءهم في قراهم الأصلية، في حين أن بعض المستثمرين لديهم أملاك زراعية أو أعمال مكتبية في مواطنهم الأصلية، ومن ثم نفهم تنقلهم المستمر بين الموطن والمهجر.
والأغلب أن واضعي اليد يسوون أوضاعهم بعد فترة بمحاضر تسليم عند دفع عشر قيمة الأرض كمقدم ثمن والباقي يدفع على أقساط سنوية لمدة عشر سنوات. وتبلغ قيمة الفدان من هذا النوع مبلغا يتراوح كثيرا من 400 جنيه إلى ثلاثة أمثاله حسب مكان الأرض وعلاقتها بالمصارف والترع، وقد يعفى المشتري من قسط سنوي إذا قلت المياه سنة من السنوات كما حدث في آبار 2، 3، 4، 8 في أبو منقار. (4)
إن بعض المهاجرين من الداخلة قد يعودون موسما أو بعض السنة إلى الداخلة حيث إن تطهير الآبار الرومانية أو حفر آبار بسيطة (عمق 35-40 متر بتكلفة نحو أربعة آلاف جنيه)، تؤدي إلى نجاح زراعة ما بين 25 و30 فدانا في مناطق من الداخلة مثل البشندي، وهذه الحركة السكانية هي خاصية يتميز بها سكان أبو منقار حيث تقترب المسافة من الداخلة والصلة مع الأهل في الداخلة قائمة لم تنقطع.
هل معنى هذا أن سكان الفرافرة سيظلون على هذا العدد الزئبقي؟ أم أن هذه سمة السنون العشر الأولى من الاستصلاح؟ لقد بدأ التفكير في استصلاح أراضي الفرافرة عام 1981. وبدأ الاستصلاح عام 1986، وبدأ الإسكان 1990 بعد اكتمال أجزاء حيوية من البنية الأساسية. أي هل نرى بداية استقرار عددي في أول القرن القادم ويصبح للفرافرة حجم سكاني معروف على وجه الدقة؛ حينئذ يمكن البدء بتقديم الخدمات بناء على تخطيط شامل للإقليم بدلا من إقامة مدارس ووحدات صحية في أماكن قد تكون أقل أو أكثر من الاحتياج؟ (3-7) من هم سكان الفرافرة
أولا:
سكان الفرافرة الأول وهؤلاء يعيشون في المنطقة المركزية داخل مدينة القصر، وفي حطية الشيخ مرزوق على بعد نحو 35كم جنوب القصر. وينقسم السكان إلى عشائر وعائلات منهم القدادرة الذين يسند إليهم الأصول الأولى للسكان، ويقال: إنهم أتوا إلى الفرافرة في هجرة قديمة من الزاوية الحمرا في ليبيا. متى كان ذلك، وبأي أعداد، ولماذا انتجعوا هذه الواحة القصية؟ كلها أسئلة قد لا نجد إجابة عليها. وربما هي رموز لزمن هجرات قديمة من البربر الذين أسسوا سيوة المجتمع واللغة. وربما أيضا ترمز لزمن من العصور الوسطى حين استقدمت الدولة الفاطمية أعدادا كبيرة من قبائل شمال أفريقيا مثل لواته بعد فتح مصر، أو ترجع إلى رمز هجرة الهلالية الكبرى التي أربكت المجتمعات المستقرة في سيوة والجبل الأخضر، وأدت إلى انزواء القدادرة في منعة العزلة التي تهيئها الفرافرة بحجمها الصغير ومواردها المحدودة. وفي كل الحالات لا يجب أن ننسى أن صلة ما ظلت قائمة بواسطة الرعي إلى وادي حنس الذي يقود إلى البحرية وإلى المراعي المتناثرة التي يستخدمها الرعاة بين واحة القارة وجنوب القطارة والفيوم والنطرون والتي تعرف باسم «الحطايا» أو «الجباب».
كما كان هناك طريق تقليدي يمتد عبر الصحراء مباشرة بين الفرافرة وديروط، هو الطريق الذي كان يربط الواحة بالاقتصاد النقدي؛ إذ ينقل عليه البلح والمشمش والزيتون من الواحة إلى سوق ديروط. وبالمناسبة فإن ديروط الخيل ونحوها كانت حتى عهد محمد علي الكبير أحد أهم مراكز تجمع قبائل من أصول ليبية كالفرجان والجوازي، ويمتد نفوذهم على طول غرب البحر اليوسفي إلى أقربائهم العوائل الليبية كالبراعصة والفوايد والحرابي وغيرهم في المنيا والفيوم. وربما كان هؤلاء هم الذين يأتون بقوافلهم لتبادل السلع بالبلح والزيتون وفواكه الفرافرة. ومن العائلات الأخرى في الفرافرة قبيلة العيادية وهم الأكثر عددا بين العائلات القديمة الآن. ثم الرميحات والعكارتة والحنانوة.
وكانت فواصل السكن واضحة، فلكل عائلة حي داخل القصر يحدده حارات ذات بوابات للدفاع ضد غوائل البدو أثناء الصراعات التي قد تنشب بين العائلة والأخرى. وقد ساعدت ظروف الاستقرار الحالية على ترك جزئي للمباني القديمة داخل كتلة القصر، وأصبح البناء على الشوارع الرئيسية في كتلة المدينة أو في حي جديد جنوبها خطط للمدينة الجديدة. ومع إزالة الفوارق السكنية أصبح بالإمكان التزاوج بحرية أكثر بين أبناء العائلات المختلفة.
والقصر أصلا هو التجمع السكني التلي «أكروبوليس
Acropolis » الذي كان نمطا مختارا في كل الواحات. كان التجمع يبنى على تبة أو تل مراقيه ليست سهلة، ويزيد الارتفاع جيلا بعد الجيل نتيجة استمرارية السكن والبناء في نفس المكان. بيوت القصر متساندة ترتبط من أسفل بممرات ودهاليز وراء بوابات تغلق ليلا، كما تنعم بالاتصال من أعلى عبر الأسطح. الحارات ليست مستقيمة لمزيد من الدفاع، ولا بد أنه كان هناك نظام للإنذار يسمح للناس بالهرب من مزارعهم على أبعادها المختلفة من القصر والوصول إلى أمان القصر، لكننا لا نعرف عنه شيء الآن. ربما كانت مئذنة الجامع هي المكان الطبيعي للمراقبة، فهل كانت هناك طبول تقرع لتنبه الناس؟
على العيون التي سبق ذكرها في أول هذا الموضوع، وعيون أخرى غيرها أقام السكان أسس حياتهم الزراعية. وتسيطر المحاصيل الشجرية على المنظر العام لحدائق الواحيين. وأهم المحاصيل الزيتون والنخيل والتين والمشمش والليمون، إضافة إلى تحميل الأرض أسفل الشجر بمحاصيل حقلية؛ شعير وبرسيم وذرة وقمح للغذاء ولعلف الحيوان القليل الذي يمتلكونه من الأغنام والبقر والحمير والإبل. وحيث إن مسيل الكثير من العيون من مناطق مرتفعة نسبيا، فإن الكثير من الزراعات والحدائق تأخذ شكل التلال المدرجة بواسطة الإنسان لإرواء الزراعة في مصاطبها المتتالية. وعلى البعد تظهر العيون بأشجارها العالية كأنها الحدائق المعلقة، وتختلف تماما عن نظام الاستزراع الحديث في أرجاء الفرافرة الحالية. ونفس الصورة نجدها في حطية الشيخ مرزوق، ولكن كل شيء هنا مصغر عن المنطقة المركزية. فالتل سهل الارتفاع يقود، عبر مسارات المياه التي تنساب من العين الرومانية في أعلى إلى مساكن محدودة لقلة السكان والمحاصيل هي ذاتها سواء الشجرية أو الحقلية.
وبصورة عامة نرى أن هذا النمط الزراعي هو الأدوم؛ لأنه أكثر تكيفا مع البيئة، ولأنه مرتبط بتصريف طبيعي للعيون. والأرض الزراعية لا تزيد إلا في حالات محدودة كزيادة فجائية في التصرف المائي أو العثور على نبع جديد. والعكس صحيح. أي يمكن أن تناقص الأرض المنزرعة نتيجة قلة التصريف أو نتيجة لنظام المواريث الذي يؤدي إلى ملكيات وحيازات عديدة تجعل استخدام النبع غير مجدي.
والمخاطر الحقيقية التي يتعرض لها هذا النمط التاريخي هو أن تدق الإدارة أو الأهالي آبارا ارتوازية داخل الحدائق من أجل توسيع رقعة الزراعة . وحدث هذا في زمام حطية الشيخ مرزوق وعند عين البلد خلف القصر مباشرة. هذا الضخ سيكون له - على الزمن - مردود سيئ على تصريف العيون الطبيعية، وربما أدى إلى اندثار تدريجي لهذا النمط الزراعي الذي كان أحسن تلاؤم إنساني مع الظروف البيئية.
ثانيا:
المهاجرون هم شتات من أنحاء الجمهورية، لكن أكثر الأسماء التي ترددت هي الداخلة وأسيوط وسوهاج والشرقية والدقهلية، وهم يسكنون عدة مستوطنات ذكرنا غالبها من قبل. والانطباع الأول للمشاهد أن هناك نمطين من المستوطنات؛ الأول: قرى الخريجين، والثاني: قرى المستثمرين والمنتفعين.
قرى الخريجين من الخارج تبدو قرى نموذجية متراصة من وحدات سكنية متماثلة منتظمة من حيث المخطط والتنفيذ في صورة المستطيل ذو المسافات البينية المنتظمة الواسعة. وخامة البناء واحدة والخطة المعمارية متكررة: فيلا أو ما يمكن أن نسميه بيت ريفي أنيق منفصل عن الجيران جميعا بمساحة يمكن تسويرها حديقة أو مزرعة مطبخ، لكن في حالة بعض المساكن التي يستخدمها أصحابها نجد إضافات للمبنى غالبها من الطوب اللبن والطفلي تمثل غرفة أخرى وحظيرة صغيرة، مما يخل بالشكل الهندسي للمعمار والمخطط السكني معا. ومن الصعب القول: إن نصف هذه القرى أو أقل من النصف قد عمره الخريجون. ففي قرية الكفاح، وحسب البيانات الرسمية، جرى توطين 76 خريجا من مجموع مساكن جاهزة قدرها 150 مسكنا. وربما يكون عدم الاستيعاب نتيجة للتأخر النسبي في إعداد مساحات الأراضي المخصصة، فقد سلمت مساحة قدرها 850 فدانا وجاري إعداد مثلهم كمرحلة ثانية. ومعظم الخريجين المقيمين هم أصلا من واحة الداخلة ومن محافظة أسوان. ولعل ذلك راجع إلى تشجيع الموظفين الموجودين في الفرافرة لأبناء بلداتهم من الخريجين أن يهاجروا إلى الفرافرة. والصورة نفسها تتكرر في قرية أبو هريرة حيث نجد الخريجين أصلا من الوادي الجديد. ولا شك أن هذا وضع مقبول، مما يساعد على تقليل الضغط السكاني والاقتصادي على موارد محدودة في الداخلة إلى الفرافرة، فإن الدراسات الإحصائية في أوائل القرن المقبل قد تظهر أن محافظة الوادي الجديد أقل المحافظات من حيث الضغوط السكانية. لكننا لا نغرق في الأمل كثيرا ، فما زال الخريجون قليلون، والعدد الكلي للسكان هو في الكفاح نحو 300 شخص، وفي أبو هريرة نحو 150 شخصا، مثلهما في اللواء صبيح.
أما قرى المستثمرين والمنتفعين فلا تخطئها العين أيضا، ذلك أن منظرها العام يوحي بأننا قد انتقلنا إلى كفور ونجوع صغيرة في الوادي والدلتا، فأولا : هناك ناس من مختلف الأعمار يتجمعون للكبيرة والصغيرة، والطرق غالبا غير مستوية بما يضعه الأهالي من مخلفات نباتية، وما تتركه الأبقار والدواب من مخلفات، وهناك حركة للدواب ووسائل النقل الميكانيكية الصغيرة والكبيرة، وأسطح البيوت عليها تراكمات نباتية مما يجعلها كما لو كانت في الدلتا. ولكنها تفترق عن النجوع والكفور في وجود خطة للتجمع السكني على جانبي طرق واسعة، والمنازل ليست بالضرورة مبنية لصق بعضها إلا إذا كانت الخطة في الأصل كذلك مثل قرية عبد المجيد الدغيل، أو لفقر المنتفعين كما هو في جانب من قرية أبو منقار الغربية، والمسكن هنا أوسع من مسكن الدلتا وأكثر تهوية لوجود شبابيك عدة واسعة لتساعد على التهوية في القيظ. وفي القرية ساحات بعضها مرتبط بالمدرسة تستخدم كملعب، والبعض الآخر لإتمام عمليات زراعية كجمع المحصول ووزنه وتخزينه وتسليمه للبيع، ولا شك أن وراء اختلاف نمط الحياة في مستوطنات متجاورة اختلافا في إدارتها والهدف الأساسي من إنشائها. (3-8) أشكال ملكية الأرض
طبقت وزارة الزراعة النماذج التي لديها عن شكل الملكيات في الأراضي الجديدة بغض النظر عن أين تقع هذه الأراضي. وقد أدت الممارسة إلى ظهور شكل آخر من الحيازات، فضلا عن الشكل التقليدي للملكية في الواحة. فأصبح لدينا خمسة أنواع من الملكية الزراعية كلها ملكيات وحيازات خاصة، لكن لكل منها أوضاع خاصة. (1)
الملكية التقليدية:
يمارسها سكان الواحة الأصليين في المساحات الزراعية الصغيرة في حدائقهم التلية. وهذه الملكيات في غالب الأحيان متناهية الصغر بحيث تصبح غير ذات جدوى كما سبق القول؛ مثلا يتشارك في ملكية نخلة أكثر من عشرة أشخاص أو يقتسم أكثر من مائة مالك ملكية حديقة نبع الفالاو في الوقت الذي كانت فيه الملكية لنحو عشرة أشخاص في فترة غير بعيدة .
وبالرغم من كثرة الملاك إلى هذا الحد، إلا أن الحديقة تزرع كما كانت في الماضي كأنها حيازات كبيرة، ويقوم بالعمل الزراعي أشخاص مفوضون يختارهم الملاك من بين أنفسهم وهؤلاء المفوضون لا يتواجدون معا كل يوم، بل يقسمون العمل بينهم لرعاية هذه الملكية التي هي في الواقع فردية وجماعية في ذات الوقت. وتزدحم الحديقة بعدد كبير من الملاك المنتفعين وقت الحصاد، وعلى وجه الخصوص في موسمي البلح والزيتون - موسم العزبة في واحة البحرية.
والسؤال الآن هل يظل التفتت في ملكية الأرض إلى ما لا نهاية؟ أم هل يحدث إعادة تجميع للأرض حينما يشتري أحد الملاك أنصبة بعض الملاك الآخرين؟ (2)
ملكية خاصة للخريجين:
أسلفنا القول أن المشروع قد خصص قرى بأكملها، أو أجزاء من قرى لتوطين الخريجين بمعدل عشرة أفدنة لخريجي الشهادات العليا و7,5 فدان لأصحاب الشهادات الوسطى، وفي الحالتين يعطى الخريج ميزات عديدة سبق ذكرها. وربما كان أهمها قروض ميسرة لشراء حيوانات تربية ودواجن؛ ولهذا فإن أراضي الخريجين المفروض أن تتميز بتركيب محصولي على رأسه أعلاف الحيوان إلى جانب حبوب أخرى كالقمح والأرز والسمسم ... إلخ.
لكن الملاحظ أن قرى الخريجين ليست كلها مأهولة، فالقليل من الملاك مقيمون، بينما باقي الملاك ربما أجروا الأرض لغيرهم، وإذا استمر هذا الوضع فإنه سيؤدي إلى فشل مشروع الخريجين في الفرافرة، كما حدث من قبل في مناطق استصلاح أخرى في مصر.
مثلا في قرية الكفاح اكتملت المساكن تقريبا، وشقت من الترع أكثر من ثمانية كيلومترات (درجة أولى ومساقي)، وكذلك حفرت مصارف وبركة صرف عبر الطريق الرئيسي، وأنشئ في القرية - باعتبارها مركز إداري لكل قرى القطاع الأوسط - المجلس الشعبي ومقر شرطة ووحدة صحية وناد اجتماعي (غالبا للرجال فقط) من طابقين. لكن الحياة راكدة والنادي والمركز الصحي شبه معطلين، والنشاط عامة غير متناسب مع تكوين المجلس الشعبي وتكلفة الإدارة والاستشارة الزراعية. وقرى الخريجين في أبو هريرة وأبو منقار صفوف متراصة ولا صوت ولا حركة إلا فيما ندر، والحقيقة أن مشروع أرض الخريجين أصلا ذو هدف عملي وأضيفت إليه مغريات كثيرة من أجل إيجاد فرص عمالة جيدة بين المتعلمين، ومن أجل معالجة جيدة للأرض، فالمتعلم أقدر على استيعاب الجديد في تقنية الزراعة. لكن هناك أسباب كثيرة لفشل المشروع على رأسها عدم التأهيل الإيديولوجي للخريج يجعله غير قادر على رؤية واضحة لميزات الحياة والهوية الاجتماعية الاقتصادية في المستوطنة. عدم التأهيل الإيديولوجي للخريج هو الذي يجعله غير قادر على اكتساب مبرر للحياة بعيدا عن مدينته، أو حتى قريته، وغير راغب في الحصول على المهارة اللازمة للمساهمة في تكوينه مزارعا ناجحا. كل هذا يجعله على استعداد لتأجير الأرض والبيت لواحد من الفلاحين الموجودين بالمكان، سواء كان مالكا أو غير ذلك. (3)
ملكية المستثمرين:
هذه الملكيات يستحوذ عليها المستثمرون من خلال الجمعيات التي ينضمون إليها. الملكية واضحة من البداية، وإذا كان هناك المزيد من الأرض فإننا نجدهم هم المشترين عند أول إشعار، واضح أن المستثمر أتى للحصول على الحد الأقصى من الأرباح التي تأتي بها الأرض الزراعية. في قرية أبو الهول مثلا نجد أن المساكن تبنى وقد خصص في جانب منها «جاراج» خاص للجرار وأدوات الزراعة التي تميل لاستخدام الآلات أكثر من الأيدي العاملة. معنى هذا استثمار عال في مستلزمات الزراعة. وحيث إن المساحات الزراعية حتى الآن محدودة، فإن الزراعة الآلية تخدم أكثر من مالك. لكن الإدارة في الفرافرة تعلن عن ملكيات فردية من 20 إلى 200 فدان، فالمتوقع إذن المزيد من الزراعة الآلية لدي المستثمرين. وعلى المنسوب الحالي من الملكيات التي هي ضعف أراضي الخريجين، فإن التركيب المحصولي يتميز بسيادة المحصول الواحد الذي يجد منفذا آمنا. هذا هو القمح أو الأرز. لهذا نجد زمامات قرى المستثمرين تمتلئ بهذه المحاصيل، فليست هناك مشاكل تسويق، وبخاصة القمح، وفي هذا المقام قال أحد المستثمرين: إنه حتى لو أصبحت المياه مشكلة فإن عائد المزرعة خلال 20 سنة كاف لرد الإنفاقات الرأسمالية مع هامش ربح يبرر العمل في الفرافرة! (4)
وضع اليد:
سبق أن شرحنا كيف ظهرت هذه الفئة من الناس والشكل من الحيازة المفروض في أراضي استصلاح جديدة أن يكون شكل الملكية واضح من البداية بحيث لا يسمح إلا بالأشكال الرسمية للحيازات. ولكن يبدو أن العكس تماما هو الواقع. فواضعو اليد شكلوا قوة ضغط على الإدارة بحيث أخذت في قبول وجودهم واتخذت الوسائل لقبولهم رسميا بإصدار تسويات لأوضاعهم. واضعوا اليد أصلا فلاحون أتوا مع المهاجرين للعمل، ولكن لأن الكثير من العمل الزراعي في الفرافرة يتم بأسلوب الميكنة، فإن هؤلاء الأجراء أصبح لديهم من الوقت ما يسمح باستزراع مساحات صغيرة «خفية»، وكبرت الخفية نتيجة التراخي إلى أن صارت إلى نحو ما أسلفنا. (5)
المنتفعين:
هؤلاء ملاك لا ينتمون إلى فئات الخريج أو المستثمر أو واضع اليد. خصصت الإدارة مساحات معينة للفقراء المنتفعين؛ ستة أفدنة ملكية المنتفع في منطقة أبو منقار، وثمانية أفدنة للمنتفعين في القطاع الشمالي في الدغيل وصبيح. ويشكل المنتفعون نحو نصف زمام القطاع الشمالي، ويدفع المنتفعون ثمن الأرض بأقساط سنوية ميسرة مع فترة سماح أولية نحو عامين أو ثلاثة أعوام. (3-9) الإنتاج والتسويق
من الصعب قياس أشكال الإنتاج؛ لأن الكثير منها يدخل ضمن الاستهلاك المباشر المحلي. أكثر المحاصيل التي تدخل السوق بفائض خالص هو القمح والأرز. والأغلب أن السبب في سيادة القمح والأرز راجع إلى سهولة التسويق لدى بنك الائتمان والجمعية الزراعية. إنتاج القمح يبلغ نحو 8 أرادب للفدان في الأرض العادية، ونحو 12 إلى 14 إردبا للفدان في الأرض الجيدة، والخدمة الزراعية الحسنة من سماد ومقاومة للآفات. غالبية تسميد القمح باليوريا بينما تستخدم أسمدة عضوية للأرز، ويبلغ إنتاج الأرز بين طنين وأربعة أطنان حسب نوعية الأرض والتسميد ونوع البذرة. وربحية الأرز أعلى قليلا من القمح، ويتم البيع للجمعية الزراعية أو تجار من خارج الفرافرة.
يتم الحصاد بأجهزة «الحصاد الجامع (كومباينر)» بتكلفة فدان الأرز مرة ونصف قدر فدان القمح، وفي الفرافرة تجهيزات تحت اسم الهندسة الزراعية تتكون من عدد جيد من الأجهزة التي تقدم خدمات الزراعة والحرث والتسطير والبذر وتسوية الأرض والحصاد وكبس القش، كلها تؤجر بنظام الساعة. هناك مثلا ثلاث حصادات جامعة حمولة كل منها 3 أطنان من الحبوب، وجميع أنواع المحاريث إلى 9 سلاح.
وهناك اتجاه بين المستثمرين إلى الإنتاج الحيواني، ولكن يقف أمامه مشكلة منع بيع اللحوم أو الحيوانات خارج محافظة الوادي الجديد. (3-10) قضايا التنمية الراهنة
من المتفق عليه حدوث الكثير من القضايا والمشكلات عند إحداث تغيير جذري في الاقتصاد، فما بالنا في حالة الفرافرة حيث زرع اقتصاد جديد من أوله إلى آخره مرة واحدة. (1)
القضية الأولى: هي الازدواجية الحالية بين أشكال الاقتصاد الواحي وبين اقتصاديات السوق الجديدة. وأحد القضايا الهامة هي هل ستستمر الأشكال التقليدية سائرة في طريقها وكأن شيئا لم يحدث جوارها؟ أم يتجه الواحيون إلى النمط الحديث الذي نشأ في عقر دارهم، وتأخذهم أشكال التنمية تدريجيا عن الزراعة الواحية فتموت؟ من الحق أن يمارس الواحيون الاقتصاد الحديث، ولكن الخسارة أن يندثر من الواحيين من يعلم طرائق النبات في حدائق النبع والتل دون أن يخلف من يعرف هذه التقنية التي بلغت أوجها نتيجة استثمار خبرة أجيال وأجيال! هذه في نظرة كبرى قضايا التنمية الحالية في الفرافرة، وأكبر الغلط أن نحاول إدخال تحديث على الزراعة الواحية من آلات أو وسائل ري فإن ذلك سوف يعجل بانهيارها. وربما تركنا الفسحة لعبقرية الإنسان أن يجيد الحلول الذهبية بالراحة ودون افتعال ... (2)
القضية الملحة الثانية: هي هذا الهدر في الماء دون أن تقابله مساحات عطشى معدة للاستزراع. والرأي ألا تدق آبار جديدة حتى تستوفي مياه الآبار الحالية أراضيها، وهنا التوصية واجبة عن ضرورة إجراء دراسات شاملة ومجددة عن الخزان الجوفي وعن الطبقة السطحية الحاملة للماء، فليس أحسن من برنامج تنموي مؤسس على ركائز معرفية قوية. (3)
القضية الثالثة: هي أن الماء والأرض ليسا بالعناصر الكافية للإنتاج. لهذا فإن قضية تواجد الإنسان القادر الراغب هي الشرط المكمل للإنتاج. والقضية هنا برغم ثلاثية أطرافها إلا أنها في التطبيق تصبح ثنائية الطرف؛ القوى الإدارية الحاكمة طرف أول، والفلاح سواء كان أجيرا أو منتفعا أو مستثمرا طرف ثان متقبل لشروط الطرف الأول. فمهما قلنا فإن الواقع أن الإدارة تملك بزمام الأرض والماء «وأصناف التقاوي والبذور وأنواع الأسمدة وكميتها» وحق تحديد أسعار شراء المحصول وحق منع تسويقه خارج الفرافرة ... والفلاح عليه أن يقوم بالعمليات الإنتاجية وأن يجأر بالشكوى عندما تحدث مشاكل إنتاجية كحصص الماء وأسعار المبيدات والتقاوي وثمن المحصول ... فهل نحن أمام شكل جديد من الملكية: ملكية خاصة لكنها مقيدة في صورة هي خليط بين الكولخوز والسوفخوز - بين الجماعية والتعاونية في أقصى حدود إلزامها!
حقا قوانين الاستصلاح مراد بها خير في موضوعين أساسيين يشغلان بال كل مصر؛ الأول: هو إيجاد مخرج لأزمة البطالة ومأزق التكدس في المدن بنشر المعمور المصري إلى أطراف لم يحصلها في العصر الحديث، والثاني: مزيد من إنتاج الكفاية لمحاصيل الغذاء الأساسية.
المشكلة الحقيقية التي تحول واحات الاستصلاح إلى هذه الأشكال من القيود هي قلة إسهام المجالس المحلية في أمور المحليات. وحيث إن المحليات هي جزء من الجهاز الإداري للحكم فهي إذن ذات فاعلية محدودة، ومع ذلك لا نفقد الأمل في أن يأتي من يتنازل عن سلطة من سلطاته إلى مجلس محلي ما، وعندئذ تبدأ سلسلة التفاعلات لحل الكثير من البيروقراطية. (4)
نموذج من التفاعل البيروقراطي المتداخل بصورة تجعلها يائسة من إيجاد الحل: تمثل صيانة مياه الشرب في الفرافرة سلسلة من التبعيات في هيراركية مزعجة: فالصيانة مسندة إلى (1) شركة قطاع خاص مفوضة من (2) قبل الهيئة القومية للشرب والصرف الصحي التابعة (3) للهيئة العامة لمشروعات التنمية التي هي أصلا (4) تابعة لوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي! جزء من هذه المشرعات سلم للمحليات والجزء الآخر ما زال تابعا للهيئة وتشرف عليه المراقبة العامة للتنمية الريفية والتعاونيات في الوادي الجديد. وقد سلمت الصيانة للشركة؛ لأن الصيانة جانب تريد التعاونيات التخلص منه! ويرى البعض في القطاع الشمالي أنه لحسن الحظ فإن مياه الشرب موصلة رأسا من البئر إلى الشبكة والبيوت دون تلوث، فهل هذا حال كل المستوطنات، وإلى متى؟ (5)
مشكلة اللحوم الحمراء في الفرافرة: هناك مزارعون كثيرون يملكون أبقارا بأعداد تؤدي بهم إلى أن يكون البرسيم الحجازي على رأس محاصيلهم الحقلية. ولكن هؤلاء المربون يجدون في القانون السائد في المحافظة عقبة توقف آمالهم في تحويل المنطقة إلى الإنتاج الحيواني، لما هو معروف من أن الزراعة المختلطة - حيوان وأعلاف - أكثر ربحا الزراعة فقط. لكن المحافظة تسعى إلى الإبقاء على سعر منخفض للحوم داخل المحافظة، ومن ثم تمنع «تصدير» اللحوم المذبوحة والحية خارج المحافظة - إلا بإذن يصدر من الخارجة، وهذا المسعى من الناحية الاجتماعية جيد، لكن لا اللحوم رخيصة بالمعنى المفهوم، ولا الأهالي أصلا من معتادي أكل اللحوم بكثرة لدرجة أنه لا يتم الذبح إلا يوم واحد في الأسبوع. ومن الناحية التشريعية لا يجب أن يكون هناك اختلاف مقنن في أسعار مأكولات أساسية كاللحوم بين أجزاء الوطن الواحد. وكلمة «تصدير» الشائعة هي منافية لوحدة أراضي الدولة، كما أنه لا يوجد مثيل لهذا الإجراء في أي محافظة أو أرض استصلاح يحد الناس في حركة تعاملهم خارج إقليمهم. فمن أين جاء هذا «الحظر» على التجارة؟ والرأي أن تترك الأمور لتقدير المزارعين: هل يريدون ممارسة زراعة القمح أو الأرز أو تربية الحيوان دون أي حظر، لو شرعنا نسبا مئوية من الأرض للحبوب والعلف ستتجزأ الأرض وتصبح منتجة لعدة محاصيل في رقع صغيرة غير عملية في استخدام الآلية الزراعية، فهل نعود لنمط العمالة اليدوية وكثافة السكان ومشاكله؟
1998 (4) النوبة: التعمير والسيادة الوطنية
من منطلق السيادة الوطنية على أرض الوطن ومن منطلق دعوة رئيس الجمهورية للاهتمام بالنوبة، ومن منطلق حرية ما تفعله الدولة على أراضيها من تنمية وإعمار، ومن منطلق عواطف الحنين لدى النوبيين للعودة إلى إقليمهم، ومن كافة المنطلقات الاستراتيجية والأمنية والتنموية من أجل الرفاهية، أكتب هذه الأسطر من أجل إعادة الحياة إلى بلاد النوبة التي كان مصير سكانها الهجرة ثلاثة مرات خلال هذا القرن؛ الأولى والثانية: إلى أراض مرتفعة بعد إنشاء سد أسوان 1902 وتعليته الكبرى 1933، والثالثة: الهجرة خارج النوبة تماما إلى حوض كوم أمبو شمالي أسوان بعد إنشاء السد العالي في الستينيات وغرق كل النوبة القديمة تحت مياه بحيرة ناصر.
النوبيون، شعب النوبة الأصيل الذي اختلط بالعرب والمماليك والكشاف والترك، ومن حقهم العودة إلى ديار هي لم تعد الديار القديمة. ولعل كثيرا من أفراد الجيل الذي عاش النوبة القديمة قد انتقل إلى السماء. ولكن يبقى الشعور بأن هذه هي النوبة وإن امتدت بعرض بحيرة ناصر: فهي الأرض التي تتداخل فيها كتل المياه العظيمة مع جبال الصوان والجرانيت والصخر النوبي، وباختصار فإن سمة التكوين الطبيعي للنوبة منذ القدم إلى الآن هي : الماء والجبل يتركان فراغات كالحبوب الصغيرة يشق فيها النوبي أسس حياة وحضارة مستديمة قليلة التغيير.
إلى متى تظل مساحة كبيرة من الوطن فارغة من السكان والسكن الدائم؟
إلى متى يحلم بعض النوبيين بالعودة إلى بلادهم؟
لقد كانت سيناء فترة طويلة قاصرة على أعداد قليلة من البدو ومحظورة على سكان بقية مصر الانتقال والسفر إليها. فكان ما كان من الضعف الاستراتيجي والاقتصادي لسيناء عشرات السنين. وكان ما كان من اجتياحها المرة تلو المرة في الحروب الأخيرة؛ لأنه لا يوجد مرتكز شعبي يدعم الجبهة استراتيجيا وتكتيكيا!
وقد تنبه المسئولون إلى ضرورة إعمار سيناء. وفعلا حدث إعمار ويحدث إعمار أشد كثافة كل يوم ومشروعات التنمية تدرس؛ ودراسات الجدوى تبحث عن استثمار، والحكومة ضالعة بمشرع كبير للتنمية أساسه شق قناة السلام لجلب مياه النيل من فرع دمياط من أجل زراعة نحو نصف مليون فدان في شمال سيناء، والأموال المقدر تدفقها على سيناء في عشرين عاما تبلغ رقما هائلا قد يصل إلى مئات المليارات من الجنيهات!
فما بالنا بالنوبة حيث الماء جاهز حاضر دون عناء شق قنوات وترع. الماء قريب المنال من كتلة بحيرة ناصر، وهناك أرض غنية التربة تكونت من فيض البحيرة وتراجعها تاركة غرينا خصبا، الأرض ليست كأرض سيناء الرملية أو السبخية وإنما هي أرض غرينية ذات سمك متفاوت، ولكنه بكل المقاييس صالح للزراعة دون أن تعوقه نفاذية الرمال الشديدة وتسرب الماء أو دون وجود ملوحة عالية تتسم بها تربة السبخات. العنصر الطبيعي الصعب في النوبة هو الحرارة شديدة الارتفاع والبخر الكبير. والأرض النوبية الداخلية البعيدة عن مسطح التربة الفيضية منوعة التربة في بطون الأودية كالعلاقي وكلابشة وكرسكو وتوشكى وهي صالحة لاستزراع أنواع خشنة من العشب والحشائش بواسطة الري بالرش، من أجل اتخاذها مراعي لحيوان البيئة من إبل وأغنام وماعز وأبقار تدرج وتهجن لتتعايش مع البيئة القاسية.
إذن الأرض بأنواعها، بالإضافة إلى مصايد الأسماك جاهزة لتنوع إنتاجي زراعي رعوي في مساحات معقولة قد تبلغ عشرات الآلاف من الأفدنة في نواح متعددة وخاصة حول أذرع البحيرة الضخمة في كلابشة والعلاقي وتوشكى، ومساحات أقل في مناطق مصبات الأودية القديمة وروافدها مثل أدندان وكرسكو ودهميت وأبو قليب وأبو سنبل وماريا ... إلخ. والإنسان هو العنصر الآخر في الإنتاج. وهو موجود بكثرة ووفرة متمثلا في بعض النوبيين الذين يرغبون العودة وعدد كبير من أهل قنا وسوهاج الذين لهم دراية سابقة بالنوبة القديمة، ويشكلون قوة الصيد السمكي الفردي حاليا. وليس متوقعا إقامة مشروعات تهجير كثيرة في وقت واحد، بل المطلوب إقامة عدد قليل من المشروعات الصغيرة على أساس هجرة تطوعية بحيث تكون هذه مشروعات رائدة يستفاد منها لتجنب بعض الأخطاء في المشروعات التالية. وليس من المستحسن البدء بالمشروعات الأولى بالكثير من الطبول، بل يكون كل شىء متواضع في البداية حتى لا يحس الناس بالهزيمة إذا ما جاءت النتائج الأولية على غير المتوقع.
وربما كان الخوف كامنا في أن حصة مصر من مياه النيل (55,5 مليار متر مكعب سنويا) مخصصة كلها للأراضي المصرية شمال السد العالي وهذا في حد ذاته ظلم وإجحاف بأرض النوبة. وعلى أية حال فإن جانبا من الزراعة لن يكلف مياها كثيرة، بل ستكون زراعة حياض على النسق الفرعوني العظيم في الأراضي التي تنسحب منها مياه البحيرة سنويا. ثم ما ضرنا لو خصصنا مليارا واحدا من الماء ومليارا آخر من الجنيهات أقساطا على عدة سنوات من أجل تعمير النوبة. تلك الأرض العظيمة التي تمتد نحو 300 كيلومتر جنوبي أسوان، وما ضرنا لو نشأت قرى متعددة تثبت الهوية المصرية، وتنتج ما يمكن أن تسهم به في مجال الاقتصاد الوطني وتشكل مرتكزات استراتيجية على طل بحيرة السد، وأخيرا تشكل همزة الوصل الضرورية لمصر جنوب أسوان في اتجاه أشقاء الجنوب؟ (4-1) نقاط حول تنمية النوبة المصرية
مكانيا النوبة هي الطريق مزدوج الاتجاه بين مصر وأفريقيا - حضاريا وتكنولوجيا وسياسيا.
حيث إن المصريين ملوك الري والحضارة المصرية الرائدة، وحيث إن النوبة هي منطقة تتحكم في مسار النيل قبل دخوله الوادي، فالنوبة كانت دائما في الفكر الهيدرولوجي المصري من العصور الفرعونية - احتمالات سد سمنة وقمة عند الجندل الثالث في شمال السودان الحالي - إلى العصر الحديث - سد أسوان والسد العالي، كما أدى ذلك إلى توجه سياسي مصري نحو الجنوب مثل التحكم في مرور أهل الجنوب إلى الجندل الأول إلا لغرض التجارة منذ أوائل الألفية الثالثة ق.م ومثل اتفاقية مياه النيل الحالية أو العلاقة الخاصة جدا مع السودان - برغم فترات جفاء على السطح فقط.
جغرافيا هناك ثلاث مناطق للتحكم في النهر في مساره النوبي المصري؛ الجندل الأول: قرب أسوان، وبوابة كلابشة، وأخيرا المضيق ووادي السبوع. ولأسباب سياسية أختيرت منطقة الجندل الأول مكانا لأكبر سدود مصر المعاصرة.
جغرافيا أيضا النوبة بلاد ذات بيئة قاسية طاردة مما أدى تاريخيا إلى هجرة العمل النوبية وبخاصة في المدن المصرية الرئيسية.
التهجير الأول والثاني للنوبيين: شمل معظم النوبيين من أول القرن إلى الثلاثينيات - سد أسوان وتعليته، وفيه انتقلت القرى النوبية إلى منحدرات جبلية أعلى من حد خزان السد. وترتب على ذلك ارتباطات اقتصادية جديدة في النوبة مع صعايدة مناطق ري الحياض الذين كانوا يأتون في هجرة عمل موسمية إلى النوبة لزراعة السهل الفيضي بعد انحسار مياه الخزان صيفا فضلا عن مزاولة السماكة شتاء، كذلك ارتباط تبادلي مع بدو العبابدة: أن يرعوا حيواناتهم في الحقول بعد الحصاد مقايضة مع أغنام وماعز.
التهجير الأخير: ترك النوبة نهائيا التي احتلتها مياه بحيرة السد لأكثر من ثلث قرن باستثناء تنمية مناطق أثرية - أبو سمبل ووادي السبوع بدرجة أقل.
جيل كامل من النوبيين لا يعرفون النوبة إلا شفاهة، هل يمكن إعادة توطينهم جزئيا واختياريا؟ (4-2) التنمية المقترحة معروفة الأبعاد
أولا:
السياحة، ولها الأولوية لأنها قائمة فعلا وبخاصة كمناطق أثرية مهمة. لكننا نزيد بمخطط متكامل بمقتضاه تضاف سياحة الاستشفاء والاسترخاء ببناء المصحات والفندقة شبه المنزلية. ونزيد بإنشاء أدوات ألعاب الماء وملاحة السطوح الرملية وقوارب حديثة لهواة الصيد البحيري ورحلات منظمة نهرية وبرية كشفية بين أبو سمبل وعمدا والسبوع، وعبر رمال الصحراء إلى واحات دنقل وكركر وغيرها مما قد يقيمه الإنسان من مطاعم ومناطق على الدروب الصحراوية.
هذا التنشيط يقدم فرصا ذهبية للنوبيين الذين يتقنون أعمال الفندقة ويمهرون في كافة الخدمات السياحية؟
ثانيا:
السماكة، وهي ثروة مستغلة - على استحياء - في هذا المتسع المائي المترامي من مصر. المطلوب تحديث أسطول الصيد مع إنشاء معامل للتجميد والتعليب حسب نوعية الأسماك. والمهم أيضا إنشاء وسيلة سريعة لنقل المنتج مجمدا إلى أسواق المدن الكبرى. ولا بأس هنا من تشغيل طائرات شحن للأصناف التي تتحمل تكلفة النقل، ولا مزيد من الكلام عن استقطاب تنمية السماكة للعمالة الصعيدية مع التدريب البسيط على أدوات المهنة الحديثة.
ثالثا:
استيطان زراعي وزراعي مختلط (زراعة وتربية حيوان)، ويمكن أن يتم ذلك في نمطين أصغرهما تنمية زراعية واحية خارج النوبة وخاصة واحتي كركر ودنقل. ولكن ذلك يعتمد على دراسة دقيقة لمنسوب الماء الباطني الذي ربما يكون قد زاد وارتفع بتأثير التسرب من ماء بحيرة السد، ونحن نعلم أن التركيب الصخري الشائع هو الحجر الرملي النوبي ذو المسامية والنفاذية العالية. أما أكبر مشروعات التوطن الزراعي المرتقب فهو في الأغلب حول بحيرة السد. ذلك أن التذبذب في مستوى البحيرة (180 إلى 150 متر) يجعل هناك سنويا مساحات من الأرض المشبعة بالماء والطمي - مع خليط من الرمال والحصى تزيد مع ارتفاع مناسيب الأرض. وبذلك فإن المساحة المتاحة لن تكون بنفس القدر كل سنة مما يقتضي فلاح مقيم فطن، مع معلومات عن حالة الفيضان تعطى له كإرشاد يبني عليه مساحة المزرعة للموسم التالي. وبرغم الذبذبة المساحية فالمتوقع أن تكون هذه الزراعة ذات محصول وفير قليل التكلفة؛ لأنه يستزرع أرضا خصبة لا تحتاج إلى تكلفة رفع المياه إلى الحقول. وهي باختصار شبيهة بزراعة أرض «الجزاير» المعروفة على ضفاف النيل قبل السد العالي في أجزاء كثيرة من مسار النهر وفرعيه.
وفضلا عن ذلك ، وهو شيء مهم، أن مثل هذه الزراعات لن تحتاج إلى مخصبات كيمائية وبالتالي فإن المياه المنصرفة لن تلوث مياه البحيرة بسموم المبيدات والأسمدة.
أما النوع الثاني من مخطط الزراعة في النوبة فهو الزراعة المختلطة التي يمكن أن تتم في الأودية والمناطق السهلية بين خطوط ارتفاع «كونتور » 180 وكونتور 200 متر، ومعظم هذه المواصفات تنطبق على البر الغربي للبحيرة خاصة في مناطق امتدادات كلابشة وتوشكى، وجيوب صغيرة على طول السواحل الغربية والشرقية على مصبات الأودية. وربما كان مسار وادي العلاقي ورافده قبقبة - جبجبة - أهم مناطق الاستزراع على الجانب الشرقي للبحيرة. والزراعة هنا يمكن أن تقوم على أساس التنقيط أو الرش أو المحوري حسب المتبع حاليا في استزراع الصحاري المصرية، والأغلب أن الأعلاف ستكون المحصول الرئيسي مع تربية الحيوان من الأنواع المهجنة والمدرجة المتلائمة مع الحياة في هذه البيئة الجافة بإفراط. وربما أيضا إقامة مراعي خشنة في المناطق المتطرفة من هذا النطاق لتربية حيوان البيئة الأساسي: الإبل والماعز.
الشكل الأرجح لنمط السكن هو القرية الطولية قليلة الكثافة والمنتشرة بمواجهة شاطئ البحيرة كنموذج شبيه بالنجوع النوبية السابقة والتي كانت أحسن تعبير عن التكييف والتأقلم مع البيئة النوبية الخاصة. وربما تنشأ أيضا قرى مركزية محدودة العدد للخدمة الإقليمية في هذه المسافة الطويلة. (4-3) الأيدي العاملة واتجاهات العمل
في جنوب مصر لا تشكل العمالة مشكلة عددية، لكنها مشكلة نوعية اجتماعية قيمية. ومع ذلك ففي المنطقة ثلاث مصادر للعمالة - مع شيء من التدريب المناسب: (1)
النوبيون الراغبون في العودة وخاصة إذا أقيمت الأنشطة الخدمية في عالم السياحة والاستشفاء السابق ذكرها. كذلك يمكن لبعض النوبيين إعادة التوطن على أساس الزراعة بعد أن مارسها بعضهم في مهجرهم في حوض كوم أمبو. (2)
الصعايدة وخاصة أهل قنا وسوهاج، وهؤلاء يتوطنون في المهن الزراعية وصيد الأسماك والصناعات القائمة عليهما. (3)
بدو من العبابدة للريادة السياحية في الصحراء والأودية، ورعي حيوان البيئة في المراعي الخشنة.
وفي الختام ننوه بضرورة تحسين وتكثيف البنية الأساسية بإنشاء طرق رئيسية وطرق خدمة عديدة، ومطارات ومهابط للطائرات الخفيفة والهيلوكبتر، وأرصفة عائمة لرسو المراكب واللنشات. وأخيرا إمداد المنطقة ككل بشبكة كهرباء مناسبة، فلا يجوز أن تكون المنطقة مصدر كهرباء السد العالي ولا تحصل منه شيء!
8 / 5 / 2004 (5) النوبة ... عود على بدء
قبل العيد مباشرة كنت في رحلة علمية إلى أسوان وتوشكى وبلاد النوبة. أسوان هي على ما هي عليه من ازدهار ونظافة والنيل خالد يمر بواجهتها ويضفي عليها من الجمال والبهاء ما لا يتجمع مرة واحدة في مكان واحد. والناس في مجموعهم يتسمون باللطافة والبشر متفتحون على الحياة بهدوء النفس التي لا تترك للمرارة أثر في الرضا النفسي، ومتحف النوبة تحفة رائعة لجمال البناء وهندسة اللاندسكيب الأخضر من حوله وروعة المعرفة والثقافة في داخله. إنه حقا متعة ورحلة عبر الزمن مدهشة شيقة لكل الرواد مصريين وأجانب يحسون داخلهم بشغف للتطلع على حياة النوبيين في هذا الجزء الجميل والحيوي من مصر الوطن الكبير للحضارة والثقافة عبر الآلاف المؤلفة من السنين.
وذهبنا إلى حوض كوم أمبو حيث تنتشر على أطرافه قرى النوبة التي أنشأتها الدولة لاستقبال سكان النوبة بعد تهجيرهم من موطنهم الأزلي حول ضفاف النيل نتيجة لإنشاء السد العالي وغرق تلك المواطن تحت ملايين الأطنان من مياه بحيرة ناصر أو بحيرة السد العالي أو بحيرة النوبة؟ أي هذه المسميات أولى بالوصف، علما أن كلها أسماء صحيحة فهي منسوبة إلى الرئيس الذي بدأ المشروع، ومنسوبة إلى تكوم وحجز المياه أمام السد العالي، وهي أخيرا منسوبة إلى إقليم النوبة الجغرافي والحضاري. وكانت هذه الملاحظة هي أولى ما سمعناه من النوبيين الذين يرجحون إطلاق اسم النوبة على البحيرة بحكم الواقع الجغرافي القديم والحديث. وهم لا يرفضون المسميات الأخرى ولكنهم في مجال الأولويات يفضلون إطلاق اسم النوبة كحقيقة أقدم وأبقى. فالسد حدث إنشائي له عمر زمني شئنا أم أبينا. وربما كان لهذا أسوة بما كان من إطلاق اسم القناطر الخيرية التي بدأها محمد علي باني مصر الحديثة. ذهب محمد علي وذهبت أسرته وظل اسم القناطر الخيرية في التراث والترفيه كمنشأة جلبت الخير بتحويل أراضي الدلتا إلى الزراعة الدائمة، وكانت بذلك أول ثورة زراعية اقتصادية في مصر أعادت تشكيل موارد الثروة المصرية طوال قرن ونصف القرن. وبالمثل فإن السد العالي منشأة لها آثار كبرى متعددة في الزراعة والطاقة ومشروعات التنمية الجارية في أنحاء مصر وبخاصة جنوب الوادي بما فيها مشروع توشكى.
استقبل النوبيون التهجير بسماحة لأسباب ودوافع عديدة أولها: الرغبة في قطع العزلة التي كانوا يعيشونها، وذلك بالانتقال والتعايش قريبا من السكة الحديدية والطرق البرية وبالتالي تفاعل أكبر مع بقية مصر. وثانيها: أنهم كانوا على وعد حكومي بأنهم سيكونون أول من سيعودون إلى ضفاف بحيرة السد عند تنفيذ مشروعات التنمية وإعادة التوطين حولها بحكم أنها منطقتهم الأصلية. ولكن مع ذلك كانت هناك مشاعر اجتماعية سلبية ناجمة عن التخوف على طبائعهم وعاداتهم من الاندثار حين يختلطون بغيرهم في أراضي حوض كوم أمبو.
ويحضرني في هذا المجال ما كان قد سبق لي معايشته بين النوبيين قبل المهجر ونشرته في كتابي «رحلة في زمان النوبة 1998» من كلمات غنائية مضمون بعضها: تعيشي يا نوبة، حنبني السد، وفي النوبة الجديدة بيت وزرع ونخل، وبعضها استعانة بالله على الحياة الجديدة كقولهم: يا الله يا مسير الأقدار ساعدنا يا رب في كوم أمبو. ولكن لوعة فراق المكان تعلو في القول: خسارة يا نوبة، حنسيبك إزاي، لا إله إلا الله يا نوبة، السما والأرض بتبكي عليكي، حزننا بالسر، الوداع يا نوبة، بأقولها من قلبي، الزمان بتاعنا كان أد إيه جميل في النوبة. مثل هذه الكلمات المعبرة عن الحنين والاشتياق ولوعة الفراق توضح لنا كم هي الروابط العاطفية للنوبيين بالنوبة القديمة.
أكثر من ذلك أن النوبيين في كوم أمبو فقدوا الاتصال بالنيل الذي كان يواجه كل بيوتهم صباح مساء وكان جزء من نسيج الحضارة والمجتمع والكثير من طقوس الزواج، ووسيلة الانتقال بين النجوع والقرى. كان النيل مياه حرة للجميع يشربون ويرتوون، ويروون الزرع والضرع، آمنين كل الأمان في بيوتهم المتناثرة، قريري العين بما عندهم في خلاء الله وبريته.
في المهجر كانت هناك عدالة في توزيع البيوت الجديدة على الأسر حسب عدد أعضائها: غرفة وغرفتين وثلاث. لكن الأسر في خلال أربعين عاما زاد عددها بزواج الأبناء والبنات. سنة الطبيعة. أين يسكنون والمساحات محدودة بين الأرض الزراعية وحافات الجبل حول حوض كوم أمبو. البيوت نفسها كانت مثار اعتراض لصغرها وعدم وجود الأحواش الواسعة التي اعتادوها في النوبة القديمة والتي كانت مملكة المرأة تمارس فيها حياتها بحرية. وبالرغم من تقبل ما عرض عليهم وبالرغم من تكريم الدولة لهم بتقاضي قيمة رمزية للبيوت، إلا أن المشكلة الحالية هي أين يبنون، وما هي مواردهم المتاحة لكي يبنوا جديدا للأسر الجديدة؟ وباستثناء النوبيين الذين يعملون في الأجهزة الحكومية وبخاصة التعليم وبعض التجارة الريفية الصغيرة فإن مواردهم الزراعية محدودة بأرض ضيقة وعمالة زراعية من أهل الصعيد المجاورين يتقاسمون معهم القليل الذي تغله الحيازات الزراعية الصغيرة والتي تفتت وتقزمت بالمواريث. سنة طبيعة أخرى.
هناك جانب من السكان قد ثبتت أقدامهم في الأرض الجديدة، ولكن البعض يحنون للعودة. والحنين هنا ليس مصدره العاطفة فقط بل الحاجة إلى إعادة التوطين في أرض قريبة من أرض الأجداد تبشر بمستقبل اقتصادي للأجيال الجديدة.
كان عدد النوبيين الذين هاجروا في 1963 نحو خمسين ألفا من المقيمين بصفة دائمة في النوبة القديمة وبإضافة نحو 25 ألفا من المقيمين جزئيا يصبح العدد قريبا من 70 ألفا. وبحكم النمو السكاني المصري لا بد أنهم تضاعفوا مرتين على الأقل. ومهما قلنا عن موارد العمل النوبية القديمة في المدن المصرية فلا شك في أنها بلغت حد التشبع، وانتقل الكثيرون من الأبناء إلى شتى أنواع العمل حسب درجة ونوع تأهيلهم المدرسي والجامعي.
في السبعينيات والثمانينيات كانت هناك دراسات عديدة لإعادة التوطين في نحو عشر قرى حول ضفاف بحيرة النوبة/ناصر تحمل أسماء القرى القديمة مثل كلابشة وجرف حسين والعلاقي وعافية وتوشكى وأبو سمبل. والسائر الآن على الطريق البري من أسوان إلى أبو سمبل يشاهد لافتات على أيسر الطريق تشير إلى طرق ودروب تقود إلى مواقع بعض هذه القرى على مبعدة 40 أو 50كم شرق الطريق - في اتجاه ضفة البحيرة. وهناك محاولات جادة لإحياء بعض هذا المشروع الاستيطاني، لكن أنجحها مشروع قرية السلام بجوار أبو سمبل قرب موقع بلانة وفرقندي القديم. يقال: إن المستصلح في المنطقة بلغ نحو سبعة آلاف فدان.
وفي تجمع قرى بلانة في كوم أمبو ظهرت من الأحاديث والمناقشات رغبة ملحة لعودة بعض الناس إلى هذه الأراضي المستصلحة . ويدحضون فكرة أن النوبي يفهم قليلا في الفلاحة، ويدعمون رفضهم بأن الجمعية الزراعية بقرية دار السلام النوبية القريبة من بلانه/كوم أمبو، قد حازت على المرتبة الأولى في النشاط الزراعي من بين قرى أسوان.
وقد تبلورت الرغبات في موضوعات محددة لو تحققت - جزئيا أو مرحليا - فإنها سوف تعيد للنوبيين الشيء الكثير من الاعتبار ورد الجميل والمستقبل الاقتصادي، باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من نسيج مصر، وباعتبار أن تنمية النوبة هو، من البديهي، جزء من مخططات التنمية لجنوب الوادي الذي هو مشروع قومي تتبناه الدولة ولا بد من تحقيقه. وقد اخترت من بين تلك الرغبات موضوعين هامين:
الموضوع الأول:
ويمثل رغبة كثير من النوبيين؛ هو إعادة توطين من يرغب في الأراضي المستصلحة حول أبو سمبل ومناطق أخرى لإقامة نوايات سكنية اقتصادية دائمة على مناسيب أعلى من 185 متر حتى لا تضار في حالات الفيضانات العالية. ويشترك الناس هنا بمجهوداتهم الذاتية مع كل ما تقدمه الدولة من دعم في حالات الاستصلاح الزراعي والتعمير في أرجاء مصر. ولدى وزارة الزراعة لوائح توضح شكل المعونات الابتدائية للمستصلحين، كالمساعدة المبدئية في تجهيز طلمبات الري ومياه الشرب وبعض الثروة الحيوانية وربما توجيه وإرشاد زراعي ... إلخ.
ماذا لو تحققت مثل هذه الرغبة من أجل تعمير شواطئ البحيرة والعودة بذلك إلى المخططات السابقة، بالمساعدة في إنشاء عدة قرى لمن يرغب من النوبيين وبعض أهل الصعيد لحل عدة أزمات أسوانية على رأسها فقر النجوع، سواء كان بين النوبيين أو الجعافرة أو العبابدة أو غيرهم. إذا ركبت القطار أو السيارة من أسوان شمالا ستطل عليك من الشرق تكدسات سكانية في نجوع وقرى تختط لنفسها مواطئ أقدام بين الحجر والرمال، وقد تملك زمامات زراعية متناهية الصغر غرب الطريق في حالات محدودة. هؤلاء جميعا هم جزء من سكان جنوب الوادي يستحقون الرعاية بإعلان النوايا والبدء بها.
الموضوع الثاني:
هو عبارة عن أفكار يتبناها بعض النوبيين من ذوي المبادآت الفكرية. ويتلخص في إقامة قرية نوبية سياحية عند أو قرب أبو سمبل على نحو شبيه بالقرية الفرعونية على بر الجيزة. الفكرة تسعى إلى إقامة حياة نوبية تقليدية في تلك القرية مع متسع من غرف الإقامة للسياح مبنية على الطراز النوبي التقليدي؛ لكي يتعايشوا مع شكل الحياة والحضارة النوبية التي شاهدوا بعضا منها في متحف النوبة. وبذلك تطول الليالي السياحية بدلا من الوضع الحالي الذي يقضي فيه السياح بضع ساعات في أبو سمبل ثم يعود أغلبهم في الطائرة إلى أسوان. وفي هذا إثراء للسياحة والموارد الاقتصادية لمحافظة أسوان، ويخلق في الوقت نفسه مجالا طيبا لعمل بعض النوبيين في هذا القطاع السياحي معا. ويحتاج مثل هذا المشروع إلى ترخيص بإقامته ودعم عدة جهات حكومية كوزارة السياحة ومحافظة أسوان والهيئات الثقافية التي تتبنى المحافظة على التراث الحضاري كاليونسكو.
والخلاصة:
النوبة التنمية تحتاج إلى دعم خاص من قبل وزارة التعمير والإسكان ووزارة الشئون الاجتماعية، وتأسيس مجالات عمل نسائية كمشروع مشترك بخطة متوازنة من أجل تطبيق برنامج الدولة في تنمية جنوب الوادي، قبل أن تلتقط جهات خارجية مثل هذه المشكلات والموضوعات بحسن نية أو بغيرها وتروجه على أنه من قبيل دفاع عن حضارة مجتمع على وشك الزوال، كما يحدث الآن بالنسبة لموضع مماثل يحدث لبعض النوبيين في السودان.
5 / 3 / 1996 (6) قناة السويس كنز أسراره كثيرة
قيل مؤخرا: إن الإنسان لا يستخدم سوى جزء من قدرة المخ، وإن الاتجاه الآن هو إلى الوصول إلى استخدام أكبر لطاقة المخ. والمتصور حينئذ أن الإنسان سيمتلك قدرات أكبر مما هو عليه الآن في التفكير والابتكار وتخزين المعلومات والتذكر ... إلخ. وقناة السويس الآن هي مثل مخ الإنسان لها قدرات وطاقات أكبر من استخدامنا الحالي لها كمجرى مائي يربط الشرق والغرب، وأضيف إليها وظيفة أخرى صغيرة متمثلة في فيلات وشاليهات الترويح في أبو سلطان وغيرها، لكن أكبر فائدة للقناة هي أن تكون مصدرا لناتج سلعي صناعي يخرج منها إلى المناطق المحيطة مستغلا رخص النقل البحري المباشر من مكان الإنتاج إلى أسواق الاستهلاك في شرق المتوسط (لبنان، سوريا، الأردن، فلسطين وإسرائيل، قبرص وليبيا)، والبحر الأحمر (السودان، إريتريا، إثيوبيا، السعودية، اليمن )، وشرق أفريقيا (الصومال، كينيا، تنزانيا، جزر القمر وموزمبيق).
ويمكن أن تساعد على حدوث ذلك بإقامة «عزب» صناعية - أي قرى صناعية صغيرة الحجم متخصصة في سلعة أو مجموعة سلع مصاحبة لبعضها، وهي بهذه الصورة يسهل إدارتها ومراقبتها وتصحيح مسارها. وسلسلة العزب هذه تمتد على طول الضفة الشرقية للقناة وتستخدم غالبها تكنولوجيا متوسطة إلى جانب تكنولوجيا عالية معاصرة في صناعات مثل الإلكترونيات. واستخدام التكنولوجيا المتوسطة يعطي فرصة لتشغيل عدد أكبر من العمالة المصرية الماهرة، كما أن أجور العمال هي بالضرورة أقل من التكلفة في رأسمال المنشأة رفيعة التكنولوجيا، وفي صيانتها في أجواء الصحراء المتربة دوما، وأخيرا فإن التسارع في التغيير التكنولوجي نتيجة سرعة الكشوف العلمية التطبيقية هي سمة العصر التي تؤدي بالضرورة إلى متابعة التغيير بشراء تجهيزات وأدوات أحدث وهو ما يشكل أعباء مالية أكبر من أن تتحملها السلعة المنتجة في سوق المنافسة الدولية. وليس معنى هذا شراء تكنولوجيا عتيقة، ولكنا ننحو منحى مشابه لهونج كونج التي تستخدم عمالة كبيرة وتكنولوجيا متوسطة في صناعات معنية وخاصة الملابس الجاهزة وأجهزة الراديو والتلفاز والتصوير والساعات، بينما تستخدم تايوان وكوريا التكنولوجيا الرفيعة جزئيا بتأثير رءوس الأموال اليابانية والأمريكية.
إن تفوق اليابان والنمور الصغيرة في شرق آسيا يعود في بعض أسبابه إلى الإفادة من النقل البحري الرخيص لوقوعها جميعا على شواطئ المحيط، لكن مواقع هذه البلاد غير مركزية بالنسبة للعالم بينما موقع قناة السويس هو موقع مركزي متميز بكل المقاييس. علينا أن نستغل هذه المركزية بإقامة نشاط إنتاجي يجد سوقا بين أوروبا وآسيا وأفريقيا وينقل الإنتاج الصناعي إلى هذه الأسواق بواسطة النقل البحري رخيص التكلفة. ولكي يتم ذلك فالمطلوب إنشاء «حارات» مائية تمتد من القناة أو بحيراتها شرقا لمسافة كيلومتر أو نحو ذلك، وعلى ضفة هذه الحارات المائية تقام القرى الصناعية بحيث تبنى كل قرية أرصفة الشحن الخاصة بها لتسهيل عمليتي التفريغ والشحن بعيدا عن مسار القناة الرئيسي حتى لا تعرقل حركة القوافل البحرية العابرة، ويعرف كل دارس لاقتصاديات النقل أن نقاط التفريغ وإعادة الشحن من وسيلة نقل لأخرى - نقل بري إلى حديدي أو بحري على سبيل المثال، هي أكثر النقاط تكلفة في خط سير نقل معظم السلع؛ لأنها تستدعي أجور عمالة وآلات رافعة وأرضيات تخزين في التفريغ ثم إعادة الشحن. فإذا كان منتج العزب الصناعية سوف ينقل مرة واحدة من المصنع إلى السفينة فإن ذلك سوف يخفض من تكلفة النقل ويعطي للسلعة ميزة في إجمالي تكلفتها - وهو ما يساعد السلعة في سوق المنافسة، هذا فضلا عن أن القرب الجغرافي لمنطقة قناة السويس من دول البحر المتوسط والأحمر والبحر العربي والخليج العربي هو عامل يساعد على خفض سعر النقل بالقياس إلى الموقع البعيد لشرق آسيا أو غرب أوروبا أو أمريكا الأطلنطية.
أي التكنولوجيات تختار: الشرقية (اليابان والنمور الأربعة والصين) أو الأورو-أمريكية؟ الأغلب أن تختار التكنولوجيا الشرقية؛ لأن الدول الغربية تضع شروطا مجحفة في أحيان كثيرة، والأغلب أن نقل التكنولوجيا الشرقية هو عادة أوفر وربما تكون أكثر استجابة إلى مقتضيات السلع في السوق الأساسي لها في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا؛ أي أن يكون في مقدور سكان الريف والمدن في الشرق الأوسط شراء هذه السلع علما بأن معظم سكان هذه البلاد من ذوي الدخل المحدود. والقصد أن مثل منتجات الصين أو المنتجات اليابانية الموجهة للصين وجنوب شرق آسيا هي على الأغلب ما نحتاجه من صناعات تستخدم تكنولوجيا متوسطة في الإنتاج من السيارات إلى آلات الإنتاج والأدوات الزراعية والصناعات الغذائية. فعلى سبيل المثال أين معلبات التونة المصرية في مواجهة تونة تايلاند التي تغرق السوق المصرية؟ وأين السيارة المصرية أمام أنواع السيارات الكورية والتركية والرومانية؟
كيف ننفذ ذلك؟ ربما كان أحسن الوسائل وأقلها تكلفة بالنسبة لمصر هو تخصيص أرض لمشروعين أو ثلاثة مشاريع رائدة
تنفذها شركات أو هيئات عامة من واحدة من نمور شرق آسيا أو اليابان أو الصين، وحبذا لو كان كل مشروع من المشروعات الرائدة يتبع دولة أو هيئة مغايرة. ذلك أننا لا نعرف بالضبط قدرات التفاوض ونتائجه، لكن النجاح في مشروع صناعي أو أكثر - إذا قدر - سوف يخلق عدة أمور أهمها اشتعال الهمة في إنشاءات جديدة يقوم بها المستثمرون من مصريي المهاجر ومصريي الداخل وأصحاب المبادآت من الأفراد والشركات العربية، بل ربما ينجذب لمواقع الصناعة في منطقة القناة شركات متعددة الجنسيات أوروأمريكية، كل ذلك إلى جانب المستثمرين من شرق آسيا. ومن الأمور الأخرى الناجمة عن إقامة المشروعات الرائدة تجنب أخطاء التجربة الرائدة وتخطي عقبات كانت قد ظهرت أثناء العمل.
ولعل أهم الأخطار التي تواجه نجاح مثل هذه المشرعات هي البيروقراطية المعهودة والقوانين المتداخلة المتراكمة بتعديلات المواد لسنة كذا وسنة كذا التي تتخذ في النهاية صور هرم مقلوب رأسه قانون عتيق وقاعدته عشرات من التعديلات، فلم لا نعيد الهرم إلى وضعه الطبيعي بإلغاء كل المواد العالقة واستحداث قوانين قادرة على مواجهة المواقف الجديدة في ظل الدعوة إلى الخصخصة ونظم التعاملات في الأطر الإقليمية والعالمية المعاصرة - على ألا يتعدى ذلك جور على السيادة الوطنية؟ الصورة التي نتخيلها هي صورة المشاركة بين الدولة والمستثمرين: الدولة بحق الأرض وحفر القنوات الجانبية وتقديم خدمات أخرى كإدخال محطات المشروعات ضمن شبكة الكهرباء القومية، وتسهيل الحصول على الماء بمعامل تحلية مياه القناة والبحيرات كناتج فرعي لمحطات الطاقة، وإمداد المحطات بالوقود الحراري - غالبا باستخدام توربينات غاز طبيعي، فنوفر بذلك ماء النيل لمشروعات الزراعة في صحاري شرق الدلتا وغربها، وأن تعامل الدولة الإنتاج السلعي لهذه العزب الصناعية معاملة المناطق الحرة مع عدم المغالاة في فرض الرسوم والضرائب المتعددة على المنتجات التي تدخل السوق المصرية لسببين؛ أولهما: أنه إذا كانت فروق السعر كبيرة بين المنطقة الحرة للسوق الداخلية فإن ذلك سيفتح شهية المقامرين والمغامرين الكبار إلى استخدام كافة وسائل التهرب والتهريب، وثانيهما: أن أي دراسة جدوى لمثل هذه المشروعات الصناعية سوف تأخذ في حساباتها الأولية السوق المصرية الكبيرة كأول وأضمن أسواق الشرق الأوسط للسلع المنتجة.
أما الطرف الثاني - أي المستثمر - فيقدم رأس المال والمصنع والخبرة في الإدارة وفي الإنتاج وفي التسويق، ويتم التعاقد لفترة قد لا تزيد على ربع قرن - ربما كان هذا هو العمر الافتراضي للمصانع الحديثة في الوقت الراهن وذلك لكي يمكن إعادة تجهيزها بمعدات أحدث، وبعد هذه الفترة ينتقل المشروع إلى شركة مساهمة مصرية ربما مع بقاء الشركة الأصلية كمصدر خبرة واستشارة. ولعل الإدارة هي مشكلة المشاكل في مصر بحيث يقال تجاوزا: النوبة الإدارة هي مشكلة مصر الوحيدة، لهذا وضعت الإدارة في الصدارة حتى نأخذ تدريجيا بنظم الإدارة المناسبة.
أخيرا فإن هذه كلمات ليست فنية وإنما هي صورة التخطيط الإقليمي لعنصر واحد - الصناعة - يدور في فلكه عناصر التخطيط البشري الأخرى لإقليم القناة، وكذلك فإن هذه الكلمات هي من أجل التأكيد أن الوقت أزف لاستفادة أكبر من قدرات القناة. صحيح أن حصيلة العبور تشكل الآن نسبة عالية من الناتج المحلي العام لكن إضافة المشروعات الصناعية إلى شرق القناة سوف يؤتي أكلا كثيرة، على رأسها خلق وظائف لكثير من العاطلين، وتعظيم الإفادة من الموقع البحري المتميز لإقليم مصري حساس طوال العصور بتحويله إلى بؤرة نشاط ومركز ثقل سكاني واقتصادي معا.
10 / 11 / 1998 (7) شرق التفريعة: رؤية جغرافية للمشروع
مشروع ميناء الحاويات شرق بورسعيد
في 22 و23 سبتمبر 1998 عقد أول مؤتمر عن شرق التفريعة في مدينة بورسعيد برعاية رئيس مجلس الوزراء واشتراك مجموعة من العلماء والباحثين من هيئات مختلفة منها الجمعية الجغرافية المصرية، والجمعية العلمية العربية للنقل، والجمعية البحرية المصرية وجمعية المهندسين البحريين، وجمعية زملاء معهد المهندسين البحريين البريطانيين، وبالتعاون مع محافظة بورسعيد والهيئة العامة لميناء بورسعيد وشركة بورسعيد لتداول الحاويات والبضائع. حشد كبير ضاقت به قاعة اجتماعات فندق سونستا، وفيهم الباحث والتجريبي ورجل البحر المستثمر الذي يريد أن يعرف أين هو من هذا المشروع الضخم.
كان برنامج المؤتمر مليئا بالمحاضرات والتعقيبات واحتدام النقاش على مدى ثماني جلسات غنية بالرأي والرأي الآخر، بالتوضيح والمقارنة مع موانئ أخرى عملاقة في حوض البحر المتوسط والخليج العربي وجنوب شرق آسيا، وإلى جانب ذلك كانت هناك دراسات عن الطاقة المتوقعة للميناء الجديد والموانئ المنافسة مثل حيفا في إسرائيل، وليماسول في قبرص، ومرسين في تركيا، وبيريه في اليونان، وكلها في شرق البحر المتوسط، وتردد كثيرا اسم ميناء جبل علي في دبي على أنه نموذج للنمو السريع الفعال برغم علاقاته المكانية التي يتفوق عليها مشروع شرق التفريعة الذي رئي تسميته شرق بورسعيد، وربما حرصا من الهيئة البورسعيدية على تثبيت هويته داخل حدود المحافظة، علما بأنه مشروع قومي بكل معاني المكان والمال والمصلحة. ومشروع كبير مثل شرق التفريعة لا بد أن يواجه مشكلات يبحث لها عن حل. وهذه المشكلات لا تختص فقط بالتصميم والإنشاءات الهندسية، بل أيضا في نوع التشريعات المصاحبة لكي تسهل إدارته وقدرته التنافسية مع موانئ مماثلة الوظيفة، ومشكلات تسويق الميناء وخدماته إقليميا بين الخليج وشرق المتوسط.
مشكلات التصميم والإنشاء مرتبطة أساسا بظرف طبيعي هو نوع التربة، ومعروف جيولوجيا ومورفولوجيا وجغرافيا أن تربة سهل الطينة تركيبة خاصة جدا، فقد تكونت خلال تاريخها الجيولوجي من تراكم إرسابات نيلية حين كانت مصبا لفرع مندثر من فروع الدلتا هو الفرع البيلوزي، أرسبت على قاع البحر بتكويناته الرملية وطينه البحري في صورة طبقات متعاقبة من الطين والرمال تمتد إلى أكثر من مائة متر عمقا، ثم حدث انخفاض تدريجي للأرض أدى إلى تكوين تربة سبخية شديدة الملوحة ذات أنواع مختلفة من تراكيب سطح الأرض منها مساحات كبيرة ذات قشرة ملحية سميكة، حيث التبخر الشديد وملاحات شاطئية يفصلها عن البحر شريط رملي رفيع وتربة مستنقعية في الأرض المنخفضة ذات المنسوب القريب من منسوب سطح البحر بين الملاحات والسطح ذي القشرة الملحية الصلبة، وليس هذا سوى وصف عام يحتاج إلى جسات حقلية متعددة وليس فقط الجستين اللتين أشار إليهما أحد البحوث الذي ألقي في المؤتمر، وحتى تلك الجستين أفصحت عن الكثير من مشكلات الإنشاء، وقال المتحدث: إنه يمكن معالجة المشكلة بطريقة دق خوازيق تصل إلى عمق ستين مترا أو تزيد تحت كل بناء عليه أحمال كبيرة - سواء كان ذلك مصنع أو مخازن تشوين الحاويات - بطبيعة الحال هذا هو الحال الإنشائي لمثل هذه التربة كي لا تهبط المنشآت والأبنية وتحتاج إلى صيانة أو إعادة بناء، لكنه حل شديد التكلفة بالنسبة للدولة والمستثمرين، فهل نحن كمن ينطبق عليه المثل الشائع: المضطر يركب الصعب من الأمور، فهل نحن المضطر؟ سؤال مفتوح.
لا شك أن هذا المكان جغرافيا له ميزات عديدة أعظمها أنه على الطريق العالمي لقناة السويس مباشرة، وهو في حد ذاته مبرر قوي لإنشاء ميناء محوري تتداول فيه حاويات دول شرق المتوسط البحر الأحمر، وربما شرق أفريقيا أيضا، وذلك على عكس الموانئ المنافسة الأخرى التي تقع بعيدا عن طريق القناة الملاحي، فهل حجم تداول الحاويات المعتمدة في مخطط الميناء (31,5 مليون حاوية سنويا) يبرر التكلفة الباهظة للإنشاء على مثل هذه التربة؟ وهل التشريعات الخاصة بهذا الميناء ستضمن تداول الحاوية في أقل من دقيقة زمن كي يصبح ذلك قيمة مضافة لحساب الميناء، كما هو الحال في المواني المحورية المليونية؟ وهل سيكون التفريغ والشحن وإعادة الشحن بعيدا عن التعامل البيروقراطي المعهود، وبخاصة تنازع السلطات بين المالية والجمارك والأمن وسلطة الميناء وغير ذلك؟ وما هي أشكال هيئات وشركات الشحن ونقابات العاملين؟ وهل ستكون هناك تجهيزات كمبيوترية مبرمجة للخدمة السريعة للحاويات، واتصالات على مستوى عال من الحداثة والتحديث مع شركات سفن الحاويات العالمية وأسواق تجميع أو تصريف الحاويات؟ وما هي طبيعة وأعلام شركات سفن الروافد الصغيرة التي تنقل الحاويات من موانئ شرق المتوسط والبحر الأحمر وإلى الميناء المحوري في شرق التفريعة؟
لماذا التركيز على الحاويات؟ إن الميل العام للنقل البحري السلعي عالميا يميل باستمرار إلى نمط النقل بالحاويات بديلا لسفن البضائع العامة لأسباب كثيرة منها تجنب الفاقد وسرعة التداول، وهما ميزتان تعادلان مزيدا من الربح من المنشأ إلى الناقل والمستورد، وفي إحصائية هيئة قناة السويس عن الحركة في القناة في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي (1998): إن الحمولة الصافية العابرة للقناة كانت تتصدرها الحاويات ب 74 مليون طن، يليها البترول بنحو 46 مليون طن ثم السفن حاملات السيارات نحو 35 مليون طن، وأخيرا سفن البضائع العامة والسفن مختلطة الوظيفة نحو 13 مليون طن. هذه أرقام مشجعة على تخصيص الميناء الجديد للحاويات بصورة أساسية، خاصة إذا علمنا أن بناء سفن الحاويات الجديدة في ترسانات العالم المختلفة تنحو إلى جيل من سفن الحاويات أكبر من الحالية.
والمشرع في شرق التفريعة يتضمن أيضا إنشاء منطقة صناعية كبيرة جنوب الميناء مباشرة، فهل ستصبح هذه المنطقة ضمن المناطق الحرة؟ وما هو مفهوم المنطقة الحرة في مصر؟ نعرف أن هناك أشكالا متعددة منها المنطقة الحرة والميناء الحر والمدينة الحرة؟ وقد أكدت كثير من البحوث ضرورة إلغاء هذه التشريعات المتعددة وإدراجها كلها في تشريع واحد واضح يفوت فرصة التلاعب بالنصوص القانونية من خلال التفسيرات المتعددة.
وقد اعترض الكثيرون على مبدأ بيع الأراضي في المنطقة الصناعية وفضلوا عليه نظام التأجير وحق الانتفاع لمدة 40-50 سنة مع بقاء الأرض ملكا للدولة؛ لأن ذلك أكثر ربحية للدولة ومنعا للمضاربة على الأراضي ورفع قيمتها الفعلية بدون مقابل حقيقي، ويرى هؤلاء أن دخل الدولة من القيمة الايجارية المدفوعة على مدى حق الانتفاع سيكون أعلى من قيمة بيعها الآن، وتظل الأرض بعد ذلك ملكا للدولة تؤجرها كما تشاء. وكذلك كانت هناك اعتراضات على المساحة المخصصة للميناء المحوري (22,5 كيلومترا مربعا) أنها ضيقة لا تسمح بتوسعات ضرورية مستقبلية، خاصة أن المنطقة الصناعية (87,5كم مربعا) تلي الميناء جنوبا فتحجم امتدادات الميناء في المثلث الضيق بين التفريعة وبحيرة الملاحة، فإذا كانت أراضي المنطقة الصناعية قد بيعت، فإن سلطة الميناء مضطرة إلى شراء أرض التوسعات من المستثمرين بأسعار عالية جدا بالقياس إلى سعرها الأصلي. ومن بين ما ذكر أن هناك فرص عمل وإسكان في أرض المشروع، فأين هي المدينة السكنية التي تستوعب نحو مائة ألف أو يزيد وليس لها وجود على المخطط المعروض كأن البشر ليس لهم حساب. وقيل عابرا: النوبة المنطقة السكنية ستكون جنوب المنطقة الصناعية، فهل يجوز أن ننقل أسوأ خبراتنا في القاهرة وحلوان، حيث تلقي الصناعة بملوثاتها في جو المدينة، ألا نعلم أن الرياح السائدة في مصر عامة هي الشمالية، وأن المدينة المقترحة ستقع في مهب التلوث الصناعي؟
وأخيرا لا شك أن لدى مصر مشروعات تنمية طموحة كثيرة منها اثنان في منطقة القناة رأس خليج السويس وشرق التفريعة. واحد في الجنوب والآخر في الشمال فماذا عن بقية منطقة القناة؟
في مارس 1996 نشرت في جريدة «الأهرام» موضوعا موجزا عن ضرورة تعظيم منطقة القناة بإنشاء سلسلة من المناطق الصناعية متوسطة التكنولوجيا على طول الضفة الشرقية للقناة، على أن تبنى هذه المصانع على حارات مائية متعامدة على القناة بطول بضع مئات الأمتار تمتد من القناة شرقا إلى الداخل، الغرض من التركيز على الصناعات متوسطة التكنولوجيا غرض مزدوج؛ الأول: أنها صناعات أقل تكلفة في رأس المال وأكثر عمالة بشرية مما يساعد على إيجاد وظائف للمصريين - وهو مطلب مهم في ظل الظروف السكانية والاقتصادية الحالية، والغرض الثاني: أن ناتج الصناعة متوسطة التكنولوجيا رخيص وقادر على اكتساب السوق الفقيرة لكتل السكان الريفيين في مصر والسودان والصومال وغيرها من بلاد البحر الأحمر وشرق أفريقيا.
وعلى سبيل المثال، فإن المنطقة الصناعية الحالية في مدينة الإسماعيلية كان يمكن أن تكون في شرق القناة أمام الإسماعيلية بدلا من موقعها الحالي في غرب المدينة. الموقع الحالي له سلبيات أولها: أنه يحجم نمو الإسماعيلية غربا، وثانيها: أنه يساعد على تلويث جو الإسماعيلية، وثالثها: أنه كان يمكن استصلاحه كأرض زراعية وحزام أخضر يقي المدينة من هبات الرياح شديدة الأتربة؛ لأن التربة هنا طينية جافة مفككة كونتها فروع النيل القديمة المندثرة، أما موقع الصناعة شرق القناة، فليست له هذه السلبيات، بل إن له إيجابية إعمار الجانب الشرقي بما يتضمنه من تدعيم استراتيجي للقناة يعرفه العسكريون، فهلا فكرنا أيضا في هذا المجال الحيوي الوسيط من الصناعات إلى جانب المشروعات الكبرى في خليج السويس وشرق التفريعة؟
وهلا فكرنا مسبقا في حماية البيئة من ناتج الصناعات وكمية التلوث البحري والصرف الصحي في خليج السويس وأثره على مصير القرى السياحية في العين السخنة ورأس سدر، أليست رأس سدر من الأهمية بحيث رأت الدولة إنشاء مطار دولي فيها، هل المطار لخدمة السياحة وحركة النقل في منطقة جنوب السويس أم لخدمة منطقة الصناعة الجديدة؟
وفي الشمال في المنطقة بين التفريعة وبحيرة البردويل توجد بحيرتا الملاحة الكبرى والصغرى اللتان تكونان ملجأ مهما لطائر الفلامنجو والطيور المهاجرة في شرق المتوسط، الملجأ المهم الثاني في البحر المتوسط هو في منطقة مستنقعات الكامارج في دلتا نهر الرون في جنوب فرنسا، الذي يحافظ عليه الفرنسيون بشكل ممتاز، أما في شرق التفريعة، فقد رأينا مخطط الميناء يجور على نصف بحيرة الملاحة الكبرى، والنصف الآخر سيقع لا محالة تحت طائلة التلوث البحري والنمو المكاني للميناء أو مشروع إنشاء مطار دولي، الذي هو ضروري لخدمة المنطقة الجديدة. فأين نحن منهم في مجال المحافظة على البيئة التي تتشدق بها الكثيرون؟
5 / 1 / 2001 (8) مشروع شرق التفريعة: مصير ومقترحات
نشرت الأهرام في 9 سبتمبر 2000 تقريرا على جانب كبير من الأهمية حول قرارات اللجنة الوزارية للمشروعات القومية. وملخص القرارات بالنسبة لمشروع شرق التفريعة يتفق والجملة المشهورة «يعود الحال كما كان عليه.» لقد بدأ هذا المشروع منذ 1998 بطموح كبير: ميناء حاويات محوري ومنطقة صناعية ومدينة سكنية ومطار دولي.
وفي 20 نوفمبر 1998 كتبت في الأهرام رؤية جغرافية للمشروع تساءلت فيه على أي أرض سوف يبنى المشروع وأية خسارة بيئية يجنيها؟ سهل الطينة هو في الحقيقة جيولوجيا تربة ملحية سميكة تكونت، باختصار، من تعاقب إرسابات رملية وطين بحري لأكثر من مائة متر عمقا فوق مياه جوفية بحرية، وهي بذلك جغرافيا وعمرانيا تربة معادية للبناء بأي تكنولوجية إلا بتكلفة قد تفوق العائد المرجو. وأنه لا يجب البدء في المشروع إلا بعد إجراء جسات عميقة عديدة على التربة للاطمئنان على سلامة الأبنية المقامة عليها. وتحتاج أيضا إلى تجارب وتحليلات معملية للتأكد من أن عوامل الشد والجذب لهذه التربة الملحية لن تكون ذات آثار ضارة عند فصلها عن المياه الملحية بالسدود والحوائط الأسمنتية إلى أعماق كبيرة.
ويتضمن سهل الطينة بحيرتين هما الملاحة الكبرى والصغرى وفيهما مجالات نشاط سمكي كبير، فضلا عن أنهما ملاذ للطيور المهاجرة بخاصة طائر الفلامنجو الذي يجد هنا بيئة صالحة نادرة في حوض البحر المتوسط قد لا يكون لها نظير سوى مستنقعات سهل الكامارج في جنوب فرنسا الذي يتمتع فيها بحماية حقيقية.
تجاهل مخططو المشروع كل هذا. بل كان المشروع يتضمن ردم البحيرتين باعتبار أن عائد الميناء المحوري والصناعة والمدينة والمطار أجدى من زريعة السمك أو المحافظة على طريق هجرة موسمية للطيور. والأدهى أنهم خططوا المدينة السكنية جنوب المنطقة الصناعية ضاربين عرض الحائط بمدى التلويث الصناعي الغازي والسمعي للبيئة والمناخ وصحة الناس. كما أن الجهاز الحكومي للمشروع باع للمستثمرين الصناعيين الأرض برغم صيحات الاعتراض على مبدأ البيع، وأن يكون بديله تخصيصا إيجاريا لمدة معينة رجحت أن تكون 50 سنة وبذلك تظل الأرض ملكا للدولة.
لا نعرف ماذا تم خلال سنتين، لكن قرارات اللجنة الوزارية العليا أوضحت أن نحو ثلثي المستثمرين انسحبوا وسحبوا الأموال التي دفعوها. لماذا؟ هل هذا بسبب قرار أن يدفع المستثمرون تعويضات زراعي السمك بدلا من الحكومة؟ أم أن المسألة من ذلك بعد ظهور مصاعب تربة سهل الطينة والتكلفة العالية التي سيتحملونها في حالة المضي في مشروعاتهم الصناعية أو غيرها من المشروعات التجارية والخدمات؟ أم أن الاستثمار في مشروعات شمال غرب خليج السويس - منطقة عين السخنة: الميناء وتخصيصات الصناعة - بدا أقل مخاطرة وأعلى عائدا ومن ثم أكثر جذبا من شرق بورسعيد ذي الإشكاليات المتعددة.
والواقع أننا في مصر نبدأ مشروعا ووراءه مباشرة مشروع مشابه منافس له. وهو ما يسبب إحباطا إما لعدم التنسيق بين الهيئات والوزارات القائمة بالمشروعات، وإما لأشياء ودوافع غير مرئية.
والخلاصة: أننا نتبنى في ذات الوقت مشروعين متشابهين: ميناء وصناعة ومدينة سكنية في منطقة واحدة غير بعيدة عن بعضها في شمال وجنوب قناة السويس - أي في مجال جغرافي ضيق لا يزيد طوله عن مائتي كيلومتر بين شرق بورسعيد وجنوب السويس!
وحيث إن الظروف البيئية والجيولوجية في شمال غرب خليج السويس أفضل بكثير من ظروف سهل الطينة، فلا بد أن الرهان الآن هو على مشروعات العين السخنة وليس شرق التفريعة.
وثمة ملاحظة هامة أن المشكلة الأساسية في المشروعين هي تدبير المياه العذبة اللازمة للصناعة وأشكال الحياة العمرانية. علما بأن مياه النيل محدودة ولا تستطيع الوفاء باحتياجات مصر المستقبلية، فما بالنا لو أضفنا أعباء أخرى. هذا قدرنا ويعرف المسئولون أن علينا أن نخطط بدقة بالغة في استخدام مياه النهر المتاحة في ضوء مشروعات الاتفاقات المستجدة لإعادة تقسيم مياه النيل بدخول إثيوبيا وغيرها في هذا المضمار، مما قد لا يجعلنا نتفاءل بالمستقبل القريب، وربما اضطررنا إلى الالتجاء إلى مشروعات مكلفة لتحلية مياه البحر. فالأمر إذن يحتاج إلى رؤية شاملة اقتصادية سياسية عمرانية مائية تتدارسها وتحدد أطرها بين المكسب والخسارة لجنة على أعلى مستوى ممكن؛ لأن الموضوع هو حياة مصر.
وحسب قرارات اللجنة الوزارية للمشروعات القومية في سبتمبر الماضي نجد أن مشروع شرق التفريعة قد انكمش إلى ميناء حاويات فقط بدلا من المشروع الأصلي، ولكن هل سيصبح ميناء محوريا يتعامل في ملايين الحاويات؟ ومما لا شك فيه أن سوق مصر لا تحتاج إلى ميناء جديد بهذه السعة، فلدينا ما يكفينا في دمياط وبورسعيد ومشروعات غرب الإسكندرية وعين السخنة. وكما يعلم المختصون أن للميناء المحوري متطلبات أساسية منها البنية التحتية وبخاصة الطرق الحديدية والبرية والمطار وأحواش كبيرة للتخزين وأسطول سفن صغيرة لإعادة تصدير الحاويات إلى الموانئ المتجهة إليها.
صحيح أن الموقع الجغرافي لشرق التفريعة هو موقع ملائم تماما لاستقبال وإعادة توزيع وتصدير الحاويات باعتباره يقع على قمة الطريق البحري العالمي بين الشمال والجنوب لتغذية احتياجات النقل لدول حوض البحر المتوسط الشرقي بصفة خاصة. لكن البحر المتوسط قد امتلأ بمواني الحاويات المحورية في إيطاليا واليونان وقبرص وتركيا ومشروع تطوير مواني أسدود الإسرائيلي وبيروت وتارنتو في جنوب إيطاليا ... إلخ. فهل دخلنا عصر المواني المحورية متأخرا؟
والمسألة ليست فقط الموقع والمنافسة ولكنها تحتوي على عدد كبير من الاحتياجات على رأسها الموضوعات التقنية والتلاؤم البشري بالتدريب المستمر على النظام الكومبيوتري في التشغيل والحفظ والمراجعة، وكلها أشياء يمكن حلها بدرجات متفاوتة من النجاح. لكن المشكلة العويصة التي قد نواجهها هي النظم الإجرائية وفلسفة إدارة الميناء في مواجهة المركزية المتشددة التي نعرفها في مصر. فهل يمكن أن يصبح الميناء المحوري ومنطقته الحرة شديد الاستقلال في اتخاذ القرارات والتمويل والقروض والتجديد والتنمية وعقد الصفقات مع شركات ومكاتب من أي جنسية لإقامة مكاتب ومخازن وبعض الصناعات التجميعية وإعادة الشحن - هل يمكن ذلك دون تدخل مركزي؟ وعلى سبيل المثال فإن أسباب نجاح مينائي جبل علي ودبي في الإمارات العربية المتحدة كثيرة أدت إلى أوضاع متميزة منها: أن هناك 1450 شركة من 85 دولة تتعامل مع تلك المواني. 74٪ من التعاملات هي تراخيص تجارية و22٪ تراخيص صناعية في المنطقة الحرة و4٪ تراخيص خدمات أساسية، وتعامل مع 125 شركة من كبريات خطوط سفن الحاويات العالمية، فضلا عن مطار دبي المحدث على أحسن الأساليب والذي يخدم 80 شركة طيران تتجه إلى 130 وجهة، وخدمات غير محدودة للاتصالات الدولية مع 175 دولة اتصالا مباشرا بالتلفون والفاكس والبريد الإلكتروني، هذه المؤهلات مع مرونة الجهاز الحكومي جعلت هيئة مواني دبي «جافصا» تصف نفسها بأنها «بوابة العالم». علما بأنه ليس وراء دبي سوقا كالسوق المصرية ولا موقعا مماثلا لمصر. لكن المرونة الإدارية الشديدة هي وراء هذا النجاح الهائل في محيط غني في بلاد الخليج ومحيط فقير في الهند وباكستان.
ويمكننا الاستطراد كثيرا، لكن الخلاصة: أن وراء نجاح مواني دبي تاريخا إداريا سياسيا تجاريا مرنا طوال قرن من الزمان، بينما وراءنا تاريخ إداري بيروقراطي مركزي متشدد زمانا طويلا. فهل ننجح في تعديله لمواكبة العصر ومتطلبات مصر التنموية؟ في مارس 1996 كتبت في جريدة الأهرام موضوعا مختصرا عن ضرورة تعظيم إمكانات قناة السويس مفاده: أن تهيئ الدولة مخططات وبنية أساسية يستفيد منها القطاع الخاص وذلك بإنشاء سلسلة من العزب الصناعية متوسطة التكنولوجيا على الضفة الشرقية من القناة كصناعات كهربائية وإلكترونية وملابس جاهزة وتجميد أسماك وأطعمة وغير ذلك - على أن تبنى هذه الصناعات على حارات مائية تأخذ من القناة، وبطول كيلومتر أو نحوه في عدة أماكن شرقي القناة مثل شرق كل من الدفرسوار والإسماعيلية والبحيرات المرة والشط ... إلخ. وعلى أن تكون كل عزبة صناعية مهيأة أيضا لسكن العاملين والقائمين بالخدمات الضرورية، دون التورط في إنشاء مدن أو قرى كبيرة تصبح بعد قليل مشكلة عمرانية كما يحدث دائما عند إنشاء مدن جديدة في ممارساتنا الحالية. الغرض الأول من التركيز على الصناعة متوسطة التكنولوجيا متعدد المنافع. منها أولا: رخص أدوات الإنتاج وبساطتها لمثل هذه الصناعات في السوق الدولية وسهولة التعامل معها مع تدريب متوسط. ومنها ثانيا: أنها توفر عمل لأيدي عاملة كثيرة؛ لأن مثل هذه الصناعات لا تقوم على آلية عالية التكلفة قليلة العمالة. وأخيرا: أنها توفر سلعا رخيصة في متناول جملة الفقراء في مصر وبعض بلاد البحر الأحمر وشرق أفريقيا.
الغرض الثاني من إنشائها شرق القناة: هو نوع إقامة كثافة العمران الاستراتيجي الذي يعرفه الاستراتيجيون والعسكريون لتأمين القناة من جهة الشرق.
والغرض الثالث والأخير: هو الاستفادة من قناة السويس كشريان مائي للنقل البحري الرخيص مباشرة من أرصفة العزب الصناعية شمالا إلى البحر المتوسط وجنوبا إلى البحر الأحمر. وليس صعبا تنظيم مرور سفن الشحن الصغيرة التي تنقل خامات ومنتجات العزب الصناعية ذهابا وإيابا في القناة جنبا إلى جنب قوافل السفن الكبيرة العابرة. وربما ساعدت عوائد هذه الصناعات في تمويل جزئي لعملية ازدواج مسار القناة بكامل طولها.
والخلاصة: أن تنمية مثل هذه الصناعات على طول القناة - إضافة إلى الصناعات المختلفة الراهنة والمستقبلية في السويس والإسماعيلية وبورسعيد - سوف يساعد على أن تصبح منطقة القناة برمتها مجالا نشطا للعمل وبالتالي لجذب السكان بدلا من الحشر في عشوائيات وطفيليات المدن المصرية.
12 / 4 / 2003 (9) مصايف الساحل الشمالي؛ نظرة نقدية (9-1) الساحل الشمالي والتاريخ العسكري لمصر
الساحل الشمالي هو الواجهة المصرية في عالم البحر المتوسط ومجموع علاقاته الحضارية منذ عصور قديمة. لكنه كان لبضعة آلاف من السنين ذو علاقة سلبية أيضا فيما يختص بالسلامة القومية؛ لأنه كان معبر أقوام وشعوب غزت مصر أو أرادت غزوها وهزمت في معارك ضارية بين المصريين وهؤلاء الطامعين في غنى مصر الخضراء.
كانت المنطقة الساحلية إذن ومنذ الدولة القديمة إلى أواخر الدولة الحديثة الفرعونية مسرحا لعمليات عسكرية شبه دائمة ضد القبائل السامية القادمة عبر فلسطين؛ نتيجة ضغوط وغزوات الشعوب الهندوأوروبية للشرق الأوسط في إيران والأناضول منذ الألف الثانية قبل الميلاد، وكذلك حاربت قبائل البربر من التحنو والمشوش القادمين من برقة وشمال أفريقيا وصدت شعوب البحر من الإغريق وغيرهم الذين قدموا في هجرات متتالية إلى سواحل مصر الغربية وسواحل الدلتا؛ نتيجة ضغوط هجرات الشعوب الهندوأوروبية في البلقان والأناضول، وقد أدت هذه الحركات الكبيرة للشعوب الضاغطة إلى تبني السلطات المصرية سلسلة من القلاع ومراكز الاستطلاع والمراقبة بطول سواحل سيناء والسواحل الغربية. وكانت أهم القلاع في الشرق بليزيوم - الفرما قديما وبالوظة حاليا، وربما كانت أبعد القلاع في الغرب هي في منطقة مطروح الحالية.
أما سواحل الدلتا فقد كانت البحيرات والمستنقعات والمصبات الكثيرة لفروع الدلتا خط دفاع طبيعي تحتمي خلفه الدلتا الغنية. لكن لأهمية الاتصالات التجارية البحرية لمصر في شرق المتوسط إلى فينيقيا وقبرص والأناضول وكريت فقد أنشأت مصر منذ الدولة القديمة أسطولا للمراقبة ومطاردة المتسللين على طول السواحل، وخاصة سواحل الدلتا وسيناء فضلا عن أسطولها التجاري والعسكري الذي يستخدم في الحملات البرية البحرية على سواحل الليفانت.
هذه السمة العسكرية للساحل الشمالي ظلت تواكب مصر خلال كل العصور. فمن الشرق جاء الأشوريون والفرس وعرب الإسلام والعثمانيون وأتراك الحرب العالمية الأولى والإسرائيليون، ومن الغرب برا وبحرا جاء الرومان والفاطميون ونابليون والإنجليز وقوات المحور خلال الحرب العالمية الثانية.
ونتيجة لكل هذه المداخلات الشعوبية والإمبريالية فقد نشأت واندثرت عشرات المدن والقرى الساحلية بأسماء متعددة غالبيتها يصعب تتبعها مكانيا واتساعا. وربما كانت الأسماء في العصر الهلنستي والروماني أكثرها تحقيقا: كانوب هي أبو قير وراقودة معروفة محل كوم الشقافة، وتابوسيرس هي أبو صير وإلى جوارها تينيا، ولوكابسيس هي مارينا والعلمين، ثم أمونيا أو باريتونيوم هي البرطون في العصر العربي وهي مطروح حاليا، وإنيسفورا هي سيدي براني، وكاتابثوس هي السلوم، وميريوتس أو ماريا هي بحيرة مريوط التي كانت أضعاف مساحتها الحالية وأكثر سكانا وعمرانا وإنتاجا وتجارة، ومرمريكا هي مراقية عند العرب. وفي شمال سيناء وحسب بطليموس السكندري نجد رافيا هي رفح، ورينو كورورا هي العريش، وسربونيس هي بحيرة البردويل، وكاسيوس هو كثيب القلس على ساحل البردويل الشمالي، وبلزيوم هي الفرما ... إلخ. وما زالت الأبحاث الأركيولوجية نشطة في بعض الأماكن لتدلنا على قيمة الشواطئ الشمالية استراتيجيا وعمرانا مما لا زلنا نجهله. (9-2) أسباب تأخر اقتصاديات الاصطياف الساحلي؟
منذ أمد بعيد، وبحكم ظروف مصر المناخية، لم تكن هناك حاجة إلى مصايف على سواحل مصر الشمالية. فأرض مصر كانت تقع في معظمها في ظل مناخ أقرب إلى الاعتدال معظم أشهر السنة. في الشتاء الجو غالبا مشمس نهارا عدا أيام النوات وتساقط المطر وتكوينات السحب البديعة التي تتفاعل مع أشعة الشمس في صور أوحت للمصريين منذ القدم بكينوننة آلهة السماء. وفي الصيف كانت المساحات الخضراء حول المدن والقرى تسهم مع نمط البناء من الطوب اللبن أو الحجر في تخفيض درجة الحرارة داخل البيوت مع وجود الشبابيك المواجهة لرياح الشمال، والمشربيات التي تقلل تسرب أشعة الشمس داخل الحجرات - كلها عوامل ساعدت على مرور تيارات هوائية ملطفة. باختصار كان الناس يتعايشون مع البيئة المصرية سواء في المدن أو القرى بطريقة فيها إبداع التجربة الحضارية آلاف السنين.
لهذا فعلى الأغلب لم يكن سكان القاهرة والمدن الداخلية في حاجة إلى رحلة الصيف إلى الساحل لأسباب عدة منها: (1)
غالب البيوت مبنية بالحجر الذي لا يساعد على البناء لأكثر من خمسة وستة طوابق. هذا فضلا عن أن معظم البيوت ملك لساكنيها ولا تزيد عن طابق أو اثنين وبالتالي فإن موانع اجتماعية كانت تحول دون انتشار واسع لنمط العمائر العالية حفاظا على خصوصية العائلة حين تقضي بعض الوقت في حوش البيت أو السطح في ليالي الصيف. لكن نمو سكان القاهرة بنسب عالية أدى إلى تغير البناء إلى أبراج الأسمنت والزجاج فكان ذلك من دواعي الحاجة إلى المصيف الساحلي. (2)
كانت ضفاف النيل ونزهة القوارب الشراعية في برك وبحيرات القاهرة قبل تجفيفها في القرن 19 - مثل برك الأزبكية والفيل والحبش - تشكل العنصر الأساسي في حركة ناس القاهرة صيفا، وأذكر أن الضفة الجنوبية للجزيرة بما فيها حديقة النزهة كانت مفتوحة أمام الناس للتمتع بليالي صيف القاهرة البديعة قبل أن تقتطع منها مساحات لشيراتون الجزيرة ومبنى قيادة الثورة وكازينو قصر النيل. وبالمثل كانت ضفاف النيل في روض الفرج وبولاق وعند القصر العيني والمنيل وبين فم الخليج وكوبري الملك الصالح، حيث الأشجار الضخمة تمثل انفراجات مجانية للناس لقضاء ساعات في الهواء الطلق والتمتع بمنظر النيل الزاخر بماء الحياة. (3)
كان الكثير من سكان المدن المصرية الكبرى ما يزالون مرتبطين بأهلهم في الريف، وبعضهم كان حريصا على قضاء بعض الصيف في القرية استمرارا لعلاقة الأبناء بأقاربهم وأملاكهم. وبطبيعة الحال فإن مناخ الريف كان ألطف من المدينة بحكم المساحات الخضراء الواسعة وخامة البناء التي تقلل من حر الصيف. (4)
بعض المصريين كانوا يسافرون إلى المصايف اللبنانية الجبلية الجميلة مثل مناطق جزين وضهور الشوير وصوفر. وكذلك كان البعض الذين لهم أقارب في تركيا يذهب إلى اسطنبول وغيرها من المدن التركية. وأخيرا يصطاف المثقفون القادرون وأسر الأغنياء المتنورين في فرنسا وسويسرا حيث تساعد ثقافتهم الفرنسية على الاستمتاع والمزيد من المعرفة والتعارف. وبالمثل كان بعض أبناء الجاليتين اليونانية والإيطالية يذهبون إلى بلادهم صيفا لتدعيم الروابط الثقافية مع أصولهم في جنوب أوروبا. (9-3) تاريخ وأنماط المصايف الشمالية والنمو الجائر
في هذا المجال نلاحظ ثلاثة أنماط من المصايف أولهم: شواطئ ضواحي وغرب الإسكندرية، والثاني: انتشر على سواحل الدلتا وتمثله رأس البر خير تمثيل، أما الثالث: فهو قرى المصايف الحديثة التي تمثل مشكلات عويصة. وكان مجال امتداد النمط السكندري في اتجاهين؛ أولهما: شرقا إلى الرمل بشواطئه وجوناته، وثانيهما: الامتداد غربا على طول الساحل في نقاط متعددة أهمها العجمي ومطروح. وكان الرواد الأول لهذه المصايف هم أثرياء الإسكندرية والقاهرة وبعض أبناء الجالية اليونانية يصطافون ويقدمون الخدمات اللازمة بحيث كانت تلك المصايف أشبه بالقرى والمدن الإغريقية الصغيرة تنتشر على طول شارع خدمات رئيسي - فنادق ودكاكين صغيرة ومطاعم وكازينو، وتحتضن رمال الشاطئ عن قرب بحيث لا تعيق الرؤية العامة للبحر الذي يظل مفتوحا أمام الجميع لممارسة السباحة أو صيد الأسماك وغيرها من مباهج الاستمتاع بحرية الحركة والنشاط الصيفي بعيدا عن روتين حياة المدينة بقية العام.
أما نمط رأس البر فالغالب أنه نمط مصري صميم نشأ عن رغبة سكان دمياط في التحرر صيفا من كثافة السكن في المدينة وضجيج أعمالها الحرفية المتعددة. وصادف ذلك موقعا جغرافيا فريدا عند التقاء مصب فرع دمياط بالبحر في صورة مثلث ضلعه الشمالي على البحر وضلعه الشرقي على النهر فيما عرف باسم «الجربي»، حيث كانت تتركز خدمات الفنادق والكازينو والمطاعم والسهر الليلي. ويتميز هذا النمط بأن الأبنية كانت عبارة عن عشش من «الكيب» - سيقان مجدولة من نبات البوص وما شابه، بحيث كانت تعطي تهوية ممتازة لغرف العشة، وبالتالي كانت تمثل مصيفا بيئيا متفردا بعيدا تماما عن بيت المدينة يحس معه الناس بالانتقال الفعلي إلى أجواء أخرى تنسجم وحرية النشاط الصيفي. وبطبيعة الحال كان «كيب» هذه العشش يطوى في الشتاء ويخزن حتى لا تبليه الأمطار. وقد نجح مصيف رأس البر بهذه المواصفات فأصبح له رواده الدائمين من القاهرة والمنصورة ومدن أخرى بحيث أضفوا على رأس البر جوا من الألفة والمحبة لمدد طويلة، وكان من بين رواده الدائمين السيدة أم كلثوم وعدد من عائلات وجهاء مصر.
وقد كان لنجاح نمط رأس البر أثره في الامتداد شرقا إلى شاطئ بورسعيد الذي كان يمتلأ بالعشش صيفا، وذلك إلى جانب البنسيونات والفنادق التي تخدم رجال الأعمال من المصريين ومن الجاليات الأجنبية في بورسعيد بحكم أنها مرتبطة بحركة التجارة والسفن العابرة للقناة. وربما كان نمو مصيف عشش بورسعيد قد حركه في البداية مجموعة من مستثمري دمياط، فالعلاقة وثيقة وقريبة بين المدينتين. وأصبح لشاطئ بورسعيد زوار دائمين وإن لم تبلغ قدر ما بلغه مصيف رأس البر، بحكم التاريخ ودمار الحروب المتتابعة على بورسعيد. وحينما فكرت محافظات وسط الدلتا أن تبني لمحافظاتهم شواطئ اصطياف فقد وقع الاختيار على نمط عشش رأس البر في بلطيم ثم في جمصة.
ولكن لظروف مناخية ارتفع معدل حرارة الأرض العام بمقدار ثلاثة أعشار من درجة مئوية خلال العقود الثلاثة الأخيرة مما يتسبب في ذوبان بعض كتل الجليد ومن ثم ارتفاع معدل سطح البحر عالميا. وقد يكون هذا الارتفاع محسوسا في البحار الجانبية كالبحر المتوسط أكثر من سواحل المحيطات المفتوحة، ومن ثم بدأ تآكل شاطئ رأس البر. وقد يكون امتناع طمي النيل عن سواحل الدلتا بعد بناء السد العالي أثر هو الآخر في فقدان الدلتا تعزيزات دفاعها ضد غزو البحر. ونتساءل هل كان إنشاء ميناء دمياط الجديد بقناته الملاحية والحواجز الصناعية أثر في غزو البحر لرأس البر؟ وقد تكون هناك أسباب أخرى كثيرة متفاعلة معا تؤدي إلى الظاهرة التي نعرفها باسم نحر البحر، لقد طغى البحر على بعض شواطئ الدلتا مثل بلطيم ورأس البر، فهل نفلح في صد هذا الهجوم البطيء الدائم لمياه البحر أم سنخسر الرهان شئنا أم أبينا باعتبار ذلك جزءا من عمليات طبيعية كل ما نفعله إزاءها هو إجراءات لإبطائها؟
وللأسف الشديد فقد تراجع مؤخرا نمط العشش في رأس البر وغيرها وتغير إلى البناء بالطوب والأسمنت لعدة طوابق. لماذا؟ اقتصاديا هذا النوع من البناء أكثر عائدا للملاك. فبدلا من وحدة سكنية هي مساحة العشة الواحدة أصبحت هناك أربع أو ست شقق تجلب إيرادا أكبر بكثير من العشة. كما أن إنشاء الحواجز التي تتوغل في البحر بطول نحو مائة متر لكسر حدة نحر البحر قد أدى إلى إرسابات نما معها الساحل الرملي على حساب البحر.
كل هذا يساوي مكاسب مادية لكنه قد أدى في الوقت نفسه إلى أمرين؛ أولهما: فقدان المصيف البيئي في الوقت الذي ندعو فيه إلى الحفاظ على البيئة وتراثها التاريخي، وثانيهما: ملاحظة كثرة حوادث الغرق للمستحمين في البحر التي لا يعرف لها سبب واضح، وإن كان يمكن ربطها بصورة أو أخرى بالتيارات البحرية المرتدة أمام الحواجز الاصطناعية الجديدة وحواجز ميناء دمياط الجديد. وهذه أمور تحتاج إلى تقص وتفحص ومقارنة مع أثر الحواجز التي بنيت عند بعض قرى الساحل الشمالي الغربي. وكما حدث من كثافة سكن دائم بين الإسكندرية والعجمي تتكرر هذه الظاهرة على نطاق أصغر في منطقة رأس البر-دمياط. فقد بنت السلطات «عمارات العرايس» لسكن الموظفين في الميناء. ومن ناحية هو إجراء مفيد ولكن من ناحية أخرى قد يمتد نمط العمائر للسكن الدائم فيقضي على البيئة في هذا المجال الضيق بين النيل ودمياط ورأس البر والميناء.
لا شك أن الإسكندرية كانت أسبق مدن الاصطياف على ساحل مصر الشمالي. ففضلا عن سكانها المقيمين من المصريين والأجانب كانت هناك حركة تعمير طوال القرن العشرين في شرق المدينة فيما عرف باسم رمل الإسكندرية بعد إنشاء ترام الرمل وكورنيش البحر. ومن ثم أصبح لكل حي جديد شاطئ وكازينو ومقاه ومطاعم وبنسيونات وفنادق من درجات مختلفة. ومع تزايد إقبال بعض القادرين من القاهرة ومدن الدلتا والصعيد أصبح التصييف صناعة بعض السكندريين يحوزون شققا لتأجيرها صيفا. ولا شك في أن انتقال الحكومة إلى الإسكندرية كل صيف حتى عام 1952 كان أحد العوامل الهامة في الترويج لصناعة الاصطياف في الإسكندرية. ونتيجة تفاعل تلك العوامل أن تباينت المواقع بين شواطئ الطبقات الراقية والشواطئ الشعبية. وفي الحالتين كان هناك متسع من الأرض للأبنية الموجهة غالبا لحركات الاصطياف.
وفي ذات الوقت كان بعض المصريين وأبناء الجاليات الأجنبية المصرية يهربون من ازدحام الإسكندرية إلى شواطئ جديدة غرب المدينة، ومن ثم نشأت شواطئ بيانكي - العجمي - وهانوفيل التي سرعان ما جذبت أغنياء ومستثمرين من المصريين يبنون شاليهات وفيلات. وانتقل مثل ذلك النشاط إلى واضعي اليد من أبناء القبائل البدوية في المنطقة بحيث أصبحت تجارة الأراضي صناعتهم الأولى بدلا من حدائق التين والفاكهة. والآن فإن الضغط السكاني السكندري وشركات المقاولات قد أهدر الشواطئ الناعمة، أحال المنطقة من الدخيلة حتى أبو تلات إلى سكن دائم كثيف.
وبعد انتهاء الحكم الملكي تنبهت بعض شركات المقاولات إلى الأرض الزراعية ضعيفة الإنتاج شرقي قصر المنتزه والتابعة لقرية المعمورة. وتحولت المنطقة إلى شاطئ متميز وخضعت المباني إلى قوانين صارمة، لكن ما درجنا عليه من الضغط والتكالب على أماكن تبرز ميزاتها قد أدى إلى تحول شاطئ المعمورة إلى سوق عكاظ: محلات وموسيقى متنافرة ومطاعم ومقاه وكازينوات من كل الدرجات وضغط على رمال الشاطئ بالسماح بالبناء، ربما أدى إلى هروب الراغبين في الاستجمام وترك الشاطئ للشباب بأنشطتهم العالية الصوت والحركة.
وإلى الشرق من المعمورة كان هناك مصيف أبو قير الفقير في معظم فتراته، تفصله عن الإسكندرية عدة قرى وأراض زراعية استغلت بعضا منها كمعسكرات حكومية للشباب. وبرغم وجود خط حديد منتظم إلى الإسكندرية إلا أن استثمارات أبو قير ظلت محصورة في مطاعم السمك الشهيرة التي أنشأها المصريون الإغريق، يزورها بعض المصطافين والسكندريين للاستمتاع بالرحلة القصيرة وأطعمة البحر الشهية الطازجة. وفي التسعينيات حدث تطور سريع في أبو قير فازدحمت فجأة بالعمارات والمقاهي والمطاعم، وهو تطور متأخر ربما نتيجة خلو الإسكندرية من شواطئ أخرى للاستثمار الاصطيافي.
مرسى مطروح ربما هي حتى الآن نهاية المطاف بالنسبة إلى مصايف مصر الغربية ومثلها في ذلك العريش في أقصى الشرق. وتتصف كل منهما بالمعاناة من الحروب؛ مطروح وقعت في رحى الشد والجذب بين الألمان والإنجليز خلال الحرب العالمية الثانية (الفترة 1940-1942)، والعريش خلال حروب طويلة من الحرب العالمية الأولى - الأتراك والإنجليز - إلى حروب فلسطين وبخاصة 1967 و1973، وأخيرا عودتها نهائيا إلى مصر بعد معاهدة السلام، ومن ثم فتطورها إلى مصيف أمر حديث جدا.
وتميزت مطروح بفترة سلام طويلة وموقع فريد على بحيرة ساحلية رائقة المياه وبقربها مناطق ساحلية ذات جمال طبيعي أخاذ مثل حمام كليوباترة والأبيض وعجيبة. وربما كان النادي الأهلي واحدا من أهم أسباب الانتباه إلى منطقة مطروح بما يقيمه سنويا منذ الخمسينيات من معسكر صيفي كبير على شاطئ البحيرة. اعتاد الشباب الصغار الذين كانوا يرافقون الأهل إلى معسكر النادي الأهلي على المنطقة وحين كبروا واصلوا الرحلة الصيفية إلى مطروح سواء في المعسكر أو غير ذلك. وازدحمت مطروح بالفنادق والأبنية، بل إن المنطقة الطبيعية الجميلة علم الروم إلى الشرق مباشرة من المدينة ضمت إلى حزام المدينة وقطعت أوصالها وتراصت فيها العمارات بصورة جائرة وامتدت على معظم شاطئها قرية سياحية وفقدت مطروح بذلك ظهيرها الشرقي الطبيعي. وكذلك امتد البناء على طول الساحل الجنوبي للبحيرة الغربية حتى التحم بالأبيض وعجيبة. وأكثر من ذلك فإن أعمال فتح ميناء داخل البحيرة قد أضر بها أيما ضرر: فلا الميناء ناجح ولا البحيرة الجميلة نجت من تلويث السفن! أين ذهبت مطروح الناعسة في حضن الطبيعة؟ ولماذا التزاحم في حيز ضيق بينما الأرض واسعة حولها؟
لكننا درجنا على هذا التزاحم نستهلك كل المقومات حتى تتكدس الأرض وتتدهور كما حدث في المعمورة، وغالبا سيحدث مثل هذا في مارينا نتيجة التركيز عليها - علما بأن موقعها في بطن خليج العرب ليس أحسن المواقع بل ربما كانت سيدي عبد الرحمن أو رأس الحكمة أحسن في علاقات البر والبحر من مارينا وكل القرى الساحلية من سيدي كرير إلى مارينا. ولكي يقلل المسئولون أثر السحب الذي يسببه تيار البحر المتوسط الذي يسير بموازاة الساحل من الغرب إلى الشرق، فإن بعض القرى أنشأت ألسنة وحواجز اصطناعية أمام شواطئها لإبعاد السحب وجعل الشاطئ أكثر أمانا. لكن هذه الحواجز تؤدي في نهايتها إلى دوامات وتيار راجع يصبح أثره خطيرا على شاطئ القرية المجاورة شرقا. يستطيع الإنسان أن يكبح جماح المؤثرات الطبيعية في حيز ضيق فقط، لكنه لا يستطيع أن يغيرها فتظل تهدده إلى أن يمل فيترك المكان منسحبا لكنه يكون قد دمر جزءا من الطبيعة تحتاج إلى إعادة بنائه مئات آلاف السنين. ولا يقتصر الأمر على ذلك. فقد أنفق المصريون - دولة وأفرادا - نحو 12 مليار جنيه لتعمير القرى الساحلية بين سيدي كرير ومارينا بين فيلات فاخرة وبيوت صغيرة وعمارات وشقق؛ لكنها قرى أشباح معظم السنة وللأسف ما زلنا نبني قرى جديدة دون أن نتعلم! فهل لم تكن هناك دراسات لمشروعات أخرى أحسن مردودا من هذي الإنفاقات التي لا يقدر عليها سوى الشعوب الغنية؟ (9-4) مواقع المصايف والبيئة الطبيعية
كلنا نعرف أن أي موقع على سطح الأرض هو نتيجة تفاعل عشرات العناصر الطبيعية المؤثرة في إنتاج الشكل الأساسي لسطح الأرض. ويضاف إلى ذلك ما يفعله الإنسان من تسهيلات حياتية لكنها بقصد أو غير قصد تغير بعض المعالم الطبيعية، وهو ما نسميه الآن تغيير البيئة مما يساعد على سرعة التآكل أو الإرساب على سطح الأرض أو السواحل ومصبات الأنهار. مثال ذلك إنشاء المواني وحواجز الأمواج وتغيير مسار الأنهار أو نظمها بإقامة سدود وقنوات تقلل من التصرف الطبيعي عند المصبات فتتراجع السواحل أمام قوى النحت أو الإرساب البحري ... إلخ. هذا فضلا عن تأثير المناخ المتغير من حرارة وأمطار على مر الأزمنة والعصور وتغير أنواع الغطاء النباتي العشبي والشجري أو اضمحلاله وتكوين الصحاري الجرداء. وأخيرا فإن مناسيب سطح البحار والمحيطات لم تكن أبدا مستقرة على حال بل تغيرت بين ارتفاع وانخفاض عدة مئات الأمتار نتيجة تفاعل العوامل البنيوية والمناخية عبر ملايين السنين.
والساحل الشمالي الحالي هو نتاج عمليات طويلة لأزمان طويلة. ولكنه بالنسبة للإنسان في تاريخه المكتوب لم يتغير كثيرا. فالساحل هو كما كان منذ ألفي سنة تزيد قليلا أو تنقص فيما عدا عمليات محسوسة نعرفها من آثار الإسكندرية الغارقة نتيجة ارتفاع سطح البحر أو هبوط الأرض، أو نتيجة الزلازل القوية، أو بهما معا، منذ نحو القرن الخامس الميلادي بحيث إن أرصفة الميناء البطلمية الرومانية هبطت تحت سطح البحر في أعماق تتراوح بين مترين وثمانية أمتار. وكذلك اتسعت أو انكمشت بحيرات مصر البحرية أو إرسابات النيل التي أدت إلى أن تصبح رشيد ودمياط مدنا إلى الداخل قليلا. وبعض هذه الظاهرات يمكن تسجيل تغيراتها في حالة مصبات الدلتا في زمن قصير جدا، مثال ذلك تقهقر شاطئ مصب رشيد نحو كيلومترين بين 1935 و1973، ومثل هذا، لكن بدرجات مختلفة حدث في دمياط وذلك لتفاعل مستمر وقوي لعاملين طبيعيين أولهما: إرسابات النهر، والثاني: نحر تيار البحر المتجه شرقا. وفي شمال سيناء تعرضت البردويل إلى تراجع مستمر بدليل وجود أربعة شواطئ غمرها البحر في تقدمه نتيجة هبوط الأرض التدريجي في شمال سيناء وشرق الدلتا.
أما الساحل من أبو قير إلى السلوم فقد حدثت فيه عدة متغيرات أدت إلى تآكل أجزاء من تلال الساحل من الحجر الجيري الأوليتي كالمسافة بين فاروس القديمة والعجمي أو الجزر الصخرية الصغيرة وغيرها من أشكال النحت البحري أمام سواحل مطروح والأبيض.
خلاصة القول: إن لدينا عنصرين طبيعيين؛ هما البحر ومنطقة الساحل التي تمتد خلف الشاطئ إلى نحو 20-25 كيلومترا في غرب الإسكندرية وشمال سيناء وإلى نحو ثلاثة كيلومترات في الدلتا. هذا الاختلاف في عرض المنطقة الساحلية راجع إلى تداخل العامل البشري الذي له فاعلية كبيرة في الدلتا عمرانا ونشاطا، في حين أن التداخل البشري قليل الفاعلية في الخلفية الصحراوية الممتدة في رتابة في أعماق أيكولوجية الجفاف مسافات طويلة خلال الألفي عام الماضية.
ماذا كان دور الإنسان على السواحل المصرية؟ منذ العصور الفرعونية أقام الإنسان نقاطا حصينة لحماية مصر تمثلت في الشرق عند بيليزيوم، وفي الغرب مرة عند مطروح وأخرى عند العلمين. وعندما استقرت هجرات سكان بعض المدن الإغريقية أقامت مدنا صغيرة على الساحل الشمالي من برقة إلى الإسكندرية، وبذلك زادت وظيفة الساحل من الدفاع فقط إلى الإنتاج البحري - بخاصة الإسفنج - وأنواع من الزراعات على رأسها الكروم والزيتون والقمح، إضافة إلى الدفاع ضد قبائل الرعاة من البربر. واستقرت هذه الوظائف طوال العصر الروماني مع اهتمام أكبر بالقمح الذي كان يصدر عبر المواني العديدة الصغيرة إلى روما. وربما كان ذلك نتيجة لتغيرات مناخية زادت معها الأمطار وزادت معها الآبار المسماة رومانية. وفي العصر الإسلامي بدأ الجفاف النسبي يحل تدريجيا والرعي مع زراعات التين والشعير تأخذ الصدارة محل الكروم والقمح.
يتميز الشاطئ غرب الإسكندرية إلى العلمين باستقامة واضحة في اتجاه الجنوب الغربي حتى يصل إلى بطن خليج العرب. وهو في هذا النطاق يتصف بالقليل من الرءوس والبروزات المنخفضة مع خلجان صغيرة وكثبان صغيرة ورمال تبعثرها الرياح وسبخات تمتلئ بمياه المد أو العواصف القوية. والرياح الشمالية الممطرة تكاد تتعامد مع هذا الجزء من الساحل مما يؤدي إلى زيادة نسبية في المطر الساقط، ويسمح باستخدامات أرضية جيدة كالزراعة في الألف الأولى الميلادية وزراعات التين فيما بعد ذلك للأسباب المذكورة سابقا، كما أن ظهير المنطقة تشغله بحيرة مريوط وامتدادها الغربي والتي كانت أيضا بحيرة مياه عذبة معظم الألف الأولى وتميزت بعمران قروي زراعي كثيف، بينما تملحت مياهها منذ انقطاع مياه الفرع الكانوبي أصبحت أقل عطاء عن ذي قبل. وما زال ذراع ملاحة مريوط يمتد حتى محمية العميد غربي الحمام بقليل. خلاصة القول: إن هذا الجزء من الشاطئ الشمالي كان أجود الأماكن لكنه تحول إلى الافتقار تدريجيا. كانت هناك مدن كبيرة نسبيا مثل تابوسيرز وميناء تينيا ومدينة لوكابسيس الصغيرة عند العلمين، لكنها اندثرت وأصبحت مجرد آثار لا يلتفت إليها إلا القليل من الناس.
والآن أصبح هذا الشاطئ الفقير هو الأكثر عمرانا في صورة المجموعات العديدة من قرى الاصطياف، برغم خلوه من أشكال الجمال الطبيعي الذي نلحظه في مناطق أخرى كسيدي عبد الرحمن ورأس الحكمة ومرسى مطروح. ولعل هذا الامتلاء بالقرى الاصطيافية قد شجعه عامل القرب المكاني من طريق القاهرة، فالأغلب أن الكثير من رأس المال المستثمر على طول المنطقة هو قاهري المنشأ.
وسبق أن ذكرنا النمو العمراني الدائب في منطقة مطروح من رأس علم الروم إلى شاطئ عجيبة. ولعل محافظة مطروح مسئولة عن تشجيع العمران الاصطيافي بنفس القدر الذي يسعى فيه رأس المال الاستثماري من الهيئات العامة والجمعيات وشركات المقاولات الكبرى إلى الاستفادة من هذا النوع من أنواع التنمية الذي لا يأخذ في الحساب الكثير من تضرر البيئة أمام هذا الزحف من الطوب والأسمنت. ولا ننسى أيضا أن الكثير من بدو أولاد علي قد اقتربوا كثيرا من المدينة بمساكنهم التقليدية المبنية بالحجر في سهل رباح الواقع بين خط الحديد والطريق البري شماله وبين حافة هضبة الدفة جنوبه. فهم الآن نصف بدو ونصف حضر، يقتربون من المدينة ولكن لا يذوبون فيها. وأصبح كثير منهم يمارسون أعمالا من التنمية العمرانية في المدينة ومحيطها الواسع، فضلا عن ممارسة الكثير من الخدمات التجارية داخل المدينة. وبالتالي فإن تغيرا بيئيا وبشريا يحدث أمام أعيننا ولا ندري إن كان هو تغير صحي أو ضار بالبيئة والإنسان معا. على أية حال فإن مرسى مطروح هي المركز العمراني الكبير غرب الإسكندرية، ويقدم خدمات المدينة لنطاق واسع يمتد من السلوم إلى سيوة، وشرقا إلى رأس الحكمة والضبعة، والقرى الاصطيافية الحديثة جنوب علم الروم ورأس الحكمة وقرب فوكة، مثل سانتا مونيكا وابن سينا والباغوش ورويال بيتش.
الملاحظة الأخيرة أن الكثير من المستوطنات الساحلية القديمة كانت تتخير أماكن جنوب اللاجونات والبحيرات الساحلية، وأخصهم كانت في منطقتى مرسى مطروح والعلمين باعتبار أن تلك اللاجونات كانت مرافئ طبيعية محمية من عنف البحر. وقد استمرت مطروح خلف بحيرتيها مع الإحاطة بهما شرقا وغربا. أما في مارينا فقد أحدثت التنمية تغييرات جوهرية في لاجوناتها الثلاث: فقد وصلت ببعضها وزيد عمقها إلى ما بين مترين وسبعة أمتار، وفتح بوغازين للبحر لتجديد المياه، وللسماح بحرية حركة اليخوت. (9-5) مدى تطبيق قوانين البيئة وحماية الآثار
وفي أثناء هذه الأعمال في مارينا كشف عن أرصفة وقرية لوكابسيس الرومانية. وهذا يقودنا إلى موضوع آخر ذو أهمية بالغة. ذلك أن قانون البيئة سنة 1994 وقانون حماية الآثار لسنة 1983 لم يتضمن الموارد التاريخية والآثار المغمورة في المناطق الساحلية، كجزء هام من تكامل إدارة المناطق الساحلية. فهناك عدة عناصر يجيب عليها أي مشروع استثماري قبل إصدار الترخيص البدء به يشمل التقييم البيئي للموقع قبل تنفيذ المشروع - المظاهر الطبوغرافية والحياة البحرية والبرية والنباتية، ووصف الآثار المتوقعة عند تنفيذ المشروع. ويلاحظ هنا عدم ذكر الآثار التاريخية صراحة مما يؤدي في حالات عديدة إلى طمس هذه الآثار حتى لا يوقف أو يتأخر تنفيذ المشروع. كما نلاحظ أن الكثير من القرى الاصطيافية قد أزالت الكثبان الرملية الشاطئية لكي تصبح القرية منبسطة على مناسيب ارتفاع متشابهة. وفي هذا أو ذاك تعد وعدوان على التاريخ والبيئة معا. ولكن هل من مجيب؟ (أليس الجدال الذي حدث مؤخرا بين هيئة الآثار ووزارة الكهرباء على أرض منطقة «الضبعة» بشأن البرنامج النووي هو انعكاس مباشر لغموض قوانين ولوائح عديدة؟) (9-6) مقارنة بين مصايف المدن وقرى الاصطياف الحديثة
المقصود بمصايف المدن تلك التي تنشأ في داخل مدن قائمة وضواحيها وهي الإسكندرية، مطروح، ودمياط-رأس البر، بورسعيد، العريش، بينما القرى الحديثة هي تلك الممتدة على الساحل الشمالي الغربي وشواطئ الدلتا وشمال سيناء كبلطيم ورمانة. (1)
نجاح مصايف المدن يقابله في مصايف القرى الحديثة نجاح محدود ما لم يكن خسارة محققة. أما في القرى الحديثة فلا توجد فيها دورة لرأس المال المدفوع في شراء الوحدة السكنية، بل هناك إنفاقات دورية في الصيانة والمرافق واستهلاك المياه والكهرباء والتلفون وزراعة الحدائق، كل ذلك دون عائد، والكثير من تلك القرى لا تتوفر فيها خدمات بالمعنى المفهوم، فإن التسويق يتركز في نقاط محدودة كمدينة الحمام أو العجمي. والأمر مشقة لسهرات الأمسيات.
الخلاصة: أن الفرق هو بين مستثمر ومالك: الأول يجني أرباحا على رأسماله المدفوع، بينما الثاني يجمد رأسماله وينفق عليه خوف تآكل ممتلكاته. (2)
هناك حرية حركة للمصطاف الذي يستأجر مصيفه. فهو يمكنه الانتقال من مصيف لآخر كل سنة أو كل بضع سنوات حسب احتياجاته واحتياجات أبنائه وقدراته المالية وارتباطاته الاجتماعية داخل مجتمع الصيف. ومصايف المدن هي جزء من مدينة فيها حركة كبيرة للمتعة النهارية والليلية معا. فهي تشبع حاجة التغيير الصيفي بالمسابح البحرية والنزهات والملاهي وشراء أشياء قد تكون مهمة أو هي مجرد مستلزمات فسحة الشراء الاصطيافي.
أما المالك في قرى الاصطياف فيتجمد مكانه كل صيف فلا توجد حرية انتقال من مصيف لآخر. والأشد أن نمو الأبناء يستدعي منتجعات أكثر حركة من القرى التي استثمر فيها الآباء. فلم يعد الهدوء الذي يحلم به الآباء دافعا للأبناء على الاصطياف مع آبائهم، فهم في حاجة إلى مجتمع شبابي غير موجود في تلك القرى النائمة مبكرا. لهذا يتحرك الأبناء بسيارات ذويهم أو سياراتهم ليلا إلى قرى أكثر حركة كمارينا ومراقيا والعجمي، أو قد تصل الرحلة حتى الإسكندرية. (3)
شيء آخر تتميز به مصايف المدن كونها تتدرج في القيمة الإيجارية حسب أحياء المدينة كالفروق مثلا بين أبو قير وميامي. وبالتالي فهي توفر مصيفا لكل حسب قدراته المالية، أما المصايف الحديثة فمتطلباتها جامدة يلتصق بها المالك حسب نوع وحجم الوحدة السكنية التي اشتراها.
وبعبارة أخرى إن مصايف المدن تشبع احتياجات قطاعات متعددة من الفئات الاجتماعية الاقتصادية، بينما المصايف الحديثة تحدد منذ البداية الفئة الاجتماعية وتنغلق عليها. (4)
كذلك تتميز مصايف المدن أن بإمكان المستثمر من ملاك الشقق أو العشش أن يعيد استثمار بعض أرباحه في شراء وحدات أخرى أحدث في أحياء أرقى لكن مردودها مضمون. أما في القرى الحديثة فإن حرية البيع والشراء محدودة بالعرض والطلب داخل حيز القرية. (5)
في مصايف المدن تبني بعض قطاعات فئوية من المجتمع وحدات تصييف للعاملين بها، مثل مصايف الجيش والشرطة والنقابات المختلفة. نظرة واحدة إلى الأبنية الضخمة المساحة عالية التجهيز للجيش في مرسى مطروح والأبيض أو نقابة التجاريين أو هيئة قناة السويس، تؤكد أن اختيار هذه القطاعات هو الاستثمار في تلك المدن ذات المكونات الحياتية التي تحبب الناس إليها. (6)
نظام الفندقة شائع في المصايف المدنية كما هو في مطروح والإسكندرية وبورسعيد والعريش، بينما هو لا يظهر في القرى الحديثة باستثناء فندق عايدة - الكيلو 80 من الإسكندرية - كأنه علم في منتصف المسافة تقريبا بين الإسكندرية ومطروح. وبديهي أن الفنادق تقدم خدمة اصطياف لمن يريد أن يتحرر تماما لمدة محدودة من أية أعباء منزلية، بل يسترخي مستمتعا بالبحر أو حمام السباحة بالفندق والحياة الليلية في الفندق، ولكن لا يقدر على تكلفة مصيف الفنادق إلا القليل المقتدر.
الغرض من هذه المقارنة ليس تشجيع نمط المصايف المدنية وتفضيلها، وإنما التعرف على سلبيات القرى الاصطيافية التي اندفعنا إليها بقوة، وما زلنا كذلك، دون عائد يبرر تجميد رءوس أموال طائلة كما سيتضح من الفقرات الآتية. (9-7) كيف نحول الساحل إلى قيمة اقتصادية؟
بدأت خطط إنشاء القرى الاصطيافية متأرجحة بين استخدام مشترك لأصحاب الشاليهات والفيلات خلال موسم الصيف، وسياحة خارجية منظمة تستخدم هذه القرى غالبا خلال الخريف والشتاء. ولكن مثل هذا المخطط فشل لأسباب عدة على رأسها: (1)
إن مخططات القرى اهتمت فقط بأشكال المساكن دون الاهتمام بخدمات خاصة منها المطاعم والكازينو متنوعة المآكل والبرامج الليلية. فليس السائح الأجنبي مجرد إنسان يقضي كل اليوم في السباحة والتمتع بالمناخ الطيب، بل هو في حاجة إلى قضاء أمسيات ساهرة إذا أخذنا في الاعتبار أن معظم السياحة الدولية هي سياحة الشباب، بعد أن كانت قاصرة على الأغنياء كبار السن الذين يخلدون للراحة والنوم المبكر. (2)
كذلك لم تهتم المخططات الأولية بسياحة الصحراء حول القرى الساحلية. والصحراء الغربية غنية بتنويعات في التكوينات الرملية والصخرية، وليس بعيدا عنها منخفض هائل هو منخفض القطارة وواحات عدة جنوب المنخفض إلى جانب واحة سيوة الأسطورية. مثل هذه السياحات في بيئة الصحراء كانت ستلهب رغبات السياح الأجانب في القدوم إلى الساحل الشمالي للجمع بين البحر ورماله الذهبية، وبين المغامرة في ارتياد جزء من الصحراء كنوع من المغامرة غير مألوف لديهم وتظل في ذاكرتهم، ويروجون من تلقاهم للسياحة المصرية غير البعيدة عن أوروبا. (3)
غلبت الروح المصرية في التملك الشخصي على جميع المخططات للتشارك في استخدام الشاليهات والفيلات مع السياحة الأجنبية. وتحولت القرى العديدة إلى وظيفة الاصطياف فقط، تاركة هذه القرى مجموعات من مستوطنات أشباح تسعة أعشار السنة على أحسن الفروض.
وهكذا صرف المصريون أموالا طائلة في إنشاء مساكن غالية، وأموال أخرى سنوية للمحافظة على الأبنية من تأثير العوامل الجوية البحرية، وأموال أخرى للحفاظ على الحدائق الصغيرة التي أنشئت حول الشاليهات: من أجور للبستاني والمياه الباهظة القيمة وإحلال النبات وغير ذلك الكثير.
كم تقدر قيمة هذه المنشآت؟ لا نبالغ إذا قلنا: إنها تعد بأكثر من عشرة مليارات جنيه - في تقديرات أنها بلغت 14 مليارا، هي في الحقيقة رأسمال مهدر من أجل اصطياف شهر واحد على الأكثر! كم كان إنتاج هذه الأموال لو النوبة جانبا منها عمل في أي شكل من أشكال الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو الخدمي السياحي المؤهلة له هذه المنطقة، لو كانت لدينا قيم أخرى غير قيمة حب التملك الفردي بالصورة المبالغ فيها التي نعرفها في مصر!
هل فات أوان تصحيح هذا الهدر في بلد يعاني من نقص السيولة بصفة إجمالية؟ تساؤل قد لا يجد إجابة سهلة ومباشرة، وربما كان بعض مقومات محاولة تصحيح الموقف ما يأتي:
الكف عن إنشاء قرى اصطيافية على النمط الحالي؛ أي أن تصدر تصاريح إنشاء قرى جديدة على مخططات تشمل مراكز خدمية متعددة. ولنا فيما يجري في «مارينا» أسوة. لماذا تتميز؟ لأنها مليئة بالخدمات وبخاصة رياضات البحر المختلفة بما فيها من مارينا اليخوت، ومليئة بالخدمات الترفيهية الليلية التي يستقدمون لها حفلات منظمة - برغم المغالاة في تكلفتها، لماذا لا تصبح هناك قرى متعددة على شاكلة «مارينا » في المنطقة من سيدي عبد الرحمن إلى رأس الحكمة - ليست بالضرورة على النمط نفسه، لكنها تفسح المجال أمام إقبال الرواد، وبخاصة الشباب الذي أصبح يرفض الذهاب مع أهله إلى القرى الحالية النائمة مبكرا والتي تتفق مع عمر الآباء والأمهات أكثر من عمر الشباب التواق إلى الحركة والتجمع والسهر والسمر على الأنغام.
أن تغامر شركات تنظيم السياحة بالخوض في مضمار سياحة أجنبية إلى الساحل الشمالي، فعندنا شركات سياحية برعت في تنظيم مواسم العمرة وبعض السياحة الأوروبية بالاشتراك مع هيئات سياحية أوروبية. فلماذا لا تفكر مثل هذه الشركات في أمرين: الأول: الاتفاق مع جمعيات وهيئات إقامة القرى الجديدة على أساس تخطيط القرى لاصطياف المصريين شهر أو نحوه، وتأجير الشاليهات بقية السنة لمجموعات منظمة من السياح الأجانب. والأمر الثاني: الاتفاق مع بعض إدارات القرى الحالية على تنظيم المشاركة السياحية في المنشآت الراهنة، مع بعض التعديل، مع إقامة خدمات ترفيهية لخدمة المصريين والأجانب معا معظم السنة. (9-8) أخيرا: البيئة والتنمية
حين بدأ تعمير القرى على الساحل دمرت معظم أجزاء السلسلة الأولى من التلال الجيرية والرملية؛ لكي تخلق أرضا منبسطة قليلة الانحدار تبنى فوقها منشآت القرى. واقتطع المقاولون بعضا من أجزاء السلسلة الثانية كي يأخذوا الأحجار الجيرية المناسبة للبناء. وحين تم بناء القرية تلو القرية حدث تحول اقتصادي في قيمة أراضي الرعي والتين التي كانت ملكا جماعيا لعشيرة أو قبيلة، وأصبح السعي حثيثا إلى الحصول على ملكية خاصة لها قيمتها في البيع والرهن والميراث. وفي الوقت نفسه أصبح لبعض البدو وظائف إضافية متعددة، مثل خفارة وحراسة القرى المقامة محلات ودكاكين للسلع الغذائية اللازمة على طول الطريق، وبالتالي تكوين علاقات جديدة مع تجار المدينة الكبيرة المجاورة. هذا فضلا عن ورش صغيرة يقيمها السكان ويستقدمون العمل المهاجر من الدلتا والإسكندرية لخدمات كثيرة، كإصلاح السيارات والنجارة والحدادة والسباكة ودكاكين لأدوات الكهرباء والمطبخ ... إلخ. أما المدن الصغيرة الداخلية مثل الحمام التي نشأت أصلا كمحطات على طول الخط الحديدي إلى مطروح والسلوم، فقد امتد عمرانها الحديث في اتجاه طريق السيارات، وامتلأت بالمهاجرين من عمال وحرفيين، وغير ذلك كثير من التغيير السكاني والسكني والاقتصادي والحضاري. وعلى هذا فلن يمضي وقت طويل قبل أن تتجه النشاطات التقليدية إلى الانقراض، فنفقد ممارسين عرفوا كيف يحصلون من البيئة الصعبة شكلا من أشكال الحياة.
كل هذا كان على حساب البيئة الأصلية التي أخلت مكانها لتجمعات عديدة من القرى الاصطيافية والقرى الداخلية. من الناحية الاقتصادية يمكن أن يؤخذ هذا التحول على أنه تنمية لإقليم شبه طبيعي تزاول فيه عمليات رعي وزراعات على النمط التقليدي قليلة المردود. ولكن من الناحية البيئية فقد أدت أشكال التنمية هذه إلى مخاطر قد لا نعرف مداها على المدى البعيد. مثال ذلك أثر مياه ري الحدائق والمساحات الخضراء على منسوب المياه الجوفية وعلاقتها بمياه البحر. وكذلك أثر بيارات الصرف الصحي للقرى الاصطيافية على المياه تحت السطحية التي ربما تؤدي إلى تكوين مباءات ومواطن لأمراض بيئية جديدة تهدد النبات والإنسان. وأخيرا فقد أدت الحدائق والأشجار إلى تغيير في هجرات الطيور السنوية وتكوين مواطن لطيور دائمة تطرد الطيور الأصلية.
ختاما: فإننا أهدرنا قيمة الساحل الشمالي بيئيا واقتصاديا، ويجب إعادة النظر إلى خريطة استثماره بطريقة تفي بمتطلبات التصييف وتأتي بعوائد نحتاجها، على أن تكون التنمية البيئية والاقتصادية الاجتماعية رائدا أوليا في استثمار السواحل الشمالية. (10) البحر الأحمر وسيناء الجنوبية
هذا الجزء من مصر هو تماما عكس إقليم الصحراء الغربية. فالصحراء الغربية تسيطر على تضاريس سهلة من الهضاب المنبسطة متوسطة الارتفاع، لا تزيد عن 500 متر باستثناءات قليلة - أبو طرطور والجلف الكبير. وهي هضاب سهلة المرتقى وتملؤها منخفضات واسعة تكونت فيها الواحات المصرية الكبرى، إضافة إلى منخفض القطارة الهائل المساحة، ومنخفض النطرون الذي بدأ الزحف العمراني عليه منذ الثمانينيات، ومنخفض الفيوم الذي انضم إلى وادي النيل بواسطة بحر يوسف منذ أربعة آلاف سنة. أما إقليم جنوب سيناء والبحر الأحمر فتسيطر عليه التكوينات الجبلية التي تكونت منذ ملايين السنين وعملت فيها عوامل جيولوجية ودورات مناخية متعددة، بحيث أصبحت كما نراها الآن: كتل جبلية عالية تحددها مسارات أودية جافة. أعلى جبال مصر هي كتلة كاترين-جبل موسى في جنوب سيناء، وجبل شايب البنات غربي الغردقة، وجبل حماطة غربي مرسى علم، وكلها تتراوح ارتفاعاتها بين 2000 و2600 متر. وهناك كتل جبلية عديدة ترتفع بين 1000 و1500 متر، مثل الجلالة البحرية والجنوبية والدخان ومنطقة جبل علبة في أقصى الجنوب.
ولقد مر حين من الدهر، أو أحيان عدة، كانت فيه الظروف المناخية أطيب وأكثر مطرا وأغزر نباتا من الأعشاب إلى الشجيرات والأشجار الباسقات وأكثر أعدادا من الحيوانات العاشبة والحيوانات اللاحمة، وتعاقبت دورات جفاف وأمطار إلى أن وصلنا إلى الفترة المناخية الجافة التي نعيشها الآن. ومع ذلك فإن مخزون المياه الجوفية في الصخور المسامية وما يسقط من أمطار سيلية مفاجئة بين سنة وأخرى، تؤدي إلى قيام أشكال من الحياة النباتية والحيوانية والبشرية معتمدة على مصادر المياه الجوفية والينابيع في نقاط محدودة من الأودية بين الصخور الصلدة والحوائط الجبلية العاتية، فضلا عن نقاط استقرار قرب مصبات الأودية على طول سواحل البحر الأحمر وخليجي السويس والعقبة، ومن أشهرها عيون فرعون وموسى والعين السخنة حول سواحل خليج السويس، ونويبع عند مصب وادي وتير، ودهب عند مصب وادي الكيد على ساحل خليج العقبة، والزعفرانة عند مصب وادي عربة، ومرسى علم قرب مصب وادي الجمال ... إلخ.
وإذا كانت هناك أشكال كثيفة «نسبيا» من السكان والاستقرار آلاف السنين في الواحات الغربية ونطاق ساحل البحر المتوسط الذي يتمتع بقدر منتظم من الأمطار الشتوية، فإن البحر الأحمر وسيناء الجنوبية لم تكن كذلك. بل إن أشكال الاستقرار البشري كانت دائما تتركز في مدن صغيرة، وظيفتها الأساسية أن تكون مواني مصر على البحر الأحمر، وحيث إن التجارة عبر البحر الأحمر كانت تقصد أسواق مصر في عصور وأسواق مصر والبحر المتوسط في عصور أخرى، فإن ميناء واحدا كان يكفي هذه الوظيفة التجارية في أي من عصور مصر التاريخية. مثال ذلك ميناء ميوس هرمز - شمالي الغردقة، والاسم إغريقي لأنه كان أيضا ميناء في العصر الهليني، وميناء آخر عند وادي جاسوس، وثالث عند وادي القصير في عصور فرعونية مختلفة، وليوكوس ليمن (القصير ) أو برنيك (برنيس) في العصر الروماني، وعيذاب في بعض العصور الإسلامية الأولى والوسطى، وميناء القلزم (السويس) منذ العصور الوسطى وإلى الآن.
وما زالت تلك هي الصفة المميزة للاستقرار البشري حتى الآن؛ مدن البترول: رأس غارب وأبو رديس، ومدن السياحة الحديثة العديدة: الغردقة وشرم الشيخ ودهب وطابا ورأس سدر والعين السخنة ومرسى علم، ومواني العبارات الجديدة في نويبع وسفاجا، ومدن الإدارة في الطور والغردقة وشلاتين ... إلخ. أما بقية سيناء والبحر الأحمر فما زالت تسكنها عدة عشائر وقبائل قليلة العدد جدا، مثل الجبالية في كتلة جبال كاترين، والمعازة في الهضاب بين الجبال إلى حافة وادي النيل من القاهرة حتى قنا، والعبادة بين الجبال والنيل فيما هو إلى الجنوب من خط القصير- قنا، وأخيرا البشارية في منطقة حلاييب.
التغييرات الاقتصادية الجديدة ومستجدات الاستراتيجية دعت إلى إنشاء شبكات من الطرق البرية التي تربط سيناء بمنطقة القناة، وتربط مدن ساحل البحر الأحمر بوادي النيل في عدة نقاط. الخط الحديدي اليتيم هو الذي أنشئ حديثا بين سفاجا وعبر قنا إلى الواحة الخارجة، ومن ثم مناجم فوسفات أبو طرطور بغرض تصدير الخامة المعدنية، لكنه غير عامل بالمعنى المعروف لتشغيل الطرق، وبطول الساحل من السويس إلى شلاتين يمتد الطريق المحوري الذي يكون الرابطة الأساسية بين كل المدن الساحلية في البحر الأحمر. ويرتبط هذا المحور بمدن وادي النيل بمجموعة من الطرق البرية العابرة للصحراء الشرقية أشهرها تاريخا طريق القاهرة السويس، ثم طريق القاهرة القطامية العين السخنة، وطريق قنا سفاجا، وطريق إدفو مرسى علم. وهناك أيضا طريقين غير مطروقين بكفاية هما: خط الزعفرانة الكريمات، وطريق رأس غارب الشيخ فضل في المنيا.
أما في سيناء الجنوبية فإن الطرق تبدأ كلها من نفق الشهيد أحمد حمدي تحت قناة السويس. وهذا خطأ استراتيجي فضلا عن أنه يكون عنق زجاجة في حال زيادة الحركة، ويجب البحث عن طرق أخرى مساندة وبديلة. الطريق المحوري هو أيضا مثل البحر الأحمر، الطريق الساحلي الدائري من النفق ويتجه جنوبا بحذاء ساحل خليج السويس رابطا رأس سدر وأبو زنيمة وأبو رديس والطور، ويدور مع رأس محمد إلى شرم الشيخ ودهب ونويبع وطابا، وثمة طريقان يخترقان سيناء من الشرق إلى الغرب هما: الطريق الشمالي من النفق إلى نويبع عبر نخل ومسار وادي وتير، وهو طريق الحركة الرئيسي عبر سيناء. ويتفرع من هذا الطريق اتجاه شرقي من نخل إلى رأس النقب وطابا. والطريق الثاني العابر لسيناء يجري في وسطها بين نويبع وسانت كاترين وواحة فيران ثم إلى طريق خليج السويس جنوب أبو رديس، وهو في أغلبه طريق سياحي خدمي. (10-1) السيول والطرق
وبخبرة الناس لمئات السنين في الحركة في هذه المناطق الجافة أصبحوا يعرفون مخاطر المرور أو السكن أو إقامة المخيمات في مسارات الأودية الجبلية في الفترات التي يتوقعون فيها سقوط الأمطار المولدة للسيول التي تجرف أمامها كل شيء. ولهذا أصبح من المفارقات أن يموت الإنسان غرقا وسط هذه البيئة المجدبة. وإزاء ذلك كان البدو يقيمون مضارب خيامهم على سفوح أعلى قليلا من بطون الأودية، وبعيدة أيضا عن التقاء الأودية الفرعية حيث تتكون مخرات قوية للسيول. وتتشكل مصبات الأودية الكبيرة في الأغلب من دلتاوات متفاوتة الأحجام حسب حجم الوادي تتعرض للنحت والنحر بفعل السيول الجارفة. والدلتا هنا هي بالمعنى الصحراوي الذي تبرز فيه المكونات الدلتاوية الصخرية مختلطة ببعض التكوينات الطينية نتيجة التفتت. ونظرا لكثرة التعرض للسيول فإن هذه المناطق غير جاذبة للسكن الدائم إلا تحت شروط كثيرة. وكمثال للمخاطر أن مدينة نويبع التي تقع جزئيا في دائرة نفوذ دلتا وادي «وتير» قد تعرضت لغضب السيول في 1987 و1994 و1995، وقد دمرت سيول 1994 الطريق الرئيسي وجزءا من جنوب شرق المدينة، وأدت إلى وفاة خمسة عشر شخصا، ولكن بعض هذه المناطق قد تصبح مناطق لزراعة محدودة مع اتخاذ التدابير اللازمة لتجنب مسارات السيول أو التقليل من شدتها لتوفير الحماية لها.
هذا الاستطراد عن مخاطر السيول ضروري للتحذير من المخاطر التي تتعرض لها الطرق الجيدة التي شقتها مصر في النطاق الجبلي من سيناء والبحر الأحمر. فقد كان أمرا سهلا أن تبنى الطرق في مسارات الأودية؛ لأنها تشكل فعلا طرق اختراق كونتها عناصر الطبيعة. لكن مخططي وخبراء هندسة الطرق لم يستفيدوا بالقدر الكافي من التجارب المعرفية للسكان، ولا بالقدر المناسب من الدراسات الجيولوجية والجغرافية والهيدرولوجية في المناطق الجافة. وقد آن الأوان للاستفادة من تلك المعارف بالإضافة إلى الصور الفضائية لعمل نماذج كمبيوترية لهيدروليكا مياه السيول في الوديان التي تمر فيها الطرق الرئيسية. وقد تتضح أهمية مثل هذا التمازج بين المخططين والعلوم الأخرى من ذكر بعض الأحداث المؤسفة للسيول. نحن نعرف السيول المدمرة للقرى الزراعية على طول الصعيد؛ لأنها قريبة منا وتحدث أضرار مادية وفي الأرواح، وتعلن وسائل الإعلام عنها وعن زيارات كبار المسئولين للمناطق المنكوبة، أما أن تحدث هذه السيول بعيدا عن العمران فلا تحظى بمثل هذه التغطية الإعلامية - إذ كل ما هنالك أضرار مادية بالطرق لا تؤخذ كثيرا في حسابات الإعلام. لكن الواقع شيء آخر. فمثلا حينما حاصرت السيول مطار الغردقة، كم ضاع من الوقت بالنسبة للمسافرين سواء كانوا من المصريين أو الأجانب. حسابات الوقت على جانب كبير من الأهمية لحالات معينة كالمريض أو الموظف أو التاجر ورجل الأعمال.
بعد كل سيل متوسط إلى جارف تحدث خسائر متمثلة في انهيار أجزاء من الطريق، أو تغطيتها بفروش كبيرة من الطين والرمال والمفتتات الصخرية. ويحتاج الأمر إلى إعادة بناء الجزء المنهار من الطريق. ويجب أن تكون هناك بدائل للطرق كي تستخدم إلى وقت إصلاح العطب في الطريق الذي أصابته السيول بالتدمير. مثلا حينما دمرت السيول المتوسطة في أكتوبر 2002 نحو 18 كيلومترا من طريق وادي وتير، إلى جانب دمار أخف لأجزاء كثيرة من هذا الطريق، فقد كان البديل هو طريق نويبع طابا رأس النقب نخل . وهذا الطريق البديل هو الآخر يتعرض للسيول في أجزاء كثيرة منه بحكم مساره في منطقة صعبة وبخاصة في منطقة رأس النقب، وفي بعض الأحيان لا توجد طرق بديلة صالحة لاستخدام أوتوبيسات النقل العام والسياحي، مما يؤدي إلى إغلاق أماكن سياحية إلى أن يتم الإصلاح، كما حدث في طريق سانت كاترين الذي خسر نحو 50كم في وادي الشيخ ووادي فيران نتيجة سيول أكتوبر 2002 أيضا. وفي هذا أبلغ الضرر بالمصالح والسمعة السياحية.
القصد هو حماية الطرق من أخطار قد لا تتكرر كل سنة ولكنها حينما تحدث فإن آثارها بالغة على معظم الطرق في سيناء والبحر الأحمر، حتى تلك المناطق الموغلة في الجنوب كطريق مرسى علم أو الشلاتين التي يظن أنها بعيدة عن السيول إلا كل عشر سنوات أو أكثر، فإنها أيضا لا تنجو، ذلك أن الأمطار السيلية هي أمطار طارئة تتسبب فيها أعاصير جامحة خرجت عن مسارها الأساسي، فهي تنتقل في أماكن يصعب التنبؤ بها وتطال أي منطقة في أي وقت. والذي يجعل سيلا أقوى من آخر أن الأمطار التي تتجمع في حيز وادي تسير بقوة مع انحدار الوادي فتجرف معها كل شيء، بينما الأمطار السيلية التي تسقط على مناطق متسعة سهلية فإنها لا تكون سيولا جارفة، وإنما مساحات كبيرة من الماء في شكل برك سرعان ما تجف. هذا فضلا عن أن الأمطار الساقطة على صخور قليلة المسام كالجرانيتية تساعد على تكوين سيول قوية، بينما تكون مخاطر السيول أقل إذا سقط المطر على الصخور المسامية كالجيرية وتكوينات الحجر الرملي. (10-2) كيف نقلل من أثر السيول؟
وبناء على ذلك فإنه بدلا من الإنفاقات على إصلاح الطرق المهمة بعد كل سيل، فالمطلوب تكوين لجان متعددة التخصصات من أجل إجراء دراسات جيولوجية ومورفولوجية وهيدرولوجية للوديان التي تشكل مسارات طرق مهمة وحيوية في أودية مثل وتير وفيران وقنا-سفاجا وإدفو-مرسى علم، وكذلك الوديان التي تنتهي عند مدن سياحية كدهب وشرم الشيخ والغردقة ومرسى علم والقصير ... إلخ. وربما نقترح إعادة النظر في أجزاء من الطرق التي تتكرر فيها آثار السيول، بإقامة الطريق على ارتفاع بضعة أمتار على أحد جانبي الوادي، مع عمل كباري ذات عيون عريضة عند التقاء الوادي الرئيسي بالأودية الفرعية، وعمل شبكات صلب على الواجهات الصخرية شبه العمودية لتقليل اندفاع الصخور على عرض الطريق، ووسائل أخرى معروفة وممارسة. كما أقترح أن تساهم الهيئات الصناعية والفندقية في تحمل بعض أعباء مثل هذه الأعمال؛ لأنها تعود عليهم في النهاية بمردود محسوب.
إن بناء السدود على بعض الأودية أمر وارد ومجرب، لكن السدود تتعرض للانهيار في حالة السيول القوية، كما حدث في قناطر «لحفن» جنوب العريش بنحو عشرين كيلومترا التي هدمها سيل 1979، وسد «خزام» في محافظة قنا الذي هدمه السيل بعد أيام قليلة من بنائه عام 1985، وقد يتعرض السد للإطماء بالطين والمفتتات الصخرية التي تجلبها سيول متوسطة على مدى سنوات، مما يؤدي إلى ضرورة تعليته كما حدث في سد «الروافعة» في وادي العريش الذي بني عام 1946، وأجري تعليته 1982، بعد أن فقد نصف حجم حوض التخزين.
ولكن ربما يكمن الحل في إقامة مجموعات من السدود الغاطسة بحيث تقلل من حدة تيار السيل ولا تهدم السد الغاطس وتحجز في النهاية، بعد ذروة السيل، بعض الماء في صورة بركة وبحيرات صغيرة في بطن الوادي. وتتسرب مياه هذه البرك تدريجيا إلى الطبقات الصخرية حاملة المياه الجوفية، فتساعد على إعادة تغذية للمياه الجوفية التي تظهر في صورة عيون وينابيع في الأجزاء الدنيا من الوادي. ومثل هذه السدود الغاطسة أقل تكلفة بكثير من السدود التقليدية، وغالبا ما تبنى بركامات حجرية ذات قواعد عريضة فلا تتعرض للانهيار، ولا نخسر كثيرا لو انهارت.
وعلى أية حال فالأمر متروك لبحوث قابلة للتنفيذ من جانب المتخصصين في هندسة الطرق وميكانيكية التربة والاقتصاديين والبيئيين وعلماء آخرين في التطبيقات البشرية، من أجل إحكام القدرة على تجنب المخاطر بنسبة أعلى مما هو قائم حاليا. أما تجنب السيول تماما فأمر غير ممكن؛ لأننا لم نلم بكل المعرفة المرتبطة بموازين طبيعة الغلاف الجوي، وإلى أي مدى يتأثر بعوامل أرضية أو فضائية. (10-3) لماذا الاهتمام بالطرق؟
هذه الاطالة في هذا الموضوع هي على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للطرق التي تخترق الصحاري والمناطق الجبلية الجافة. وتعود أهميتها إلى أن الطرق هنا في سيناء ككل وفي البحر الأحمر هي شرايين الحياة الأساسية لحياة المدن التي تميزها، والتي يسكنها عاملون في مجالين هما من أهم قاطرات الاقتصاد المصري: البترول والسياحة. وقد ضخت مصر مليارات الأموال في إنشاء حقول النفط على طول خليج السويس الذي هو بحق خليج النفط المصري. عوائد البترول أكثر ثباتا من عوائد السياحة، وإن كان سعر البترول يعتريه التغير حسب الظروف الدولية. وكذلك ضخت مصر مليارات أخرى لبناء المدن والقرى السياحية التي ترصع شواطئ البحر الأحمر وخليج العقبة. حبذا لو كف المستثمرون عن بناء فنادق وقرى الدرجة العالية (+4 نجوم)، واتجهوا إلى فنادق أقل درجة (نجمتين) وبنسيونات أكثر، فهما مقصد أكثر جذبا للسياحة المحلية وأكثر ضمانا للحركة والعمالة من النجوم الخمسة حتى في الحالات التي تهتز فيها السياحة وتتناقص نتيجة الأحوال السياسية المضطربة في الشرق الأوسط، أو أحوال الأمن المصرية ضد غوائل المتشددين والمتطرفين، ولكن بغض النظر عن هذا وذاك فإن البنية الأساسية لاستمرار نجاح السياحة والثروة النفطية هي وسائل النقل على طرق ممتازة آمنة من غضب السيول الفجائية.
صحيح أن الطرق البرية ليست هي كل البنية الأساسية لحياة الناس في سيناء والبحر الأحمر والسويس. فالبترول ينقل بالبحر أو أنابيب إلى القاهرة وأسيوط فضلا عن خط أنابيب سوميد - السويس البحر المتوسط - الضخمة الذي يخترق أقصى شمال الصحراء الشرقية، كما أن المدن تتلقى مياه عذبة من النيل عبر خطوط أنابيب من الكريمات إلى البحر الأحمر وإلى جنوب سيناء، لكن هذه الأنابيب قد تتعرض للسيول القوية مثلها مثل الطرق البرية. وصحيح أيضا أن هناك عدة مطارات في طابا وشرم الشيخ والغردقة ومرسى علم، إلا أنها تصل إلى نقاط محدودة يحتاج المسافر بعدها إلى الطرق البرية ليكمل رحلته إلى عمله أو مصيفه ومشتاه.
فالخلاصة إذن: أن الطريق البري هو الترس الأساسي في ضمان نجاح أشكال الاقتصاد في المحافظتين ، ومن ثم وجب الحفاظ عليها بإلقاء نظرة علمية تجريبية من أجل إقامة التوافق الحسن بين النشاط الإنساني وموازين الطبيعة. (11) مصر العليا وجنوب الوادي
مقترح تنمية
مصر العليا أو الوجه القبلي أو الصعيد كلها أسماء ومصطلحات تصف وادي النيل من الحدود الجنوبية حتى تفرع النيل عند القاهرة الكبرى مكونا الدلتا. وبالتالي تدخل المحافظات من جنوب الجيزة إلى بني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا - بما فيها الأقصر، وأسوان - بما فيها منطقة بحيرة ناصر. ويضاف إلى ذلك الفيوم التي هي في صورة الواحة لكنها لم تكن كذلك، بل هي تكوين طبيعي لبحر يوسف الذي يمثل فرعا جنوبيا من النيل عند ديروط، وكانت مياه بحر يوسف تفيض إلى منخفض الفيوم الذي أصبح على مر آلاف السنين بحيرة عرفها المصريون القدماء باسم تاحنو مرور، وحولها الإغريق إلى بحيرة موريس وبقاياها الآن هي قارون. لكن الفراعنة مبكرا - نحو 2000ق.م - حولوا البحيرة بإنشاءات هندسية إلى أرض خصبة تفوح بالأعناب والموالح والحبوب.
وعلى أية حال فإن هذا الوادي الطويل - نحو 1250 كيلومتر - يمكن تقسيمه إلى قسمين؛ مصر الوسطى: تمتد من بني سويف والفيوم إلى المنيا، ومصر العليا: من سوهاج إلى قنا وأسوان، وبذلك تقع أسيوط بين القسمين، وقد نستحسن ضمها إلى مصر الوسطى بحكم أشياء كثيرة جغرافية وتاريخية ودينية وتجارية واستراتيجية. فعند مدينة أسيوط وحولها أضيق نطاق في الوادي تطل عليه حافات الهضبة الصحراوية الغربية، مما يجعلها مفتاح الحركة المدنية والعسكرية لكل من قسمي الوادي. وقد عرف أهميتها الفراعنة ومن ثم كان اسمها القديم «ساوت» بمعنى الحارس، كما عرفوها أيضا باسم «تب شمع» بمعنى نهاية الجنوب؛ لأنها تشرف على الصعيد الجنوبي وطرق الواحات، ومقابل ذلك كانت سوهاج تعرف قديما باسم «عاحا» بمعنى باب الشمال.
ولقرب مصر الوسطى من مركز الحكم في منف-القاهرة فقد ألقت عليها ظلالا ساعدت على تطورها خلال الحقب من القدم إلى اليوم، مما أدى إلى ارتباطها حضاريا واقتصاديا بمركز الحكم. صحيح أنه لفترة كانت هناك جماعات وعشائر قبلية ممن يطلق عليهم قبائل وعشائر الغرب - مثل الفرجان والجوازي والباسل ولملوم وغيرهم - في الفيوم وغرب بحر يوسف من البهنسا إلى ديروط الخيل، لكنهم تدريجيا اندمجوا مع السكان وصارت أنشطتهم زراعية مثل بقية السكان.
وإلى الجنوب من أسيوط تطول المسافة مئات من الكيلومترات من سوهاج إلى أسوان، وبالتالي فإن أثر القاهرة المباشر على مصر العليا يقل ويصبح نافذا من خلال الحاكم الذي تعينه القاهرة أو تدعم زعامته بصورة أو أخرى، مثل الأمير همام الذي اعتمدت قوته في حكم الجنوب على قبيلته من الهوارة والتأييد الذي حظي به من سلاطين مصر بدأ بالسلطان برقوق. هذا فضلا عن أن مصر العليا كانت مواطن لمجموعات عدة غير ملتحمة التحاما كاملا لفترة طويلة بالسكان الأصليين من المصريين الذين يقومون بالإنتاج الفعلي لحاصلات الأرض. مثال ذلك الهوارة بين دشنا ونجع حمادي والبلينا شمال وجنوب النهر. ومثال ذلك قبائل العبابدة الذين استقروا على الحواجز بين قوص والأقصر وفي مناطق من سهل إدفو غرب، وبين جبل السلسلة ودراو في كوم أمبو، وفي مناطق متعددة بين النوبيين في النوبة القديمة. ومثال آخر الجعافرة في إسنا وشرق النيل حتى أسوان. هذا فضلا عن مجموعات النوبة الثلاث - الكنوز والفديجة والعليقات - سكان أرض النوبة المصرية قبل السد العالي، الذين هجروا إلى منطقة كوم أمبو في 1963. (11-1) جنوب الوادي
تشير الأسطر السابقة إلى أن جنوب الوادي هو مصر العليا. مشكلات جنوب الوادي هي مشكلات كل الصعيد ولكن بصورة أكبر. في جنوب الوادي نجد الأرض الزراعية أضيق باستثناء مناطق من سوهاج التي كانت مشهورة في عصر محمد علي الكبير بأنها المنتج الكبير لكثير من المحاصيل وبخاصة القمح، ولكن جرى عليها ما يجري في بقية مصر من مشكلات زراعية وعلى رأسها تفتت الملكية إلى وحدات إنتاجية غير اقتصادية. كانت في مديرية جرجا منتجات متميزة من تربية الحيوان والصوف والكتان والقطن قصير التيلة وصناعة النسيج في أخميم وصادرات أقمشة الجلاليب الزرقاء إلى أسواق مصر والسودان.
بعض أشكال الحرمان في مصر: الأمية والعطالة والفقر 1994
لاحظ ارتفاع قيم الحرمان في محافظات الصعيد. فقراء الصعيد 48,5 من السكان والدلتا 36,3 ومحافظات المدن 13,4 والصحاري 1,8.
وكانت مناطق الهوارة شهيرة بمعاصر القصب وإنتاج السكر الأحمر لقرون طوال. وفي إسنا وأرمنت وقوص وغيرها كان إنتاج العدس والفول عالي الجودة أثناء نظام ري الحياض، لكننا افتقدناه بعد الري الدائم وأصبحنا نستورد العدس من أنواع أدنى من عدس مصر وفولها الذي ورد في محكم القرآن الكريم. وكانت تربية الأبقار شغل الشاغلين إبان غمر الحياض بالماء. صحيح اكتسبنا مساحة محصولية مضاعفة لكن حساب المكسب والخسائر يساوي ما جاء في القصص القديم أن تبيع الفستق المقشور بفستق غير مقشور! حتى بلاد النوبة وبرغم صغر مساحة الأرض الطميية كانت تنتج ما يكفي جانبا كبيرا من أهلها من القموح والحبوب قبل بناء سد أسوان، ثم غاصت كلها تحت ماء بحيرة السد العالي إلى أبد لا نعلم مداه.
إذا تكلمنا عن السكان فإننا نجد ثمانية ملايين وربع المليون يكونون نحو 40٪ من سكان الصعيد يعيشون في جنوب الوادي، وقرابة نصفهم في سوهاج وحدها.
لا توجد مدن جديدة في جنوب الوادي باستثناء ما يسمى بالكوثر التي لا تقارن حتى على الورق بأسيوط الجديدة أو المنيا الجديدة أو بني سويف. وكان هناك مشروع لمدينة قنا الجديدة لكن ملفه أغلق منذ بضع سنين ولا أعرف إذا كان قد فتح من جديد؟ وبطبيعة الحال بينها وبين المدن التوابع حول القاهرة الكبرى مسافة ما بيننا وبين القمر!
وفي مجال النشاط الاقتصادي نجد أن متوسط العاملين في الزراعة والإنتاج الأولى في جنوب الوادي هو في حدود 40٪ من القوة العاملة (15-65 سنة) مشابهة بذلك لمصر الوسطى. أما الصناعة التحويلية فهي شديدة التدني وغالبا ما تصل إلى نحو 5٪ أو أقل من القوة العاملة في كل الوادي جنوبه وشماله، بينما المتوسط العام لمصر نحو 15٪. وحتى في تجارة الجملة والمفرق تنخفض نسبة العاملين إلى نحو 6-7٪ وهو نصف متوسط مصر، وكذلك في الصحة والخدمات تنقص مساهمة العمالة إلى نحو نصف المتوسط العام في مصر.
ويترتب على ذلك أن مقياس الحرمان والفقر المدقع والأمية والبطالة هي في كل الوادي جنوبه وشماله أعلى ما يوجد في مصر (
انظر الشكل المقابل ). فعلى سبيل المثال نسبة الفقر في الصعيد تبلغ 48٪ من السكان مقابل 36٪ في الدلتا و13٪ في محافظات المدن!
حتى عام 2003 كانت إجمالي الشركات المؤسسة 13712 شركة في مصر، منها 538 شركة فقط في الصعيد بنسبة أقل من 4٪ من مجموع الشركات. وكانت التكاليف الاستثمارية في هذه الشركات تبلغ 218280 مليون جنيه اختص الصعيد بنسبة 4,2٪ فقط، وكان عدد العاملين قرابة المليون عامل منهم 4,6٪ في الصعيد إجمالا. هذه الضآلة في التوجهات الاستثمارية لشركات متعددة النوعية صناعية وخدمية ومالية ... إلخ، تزداد قزميتها إذا تذكرنا أن بالصعيد نحو 28,5٪ من سكان مصر عام 1996. (11-2) ماهية مقترحات تنمية جنوب الوادي
لا شك في أن هناك عشرات الأفكار للتنمية لكل الوادي من بني سويف إلى أسوان. لكن لا شك أيضا في أن أحسن الأفكار والرؤى ليست بالضرورة أكثرها طموحا وأجملها ورودا، فأحسن الأفكار التي يمكن تبنيها هي الأفكار العملية النابعة من المواقف القائمة باتفاق غالبية الناس على جدواها في معالجة أحوالهم والرقي بما لهم وللأجيال الجديدة. وهي في ذات الوقت الأفكار التي يمكن تنفيذها مرحليا حسب شدة الاحتياج من ناحية، وحسب القدرات المتاحة المالية والعلمية التطبيقية والاجتماعية مع التخطيط المرن بمشاركة الناس، وربما كانت الأموال اللازمة هي الركن الأساسي، ويمكن تدبيرها بمشاركة ثلاثية الأطراف: الدولة كحق واجب، والمستثمرون كعوائد لنجاحهم، وأخيرا: السكان المستفيد الأول والأخير من أية مشروعات تنمية اقتصادية اجتماعية ثقافية وصحية. (11-3) معطيات الجبل والصحراء في جنوب الوادي
أول المعطيات وقاعدتها هي الأرض التي تنقسم إلى أراضي الزراعة الحالية والمستقبلية، وأراضي المجالات الحيوية
Lebensraum
التي تتفاعل مع أماكن واسعة لعلاقات العمل والهجرة النشطة. فهناك الاتجاه شرقا إلى البحر الأحمر حيث مجالات العمل في نطاق خدمات السياحة ونطاقات المناجم والمحاجر لأنواع فاخرة من أحجار الزينة والواجهات، مثل السماق الإمبراطوري البللوري الأبيض والوردي
في جبل دخان والجرانيت الأسود وغير ذلك من الموارد التعدينية. وهناك الاتجاه غربا إلى الصحراء الغربية حيث مجالات التنمية الحالية في مشروعات الزراعة في نطاق دروب الأربعين وشرق العوينات، بل وربما أيضا في منطقة العوينات وهضابها بما فيها من سياحة السفاري وما قد يتولد من ثروات طبيعية ومياه جوفية تكتشف بكثرة الارتياد وتعدد الرحلات، ذلك أن كثرة الحركة تجلب المناطق المنعزلة إلى دوائر الاهتمام يلتقطها فرد أو هيئة بالصدفة أو بتوجه مسبق فتفتح آفاقا متعددة.
لم أذكر الواحات كمناطق عمل لسكان جنوب الوادي؛ لأن الواحات حالة خاصة من التعايش آلاف السنين بين معطيات البيئة والناس. وحين نتدخل بتكنولوجيا القرن الغشوم نفسد التوازن الأيكولوجي الهش بين المياه والتربة وعدد السكان، فنحيلها إلى التصحر المطلق مع أن أشكال هذه التنمية تأتي إلى الواحات بنيات حسنة فينطبق عليها القول المعروف: «إن الطريق إلى «جهنم» مفروش بالنيات الطيبة.» ومن ثم فالتوصية الواجبة هي ترك الواحات تتطور بالأسلوب الذي يتعايش مع الصحراء مع قليل من الإرشاد وكثير من الدراسة دون استعداء قوى الطبيعة. (11-4) معطيات الوادي في الجنوب
الأرض الزراعية الحالية ضيقة بكل المقاييس بحيث لا تتناسب مع الملايين الثمانية من السكان. في الحقيقة أن السكان أكثر من ذلك لولا أن فائض السكان يهاجر إلى الشمال ويظل العدد المقيم محافظا على أدنى حد من التعايش مع ظروف العمل القاسية. فنحو 90٪ من العاملين بالزراعة يعملون في ظل ملكية أو حيازة زراعية متناهية الصغر أو قد تبلغ حد الصفر في أحيان. ويعوض البعض هذا الفقر المدقع والحرمان البالغ بالعمل القاسي في المحاجر أو الخدمات الخاصة أو النقل، فضلا عن إرساليات نقود من العاملين في الشمال إلى ذويهم في الجنوب. وبالرغم من إنشاء مناحل العسل وتسمين العجول للبعض، فإن هذه الدخول الهامشية لا تستطيع أن تكون رأسمال يسهم في أية عمليات تنموية وبالتالي تتجمد الأوضاع وتسوء.
وقد كانت هناك دراسة لحالة 15 قرية في مركز سوهاج مجموع سكانها 203 ألف، نشرت في تقرير التنمية البشرية لمعهد التخطيط القومي عام 1996 تشير إلى ظروف شظف العيش في هذه القرى كنموذج متكرر في محافظة سوهاج، ونموذج متكرر بصور أخرى أشد وأقسى في بقية جنوب الوادي.
قد يكون شكل التنمية الذي يتبادر دائما إلى الأذهان هو البحث عن أرض استصلاح جديدة . وباستثناءات محدودة - الحافات الصحراوية ومصبات بعض الأودية مثل شرق كوم أمبو أو وادي الأسيوطي، فإن التوسع الزراعي محدود بحكم إطباق الهضاب الجبلية والرمال السافية على الصعيد جنوبه وشماله معا. وحتى إذا استوفينا تنمية زراعية برفع المياه بتكلفة طاقة عالية، فإن الزراعة في المجال العالمي والإقليمي لم تعد هي الحل السحري لمشكلات البطالة واختلال التوازن بين البيئة والإنسان، وبخاصة أن الزراعة عادة تستهلك 75٪ من المياه العذبة.
في مصر استأثرت الشركات الصناعية بنحو 70٪ من العدد، و43٪ من الاستثمارات و62٪ من العمالة، وفي مقابل ذلك 6٪ شركات زراعية و5٪ من الاستثمارات و8٪ من العمالة! وبالتالي فإن الزراعة تصبح غير مجدية كنشاط إذا قارناها ليس فقط بالشركات الصناعية بل بشركات البنوك والأموال وشركات السياحة، وغير ذلك من الأعمال في قطاع الإنتاج والخدمات.
وليس المعنى أن نكف عن الزراعة فهي أساس الغذاء اللازم للوجود. لكن القصد أن إنشاء أنشطة أكثر إنتاجا وربحا وتوفيرا لفرص العمل وتقليص البطالة نسبيا هو أجدى؛ لأنه سيستقطب أكثر من نصف العمالة الزائدة والفقيرة في قطاع الزراعة، بحيث يتناسب عدد السكان الزراعيين مع حجم الأرض. وعلى هذا فإن ناتج العمل الزراعي سيوزع على الفلاح المنتج فترتفع حصيلته من نشاطه تدريجيا في الوقت الذي يصبح للعمل في القطاعات الأخرى دخل مستقل، وبالتالي لا يمثل دخلا طفيليا على الناتج الزراعي.
وبناء على ذلك فالراجح من هذا العرض أن توجهات التنمية في جنوب الوادي يمكن أن تكون في أوجه متعددة وليس الزراعة فقط. الاستثمار يمكن أن يتجه إلى صناعات زراعية كمصانع الأغذية المجمدة واللحوم والأسماك المجهزة حسب نوعية القطع وصناعات الجلود والنقل السريع وبعض منتجات الألبان ... إلخ، جنبا إلى صناعة أنواع من الورق والأخشاب من مخلفات النبات. الطاقة متوفرة من الشبكة الموحدة ويضاف إليها الطاقة الجديدة من قناطر إسنا، والمتوقعة من قناطر نجع حمادي وأسيوط، فضلا عن امتداد أنابيب البترول والغاز إلى الصعيد كمشروع يكتب عنه حاليا. وربما نتيجة لذلك يمكن إنشاء بعض الصناعات الثقيلة وبخاصة الأسمنت.
ولا يقتصر الأمر على الصناعة فإن هناك أنشطة أخرى قائمة وتحتاج إلى مزيد من الاستثمار والتحديث على رأسها صناعة السياحة. وجنوب الوادي مليء بشتى السياحات من آثار أخميم وأبيدوس ودندرة وإدفو والأقصر وأسوان والنوبة، مليء بسياحة السفاري في كل جنوب مصر من البحر الأحمر إلى الوادي الجديد، مليء بسياحة العلاج وطاقة الشمس والمنظر الجميل ...
كل هذه التحديثات ترفع منسوب دخل الأفراد، وغالبا تحتاج إلى تحديث عمراني يقوم به الأهالي على مهل وإلى مدارس ومستشفيات وعيادات. تداول العملة سيجلب معه أنشطة بنكية متعددة ومتنوعة ومكاتب قانونية ومحاماه وينعش التسوق والسوق المحلي. وربما أيضا صحافة محلية إلى جانب الإعلام الرسمي ... إلخ.
والخلاصة: أن نوعا متجددا من الحياة يمكن أن يحل تدريجيا محل رتابة الحياة التقليدية من زمن فات؛ وبذلك نكسب إقليما نشطا جديدا يضاف إلى وطن قوي بدلا من وطن ترهقه الإشكالات ... (11-5) أسوان بوابة الجنوب
منذ نحو ثلاثة أشهر دخلت المبنى الفاخر للتليفزيون والإذاعة في أسوان - القناة الثامنة - من أجل حديث عن النوبة والنوبيين ومستقبل الجنوب بما في ذلك السد العالي ومشروع توشكى. ومنذ ذلك التاريخ وأنا أتابع إرسال القناة الثامنة كلما سنحت لي الفرصة. وأصبحت معجبا بالنشاط الإعلامي للشباب من أهل أسوان والجنوب الذين يقدمون برامج ذات موضوعات جيدة هي في الواقع ليست تكرارا لما نراه في قنوات مصرية أخرى.
والحق أن منطقة جنوب مصر من قنا جنوبا هي مختلفة عن بقية الصعيد. فالسكان هنا ينتمون إلى عدة مجموعات ذات أصول قبلية وإثنولوجية متنوعة. فإلى جانب الخليط السلالي الذي نسميه أهل الصعيد، والذين يمتدون في مراكز قنا والأقصر وإسنا، فهناك مجموعات أصغر عددا هي العبابدة المستقرون على الحاجز بين الصحراء والوادي المزروع، ويكثرون في الأقصر وكوم أمبو. وهناك الجعافرة المتمركزين في إدفو وشمالا إلى إسنا وجنوبا إلى كوم أمبو، وأخيرا وفد إليهم سكان النوبة في شرق حوض كوم أمبو بعد تهجيرهم في أوائل الستينيات على إثر إنشاء السد العالي.
وكل هؤلاء يسكنون الآن إلى الشمال من مدينة أسوان الحالية. وفي الماضي القريب كان النوبيون يسكنون إقليما طويلا من مدينة أسوان جنوبا إلى الحدود مع السودان وعبره إلى شمال السودان. وسواء كان هناك سكان في بلاد النوبه جغرافيا أو تغمرها مياه بحيرة ناصر، فإن أسوان كانت منذ ستة آلاف سنة وإلى اليوم بوابة مصر الجنوبية إلى كل الأقاليم السودانية والأفريقية. وسبق أن ذكرت في الفصل الأول أن أسوان كلمة مصرية قديمة تعني السوق، وقد كانت فعلا السوق الذي يتجمع فيه كل سلع المناطق المدارية من أفريقيا - عاج وريش نعام ونباتات طبية وجلود حيوانات مختلفة وأنواع من أخشاب الروائح الزكية مثل الصندل وغير ذلك كثير. بل أيضا كانت هناك سلع من شرق السودان وإريتريا وجنوب البحر الأحمر، وبخاصة أنواع من نباتات البخور التي تأتي في السفن من الصومال واليمن وحضرموت أو في قوافل برية عبر الأودية الصحراوية الكبيرة وبخاصة وادي العلاقي ووادي كورسكو.
لهذه الأهمية كانت لمنطقة أسوان استراتيجية خاصة مماثلة لرفح والعريش في الشمال، بل ربما أكثر وأهم لأسباب منها: أنه في فترات كانت هناك ضغوط من الشعوب الزنجية شمالا في اتجاه مصر وبخاصة في عصر الدولة القديمة. هذه الحركات الشعوبية ربما نشأت مع متغيرات المناخ إلى الجفاف في شمال السودان الحالي ومن ثم الالتجاء إلى أراضي الوفرة النيلية في مصر. ولوقف الزحف الجنوبي وللحفاظ على منابع النيل في منطقة الجنادل - التي كان المصريون في فترة ما يعتقدون أنها حقا منابع النيل، عين الفراعنة منذ الأسرة الرابعة والخامسة أمراء من الأسر الحاكمة ولاة وحكاما في أسوان لضبط الأمور بتفويض أميري يستطيع اتخاذ السياسات والمبادرات على أرض الواقع. وكان مقر الحكم في جزيرة أسوان الحالية التي يقع فيها متحف أسوان وقرى النوبيين وفندق أوبروي. كان هذا المقر يسمى «آبو» بمعنى سن الفيل، وهو المعنى الذي حدا بالإغريق إلى ترجمته إلى «إلفنتين»، وما زالت تشتهر به في الكتابات الأجنبية. وكان حاكم آبو ينظم كل أشكال البعثات التجارية حسب مواسم المطر والجفاف إلى شمال السودان مع النيل إلى دنقلة، ومن ثم جنوبا إلى كردفان ودارفور أو استمرارا مع النيل إلى مروى ووادي العطبرة إلى جبال إثيوبيا.
وحينما تغلغلت دولة الفراعنة عسكريا واقتصاديا وسياسيا جنوب أسوان أنشئوا قلعة جديدة وسوقا في سمنة عند الشلال الثالث، ومن ثم تمصرت منطقة النوبة الجغرافية من الشلال الرابع عند أهرامات نباتا إلى أسوان.
من هم سكان هذه المنطقة؟ على الأغلب أنهم في النوبة السفلى من الشلال الثالث إلى أسوان لم يكونوا مختلفين كثيرا عن أصول المصريين من أسوان إلى إدفو وإن أخذت بعض ملامح الزنجانية تغزوهم بعض الشيء. أما سكان نباتا ودنقلة فالأغلب أنهم كانوا في مواجهة المد الزنجي القادم من الجنوب بحكم موقعهم الجغرافي. وتداخلت مجموعات أخرى من شبه البدو الأفريقيين وأشهرهم البليمي - ربما كانوا أجداد قبائل البجة من البشارية والعبابدة وغيرهم، والنوباتاي قدموا من الغرب - ربما من الواحات - بتشجيع من السلطة الحاكمة في مصر لصد البليمي. ومن هؤلاء شاع اسم النوبا والنوبة على إقليم النوبة السفلي، برغم أن «ن ب» أو «ن و ب» كلمة فرعونية تعني الذهب. أما النوبة العليا فقد شاع تسميته «إثيوبيا» في العصر الهلنستي (إغريقي- روماني).
وفي العصر الإسلامي كانت أسوان منطقة تجمع القبائل العربية التي غزت السودان تدريجيا من القرن العاشر الميلادي وما بعده، فعربت وجه السودان الشمالي والأوسط والغربي وأصابت عملية التعريب بلاد الكنوز وإن ظلوا محتفظين بلغتهم الأصلية.
واليوم أسوان ما زالت بوابة الجنوب بما فيها من خليط سكاني قديم وحديث، وما تزخر به من آثار وتاريخ وجمال طبيعي وقوة عمران المدن السياحية والإدارية والصناعية معا.
الفصل الخامس
السياحة كصناعة
على هامش السياحة في مصر (1) السياحة والينابيع الدافئة
في البداية أحب أن أؤكد على أن استخدام كلمة «سياح» لا تعني فقط الأجانب، بل يجب أن يفهم منها أنها تعني أهل البلد والأجانب معا في تجوالهم. والمعروف أن السياحة الأجنبية تتذبذب لظروف دولية سياسية أو اقتصادية، بينما السياحة الداخلية لا تخضع لمثل هذه المؤثرات بنفس الصورة. اهتمامنا بالسياحة الأجنبية مرده الاهتمام بتحصيل عملات أجنبية وهو ربما مما يقوي اقتصاد بلد ما. لكنه قد ينقطع سنوات ويربك الدولة المعتمدة عليه. أما السياحة الداخلية فهي أكثر استمرارية ودواما، وبذلك فهي تولد - جزئيا - استمرارية دورة رأس المال داخل الوطن الواحد، وهو شيء هام بالنسبة للاقتصاد الأساسي المحلي. وينطبق هذا المفهوم على مصر وبلاد أوروبية لها شهرتها السياحية العالمية.
في بلاد السياحة الأوروبية يعرف الناس قبل الحكومة ماذا يفعلون. كل فرد أو عائلة أو مؤسسة سياحية تعرف كيف تجتذب السياح - ليس لمرة واحدة تعتصر فيها نقود السائح - بل برفق ونعومة وقليل من السماحة والكياسة لكي يصبح السائح هو نفسه وسيلة الدعاية لمدينة أو فندق أو مطعم، وعلى البلديات المختلفة تأهيل المنطقة السياحية من حيث الطرق ووسيلة الانتقال وتنظيف وتزيين الأماكن، وتسهيل بلوغها والاستمتاع بما فيها من مناظر طبيعية حتى لو كانت صغيرة. وهناك أيضا ابتكار لمواسم معينة كعيد المدينة أو القرية بموسيقاها وأغانيها المحلية وأشكال الرقص والطرب بالملابس التقليدية وغير ذلك كثير. ماذا تستفيد البلديات من وراء ذلك؟ وضع الأماكن على خريطة السياحة بنشر الكتيبات والخرائط التفصيلية والصور الفنية تبرز جمال نهر أو شلال أو بحيرة أو قمة تل أو جبل. والغرض النهائي أن تتكسب البلدية من ضرائب المبيعات، وأن يتكسب السكان من بيع الهواء والماء وثلاجات الجبال العالية أو شواطئ الرمال النظيفة أو البحيرات المتلألئة وسط الطبيعة الخلابة؛ بإقامة الكثير من أماكن المبيت سواء فنادق أو بنسيونات أو غرف للإيجار مع الأسر والكثير من المطاعم ومشارب الشاي والقهوة ومشروبات أخرى محلية.
الشيء الهام أن الفنادق ليست بالضرورة من ذوات النجوم فكلها نظيفة مريحة للنوم، وبوفيه الإفطار بدون رقيب يحسب كم من الأطعمة والخبز وفناجين الشاي أو القهوة تناولها هذا أو ذاك. كما أن أصحاب سيارات الرحلات يتكسبون من نقل السياح بين الأماكن، أو إذا كانت هناك بحيرة ففيها زوارق تسير بالكهرباء لمنع تلوث المياه بالزيوت ومنع التلوث السمعي وإضفاء لمحات من السكينة وسط بهجة البحيرة وجمال ما يحيط بها. والسياح كل في حاله سواء كبار السن أو الشباب فلا مشاجرات ولا إزعاج بعالي الأصوات. وفي المحصلة النهائية فإن الكل يكسب ويرتفع دخلهم خلال المواسم السياحية ومعه ترتفع ميزانية البلدية مما تحصله من ضرائب مبيعات وضرائب على دخل الأفراد. جانب كبير من الضرائب للبلديات والدولة يذهب لتحسين وتنمية المنطقة وتجديد بنيتها الأساسية وخدماتها الصحية والترفيهية لرفع المستوى لكي يجذب المزيد من الحركة، وهكذا تتنامى دورة رأس المال بين المكان والناس والإدارة والسياح؛ لهذا فالدخول تختلف بين قرية وأخرى حسب الجهد المبذول في الإعلان والدعاية والخدمات الفردية والخدمات العامة . هذه هي حال السياحة في البلاد التي تجتذب ملايين السياح كالنمسا وإيطاليا وسويسرا وإسبانيا. باختصار السياح ليسوا لقمة موسم يحلفون بعده ألا رجعة لهذا المكان أو البلد، بل جذب برقة المعاملة وحسن الخدمات وسرعة الإسعاف، فالسائح إنسان معرض لحوادث المغامرة في بيئة المصيف والمشتى.
وسأختار هنا نموذج من عنصر واحد من عناصر الطبيعة لنرى كيف تنبني فوق هذا العنصر إبداعات فن الإعلان وفنون الخدمات التي تتراص فوق بعضها مما يعطي أكبر فائدة ممكنة لهذا العنصر الطبيعي الواحد - فما بالك إذا ساندته عدة عناصر أخرى من الطبيعة ومن طبيعة البشر الحلوة. هذا العنصر هو مياه الينابيع ذات الشهرة العلاجية.
فإعلانات السياحة في النمسا أو سلوفاكيا - على سبيل المثال - تروج - من بين أشياء أخرى - للمياه التي تحتوي على مواد أو غازات يقولون: إنها شافية لأمراض معينة. وعلى الفور تنشأ معها حمامات الساونا والعلاج الطبيعي اليدوي والآلي، ويكثر معها ذوي الملابس البيضاء سواء كانوا أطباء أو ممارسين للعلاج، ومعها تكثر المطاعم التي تقدم أطعمة صحية يوصى بها الأطباء، وخاصة الخضروات المزروعة بالطرق البيولوجية - بدون أسمدة كيمائية، وأخيرا يستفيد من كل ذلك إشغالات عالية للفنادق وازدهار عام لأنواع المقاهي والأشربة ورحلات المشي الحثيث إلى الصمت الذي يلف غابات الشربين والصنوبر إلا من النسيم الذي يغني بين الأغصان. هذا عنصر واحد ينبني عليه هرم مقلوب أو مظلة ساقها هذا العنصر الطبيعي الواحد يتفرع عليه كل هذه الأغصان من الوظائف والخدمات وأنشطة الناس ويرتاح إليه السياح؛ لأنهم يحسون إجازة حقيقية بعيدة عن روتين الحياة ووقعها العادي، ويشعرون بنوع من الشفاء ليس لأن هناك سحر؛ بل لأن دوام العلاج الطبيعي أسبوعا أو أسبوعين سوف تكون له نتائج مثمرة على الأبدان تتنامى إلى مشاعر النفس المرتاحة.
العالم مليء بينابيع للمياه الجوفية لكل خصائص معدنية في محتواها كالكبريت أو أملاح مختلفة، لكن الشيء الهام هو كيف تسوق ما عندك من مثل هذه المصادر الطبيعية؟
ماذا عن مصر؟!
لن أكرر ما نعرفه جميعا عن الكثير مما تغص به مصر من عناصر طبيعية وتاريخية وبشرية التي تجذب السياح إليه. لكن للأسف فإن كثيرا من مثل هذه الينابيع السياحية للأجانب والمصريين ما زالت خبيئة عن المعرفة أو أن المعلومات عنها باهتة والوصول إليها يشق على الكثيرين. وربما أكتب عن هذه الأشياء لاحقا.
وموضوعنا اليوم يدور حول جانب ليس براقا للسياحة والارتحال المحلي والمعلومات عنه ناقصة، والتمهيد إلى زيارته والإقامة فيه والاستفادة منه صحيا ونفسيا غير متاحة لغالبية الناس. ففي مصر كثير من الينابيع التي تحمل مياهها مكونات معدنية خاصة. وفي القاهرة ذاتها كان لدينا منطقتان عاملتان - حسب معرفتي، إحداهما: غرب الإمام الشافعي وتسمى عين الصيرة وكان طينها يساعد بصورة أو بأخرى على شفاء بعض الأمراض الجلدية. ومنذ نحو نصف قرن كان هناك مغطس لهذه المياه الحارة وأبنية بسيطة للمستشفين في هذه العين، يعمل فيها عدد من الممارسين التقليديين لوضع الطين على الجسد ساعة زمن ثم المغطس وبعده «التكييس» - استخدام قفاز خشن لفرك الجلد، ثم التدليك أو بلغة العصر «المساج». أين ذهبت؟ وهل البحيرة الصغيرة التي أنشأتها المحافظة الآن هي نفس العين القديمة بمواصفات أحدث. إذا كان الأمر كذلك فهل أقيمت معها أبنية حديثة تقدم فيها خدمات حديثة شبه طبية وعلاج طبيعي؟ هل كان التجميل المكاني هو الهدف الوحيد لعين الصيرة، أم لماذا لا نستعيد الوظيفة العلاجية الطبية وعين الصيرة أصبحت قريبة المنال بعد أن كانت نائية؟!
والعين الثانية: كانت في شمال حلوان كانت هناك عين حلوان الكبريتية التي أنشئ عليها في الأربعينيات فندق يعرفه من يرى بعض الأفلام المصرية القديمة. أين ذهب فندق كبريتاج، وأين الخدمات الطبية التي كانت في المنطقة؟ فقد كانت حلوان منذ قرون ذات شهرة طويلة بجوها اللطيف قياسا بالقاهرة القديمة، وبمياهها المعدنية التي تحتوي على إيدروجين وكبريتات صوديوم ومغنسيوم وبوتاسيوم وغير ذلك، وتصلح لعلاج أنواع من الروماتيزم والتهاب المفاصل وأمراض التنفس والجلد ... إلخ. وفي أوائل القرن اتخذت مقرا لمرصد حلوان الشهير، وكذلك مقار للعلاج وخاصة للاضطرابات النفسية - مستشفى بهمان، وحديقتها اليابانية كانت مقصدا للترفيه والتريض العائلي الهادئ. لكن التنمية الصناعية والنمو السكني قد أتى على محاسن حلوان فطمسها، وربما ذهبت معه عين حلوان الكبريتية أدراج الرياح برغم كونها أيضا قريبة المنال ولا تستدعي ترحالا كما كان حال الزمان الماضي!
وفي سيناء الجنوبية وعلى ساحل خليج السويس قرب مصب وادي الغرندل يوجد نبع «حمام فرعون» وهو مياه كبريتية حارة - نحو 45 درجة مئوية - تنساب من مغارة صغيرة، على سفح الجبل حارة كحمام البخار وتتسرب المياه باستمرار إلى الشاطئ وتختلط بمياه البحر فيما يشبه بحيرة شاطئية صغيرة دافئة. الزوار القلائل يخلعون نعالهم ويقفون حفاة في هذه المياه الدافئة التي لها مفعول طيب ضد أوجاع الروماتيزم على حد أقوال شائعة بين بدو المنطقة. زرت المكان عديدا آخرها منذ عامين وفي كل مرة نرى بناء ضخما لا يكتمل لفندق لعله من ذوي النجوم الخمسة - على العادة السيئة التي درجنا عليها! ولعله سوف يحتوي على خدمات علاجية وطبية على النحو الحديث. لكن مشروع الفندق بطيء التنفيذ فهل هناك خلاف بين المحافظة والمؤسسة التي تبني أم ماذا؟ بل التساؤل الآن هو هل توقف هذا المشروع الجليل؟ ولماذا هذه الفئة العالية من الفنادق التي تسقط من حسابها السياحة الداخلية لغالبية المصريين؛ لأنها سوف تحرمهم من الزيارة والاستفادة من الخصائص العلاجية لهذا المكان الذي هو هبة الطبيعة! ألا يكفي تجربة الفنادق العالية في رأس سدر القريبة من حمام فرعون والتي لا تبلغ نسبة إشغالها الحد الاقتصادي للمكسب والخسارة؟ وهل سيكون هناك أنشطة سياحية اقتصادية مصاحبة كاليخوت وسياحة الشراع
Windsurfing ، وسياحة الصحراء - بالجمال أو السيارات - إلى منطقة سرابيت الخادم داخل الكتلة الجبلية والتي تشتهر منذ العصور الفرعونية بتعدين أحجار شبه كريمة على رأسها «الفيروز»، وتزخر بمعابد منذ الأسرة 12 (نحو 1963 إلى 1786ق.م)، وقربها رسوم وكتابات محفورة على الصخور بعضها يعود إلى الأسرة الثالثة (2689-2613ق.م)، أي قبل بناة الأهرام؟
ولعل الأشهر أنها المكان الذي ابتكر فيه (نحو 1500ق.م) أول أبجدية معروفة عالميا باسم الخط السينائي الذي يتكون من 22 حرفا هي في أساسها رموز مبسطة للمقطع أو الحرف الأول للكلمات والصور الهيروغليفية ، ومن هذه الأبجدية نشأت فيما بعد الكتابة الفينيقية وهي بدورها أصل الإغريقية والأبجديات الأوروبية، وكذلك كانت أصل الأبجدية الأرامية التي تولدت عنها الكتابة النبطية التي هي أصل الكتابة العربية! ما هذا الإبهار في الثروة الأثرية لسيناء ملتقى مصر والعالم الأورو-آسيوي!
هل ستكون هناك محال وبوتيكات صغيرة للحرف والأشغال اليدوية من كل سيناء وأحجار خام من الفيروز وتشكيلات من الحفر على صخور أخرى؟ الخلاصة: أنه يمكن بناء هرم متكامل من الأنشطة تعتمد في أساسها على مياه عين فرعون الدافقة، وتحيل المنطقة إلى حركة متعددة تجذب السياحة الداخلية والخارجية معا.
وفي شمال مدينة الطور مباشرة عين موسى التي اهتمت المحافظة بها ولا أعرف عن فوائدها الشيء الكثير، ولعل في جنوب سيناء ينابيع أخرى. ولكن لو كانت الينابيع المحققة هي فرعون وموسى - لاحظ تناقض الشخصيتان يجمعهما المكان عبر الزمان! فأين الدعاية العلمية في منشورات موجزة التي يظهر فيها تحليل هذه المياه وفوائدها الصحية والخدمات السكنية - بما فيها مخيم للسيارات «كامب»، والهيئة الطبية المشرفة على الصحة العامة والعلاج الطبيعي؟
وفي الصحراء الغربية الشاسعة هناك ينابيع دافئة كثيرة في الواحات الكبرى وخاصة سيوة والبحرية والداخلة.
وفي الواحة الداخلة عدة عيون حارة كبريتية ومعدنية (30-40 درجة) حول مدينة موط أشهرها «موط ثلاثة» على بعد 3 كيلومتر شمال المدينة، بني عليها حوض مستدير بعمق متر ونصف ومياهه ضاربة إلى اللون الوردي، أقام عليها مستثمرون من فندق «بيونير» في الواحة الخارجة ستة شاليهات وثلاث خيام وفيلا من خمس غرف ومطعم - مغالى في أسعاره، وفي شمال الواحة عين الجبل على مبعدة 25 كيلومتر من موط لكنها غير مستغلة سياحيا بالمعنى المفهوم.
وفي الواحة البحرية عدد آخر من العيون منها عين «بشمو» قرب وسط مدينة الباويطي عاصمة الواحة، بني حولها فندق البشمو المتكون من طابقين عند حدائق النخيل التي تروى بمياه العين. وعين المفتلة (3 كيلومتر غربي المدينة) حيث توجد بقايا معبد من الأسرة 26 الفرعونية وقد أعيد ترميمه بعض الشيء. وبير الرملة الكبريتي المياه وحرارتها تزيد عن 45 درجة، وربما كان أحسنها بير الغابة على بعد 15 كيلو شرق الباويطي، حيث يوجد مخيم يديره فندق «منظر جبال الألب
Alpenblick »، حيث يمكن الاستمتاع بالمياه الدافئة في ضوء القمر، وأخيرا عين مطر ذات المياه الباردة على بعد نحو سبعة كيلومترات شمال شرقي الباويطي.
وفي واحة سيوة مجموعة من العيون الحارة والباردة من أشهرها داخل أدغال النخيل المترامية عبن كليوباترا، بني حولها كافتريا وغرف لخلع الملابس ولكن شهرتها الأصلية ترجع إلى أهمية زيارتها للعروسين صبيحة الزفاف. وعين فاطناس للمياه العذبة داخل واحة ظليلة في جزيرة صغيرة وسط بحيرة سيوة المالحة المياه. ويوجد بالجزيرة مقهى صغير للشاي والشيشة على موائد وكنبات بيئية تحت النخيل وأمام البحيرة الواسعة. وربما كان «بير واحد» أنظف الآبار الحارة على بعد نحو أكثر من عشرة كيلومترات جنوب منخفض الواحة وعلى الأطراف الشمالية لبحر الرمال العظيم. هنا واحة صغيرة لكن الكثبان وراء الكثبان تسيطر على المنظر وتجعل له مذاقا خاصا بعيدا عن أدغال النخيل السيوية. ونظرا لموقعه فإنه يحتاج إلى سيارة ذات دفع رباعي للوصول إليه. ولا يوجد به سوى شاي وشيشة وعلى راغبي المبيت إحضار الغذاء والماء. وفي شرق الواحة (23 كيلو) عين كبيرة تسمى عين قريشات مياهها نظيفة وعمقها نحو ثلاثة أمتار، وإلى شرقها (15كيلو منها) «عين صافي» وهي آخر المعمور السيوي في اتجاه طريق البحرية، وفي المنطقة وجدت عشرات المقابر التي تعود إلى العصر الروماني. أما في داخل الواحة فهناك عشرات العيون الطبيعية التي تستخدم مياهها لري حقول النخيل الشاسعة، وشرب سكان القرى والمستوطنات المختلفة التي من أشهرها قرية أغورمي حيث يوجد معبد النبوءة الذي زاره الإسكندر الأكبر وبالقرب منه بقايا معبد آمون. وفي سيوة عدد كبير من الفنادق معظمها صغير، وكلها تخدم حركة السياحة الأجنبية التي تتكامل مع الآثار وغرابة أدغال النخيل الشاسعة والبحيرات المالحة إلى جوار العيون العذبة والقرى القديمة والخدمات الحديثة، مما يجعلها أكثر الواحات المصرية تكاملا، لكن ينقصها كثيرا السياحة الداخلية في هذه الواحة الأسطورية. وبوجه عام تحويل هذه المصادر الطبيعية إلى مزارات للسياحة الداخلية والخارجية على أن تتكامل خدمات صحية وترفيهية وحياتية من أجل معرفة أحسن بالمعمور المصري النائي وتنميته. (2) ماذا نحتاج لتصحيح مسار السياحة؟
في مقال سابق تكلمت على أحد الموارد السياحية المصرية غير المعتنى بها وهي العيون والينابيع الدافئة، وأن الاهتمام بها سيكون أحد منشطات السياحة باعتبار أن الأمور الصحية هي واحدة من أهم الدوافع لدى الأفراد لتصور الشفاء من بعض متاعب الأبدان.
ومرة أخرى أؤكد أن السياحة مقصود بها السياحة الأجنبية والمحلية معا. بل ربما تكون سياحة المصريين أكثر ثباتا في تدعيم وبقاء صناعة السياحة من سياحة الأجانب التي تتأثر بعناصر كثيرة من الأمن والاضطراب السياسي المحلي والإقليمي والدولي.
مصر - شأنها شأن كثير من الدول السياحية - تتمتع بمصادر تاريخية وأثرية ربما تفوق غيرها في صورة المتاحف المفتوحة كالأبنية العملاقة التي تحكي عظمة الهندسة الموغلة في القدم، والمتمثلة في أهرامات مصر من الجيزة إلى منف - سقارة ودهشور واللاهون، ومنطقة الأقصر بمعابدها ومقابرها التي لا نظير لها في العالم، والقاهرة الفاطمية المملوكية بإبداعاتها الإسلامية الرائعة. وتتشابه مصر مع غيرها في أشكال من السياحة الدينية وخاصة الكنائس والأديرة القبطية ذات الشهرة في وادي النطرون ومنطقة الزعفرانة وكنائس مصر القديمة، فضلا عن رحلة السيد المسيح إلى مصر والأماكن العديدة التي زارها هي معالم تاريخية في غاية الأهمية. وكذلك الموالد المرتبطة بممارسات طقسية للأولياء والقديسين والقديسات، كمولد السيد البدوي وعبد الرحيم القنائي والسيدة زينب وسيدنا الحسين وسانت تريزا وغيرهم كثير.
ومصر تتمتع بالجو صافي الأديم معظم السنة وإن كان حارا نصف العام، لكنه مقبول في النصف الآخر، وكلاهما يسمح بحركة الناس الاصطيافية على البحر المتوسط والشتوية إلى البحر الأحمر وجنوب الوادي في أسوان والأقصر وفي الواحات. فالمناخ الجاف غالب السنة هو مورد آخر درجنا علي استخدامه ونحتاج إلى مزيد من تنظيمه، كأن يكون لمؤسسات سياحية وفندقية ازدواجية تخطيطية ومشاركة فعلية في مشآت المصايف والمشاتي معا.
في مصر لكي نفهم ونخطط لحركة السياحة بوجهيها الداخلي والخارجي نحتاج أشياء كثيرة لكي تكون الصورة أوضح لدى الجميع من وزارة السياحة إلى المؤسسات السياحية، وإلى ملاك المنشآت السياحية ووسائل الانتقال العامة من الطائرة إلى الأوتوبيس السياحي إلى تحسين الطرق وعلامات الإرشاد، وأخيرا لدى الناس كي يعرفوا أين يذهبون لقضاء إجازاتهم سواء الأسبوعية أو الصيفية أو الشتوية.
أولى النواقص أننا نرى اهتمام وزارة السياحة يكاد أن يدور حول تعداد الليالي السياحية وعدد القادمين والمغادرين ونسبة الإشغال الفندقي إلى آخر ذلك من البيانات، وبعضها دلالاته غامضة كالليالي السياحية التي لا تفيد كثيرا في معرفة أسباب التركيز أو التناقص في أماكن أو أجزاء معينة من مناطق السياحة. كما أنها تكاد تقتصر على حركة السفر جوا أو بحرا من الدول الأخرى سواء الأوروبية أو العربية. والاهتمام كبير في وزارة السياحة بالسياحة الأجنبية باعتبارها مصدرا للعملات الأجنبية، وهو شيء جميل لكنه تركيز مخل؛ لأن السياحة الداخلية يجب أن تكون في دائرة اهتمام تلك الوزارة جنبا إلى جنب تسويق مصر في الخارج. وهذا التسويق يظهر بصورة مكثفة في إقامة الكثير من الندوات الرسمية والإعلامية في أوروبا بصفة أساسية، وربما كان ما ينفق على تلك الحملات الإعلامية يساوي - أو يكاد - حصيلة مصر من السياحة الأوروبية. فالكثير من السياح يأتون كمجموعات فيما يعرف باسم عقد شامل
يحتوي على نفقات الطائرة المستأجرة
Charter flight - غالبا أجنبية مما لا يدعم الطيران المحلي، ويحتوي العقد الشامل على الإقامة في فنادق النجوم العالية بسعر - إذا حسب بدقة - فهو أقل بكثير جدا من السعر الذي يدفعه الفرد المصري أو المقيم في مصر. فالحقيقة أن نسبة إشغالات الفنادق وعدد الليالي السياحية هي ليست مؤشرا للنجاح الإعلامي للسياحة في الخارج، بل إن عائدها هو أقل مما تصوره تلك الأرقام.
ولكن هناك من يقول: إن مثل تلك الحركة من الإشغالات تكاد تبقي على الفنادق والعاملين بها دون أن تغلق أبوابها - وهو قول جدلي على أي حال. فلو كانت الدعوة الإعلامية موجهة بنفس القوة إلى السياحة الداخلية وبأسعار معقولة لما كان هذا التكالب على فتات السياحة الأجنبية الحالية. هذا مع العلم بأن التناقص والتذبذب في سعر الصرف للجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية وبخاصة اليورو والدولار يؤدي إلى مزيد من تناقص أسعار الرحلات الشاملة لكي تكسب المزيد من تلك الرحلات، ومن ثم تتناقص مكاسب الفنادق وأرباح جميع النشاطات السياحية الأخرى من المطاعم وأنشطة البحر ورياضاته ومحلات بيع السلع السياحية ورواتب العاملين وأشياء أخرى.
وفضلا عن ذلك فإن بعضا ليس بالقليل من الرحلات السياحة إلى مصر - وبخاصة قبل الاضطرابات في الشرق الأوسط من الغزو الأمريكي إلى العنف الإسرائيلي - كانت بعض الرحلات إلى سيناء تدمج في رحلات إلى إسرائيل وسيناء بواسطة الشركات السياحية الإسرائيلية معا، مما يؤدي إلى تدني نصيب الفنادق المصرية في طابا ونويبع وشرم الشيخ من هذه السياحة، مقابل النصيب الأوفر لشركات السياحة الإسرائيلية التي هي بصورة أو أخرى أقوى وأكثر إعلاما من الشركات المصرية التي تدخل السوق الخارجي وجلة وغالبا من خلال مؤسسات السياحة الحكومية المصرية في مكاتبها الخارجية، أو من خلال مكاتب السياحة وشركات الطيران الأجنبية في الدول المختلفة كوسطاء محليين في مصر.
ليس الغرض مجرد النقد، ولكنه موجه كحافز للمسئولين في الوزارات والشركات المعنية وفي قطاع السياحة الخاص، من أجل توجيه جهد أكبر إلى السياحة المصرية الداخلية بحيث لا تكون اقتصاديات مراكزنا السياحية في قبضة السياحة الأجنبية فقط. هناك إسراف في الفنادق عالية النجوم في خليج العقبة والبحر الأحمر وهو ما قد يكون أبعد عن منال غالبية المصريين ماليا، ومن ثم فقد حان الوقت أن يتجه الفكر السياحي إلى فنادق متوسطة على أن تراعى كل شروط النظافة وحسن استقبال النزلاء والاهتمام بإقامتهم وخدمتهم، كما تفعل الفنادق الأعلى رتبة من حيث الكيف. وأن تشجع المؤسسات السياحية على إنشاء بنسيونات وغرف عائلية على المستوى المطلوب من الشروط السابقة ولكن على منسوب صغير متناسب مع عدد الغرف وعدد الأسرة. ومعلومات المسئولين مؤكدة عن نجاح مثل هذه الأماكن الصغيرة التي تستقبل أعدادا كبيرة من السياح، فإنها حقا تمثل اللبنة الأساسية في السياحة في النمسا وإيطاليا وإسبانيا على سبيل المثال؛ لأنها في متناول كثير من فئات الناس والعائلات ذات الدخل المحدود، فضلا عن أنه ليس في استطاعة الفنادق متعددة النجوم أن تستوعب ملايين السياح، بل وربما لا ترحب بكل طبقات السياح.
وليس من الضروري أن تكون المراكز السياحية ذات الأسعار المقبولة - فنادق وبنسيونات - في ذات الأماكن الحالية للفنادق الرفيعة. فالسواحل المصرية الملائمة للسياحة تمتد مئات الكيلومترات على البحار المصرية. فلا داعي للتزاحم في خليج نعمة مثلا، بل هناك داخل منطقة الشرم أماكن أخرى تدعو إلى الاستثمار المتوسط. وفي نبق ودهب وشمال نويبع حتى طابا عشرات الأماكن التي يمكن أن تبدأ - وتستمر - بكبائن وعشش «كيب» بيئية ومركز خدمات يقدم كل التسهيلات المناسبة للنزلاء - ومثل هذا كان ناجحا في رأس البر على سبيل المثال. مع الإعلان الصحيح يمكن لهذه الأماكن أن تجذب الناس ويمكن أن تنمو خدماتها وتجذب المزيد من النجاح، ولكن بشرط ألا تهدم مقوماتها لتبني بدلها فنادق النجوم المتعددة. وبالمثل هناك عشرات الأماكن تحت الإنشاء بطول ساحل البحر الأحمر نرجو ألا تكون على شاكلة الغردقة والجونة وخليج مكادي ومرسى علم. فقد شبع الناس من القرى السياحية الضخمة التي تبلغ أسعارها عنان السماء بالنسبة لغالبية المصريين. وشبع الناس في الغردقة حرمانهم من البحر بعد أن تم تخصيص كل الشواطئ لتلك القرى والفنادق الرفيعة المستوى. ومثل هذا يمارس الآن في منتجعات العين السخنة الجديدة، فهل يمكن ممارسة السياحة المتوسطة جزئيا في بعض المنتجعات الجديدة، مثلا في مرسى علم أو شلاتين أو القصير وسفاجا؟
سفاجا بالذات تحتاج منشآت كثيرة متوسطة: سواء فنادق أو بنسيونات أو شقق صغيرة «استوديو» لخدمة الحركة في الميناء، سواء كانت الحركة التجارية العادية أو حركة العبارات لعشرات آلاف المصريين العاملين في الخارج والسعودية، وآلاف المعتمرين والحجاج في مواسم متعددة تغطي شهورا طويلة من السنة. ومثل ذلك تماما نويبع التي تتعرض سنويا لتزاحم غير إنساني للعابرين والحجاج، وتصريحات كثيرة من المسئولين سنويا بصلاح الحال العام التالي دون فعل حقيقي، الحل هنا ليس فقط بيد الجهاز الإداري المصري في الميناء، وليس فقط بيد شركات السياحة التي يمكن وصف بعضها بابتزاز رغبات الذين يتوقون إلى إشباع مشاعرهم الدينية ... لكنه أيضا نتيجة إحجام الفندقة المتوسطة عن تقديم الخدمة الضرورية للمسافرين، وفي ذات الوقت إحجام المسافرين - بل وبخل بعضهم - عن السفر يوما أو يومين قبل مواعيد العبارات للراحة والاستمتاع كجزء من سفرتهم الطويلة من مصر إلى الخليج أو الحجاز.
عنصر آخر من أوجه النقص في السياحة إجمالا والسياحة الداخلية بوجه خاص هو النقص الذي يجب أن نلام عليه جميعا في موضوعين؛ أولهما: القلة الواضحة في الكتب الموجهة لغير المتخصصين عن آثارنا وجغرافية بلادنا ومواردنا السياحية في المليون كيلومتر مربع التي تحتلها بلادنا، والموضوع الثاني: النقص الذي لا مبرر له في الخرائط السياحية للمدن والأقاليم المصرية.
الموضوع الأول: نقص الكتب
كثير من السياح الأجانب يعرفون عن مصر السياحة أكثر مما يعرف المصريون إلا بممارسة الذهاب هنا وهناك. وذلك راجع إلى كثرة الكتب السياحية عن مصر من بين مجموعات أخرى من الكتب عن دول أخرى تصدرها مؤسسات ودور نشر متعددة. وغالبية هذه الكتب كبيرة (400-600 صفحة) نصوصها معتمدة من خبراء وعلماء. مثال ذلك كتب بيدكر
Baedeker ، (Ägypten)
بالألمانية ولغات أخرى، وكذا المرشد الأزرق عن دار هاشت الفرنسية، وأيضا الكوكب الوحيد
Lonely Planet
الأسترالي ... إلخ. وتحتوي هذه الكتب الإرشادية على كل ما يحتاجه المسافر من تراخيص وما يدفعه من جمارك، والفنادق مرتبة على درجاتها وسعر الليلة وأجور التاكسيات وأنواع المواصلات العامة، وأين يأكل ونوع قائمة الطعام وأين يسهر وتحذيرات متعددة، وعن السواحل وفنادقها ورياضات البحر، وشيء عن جغرافية الدولة وحكومتها وكثير من الدراسة للآثار القديمة وماذا يجب أن يلتفت إليه، وكثير من تاريخ المدن وبخاصة القاهرة وعمارتها الإسلامية والقبطية ومتاحفها مع وصف تفصيلي للمعروضات في تلك الأماكن، الخلاصة كل شيء عما يجب أن يعرفه لكي يدخل إلى تلك الأماكن منفردا أو مع مرشد سياحي. كل هذه المعلومات مبسطة ومزودة بصور وخرائط تفصيلية للمدن والمناطق الأثرية بمقاييس متعددة. مثل هذه الكتب منشورة بالألمانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية ... إلخ. وبعضها يصدر سنويا والآخر كل بضع سنوات وهي دائمة التجديد في المعلومات والإخراج.
نعم لدينا كتب بالعربية لكنها موجهة للمتخصصين في الآثار الفرعونية والإسلامية، ولدينا كتب بحثية نشرتها مجالس خاصة كالمجلس الأعلى للآثار أو الثقافة عن سيناء أو الصحراء الغربية في صورة موسوعات جيدة، لكنها أيضا متخصصة ومعلوماتها قديمة غير متجددة. ولدينا بعض مجلات مثل «القاهرة اليوم» تصدر بالإنجليزية ولا تشفي الغليل العام.
المطلوب كتب موجهة للعامة غير المتخصصة عن مصر: جغرافيتها وتاريخها وآثارها وسواحلها الشتوية والصيفية وأنواع الفنادق والمطاعم والرحلات الداخلية في المنطقة كرحلة إلى سيوة من مطروح، أو رحلة إلى معابد دندره وإدفو وأبيدوس من الأقصر، أو رحلة إلى أبو سمبل ومشروع توشكى والواحات الصغيرة حول أسوان، أو رحلة سانت كترين من نويبع أو دهب أو شرم الشيخ، ورحلة من أسيوط أو الفيوم إلى الواحات الخارجة والبحرية وما يليهما من واحات، ناهيك عن رحلات حول القاهرة إلى القناة أو وادي النطرون، ومن الإسكندرية إلى رشيد ومزارع جناكليس على سبيل المثال ... إلخ. ويجب أن يتضمن الكتاب متوسط أسعار الإقامة في مناطق الزيارات الرئيسية، ويعدد رحلات السفاري بالجمال، أو سيارات الدفع الرباعي عبر الصحراء الشرقية من الغردقة أو مرسى علم أو برنيس إلى أسوان، وبحيرة ناصر ومزار الشيخ الشاذلي ومناجم الذهب والنحاس الفرعونية ومحاجر أنواع من الجرانيت أو السماقي الإمبراطوري «بروفير» في جبال غربي الغردقة. ورحلات سفاري أخرى من الخارجة على طول درب الأربعين التاريخي وإلى أبو سمبل، أو من الداخلة إلى هضبة الجلف الكبير والأودية الجافة العديدة والمظاهر الطبوغرافية التي يشبهها العلماء بأنها أقرب ما تكون إلى مظاهر سطح المريخ! أو رحلات من واحة الفرافرة وسيوة إلى أطراف بحر الرمال العظيم ... إلخ. ورحلات البحر الشاطئية، وإجراء سباقات لليخوت والشراع من الإسكندرية إلى مطروح أو السلوم أو العريش، ومن الغردقة إلى شرم الشيخ أو مجموعة جزر جوبال وشدوان - شاكر - والجفتون أو إلى مرسى علم وحلايب وجزيرة الزبرجد أو جزيرة وادي الجمال. مناطق السياحة وأشكال الحركة إليها لا تعد ولا تحصى إذا تنبه لها أي مستثمر كبير أو صغير فهو قادر على تركيز الحركة إلى مكان يحدثه ويضيف له مراقد الراحة في مخيم أو عشش بيئية أو مطاعم ومشارب ذات مزاج وطعم خاص مع سهرات ليلية فولكلورية - يستطيع أن يقيم ذلك أو أحسن في أي مكان من مصر في الواحات وعلى شواطئ البحر الأحمر والمتوسط، وفي سيناء الجبال، وفي الأقصر غرب، وأسوان شرق وغرب، وفي بورسعيد والسويس، وفي رأس البر أو مصب فرع رشيد، وفي العريش ومرسى مطروح ومئات الأماكن الأخرى - الشيء المهم أن يمتلك موهبة خيال يمكن إيجاده على أرض الواقع.
النمسا تبيع جبالها وبحيراتها، وإيطاليا تبيع سواحلها وبحارها صيفا، وتونس تبيع جزيرة جربا ونحن نبيع البحر الأحمر شتاء، ولكن شتان بين عشرات الملايين من السياحة الداخلية والخارجية في أوروبا وبين أعداد السياح الأجانب والمصريين في مصر. نحن حقا في حاجة إلى كتب متعددة غير متخصصة موضحة بالخرائط والصور من أجل السياحة العربية والسياحة المصرية معا. قد نبدأ بكتاب ليس بالضرورة من منشورات الحكومة كالهيئة العامة للكتاب، بل يستحسن أن تتبنى إحدى دور النشر الصحفية وغير الصحفية استكتاب المؤلفين والخبراء على أن تنشر إصدارات أخرى لنفس الكتاب مرة كل سنتين لإضافة الجديد من معالم سياحية وطرق ووسائل انتقال جديدة وغير ذلك من الأمور. ومثل هذا الكتاب لا يصادر على نشر كتب أخرى في ذات المجال وسيظل الحكم للجمهور أيضا يفضل ويختار. وبالمثل يمكن نشر كتب عن أحياء مختارة من القاهرة والإسكندرية ذات طابع متميز في العمران والترفيه والسياحة، مثل حارات الدرب الأحمر والجمالية وتاريخ وقصص ناسها القدامى ونوادرهم.
إن معلومات عامة الناس عن التاريخ المصري الطويل ضعيفة وغير صحيحة سواء عن العصور الفرعونية أو الهلينية والرومانية والفاطمية والمملوكية والعثمانية، بل هناك خلط في تسلسل أسرة محمد علي رغم قربها الزمني منا! إنه حقا شيء مؤسف أن نكون أطول أمة في تاريخ متصل الحلقات مدون على الحجر والبردي والورق، ومع ذلك فمعرفة أبناء مصر بها معرفة ضئيلة وضبابية!
والموضوع الثاني: نقص الخرائط السياحية
هو النقص الذي لا مزيد عليه من خرائط مصر وخرائط المدن المصرية. لقد كانت مصلحة المساحة المصرية تصدر خرائط كثيرة عن مصر وعن القاهرة بمقاييس رسم كبيرة وصغيرة. وتبعها في ذلك المساحة العسكرية. ولكن أحدا منها لم يواكب احتياجات الناس إلى خرائط مطوية تفصيلية تكون في متناول يد الناس يتداولونها حينما يسافرون بدلا من اللوحات التي تطبع عليها هذه الخرائط ولا تصلح إلا للقراءة على المكاتب. وفي بعض البلاد كالنمسا وألمانيا التي أعرفها جيدا مثل هذه الخرائط المطوية مصحوبة بدليل أو كشاف لأسماء الشوارع والحارات وخطوط الأوتوبيس والترام والمترو وأرقامها وعلامات على وجود محطاتها، بحيث يتعرف الإنسان على موقع الشارع المقصود ورقم المواصلة التي يركبها. بل إن بعض هذه الخرائط تكتب بعض أرقام البيوت لكي يعرف الفرد أين ينزل في شارع طويل: في وسطه أو آخره أم أوله! وكثير من أفراد الشرطة يحملون معهم، مثل هذا الكشاف لأسماء شوارع المدينة التي يخدمون فيها ليدل التائه إلى مقصده إذا سئل. قد نحتج أن بعض الشرطة لا يقرءون. وهذا صحيح ولكن لماذا يصبحون جنود شرطة؟
وعلى أية حال فبرغم أنني أطلب ذلك فإنني أعتقد صعوبة تحقيقه في مدينة كبيرة كالقاهرة التي تفتقر حتى الآن إلى دليل تلفونات محدث سنويا! فيا للأسف رغم أن هيئة التلفونات ليست فقيرة، وتتقاضى أموالها من المشتركين أربع مرات في السنة. وفي بلاد العالم الأخرى تدفع التلفونات مرة في السنة وبواسطة تجهيزات كومبيوتر تغني الناس عن طوابير المرات الأربعة في مصر. أسوق التلفون كأحد رموز الخدمة السياحية فإذا كان على السائح أن يبحث عن رقم معين، فكيف يفعل مع عدم وجود دليل سنوي يغنيه شر سؤال الاستعلامات التي تقع تحت ضغوط هائلة بعد أن يسمع مرات عديدة طلب الرسالة المسجلة أن يعيد الاتصال مرة أخرى لأن جميع الخطوط مشغولة! لن أتجاسر على الأمل أن تكون هناك تجهيزات كمبيوترية للشوارع والفنادق والمواصلات والأجور ... إلخ، في بعض المدن متاحة للجميع!
إذا أردنا الحياة على مستوى يزداد تحسنا فإن علينا أن نعرف أن علاقات الحياة والأنشطة الاقتصادية متداخلة متفاعلة، فإذا تكلمنا اليوم عن السياحة فهي ليست جزيرة منعزلة عن غيرها بل إن العناصر والمواضيع تجر بعضها بعضا، وإن تحسين السياحة جزء من تحسين الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السياسية في مصر وأي بلد في العالم. (3) السفاري ريادة الصحاري والجبال
ليست السياحة قاصرة على الوجه الحسن وفنادق النجوم العديدة في شرم الشيخ والغردقة ومرسى علم ومطروح والعلمين والواحات والقاهرة الكبرى الفرعونية والإسلامية والقبطية ... إلخ، بل هناك سياحة أخرى لأعداد من الأجانب تستهويهم المغامرة والخشونة كما يستهويهم الجلوس إلى مشرب الشاي البلدي وتدخين الشيشة وسماع ضجيج الناس وإلحاح الباعة وإصرار الشحاذة. تلك هي ارتياد الصحاري فيما يطلق عليه «سفاري» وهي كلمة مأخوذة من «السفر» و«الأسفار» العربية وإن اختلف محتواها. فالمسافر في طريقه إلى مكان أو شيء ما، بينما الذي يقوم برحلة «سفاري» هو غالبا في طريقه إلى جو وحشي غريب عنه يركب جملا أو حمارا أو عربة ذات دفع رباعي ويتفقد الأشياء ماشيا على قدميه أو صاعدا تلا أو كثيبا، ويبيت في العراء داخل «شنطة نوم
Sleeping bag » ينحشر داخلها، وهي وإن كانت تحميه من هوام وحشرات إلا أنها غير صحية لأسباب يعرفها من عاناها أولها الشعور بالقيد كمومياء محنط ... ومع ذلك فإن السفاري جزء هام من الرحلة توقعا لليلة يقضيها مع البدو في غناء وعشاء وصمت مطبق وقبة سماوية رائعة ترف بالناس إلى عالم سحري لا يرونه إلا فيما ندر.
دروب السفاري كثيرة
وهناك طرق سفاري قصيرة وأخرى طويلة. سيناء الجنوبية مليئة بالسفاري القصيرة لمائة كيلومتر - تزيد أو تقل - تخرج من شرم ودهب وغيرهما إلى أقدام الكتلة الجبلية الشماء في سانت كترين، وفي البحر الأحمر سفاري أطول أو أقصر مثل الذهاب إلى دير الأنبا بولس أو الأنبا أنطوان، أو الشيخ الشاذلي، وسفاري طويلة عبر الجبال غربي الغردقة أو من القصير إلى الأقصر ومن مرسى علم إلى وادي الجمال أو إلى النيل عند إدفو أو كوم أمبو، أو عبر وادي العلاقي إلى أسوان وبحيرة السد العالي.
أما الصحراء الغربية فهي مليئة بكل أشكال السفاري من الشمال والجنوب والشرق والغرب وكل زوايا البوصلة الأرضية. فمن مطروح إلى سيوة والبحرية والفرافرة والداخلة والخارجة والأقصر خط معروف ممتد مئات الكيلومترات مطروق للسياحة وبخاصة السياحة الألمانية، أو من الخارجة جنوبا إلى باريس ودوش وشرق العوينات وتوشكى وأبو سمبل، أو من الداخلة إلى أبو بلاص والجلف الكبير ووادي عبد الملك ووادي مصورات ومسننات جبل العوينات وفوهات ضخام ناجمة عن ارتطام النيازك وربما المذنبات الفضائية من ملايين السنين، أو بالأمس القريب في رمال الصحراء عند أركنو، أو من الداخلة والخارجة إلى أسيوط، ومن الداخلة إلى غرب الموهوب وأبو منقار وجنوب بحر الرمال الكبير حيث الجفاف على ظهور الحيتان الرملية يمتص رطوبة كل شيء بما فيه هبة ريح تاركا أي كائن بيولوجي جلد على عظم! أو من سيوة جنوبا إلى أطراف بحر الرمال الشمالية، أو من الفرافرة إلى عين ضاله أو داله إلى وسط بحر الرمال أو إلى الصحراء البيضاء والصحراء السوداء في الرحلة ما بين الفرافرة والبحرية، أو من البحرية إلى الفيوم والريان ومنها إلى البهنسا أو من قارون إلى منخفض القطارة الهائل ومن ثم إلى الساحل عند ميدان المعارك الكبيرة في العلمين، أو تنتقل من واحة سيوة العامرة إلى واحة قارة أم الصغير المنعزلة التي كانت تائهة في عالم من النسيان والأحلام، أو تطرق دروب التهريب من سيوة وجنوب السلوم إلى واحة جغبوب وعالم ليبيا والسنوسية، أو تحاذي في أحيان غرد أبو محرك ذلك الكثيب الطولي الذي يمتد 500 كيلومتر من شمال البحرية إلى الخارجة ونيل النوبة القديم ... ودروب ودروب بعضها مرصوف ومعظمها دقته الأقدام في رحلات آلاف السنين ...
أطياف وأحلام على أرض الواقع
هذه هي أراض الأحلام للسياح - الأرض الغريبة بما فيها من رمل وحجر وحرارة تلهب الرءوس، وجفاف يعتصر رطوبة الوجه والجسم، وبرودة منعشة في ليال مقمرة، وطعام جاف وشربة ماء مقننة. وربما يتوه الفكر في ظلمة ليل يلفه عالم غير مرئي مليء بالسحر والسحرة والعفاريت والجن النادر من ضحكات ضبع تائه وتغريد طير على شفى الموت ... هذا هو العالم الذي جاءوا من أجله، فقد أصابهم الملل من حياتهم النمطية المتكررة ، وأحبطتهم بيئتهم المدنية النظيفة، وقواعد الآداب والسلوك حتى اختنقوا داخل أسوار غير مرئية لا يفكرون إلا من خلالها ولا ينظرون إلا من فتحات ضيقة، بينما هنا في أحضان بكر الأرض هم أحرار بكل المعنى، تتفتح أذهانهم على مبادآت وتعن لهم فلسفات وينظرون للعالم من خلال فضاء لا نهائي يتسع لكل شيء ولكل دقة في القلوب؛ عالم مسحور، تحول ترانسندتالي، جسم بلا جاذبية أرضية، مادة بلا أوزان، هباءة تسبح مع هبات ريح فوق أديم لا أرضي من صنع لحظة خيال فوقية ...
هؤلاء سياح من نوع آخر نرجو أن نستقطبهم ليس في فنادق النجوم الكثيرة بل في فنادق الطبيعة تحت قبة السماء، والمطلوب تجهيزات شديدة البساطة أهمها قليل من الماء وكثير من مضادات القرص والسموم في محطات معروفة، فليس بعدك يا روح برغم التحولات الترانسندنتالية روح!
هؤلاء حين يعودون مفعمين بالتجربة النادرة هم سيكونون أكثر الدعاة حماسا لمثل هذه الرحلات إلى مصر السفاري ومصر التاريخ ومصر الطبيعة أكثر من شركات ومكاتب السياحة. عرفت شبابا في ألمانيا والنمسا يذهبون إلى مملكة نبال؛ لأنها جبال وحشية وناس مختلفي النزعة والديانة وتكريم للسياح ومصداقين لبرامجهم المعلنة سواء بالنسبة للفنادق أو الزيارات. ولو كانت هناك أوراق تصف السياحة والسفاري المصرية على أنها تجربة متعة طبيعية روحية معا لوجدنا نتائج أفضل، ويزيد الفضل لو كانت مصداقية مكاتب السياحة المصرية عالية يحكى عنها على أنها نموذج طيب للمعاملة غير مقصر في تنفيذ برامجه المعلنة. وبعد فإن السفاري هي جزء من كل في صناعة السياحة، والتحسن في فرع من السياحة سوف يؤدي إلى سمعة طيبة تساعد على نمو مواز في فروع أخرى، مثل السياحة العلاجية أو غيرها مما يتفتق عنه فكر الرواد في المجالات السياحية.
أرقام جامدة
وللمقارنة نجد أنه في 2004 بلغ عدد السياح إلى مصر 5,7 ملايين سائح أنفقوا نحو 6,3 مليارات دولار، في مقابل 17 مليون سائح في تركيا ومدخول سياحي 7,6 مليارات دولار. فرنسا أكبر دولة تستقبل السياح في تلك السنة حيث بلغ العدد 75 مليون سائح ومدخول نحو 31 مليار دولار ، وإسبانيا 53 مليون سائح ومدخول 51 مليار دولار، وإيطاليا 37 مليون سائح ومدخول 38 مليار دولار. وبرغم أرقام السياحة ومدخولاتها إلى مصر فهي في المرتبة ال 30 من حيث عدد السائحين، وهي في المرتبة 25 من حيث الدخل السياحي. كما أن هذا الدخل يساوي 5٪ من الناتج المحلي العام لمصر عام 2004 والبالغ 78,8 مليار دولار وعلى الأغلب هو أعلى قليل من صادرات النفط والغاز المصرية. فهل نأمل في زيادة عدد السياح والمدخول إلى نحو الضعف في بضع السنوات القادمة، هذا إذا لم يحدث عمل إرهابي يؤدي إلى نكسة سياحية عددا ومدخولا - لا قدر الله.
إلى الشباب: اعرف نفسك
وربما تكون هذه الأرقام والنسب حافزا على زيادة الاهتمام بالسياحة الخارجية من ناحية، ولكني من ناحية أخرى أرى ضرورة تنشيط السياحة الداخلية كي يعرف الناس كم هي كثيرة أوجه الجمال ومصادر الثروة بالحركة داخل الدولة. وقد لا يتأتى ذلك باستمرار إنشاء الفنادق الغالية بل المتوسطة الآمنة صحيا حتى تكون في متناولنا ومعظمنا ذوي دخول محدودة. وأدعو بإلحاح الأندية المختلفة إلى تنويع نشاطها الاصطيافي بإنشاء نشاط شتوي إلى الأماكن البرية المصرية في الصحاري والواحات وجبال البحر الأحمر وسيناء. على أن مثل هذا النشاط هو على الأغلب موجه للشباب فهم حقا في حاجة إلى اكتشاف مصر وإمكانتها، والأكثر اكتشاف أنفسهم وقابلياتهم لتقبل الجديد، مما يحفز الطموح بديلا للخمول الحالي في مماشي الجامعات وعلى كراسي المقاهي ...
الفصل السادس
مسألة المياه في مصر
(1) جيوبوليتيكية المياه كمؤسس سياسي في مصر والشرق الأوسط
1
في الماضي لم تكن هناك أزمة مياه في مصر والشرق الأوسط لسببين: (1)
أن الظروف المناخية كانت أرطب نسبيا من الجفاف الشديد الحالي. (2)
ميزان التناسب بين أعداد السكان والنمط الحياتي الاقتصادي والسكني من ناحية ومياه النيل من ناحية أخرى كان يميل غالبا إلى التناسب، ومن ثم وفرة في المياه بغض النظر عن سنوات انخفاض أو ارتفاع الفيضان في سنوات محدودة بالقياس إلى النظام المائي المعتاد معظم السنوات. بمعنى أن عدد السكان كان أقل كثيرا مما هو الآن وأن احتياجات المياه الحالية أصبحت متعددة بين الزراعة والصناعة والسكن المدني المتزايد، مما يستدعي إمداد أنابيب طويلة ومحطات دفع وأحواض تنقية وترع ورياحات وقناطر وسدود، وفوق ذلك احتياج للري الدائم موسمين زراعيين أو أكثر، بينما كان النشاط الزراعي في الماضي مرتبط بري الحياض كاستجابة لمعطيات نظام النيل الطبيعي وزراعة موسم واحد بعد الفيضان.
وبعبارة أخرى فإن المصري في ستة آلاف سنة كان - عددا ومجتمعا - متلائما حياتيا ومتكيفا بيئيا مع طاقة نهر النيل، ولكن منذ قرن ونصف تغير هذا التكيف بتغير كافة الموارد الحياتية تقنيا واقتصاديا وهندسيا وعدد السكان. وهذا هو ما ولد أزمة المياه التي نعيشها الآن. فالعنصر الطبيعي ثابت - النيل، بينما العنصر البشري متغير ويطلب المزيد من النهر هو غير قادر على تلبية هذا المطلب - ناهيك عن متغيرات دول حوض النيل التي أصبحت في حاجة لنصيب من مياه تجري على أرضها. هذا وذاك في زمن نعاصره الآن يتسم ببدايات تغير مناخي يميل إلى مزيد من الجفاف وتراجع كمية المطر المغذية لمنابع النيل في الهضبتين الحبشية والاستوائية معا. والتغير المناخي لا حيلة لنا أمامه ولكن جانب منه يعود إلى استفحال الإنسان في المزيد من النشاطات المؤدية إلى زيادة غازات ضارة في الجو ترفع درجة الحرارة عالميا مما يعرف «بمناخ الصوبة» بين المتخصصين.
وفي أحيان كانت هناك أزمات إغراق نتيجة فيضانات عاتية وأمطار غزيرة سجلها التاريخ في حضارات بلاد ما بين النهرين - العراق الحالية، وورد ذكرها في العهد القديم والقرآن الكريم عن الطوفان العظيم في عهد نوح عليه السلام. وبالمثل كانت هناك سنوات جفاف عن المتوسط المعتاد مما يؤدي إلى هجرات الجماعات، كما ورد ذلك في آيات قرآنية عن السنوات السمان والعجاف في مصر في قصة سيدنا يوسف، وكذلك في نقش على «حجر المجاعة
Famine Stela » يبين حزن الملك زوسر - صاحب الهرم المدرج بسقارة في نحو 2800ق.م - لمعاناة الناس من المجاعة التي دامت بضع سنوات.
ولا شك أن مناخ الشرق الأوسط قد تغير تدريجيا خلال العصور التاريخية إلى الجفاف مما دعا الناس إلى التزاحم حول الأنهار الكبرى والصغرى: النيل، الفرات ، العاصي، الأردن، وعشرات الأنهار الصغيرة التي تجري مياهها موسميا وتنتهي إلى البحر المتوسط، ومنها ومن الأمطار تروى الزراعات المعتادة في السهل الساحلي لشرق المتوسط في سوريا ولبنان وفلسطين الحالية. ومع تكثيف الزراعة والتجارة المحلية والإقليمية والدولية - آنذاك - زادت الوفرة ومعها زادت أعداد السكان وزاد الطلب على الماء، وزادت الهجرات الجماعية في صورة أشبه بالغزوات، ومن ثم ظهرت المشكلات السياسية والحروب المستمرة.
ومن يعرف التاريخ المصري القديم لا يجد ملكا مصريا لم يذكر في سجل تاريخه المكتوب حرب بين جيش مصر والبدو الغربيين والشرقيين وزنوج الجنوب، الذين يزحفون كجماعات سياسية لاحتلال مصر - الهكسوس - أو جزء من الدلتا بوجه خاص - الطحنو والتمحو من بربر الغرب ومجموعات عديدة من بدو آسيا الغربية وهجرات شعوب البحر القادمة من بلاد الإغريق إلى سواحل مصر وبرقة.
2
ولضيق طريق الجنوب وتحدده بمسار النيل فقد كان للفراعنة منذ القدم أمراء محاربون وتجاريون في أسوان، وحصون وأسواق إلى الجنوب منها وبخاصة سمنه وقمة في شمال السودان الحالي جنوب مدينة وادي حلفا بقليل.
3 (1-1) المياه والأمن للجميع أم للقوة؟
في الوقت الحاضر زاد أمر المياه سوءا بوجود إسرائيل واحتياجها إلى ماء نهر الأردن على حساب سوريا والأردن، وعلى حساب المياه الجوفية في دولة فلسطين المستقبلية. وتستخدم إسرائيل معامل قوتها المحلية - العسكرية وتفوق السلاح - والدولية - الدفاع المتشدد عن إسرائيل في كل المحافل الدولية الأمنية والسياسية والثقافية،
4
لفرض تسويات حساباتها الأساسية المبنية على ضمان أكبر قدر من المياه تستطيع الحصول عليه بعد إعادة الوضع السياسي قريبا مما كان عليه قبل حرب 1967. والتسويف والمماطلة في الموافقة على إعلان دولة فلسطين هو - من بين أشياء أخرى - في مقابل الاعتراف «بحقوق» إسرائيلية في مياه الضفة وغزة. فالمياه الجوفية هي أكثر أهمية للمستوطنات التي أنشئت في الأرض العربية. بطبيعة الحال ليست المياه بمسماها الصريح هي كل شيء في السياسة الإسرائيلية، لكنها دائما هي ركن أساسي فيما تعلنه دائما عن مقتضيات أمن إسرائيل. فالمستوطنات في حاجة للماء، وإلى طرق آمنة تربطها بإسرائيل، وإلى سكان يتعايشون في تنظيم شبه عسكري في نقاط عديدة على طول غور الأردن وداخل هضاب الضفة، وهو ما يقطع أوصال السيادة الفلسطينية على مجمل أراضيها. فهل المياه حق للناس داخل سيادة دولتهم أم هي رهن الدولة الأقوى القادرة على فرض الشروط؟ وكيف تكون دولة فلسطين بهذا الوضع مخترق السيادة؟
وليس معنى هذا أن إسرائيل، وحدها، هي التي أدخلت حسابات سياسية في مياه الشرق الأوسط. فهناك المشكلات الناجمة عن إنشاء السدود التركية على أعالي الفرات والدجلة، وحبس قدر كبير من مياه النهرين لفترة بناء السدود عن سوريا والعراق، معتمدة في ذلك على القوة وسياسة الأمر الواقع من ناحية، وانهماك الدول العربية في قضايا العرب وإسرائيل من ناحية ثانية.
وهناك التحسبات الكثيرة حول مشروعات دول أعالي النيل لإقامة سدود على النيل من أجل التنمية الزراعية وتوليد الطاقة. أوغندا ترغب في تعلية سد أوين على مخرج النيل من بحيرة فكتوريا لإنتاج مزيد من الطاقة نحتاجها للتنمية الاقتصادية، وري بعض مئات آلاف الأفدنة. وإثيوبيا تخطط لبناء مجموعة من السدود الصغيرة - نحو مائتي سد - على النيل الأزرق وروافده العديدة، وعلى نهري البارو والبيبور رافدا نهر السوباط من أجل مشروعات زراعية صغيرة وكبيرة، جملة مساحتها المقدرة تخطيطا تبلغ نحو ستة ملايين من الأفدنة. فما هو موقف مصر والسودان إزاء هذه القضايا باعتبارهما دولتي مصب؟ وأين يقف مجلس وزراء الري لدول حوض النيل
5
من مثل هذه الموضوعات؟
وعلينا في مصر والسودان ألا نتخوف كثيرا من هذه المشروعات؛ لأن الاحتياجات المائية للزراعة في مثل هذه المناطق الممطرة لن تكون مماثلة لاحتياجات الزراعة في مصر والسودان الشمالي، بل أقل كثيرا، وبرغم ذلك فالحذر واجب خاصة ما تردد عن اشتراك إسرائيل - ولو بالخبرة والتخطيط - في مثل مشروعات أوغندا، وإثيوبيا بوجه خاص للتأثير المعروف للروافد الحبشية على مائية نهر النيل شمال الخرطوم.
6
ففي 1990 علمت مصر بوجود مهندسين من إسرائيل في إثيوبيا يخططون لإنشاء ثلاثة سدود على النيل الأزرق، فأبلغت إثيوبيا أن مصر ستعد هذا المخطط بمثابة إعلان حرب. وفي 1991 عقد السودان وإثيوبيا اتفاقية للاستخدام المشترك لمياه النيل مع إنشاء سدود على منابع النيل الإثيوبية. أعلنت مصر أنه في حالة تناقص حصتها من المياه فسوف ترد عسكريا ضد هذه المنشآت. وتروج الدول الغربية وأمريكا إلى فكرة أخرى تجنبا للصراع هو القيام بأعمال مشتركة لصالح دول أي حوض نهري واحد - ولكن حيث أن معظم دول العالم الثالث فقيرة، فالمقترح أن تتم الأعمال المشتركة من خلال مؤسسات دولية وبالأخص البنك الدولي. لكن ذلك في رأي الدول المعنية هو تدخل وضغط القوى الكبرى ضد مصالح بعض دول الحوض النهري لصالح واحدة من دوله أو عقاب أخرى. ويرى الكثيرون من محللي السياسات أن المؤسسات الدولية فعلا تقوم بإحداث قلقلة اقتصادية اجتماعية، وبعض هؤلاء يعتقدون أن تلك المؤسسات لا تعمل شيء سوى خلق الصراع بين الدول، وينطبق هذا تماما على حوض النيل!
7
ومرة أخرى فليس معنى هذا أن التداخل السياسي في موضوع المياه مرتبط فقط بالعلاقات بين الدول العربية والدول غير العربية في الشرق الأوسط. فهناك اختلافات ونزاعات بين الدول العربية وبعضها البعض حول المياه. مثال ذلك النزاع العراقي السوري حول مياه الفرات، أو عدم الوضوح حول أنصبة سوريا والأردن من مياه اليرموك. وهناك أيضا المطلب السوداني حول إعادة تحديد حصة السودان من مياه النيل التي نصت عليها اتفاقية 1959 بين مصر والسودان. وهذا المطلب تلح عليه دوائر سودانية معينة، ويحظى بتعاطف دوائر أجنبية من أجل مزيد من التنمية الزراعية. والتنمية الزراعية السودانية صيغة مبهمة تتناول أماكن وأقاليم الكثير منها لا تتعلق بمياه النيل. وسوف نخصص لهذا الموضوع بعض هذا البحث فيما بعد، وإن كان ذلك لا ينفي حق الدول في إيجاد الطرق والوسائل من أجل التنمية. (1-2) هل مشكلة المياه موضوع مؤجل؟ أم يجب أن يكون ضمن نسيج المشكلات السياسية؟
باختصار فإن المياه يجب أن تأخذ حيزا من سياسات دول المنطقة أكبر مما هو عليه الوضع الحالي. البعض يرى أن هذه مشكلة مؤجلة مقابل المشكلة السياسية مثل مشاكل الحدود واستعادة الأراضي السلبية وإقامة الدولة الفلسطينية وتأسيس السلام مع إسرائيل. صحيح أن المشكلات السياسية لها بريق أكبر؛ لأنها تمس الكيانات الوطنية والقومية، ويحس بها الداني والقاصي داخل الشرق الأوسط وخارجه، وصحيح أيضا أن مشكلات المياه تعتمد في أساسها على المعرفة التكنوقراطية التي لا تدخل تفصيلاتها الوجدان العام كالمشاكل السياسية. لكن برغم ذلك فإن المياه موضوع مزدوج الأهمية للتكنوقراطي والسياسي معا. وليس بوسع السياسي أن يخوض المشكلة دون التسلح برأي الخبراء وخياراتهم في حدودها العليا والدنيا، بحيث تسمح للسياسي بمساحة للمناورة أثناء المفاوضات. هذا إلى جانب استخدام السياسي لواقع الأمور المشاركة في زمن التفاوض، كميزان القوة العسكرية أو متى يكون التشدد أو الحلول الوسطى، وحسن استخدام الظروف الدولية لتكوين جبهة متعاطفة - الأحسن أن تكون مساندة - وغيرها من الأمور.
وثمة حقيقة يجب أن ندخلها في الحساب العلمي. فبعيدا عن العواطف والمشاعر القومية يجب ألا نتكلم عن المياه العربية فقط، إلا إذا اقتصر الأمر على المياه الجوفية من الأحواض الكبرى كحوض الحجر الرملي في مصر وشمال السودان، أو الطبقات الحاملة للمياه في الجزيرة العربية، أو مجموعة من الأنهار الصغيرة التي تنبع وتنصرف داخل البلاد العربية، كأنهار الليطاني والأولى وإبراهيم والكبير ... إلخ، في لبنان، أو غالبية روافد الدجلة داخل العراق. أما الأنهار الكبرى فهي جزئيا عربية، وخاصة في مساراتها الوسطى والدنيا، بينما أعاليها ومنابعها تجري في بلاد غير عربية في الشرق الأوسط بصفة عامة. ومعظم الخطاب المعاصر والمستقبلي حول مشكلة المياه ينصب على مياه هذه الأنهار الدولية، لأهميتها البالغة لعدد كبير جدا من سكان البلاد العربية في الشرق الأوسط. كما أن نهر الأردن، برغم صغره، يندرج تحت هذه الفئة من المشكلات المائية السياسية.
ومن هنا فإن هناك ضرورة أن تشكل وزارات الخارجية العرب إدارات قوية للمياه بالاشتراك مع وزارات المياه وتلك مختصة بالمياه كالزراعة والري والبيئة. مهمة هذه الإدارات إعداد مخططات للتفاوض مع دول المنابع للأنهار الدولية.
فعلى مصر والسودان أن تأخذا المبادأة بالتفاوض مع دول المنابع الاستوائية ومع إثيوبيا وأوغندا بوجه خاص للتوصل إلى اتفاقية شاملة حول مياه النيل. فهناك مقترحات مصرية من أجل تحويل بحيرة ألبرت إلى خزان كبير بحكم أنها المجمع الأساسي للمياه الاستوائية. ويرفد هذا المقترح مشروع قناة جونجلي المتفق عليه بين مصر والسودان، لإنقاذ جانب من المياه الاستوائية من الضياع بالبخر والتبعثر والنتح في منطقة السدود في جنوب السودان.
هذا إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار حاجات الدول الاستوائية، وبخاصة أوغندا، من مياه النهر من أجل التنمية البشرية والاقتصادية وتأمينها ضد موجات الجفاف التي تصيب أفريقيا في بعض أحيان. لكن لأوغندا أفضلية أخرى. فهي لا تميل إلى مشروع بحيرة ألبرت؛ لأنها مناصفة مع جمهورية الكنغو بينما هي تحتاج مشروعا ضمن سيادتها الكاملة، كما أن ألبرت تقع في شمال غرب أوغندا بعيدا عن المناطق التي تزمع تنميتها في وسط البلاد. ومن ثم فهي تميل إلى تنفيذ مشروعات على أواسط نيل فكتوريا، بالإضافة إلى مشروع رفع منسوب التخزين في بحيرة فكتوريا من أجل الحصول على الطاقة المائية وري الأراضي في المنطقة الوسطى التي هي مركز الثقل السكاني والعمراني الأوغندي. ولكن رفع منسوب مياه فكتوريا سيترتب عليه إغراق مساحات كبيرة من الجزر والشواطئ في تنزانيا وكينيا، فهل توافق الدولتان على ذلك؟ بما فيه من أعباء تكلفة نقل قرى ومدن ومواني على ساحل بحيرة فكتوريا في الدول الثلاث.
أما مشروعات السدود في إثيوبيا فتبدو أخطر تأثيرا على مياه مصر والسودان، حيث إن الروافد الإثيوبية هي التي تأتي بمياه الفيضان السنوي. وتخطط إثيوبيا لحجز مياه من النيل الأزرق وروافده لري نحو مليوني فدان في وسط شمال البلاد - وهي المنطقة التي تهددها ذبذبات المطر سنويا، وتعاني من الجفاف إذا ما تعاقبت عدة سنوات قليلة المطر. كما تخطط في جنوب غرب البلاد إلى تخزين مياه نهر البارو، رافد السوباط الأساسي لري ما يقرب من أربعة ملايين فدان. وفي مجال الخطر بالنسبة لمصر والسودان تأتي مشروعات النيل الأزرق في المقام الأول؛ لأنه هو المسئول الأول عن حالة فيضان النيل بالإضافة إلى مياه نهر العطبرة، بينما يقل تأثير السوباط على منسوب الفيضان في مصر وشمال السودان أولا: لأن جانبا من مياهه يفقد في مستنقعات مشار داخل السودان، وثانيا: أن التصريف المتبقي من مياه السوباط يتجه إلى النيل الأبيض الذي تحتجزه مياه النيل الأزرق جنوب الخرطوم. ولكن أي مشروعات تنمية زراعية على النيل الأبيض في السودان قد تتأثر بمشرعات إثيوبيا على السوباط الأعلى.
والخلاصة أن الموضوع معقد في توازناته داخل إثيوبيا. وقد يبدو أن لمنطقة السوباط أولوية تنمية لاعتبارات طبوغرافية ومناخية، بينما مشروعات النيل الأزرق أصعب تضاريسيا ولكنها تقع داخل الكتلة السكنية والسكانية الرئيسية في إثيوبيا. وعلى العموم فإن احتياجات النبات من الماء في هذه المناطق أقل مما عليه الحال في مصر والسودان، لاعتبارات مناخية على رأسها انخفاض معدلات الحرارة والتبخر ووفرة المطر في الهضبة الإثيوبية، وهو ما يدعو إلى بعض الطمأنينة في مصر والسودان، وإن كان لا يغني عن ضرورة التفاوض من أجل تخصيص الأنصبة المائية بما لا يضر المستفيد الحالي ولا يمنع إثيوبيا من تحقيق برامج التنمية.
أما نهر الأردن فهو على صغر حوضه ومائيته إلا أنه يمثل إشكالية شديدة التعقيد بين سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وإسرائيل، وحلها ينتظر حل المشكلة السياسية بين إسرائيل والعرب في الشرق الأوسط. ذلك لأنه يمثل النهر الوحيد جاري المياه في هذه المنطقة واحتياجات كل دولة من الدول سالفة الذكر هي احتياجات حيوية. ومن هنا فإن التسوية السياسية سوف تتضمن مساومات ومناورات كثيرة حول مياه الأردن، كأحد البنود السياسية شديدة الأهمية للحياة في هذه المنطقة من الشرق الأوسط والتي تتصدر القلقلة وعدم الاستقرار السياسي والتفاعلات الإيديولوجية بين التطرف والحلول الوسط التي تستقدم من القوى الكبرى، وبخاصة مشروع «خارطة الطريق» الأمريكي المشوب بالكثير من الإبهام، ومع ذلك تماطل إسرائيل في إعلان خطوات تنفيذه بمئات الحجج والحكايات!
وفي مجال النزاعات والصراعات حول الأنهار الدولية صمم الباحث «فريدريك فراي»
8
نموذجا لتحديد القوة في مثل هذه الصراعات اعتمد فيه على عناصر الاحتياج، القوة العسكرية، الموقع في حوض النهر، وأعطى لكل منها درجة من خمس درجات، فيما عدا القوة العسكرية التي أعطاها عشر درجات ليتمكن من تحليل قريب من الصحة. ويوضح الجدول التالي كيف تكون إسرائيل وتركيا ومصر هي الأقوى في أحواض الأردن والفرات والنيل على التوالي.
والملاحظ أن التقديرات التي أوردها فراي فيها تحيز لإسرائيل، كما تحتاج إلى فهم منهجه في التقييم. لكنها مع ذلك تعطي انطباعا عن الأوضاع السائدة بصورة إجمالية، وبخاصة القوة العسكرية التي تتطور هنا وهناك.
9
جدول 6-1: درجات القدرة والقوة لدول الأنهار الدولية في الشرق الأوسط وحوض النيل حسب آراء «فريدريك فراي» في منتصف الثمانينات.
الحوض النهري
الدولة
قدر الاحتياج 5 نقاط
القوة العسكرية 10 نقاط
الموقع في الحوض 5 نقاط
مجموع النقاط 20 نقطة
الأردن
إسرائيل
5
9
5
19
الأردن
5
2
2
9
سوريا
3
3
2
8
لبنان
1
0,5
2
3,5
الفرات
تركيا
5
8
5
18
سوريا
5
3
3
11
العراق
4
2
1
7
النيل
مصر
5
7
1
13
السودان
4
1,5
4
9,5
إثيوبيا
3
0,5
4
7,5 (1-3) الاحتياجات المستقبلية من المياه في البلاد العربية شرق أوسطية
لقد قدر الخبراء أن احتياجات دول الشرق الأوسط من المياه بعد نحو ربع قرن - عام 2025 (إسقاط متوسط)، تتراوح بين أقل من 100٪ وأكثر من 300٪ من مصادرها المائية المتاحة الآن، وذلك في ظل نمو أعداد السكان وثبات الدخول إلى قرابة ما هي عليه الآن. فالدول العربية التي لديها موفور من المياه يمكنها آمنة أن تستخدمه في التنمية دون الوصول إلى الحد الحرج هي لبنان وسوريا والأردن والضفة الغربية من فلسطين واليمن - وهي كما نرى البلاد التي تعيد الأمطار تغذية مياهها الجارية وينابيعها ومياهها الجوفية، ويمكن أن نضيف العراق إلى هذه الفئة التي تتوفر فيها أمطار غزيرة وثلوج مذابة في الشمال وجريان مائي عظيم القدر في نهر الدجلة على الخصوص.
أما مصر والسودان فهما الفئة الثانية التي تحتاج إلى تنمية مصادر مياهها بنسبة أقل من 150٪ من مصادرها الحالية، وإن كانت السودان أحسن حالا من مصر في هذا المجال - ولنا عودة إليهما تفصيلا. أما الدول التي تحتاج إلى مصادر تزيد ثلاث مرات أو أكثر عن مواردها المائية المتاحة فهي بلاد الخليج التي تسيطر عليها صفة الجفاف وعدم وجود مجاري نهرية، ومعظم مواردها الحالية هي من الطبقات الجوفية الحاملة للماء ومن معامل تحلية مياه البحر. تحتاج السعودية والبحرين إلى موارد إضافية بمقدار 363٪، 321٪ على التوالي، بينما تحتاج قطر والكويت إلى أكثر عشرة أضعاف ما لديها من موارد. عمان هي الوحيدة بين دول الخليج التي يقل احتياجها عن 200٪ بسبب سقوط أمطار متذبذبة الكمية سنويا، لكنها تساعد على الوفاء بقدر معقول من الاحتياجات المائية، وهي لهذا أقل دول الخليج اعتمادا على مياه البحر المحلاة. (1-4) المستخدم والمتاح من المياه
فإذا كان هذا هو الوضع المستقبلي القريب، فما هي كميات الماء المستخدمة فعلا الآن في الشرق الأوسط العربي؟ تقدير الخبراء في 1990 أن هذه الكمية تبلغ نحو 153 مليارا من الأمتار المكعبة من المياه الجارية والمياه الجوفية والمياه المحلاة. 37٪ من هذه المياه تستخدم في مصر، و28٪ في العراق، و12٪ في السودان، و10٪ في السعودية، و2٪ في سوريا، و1,8٪ في اليمن، و0,8٪ لكل من عمان والإمارات، و0,5٪ في لبنان والأردن والضفة، و0,2٪ في الكويت، و0,15٪ في البحرين، وأقل من 0,1٪ في قطر. واضح من هذا أن مصر والعراق والسودان تستخدم 77٪ من المياه المستغلة من بين هذه الدول؛ لتوفر الجريان النهري للنيل والدجلة والفرات. وهي أيضا أكثر البلاد العربية انشغالا بأعمال الزراعة. فإذا أضفنا السعودية بمياهها الجوفية نجد أن أربع دول تسيطر على 88٪ من المياه المستخدمة في المنطقة العربية شرق أوسطية. وهذه أوضاع قريبة من التناسب مع أعداد السكان. فالدول الأربع تمثل نحو 75٪ من مجموع عرب الشرق الأوسط (مصر 35٪، السودان 16٪، 12٪ لكل من العراق والسعودية).
وهذا يقودنا إلى تأكيد أن هناك فرق بين المياه المتاحة والمياه المستخدمة. وفي مجال المياه المتاحة تنقسم الدول العربية المشار إليها إلى مجموعتين: التي لديها وفرة تمكنها من تنمية استخدام الماء، وتلك التي تفتقر إلى مصادر مياه طبيعية متاحة. وفيما بين المجموعتين تقف مصر وفلسطين - جغرافيا - والأردن موقفا وسطا، بحيث تتراوح كمية المياه المتاحة والمياه المستخدمة في ميزان دقيق للغاية.
مجموعة الدول التي لديها مصادر مياه طبيعية - سواء كانت مصادرها من الأمطار أو المياه الجارية في الأنهار أو هما معا - هي السودان والعراق وسوريا ولبنان واليمن. هنا أمطار موفورة وجريان نهري - باستثناء اليمن. الماء المتاح في السودان هو نحو 73 مليارا - كمية المياه التي تجري إلى مصر ليست ضمن هذا القدر، وكمية المياه المستخدمة هي نحو 15٪ فقط من المياه المتاحة. وفي العراق 81 مليارا من المياه المتاحة يستخدم منها نحو 52٪. وفي اليمن خمسة مليارات يستخدم منها نحو 55٪. وفي سوريا نحو 25 مليارا أقل من 20٪ منها هو القدر المستخدم فعلا. وأخيرا تتوفر للبنان نحو ثمانية مليارات من الماء سنويا لا يستخدم منها سوى نحو الثمن فقط، هذه الأرقام التقريبية تعطي انطباعات أولية عن عظم الإمكانات المائية في هذه الدول، ولكن علينا أن ندرك أن الكثير من ظروف التضاريس وأنواع التربة وجيولوجية الصخور وحرارة الشمس مسئولة عن فواقد كثيرة بالتسرب أو التبخر، كما أن المنحدرات الجبلية الشديدة لا تمكن من استخدام مياه الأمطار والأنهار بسهولة. وعكس ذلك تماما الأراضي شديدة السهلية قليلة الانحدار التي تؤدي إلى تكوين مستنقعات هي أشد مصايد الماء فقدانا للمياه بالتبخر وامتصاص النباتات البرية، مثال ذلك المستنقعات الشاسعة في جنوب السودان وجنوب العراق. أما الأنهار الجبلية في لبنان وشمال غرب سوريا فتندفع مياهها فترة سقوط المطر نحو البحر، أو تغور بعض هذه المياه - ظاهرة الكارست - لتعود للظهور، إما في صورة ينابيع فوارة أو مغارات بحيرات وتكوينات النوازل والصواعد
Stalactite & Stalagmite ، كونتها المياه نقطة نقطة بما فيها من رواسب مذابة عشرات آلاف السنين في صور جمالية لا تنسى - أشهرها مغارة جعيتا، أو في صورة بعض المستنقعات الصغيرة المنتشرة على طول حافة الجبال في سهل البقاع من منابع العاصي في شمال لبنان إلى الحولة في شمال إسرائيل، والتي جففت بتكلفة عالية وأصبحت أرضا ذات إنتاج مقبول. وأخيرا فإن الحرارة الشديدة مسئولة عن تبخر نحو +عشرة مليارات من مسطح بحيرة السد العالي، فضلا عن نحو خمسة مليارات تفقد بالتبخر من مسار النيل بين الخرطوم وبحيرة السد. (1-5) كيفية المحافظة على توازنات رصيد المياه الآمن؟
هذه الصورة القائمة ليست مما يدعو إلى اليأس، هناك عدة ضوابط يجب مراعاتها من أجل زيادة فعالية المياه المستخدمة، نذكر منها الضوابط الرئيسية الآتية التي تمكن الدولة من استخدام جزء من المياه المفقودة عمليا دون إجهاد مالي ودون إضرار بالرصيد المائي، حتى لو كان هذا الرصيد صغيرا. (1)
حسن إدارة المياه بالتدرب على وسائل تقليل الاستهلاك في الزراعة والصناعة واستخدام البشر في المدن والقرى. (2)
زراعة محاصيل غير نهمة للماء، وأخرى متوافقة مع احتياجات مائية قليلة متناسبة مع ظروف المناخ. (3)
تنمية موارد الماء بصورة علمية في المناطق التي تؤهلها ظروفها الطبيعية والبشرية لذلك، دون مصادمات مع عناصر طبيعية سلبية، كمناطق الحرارة العالية والتبخر الشديد، أو مناطق الصخور ذات المسامية العالية، مما يؤدي إلى فقدان المياه بالتسرب إلى جوف الصخور. (4)
في مشروعات التنمية الزراعية يفضل استخدام سدود وقناطر وإدارة مياه متناسبة مع قدرات موازنة الدولة، بحيث لا تؤدي إلى إنهاك الموارد المالية أو إلى الدين العام الداخلي والخارجي، وبعبارة أخرى فإن مشروعات التنمية المتوسطة والصغيرة قادرة على جذب مبادآت الأفراد، ومن ثم تضمن توفير عمالة أكثر من المشروعات الكبيرة - العملاقة في المصطلح المتردد كثيرا في هذه الآونة، كما أنها - إذا فشلت لسبب أو آخر - فهي أقل خسائر في رأس المال والبنية الأساسية التي تخدمها.
وبالرغم من أن مشروعات التنمية المائية الكبرى هي حق مشروع داخل إطار سيادة أي دولة، وقد تصبح في مستقبل محدود إرثا حسن الناتج، فإنه من المستحسن ألا تكون هي النمط السائد في التنمية. ذلك أنه في المشروعات الضخمة تتداخل عوامل كثيرة غير محسوبة أثناء التنفيذ، مما قد يؤدي إلى تعثر المشروعات أو إتمامه بتكلفة عالية غير مرصودة، مما يخل بالقصد من وراء التنمية. كما أنه ليس من المستحسن أن تكون المشروعات المائية كبيرة القدر حتى لا تأتي على الرصيد المتبقي من المياه للدولة، وهو أمر يجعل من الصعب إجراء مشروعات أخرى ضرورية وحيوية في المستقبل، وفي مصر الآن مشروعات من هذا النوع في توشكى وشمال سيناء ربما أدت إلى استهلاك كبير في وفورات الموارد المائية المتاحة حاليا - إذا وجدت!
وكذلك فإن مشروعات الاستيطان الإسرائيلية الكثيرة التي تنشأ لأغراض عسكرية غالبا ما قد تؤدي إلى سرعة تآكل رصيد المياه الجوفية في هضاب فلسطين الوسطى، مما قد يترتب عليه كوارث بشرية وبيئية تؤدي إلى انقطاع العمران وتكوين قرى «أشباح ». وقد تلجأ إسرائيل إلى عملية تحلية المياه ذات الملوحة في بحيرة طبرية والبحر المتوسط - وهي بالقطع عملية عالية التكلفة. وإذا كانت إسرائيل قادرة على تكلفة التحلية أو استيراد مياه من تركيا، فما هو الحل بالنسبة لعرب الضفة وغزة بعد أن تنضب موارد المياه الجوفية نتيجة الاستنزاف الإسرائيلي؟
ومن المعروف أن المياه الجارية في الأنهار هي أرخص أنواع المياه المستخدمة، بينما تكلفة الحصول على المياه من مصادر أخرى هي أضعاف تكلفة مياه الأنهار. مثلا المياه الجوفية العميقة هي خمسة أضعاف تكلفة الحصول على ماء النهر. ويتكلف نقل الماء بواسطة الأنابيب ثمانية أضعاف مياه النهر، أما تحلية مياه البحر فهي أغلى أنواع المياه وقد تصل إلى نحو +مائة مرة قدر تكلفة الحصول على مياه النهر. ومن ثم فإن المحافظة على مياه الأنهار ضرورة بالغة الحيوية. فكم تتكلف الزراعة على مياه الأنهار بالقياس إلى الزراعة على المياه الجوفية؟!
10
وكم نفقد من المياه المصرية في الزراعة والصناعة، وتسرب مياه الشرب في المدن نتيجة عيوب الأنابيب الرئيسية والاستخدام الجائر للناس؟ لماذا لا تعيد الصناعة استخدام المياه بعد معالجتها، ولماذا لا نكثر من استخدام مياه الصرف المعالجة في ري الحدائق ونظافة الشوارع؟ الموضوع حيوي بالقياس إلى محدودية الموارد المائية في مصر. ومرة أخرى أعيد ما سبق نشره عن ضرورة الدعوة إلى رفع شعار «إدارة الماء الآن قبل أن يفوت الأوان!» (1-6) النيل في مصر والسودان
نتكلم كثيرا عن الروابط الخاصة بين مصر والسودان ونسميها روابط الأشقاء. وقد يختلف الأشقاء أحيانا لكنهم سرعان ما يتخطون الخلاف. ونهر النيل، أو النيل الخالد هو العمود الأساسي في هذه العلاقة - كما لو كان أرضا أو «حمى» متوارثا لعشيرة واحدة.
لكن ذلك لا يعني وجود مصالح خاصة جنبا إلى جنب المصالح المشتركة. فالمساحة كبيرة، واختلاف النظم الاقتصادية كبير في داخل السودان، مما يستدعي احتياجات مختلفة القدر من المياه في كل إقليم سوداني على حدة.
وبصورة عامة فإن السودان الشمالي من نحو عرض الدويم/ود مدني جنوب الخرطوم بقليل حتى الحدود مع مصر ، هو أشبه أقسام السودان بمصر من حيث الاعتماد على النيل بالدرجة الأولى، والقليل من الأمطار التي تمكن القبائل الرعوية من الحياة خارج إطار النيل. ولكن كل شيء معكوس، فأرض الجزيرة السودانية بين النيلين الأزرق والأبيض هي بمثابة الدلتا المصرية - هي الجنوب بينما في مصر هي الشمال. والوادي عندنا في الجنوب بينما الوادي السوداني من شمال الخرطوم إلى حلفا هو الشمال، ومع انعكاس الترتيب الجغرافي إلا أن كل شيء متشابه: الجزيرة مركز ثقل سكاني اقتصادي مماثل للدلتا منذ آلاف السنين، والوادي السوداني مماثل للصعيد المصري في ضيقه، وإن اختلف في استمرار أماكن قدراته الإنتاجية التي تتكون من أحواض وسهول منفصلة عن بعضها كمنطقة شندي ومنطقة عطبرة وأبو حمد ومروى وسهل دنقلة، كلها تفصلها مناطق شديدة المحدودية قليلة الإنتاجية. ثم تأتي منطقة الجنادل في بطن الحجر وإقليم المحس والسكوت مماثلة نسبيا للنوبة المصرية القديمة، ومناطق شمال أسوان حتى حوض كوم أمبو في فقر الأرض، وضيقها بين حافات الصحاري والجبال.
أما القسم الأوسط من السودان: فهو أقل اعتمادا على النيل، إما لانحدار مياه النيل الأزرق بقوة - روضها سد الرصيرص، وإما لابتعاد الناس عن النيل الأبيض لعدم تحدد مجراه بين الانخفاض والارتفاع حسب المواسم، ومن ثم فهو يغرق مساحات كبيرة خلال موسم فيضان النيل الأزرق، ويغيض عنها في الشتاء. وحياة الناس في هذا القسم من السودان تتراوح بين الرعي بصورة واسعة تمتد إلى كردفان ودارفور، والزراعة المحدودة على الأمطار الصيفية في جنوب إقليم الجزيرة وفي جبال دارفور، وزراعات مكثفة قرب ضفاف النيل الأبيض وجزره الطولية العديدة التي من أشهرها جزيرة أبا الغنية بما ينفقه آل المهدي من تجهيزات وجهد كبيرين.
أما القسم الجنوبي من السودان: فممطر بوفرة ومليء بالجريان النهري العديد، مما يؤدي بالجزء الأوسط منه إلى تكوين مستنقعات شاسعة تعرف باسم إقليم السدود التي تفقد فيها غالبية المياه التي تأتي من هضبة البحيرات وبحر الغزال. وهنا كان يجري حفر قناة ونجلي لتوفير بضع مليارات من مياه بحر الجبل (4 إلى 6 مليارات)، لكن المشروع توقف في الثمانينيات نتيجة حرب الجنوب الطويلة. واحتياج السكان هذا القسم الجنوبي لمياه النيل وروافده محدود جدا - سواء في المناطق المنخفضة أو المرتفعات التي تحيط ببحر الغزال - فالمنطقة تشكو الإغراق وليس الجفاف، وكلاهما مضاره بالنسبة للبشر ليست بالشيء الهين (انظر الخريطة
6-1 ).
وفي هذا المجال يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن استمرار نمط حياة الرعي لقبائل إقليم السدود، وبخاصة الدنكا والنوير، هو واحد من العوامل التي تجعل هذه القبائل تنظر إلى مشروع قناة جونجلي نظرة سلبية؛ لأنه سوف يقوض أسس الحياة التي درجوا عليها مئات السنين؛ لهذا فالواجب أن تضيف الدولة، بعد انتهاء الحرب الأهلية، مشروعات تنمية بشرية تساعد النوير والدنكا على إعادة تشكيل حياتهم الاقتصادية إلى نمط آخر، فبدلا من القيمة الاجتماعية للأبقار يمكن أن تصبح لها قيمة سوقية - سواء في ذلك تجارة الحيوانات الحية أو اللحوم. لكن ذلك يحتاج أيضا إلى خدمات النقل الحديث لكي يمكن نقل الماشية بالسرعة المطلوبة إلى الأسواق الداخلية والخارجية.
وأخيرا ظهر البترول في منطقة إيبي شمال منطقة السدود وبخاصة قرب التقاء بحر الغزال ببحر الجبل، لكن من المعروف أن صناعة إنتاج البترول لا توفر سوى نشاط اقتصادي محدود العمالة مما قد لا يكون له أثر كبير في التحول الاقتصادي للرعاة التقليديين. ولكن ربما يمكن أن تقام بعض الصناعات على البترول، مثل تكرير بعض الخام وما يلي ذلك من صناعة بتروكيماوية محدودة قد تساعد على تشكيل أنماط أخرى من النشاط تستخدم أعدادا لا بأس بها من السكان، سواء عند منطقة الآبار أو شمالها في جبال النوبا أو جنوبها في حوض بحر الجبل وحوض بحر الغزال، مع تقوية وتحديث خط حديد كردفان-واو في بحر الغزال الأوسط وإنشاء طرق نقل أخرى صالحة لكل جواء في جنوب السودان. (1-7) اتفاقيات المياه بين مصر ودول حوض النيل
نظمت اتفاقيتا 1929 و1959 نصيب مصر والسودان من المياه على النحو الآتي:
اتفاقيتي المياه بين مصر والسودان
مليار متر مكعب
السنة
نصيب مصر
نصيب السودان
1929
48 مليار
4 مليار
1959
55,5 مليار
18,5 مليار
والملاحظ أن بريطانيا هي التي أبرمت اتفاق 1929 بين مصر والسودان، باعتبارها صاحبة النفوذ في البلدين في ذلك الوقت، ومع أوغندا وكينيا وتنجانيقا باعتبارهم مستعمرات إنجليزية، وبالاتفاق مع بلجيكا باعتبارها الدولة المنتدبة على رواندا وبورندي، ومع إيطاليا باعتبارها الدولة المستعمرة لإريتريا، ومع مملكة الحبشة. وحينما استقلت هذه المستعمرات، أو تغير نظام الحكم فيها - إثيوبيا وإريتريا، فإنها لم تلغ اتفاقيات 1929 حول مياه النيل، لكنها تعبر من حين لآخر عن رغبتها في إقامة مشروعات هندسية على النهر أو روافده من أجل الري والطاقة. وهذا يحتاج إلى مذكرة تفاهم أو اتفاق بين كل دول حوض النيل، وبخاصة مصر والسودان المستفيدان الأساسيان حتى الآن؛ لأنهما يعتبران دول المصب.
أما اتفاقية 1959 فقد أبرمت بين مصر والسودان فقط. وقد يكون ذلك قد أغضب بقية دول الحوض؛ لأنه لم يؤخذ رأيهم فيها. وربما جاز لنا أن نقول: إن اتفاقية 59 مبنية على سريان فاعلية اتفاقية 1929 فيما يخص كل الدول الأخرى، وأن اتفاق مصر والسودان كان لإعادة تحديد الأنصبة بينهما على ضوء متغير جديد، هو مشروع السد العالي الذي ألغى فكرة التخزين السنوي إلى التخزين الدائم. وبمقتضى هذه الاتفاقية وافقت الدولتان على أن تبني مصر السد العالي، وتبني السودان سد الرصيرص على النيل الأزرق. كما نصت على مناصفة أية مياه زائدة بواسطة مشروعات أخرى كقناة ونجلي، والزيادة المرتقبة في حصيلة النهر عند بحيرة ناصر. وقد استفادت مصر والسودان من هذه الاتفاقية كثيرا. ففي سنوات الجفاف المتعاقبة في أواخر الثمانينيات والتي بلغت حد المجاعة في شمال إثيوبيا، كانت بحيرة ناصر تعمل كمنظم ضمن لمصر والسودان الماء اللازم لاحتياجاتهما، بحيث لم تحس الدولتان بقسوة الجفاف، هذا بالإضافة إلى أن سد الرصيرص قد ساعد السودان على التوسع الزراعي في منطقة المناقل إلى الجنوب مباشرة من مشروع الجزيرة.
وبالرغم من هذه الفوائد الحيوية ترى بعض الدوائر السياسية في السودان ضرورة تعديل الاتفاقية لصالح مزيد من المياه للسودان. ولا شك في موضوعية مثل هذا المطلب، وإن كان لنا بعض الملاحظات لكي تستقيم الأمور. وأول الملاحظات رقمية؛ فالمتتبع للفرق الكمي بين مخصصات مصر والسودان في اتفاقيتي 1929 و1959 يرى أن السودان قد حظي بزيادة أكبر من تلك التي حصلت عليها مصر. ففي اتفاقية 29 كان نصيب مصر يعادل 12 مرة نصيب السودان؛ 48 إلى 4 مليار متر مكعب،
11
بينما انخفض نصيب مصر في اتفاقية 1959 إلى نحو ثلاثة أمثال السودان فقط. وبعبارة أخرى كان نصيب مصر في اتفاقية 1929 يساوي نحو 92٪ من المياه عند أسوان، انخفض في اتفاقية 1959 إلى 75٪.
والملاحظة الأهم أنه صحيح أن التنمية ضرورة في أي بلد، ولكن هناك معايير عديدة لقياس مدى الحاجة في مصر والسودان. والفارق كبير بينهما في موارد المياه. فمصر تعتمد على مياه النيل بدرجة تتعدى نصيبها باستخدام وسائل عديدة،
12
بينما مواردها المائية الأخرى تكاد لا تذكر - بالكاد 2-3 مليارات من الأمطار الشمالية المتذبذبة والمياه الجوفية في الصحاري والواحات. أما في السودان فالموارد المائية السطحية والمطرية أكبر من مواردها من مياه النيل الرئيسي. والمشكلة في السودان أن هناك الكثير من الأرض للتنمية بعيدا عن مياه النيل الرئيسي، لكنها لا تنمى إلا ببطء شديد نتيجة لأسباب متعددة منها الفقر المالي وقلة الطرق ومشكلة الجنوب التي تستنزف جهد أي حكومة سودانية «ودارفور حاليا - وربما مشكلات كامنة مستثارة تدريجيا في شرق السودان ومناطق النوبة!» وإلى جانب ذلك، وهو الشيء المهم، أن السودان تحتاج إلى عمالة زراعية متخصصة؛ نتيجة لأن النشاط الاقتصادي التقليدي ما زال معتمدا على سيادة نمط حياة الرعي التقليدي قليل الإنتاج، كثير المفارقات بين القبائل والعشائر، في معظم جهاته من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق للغرب ، فالمشكلة إذن لا تكمن في حصة السودان من المياه، بل هي مشكلة شاملة اجتماعية اقتصادية سياسية معا. ولا شك أن تركيز التنمية في منطقة الجزيرة ومحيطها القريب ليس بالمخطط السليم؛ لأنه يؤدي إلى مزيد من التزاحم السكاني في منطقة واحدة وإفقار مناطق شاسعة من السكان كان يمكن أن تصبح مراكز مفيدة في التنشيط الاقتصادي الاجتماعي في هذا البلد الكبير.
13 (1-8) الماء في السودان
يدخل السودان من الماء الجاري في المتوسط نحو 105 مليار متر مكعب سنويا، إضافة إلى قدر هائل من الأمطار يتفق الخبراء على أنه يبلغ 1094 مليار متر مكعب، لكن الكمية المستفادة منه قد لا تزيد عن 20 إلى 30 مليارا تنمو عليها الأعشاب اللازمة لحياة الرعي، والزراعة التقليدية التي يمارسها الرعاة وأشباه الرعاة،
14
أما بقية الأمطار فتذهب دون منفعة مباشرة: بعضها يتسرب في باطن الأرض فيغذي مصادر المياه الجوفية، والجزء الكبير يضيع بالتبخر أو نتح النبات في المستنقعات الهائلة في أقاليم السد وبحر الغزال ومستنقعات مشار شمال السوباط الأدنى. وبعبارة أخرى فإن حصيلة السودان من المياه السنوية تتراوح بين 130 و140 مليارا.
أما المياه الجارية التي تدخل السودان من هضبة البحيرات وهضبة إثيوبيا فيوضحها بإيجاز جدول (
6-2 )، حيث نرى التصريف النهري للسنوات المتوسطة والسنوات الاستثنائية العالية، وهي غير متكررة كثيرا ولا بصورة متتابعة ولا يعول عليها بصفة عامة، وإنما أدرجتها لبيان كيف أن الظروف الطبيعية أقوى من أن يتناولها البشر بالحساب والتخطيط. ومن ثم فإن معظم الأرقام تدور حول المتوسطات وليس الاستثناءات. كذلك يجب أن ندرك أن القدر الذي ينصرف إلى مصر يتضمن نحو عشرة مليارات تفقد بالتبخر من سطح بحيرة ناصر، وهو أمر متفق عليه بين مصر والسودان (اتفاقية 1959)، وبذلك فإن نحو 55 مليارا هي نصيب مصر المستخدم لسد احتياجاتها.
إذا طرحنا فاقد الماء داخل السودان والمنصرف شمالا إلى مصر (26 + 65 = 91) من متوسط كمية الماء الجاري في السودان (110-91)، سوف نجد أن حصة السودان هي نحو 19 مليار متر مكعب. وهذه هي نحو الكمية التي نصت عليها اتفاقية عام 1959، والتي تستخدمها السودان للري والأغراض المدنية الأخرى في السودان الشمالي المتضمن أرض الجزيرة الغنية.
أرقام التصريف المتوسط والعالي نقلا - مع التدوير - عن محمد عوض محمد «نهر النيل» الطبعة الرابعة - القاهرة 1956، ص296.
جدول 6-2: حسابات الدخل والفاقد في مياه النيل (الأرقام بمليارات الأمتار المكعبة).
المصادر
متوسط - عالي
الفاقد
متوسط - عالي
الخارج إلى مصر
مياه هضبة البحيرات
27-50
السدود
17-39
حلفا 65
مياه بحر الغزال
4
السدود
4
السوباط
15-23
النيل الأبيض ومستنقعات مشار
4-12
النيل الأزرق
53-88
من الخرطوم إلى وادي حلفا
5
العطبرة
11-27
مجموع
110-188
30-60
65
والخلاصة: أن المياه الجارية في السودان تتركب من المصادر الآتية في السنوات الاعتيادية: نحو 14-16 مليارا من المياه هي كل تصريف المنابع الاستوائية وبحر الغزال؛ لأن الفاقد في مستنقعات السدود فعلا وعملا كبير جدا. ويضاف إليها نحو 11-12 مليارا هو تصريف نهر السوباط، بعد أن تفقد الكثير من مياهه في مستنقعات مشار، وهذان المصدران هما مياه النيل الأبيض من ملكال حتى سد جبل الأولياء جنوب الخرطوم. وعند الخرطوم يتلقى النيل نحو 48-53 مليارا من النيل الأزرق، وروافده تنصرف شمالا لتلتقي بمياه نهر العطبرة التي تقدر بنحو 10-12 مليارا، وفي النهاية فإن مجموع المياه الواصلة لمصر عند أسوان تبلغ نحو 70 مليارا، بعد أن يفقد نحو 10-13 مليارا بالبخر في الرحلة الطويلة من الخرطوم إلى أسوان ومن سطح بحيرة ناصر مخترقا صحاري شديدة الحرارة معظم السنة، ربما هي «قطب الحرارة» في العالم. وتقدر مساهمة مصادر المياه عند أسوان على النحو التالي: 59٪ من النيل الأزرق، و14٪ من السوباط، و13٪ من العطبرة، و14٪ من أعالي النيل الاستوائية بعد بحر الغزال، وعلى هذا فإن المياه الإثيوبية في مجموعها تكون 85٪ من المياه عند أسوان، وهي نسبة لا تحتاج إلى مزيد التأكيد على مدى حيوية وأهمية الروافد الحبشية لمصر والسودان معا.
15
وهنا لا يجب أن ننسى كمية كبيرة من الأمطار الساقطة في أنحاء مختلفة من السودان تقدر بنحو 1094 مليار متر مكعب، أكثرها يسقط في الجنوب وبعضها يستغل بصور عديدة للزراعة والرعي واحتياجات السكن القروي والمدني في هذا، إلى جانب شبكة التصريف النهري الكبيرة في منطقة بحر الغزال. أما دارفور وكردفان في الغرب، فهي مناطق أمطار ذات قدر معقول وبعيدة كل البعد عن أي استخدام ممكن لمياه النيل ولو بتكلفة شديدة الارتفاع، وينطبق على شرق السودان ما يجري في الصحاري المصرية الشرقية: من حيث الجفاف العام، وعدم القدرة على أي شكل من الاستخدام الاقتصادي لمياه النيل. ولكن قدر الأمطار الساقطة على جبال البحر الأحمر السودانية أكبر من مثيلتها في مصر، فضلا عن أن الأطراف الجنوبية من شرق السودان تطولها أمطار الحبشة الموسمية بدرجة كافية لمسيرة مسيلات وأنهار قصيرة، يمكن استخدامها بالحجز لأغراض اقتصادية متعددة. وهذه المنطقة مليئة بنمو غابات وأشجار من فصائل متعددة كرمز لكثافة التساقط المطري وبخاصة إلى الجنوب من سهل البطانة.
وعلى هذا تنقسم السودان إلى قسمين: الشمالي المحيط بوادي النيل من إقليم الجزيرة إلى الحدود مع مصر، والأوسط والجنوبي. والقسم الشمالي هو أكثر الأقسام تشابها مع مصر من حيث الاعتماد على مياه النيل فقط، لكنه يختلف بارتفاع أكبر في درجة الحرارة، مما يؤدي إلى ضرورة ارتفاع في قدر احتياج النبات من المياه. وباستثناء إقليم الجزيرة ومنطقة دنقلة، فإن الأراضي الصالحة للزراعة ضيقة جدا وتتخذ على الأغلب شكل جيوب صغيرة منفصلة عن بعضها. ويسقط من المطر على الجزء الجنوبي من هذا القسم كمية لا بأس بها تساعد على ري النباتات. لكن القسم برمته يحتاج إلى مشروعات ري سواء كانت سدودا وخزانات - الرصيرص وسنار وجبل الأولياء، أو محطات طلمبات - وهي كثيرة في الشمال - تحل محل السواقي التقليدية التي لا تظهر إلا في المساحات الزراعية الصغيرة.
ولقد قامت السودان بمحاولات جدية من أجل استخدام أنواع من المياه في التنمية. في شرق كردفان حفرت آبار كثيرة من أجل تحسين مصادر المياه لاستخدام الرعاة وزراعة بعض المحاصيل، وفي جبال النوبا في جنوب كردفان حيث تتوفر الأمطار أدخلت الزراعة الآلية، وفي خشم القربة قرب الحدود مع إثيوبيا أقيم مشروع للري على مياه النهر على نمط مشروع الجزيرة، ولكن بمقياس أصغر كثيرا. ولكن هذه المشروعات لم تحرز النجاح المأمول لسبب عام هو أن السكان لم يؤهلوا بكفاية للنشاط الجديد. وهناك أيضا أسباب أخرى منها نقص تسهيلات التسويق للمحاصيل النباتية والحيوانية في شرق كردفان، وأن الزراعة الآلية في جبال النوبا استفاد منها كبار المستثمرين، الذين قضوا على أشكال من الحياة الشجرية اللازمة لحياة السكان المحليين الذين لم توجه إليهم ذتها اللغة العربية فيما بعد وأيضا بتسهيل النطق مشروعات التنمية الجديدة برغم أنهم زراع مهرة من قديم، ربما لقلة مواردهم المالية. وفي خشم القربة كان يجب أن يصاحب المشروع تنمية جنوب سهل البطانة بتقاليده الرعوية، وذلك بزراعة مساحات كبيرة من الذرة.
وفوق هذا فإن تخطيط وتنفيذ هذه المشاريع كان يتم بواسطة قرارات حكومية بعيدة عن استطلاع خبرة السكان المحليين حول بيئتهم. وهذا هو أحد مثالب التنمية، ليس في السودان وحدها، وإنما في غالبية دول العالم النامي. صحيح أن النوايا وراء قرارات التنمية خيرة، لكن الملاحظ أن الهدف التنموي شيء، وتنفيذ المستثمرين لهذه المشروعات شيء آخر يفيدهم في الكثير ويفيد السكان في القليل. وحتى هذا القليل يتخذ كواجهة دعائية لنجاح المشروع! هذا فضلا عن تضارب ملحوظ بين الوزارات والهيئات العامة. (1-9) إسقاطات حول احتياجات المياه للعام 2025
16
فيما يلي جدول للتوقعات حول احتياجات مصر والسودان من المياه لسنة 2025 هي التوقعات المنخفضة والمتوسطة والعالية:
السنة ودرجة الإسقاط *
مصر
السودان
المتاح حاليا «النيل وأمطار ومياه جوفية»
58,1
19,0
1990
57,4
18,6
2025 «إسقاط منخفض»
70,9
19,8
2025 «إسقاط متوسط»
76,5
20,3
2025 «إسقاط عادي»
166,6
53,7 *
الأرقام بمليارات الأمتار المكعبة.
شكل 6-1: حوض النيل: توزيع المطر السنوي.
يتضح من هذا أن هناك احتياجا أكبر كثيرا مما يستطيع النهر والظروف المناخية أن تقدمه لمصر. ولعل هناك أشياء أخرى لم تدخل حساب الإسقاطات نذكر منها:
ترشيد استخدام مياه الري في مصر بتغيير نظام الري بالغمر.
أو إدخال محاصيل أو بذور غير نهمة للمياه.
أو الكف عن التوسع الأفقي للزراعة والاتجاه التنموي للصناعة أكثر من الزراعة.
أو التخصص الزراعي في محاصيل محددة لها قيمة عالية في السوق المحلي أو العالمي.
أو تراجع نمو السكان إلى حدود آمنة، وبالتالي تقليل احتياجات المياه.
هذه الإجراءات وغيرها منفردة وتدريجية تؤدي في نهاية الأمر إلى خفض توقعات الطلب على المياه ، لكن من المؤكد أنها مجتمعة كليا أو جزئيا تصبح ذات فاعلية أكبر في هذا المضمار البالغ الحيوية لمصر. استخدامات الزراعة غالبا بدون تغيير (نحو 50 مليارا)، بينما يتوقع زيادة الاستخدامي الصناعي للمياه بين 1990 و2025 من نحو 4,6 إلى 12,9 مليارا، والاستخدام المنزلي من 3,1 إلى 13,9 مليارا.
أما في حالة السودان فالواضح أن توقعات التنمية هناك محدودة ربما للحرب الأهلية، أو أن التنمية على مياه النيل قد بلغت درجة قريبة من المنتهى في الجزيرة وغيرها، والواقع أن مشكلة المياه هناك هي مشكلة التركيز العمراني والتنموي في المنطقة الجافة الشمالية، تاركة مساحات شاسعة في جنوب البطانة وكردفان ودارفور لأشكال الحياة التقليدية بصورة أو أخرى، بدليل أن نمط الاستخدام لا يكاد يتغير بين احتياجات الزراعة (18 مليارا)، والاستخدام المنزلي (2 مليار).
الخلاصة السياسية في موضوع مياه النيل: قد تلخص المعادلات التالية مواقف سياسية متعددة بين دول النيل: (1)
مصر والسودان في مواجهة إثيوبيا أو دول أعالي النيل. (2)
السودان وإثيوبيا في مواجهة مصر. (3)
السودان وأوغندا في مواجهة مصر.
والملاحظ أن المعادلة الأولى أكثر دواما وتمثل مصر والسودان في خندق واحد بحكم مجموعة العلاقات المعروفة، وبحكم أنهما تمثلان دول المصب، سواء كان ذلك بالنسبة لمجموع مياه النيل في مصر، أو مجموع مياه الروافد الإثيوبية وروافد أعالي النيل بالنسبة للسودان. وبحكم احتياجهما الحيوي للمياه مقابل المناخ الممطر في أعالي النيل وإثيوبيا.
وفي أحيان قد تحاول السودان الضغط على مصر بواسطة التفاهم مع إثيوبيا أو أوغندا كما توضحه المعادلتين 2 و3. وربما كانت هناك مساع من هذا النوع في حال تعكر العلاقات المصرية السودانية في أواخر الثمانينيات. لكن هذا هو أولا: سلاح يرتد على مصالح السودان المائية في المدى الطويل، وإن كان له بريق النجاح في المدى القصير. وهو ثانيا: غير ممكن في ظل الأوضاع المعاصرة، فالعلاقات السودانية مع إثيوبيا وأوغندا وإريتريا علاقات جفاء، فالسودان تتهم الدولتين بمساعدة ثوار الجنوب ومنحهم تسهيلات عسكرية. وأوغندا وكينيا وإريتريا وإثيوبيا تتهم النظام السوداني الحالي بتصدير القلاقل إليها؛ ومن هنا فإن ساحة المناورة السياسية السودانية المناهضة لمصر شديدة الضيق في الوقت الحاضر، بل هناك تنفيذ شبه كامل لاتفاقية 1959 بين الدولتين. ولا يجب توقع استمرار ذلك الوضع. فحالما تنتهي مشاكل السودان الكثيرة، سواء في الجنوب أو في شكل الحكم، أو دارفور وشرق السودان، ستعود دوائر معينة إلى العودة إلى مطالب لا تكل حول زيادة حصة السودان من مياه النيل.
ولا شك في أن المشكلة ذات أبعاد كبيرة، وإن كان يغلفها أطر من العلاقات الثقافية والدينية تقلل من حدة بروزها. وفي هذا المجال يمكن أن نسترجع مؤشرات فردريك فراي التي سبق طرحها في أوائل هذه الورقة. فمعامل القوة يلعب دورا أساسيا لصالح مصر، ليس باستخدامها في صدام مباشر، ولكن بالتلويح بها كعامل مساعد على إيجاد تسوية مناسبة. وكذلك عوامل التاريخ والشرعية والعدد السكاني والتقدم الاقتصادي تؤكد حقوق مصر في رفض أو قبول أية مشروعات تقام على النيل وروافده. ولهذا فالمستحسن أن يجدد الاتفاق على بنود 1959 بإضافة بنود خاصة بإثيوبيا ودول أعالي النيل، مع الالتزام بحصة مصر الضيقة دون مساس، أو يعاد اتفاق شامل بين كل دول الحوض خاصة وأن هناك علاقات دائمة، ودية في أحيان كثيرة، بين وزارات المياه لدول حوض النيل، لكن الود شيء والمفاوضات الصعبة شيء آخر. (1-10) مقترح مشروعات نيلية متكاملة
بغض النظر عن الأوضاع الحالية من سدود وسياسات فإنني أقدم الاقتراح التالي:
كي يتم ضم دول حوض النيل في نسيج ذو مصالح متكاملة بحيث لا تطغى مستجدات سياسية أو اقتصادية متسمة بطابع فردي، فالمستحسن العودة إلى فكرة المشروعات المشتركة لضبط النيل، والتي كانت سائدة في دوائر هندسة الري في الأربعينيات من القرن الماضي تحت مسمى «التخزين القرني»، بحيث تتكامل المشروعات مع بعضها فلا يتهددها انتقاص دولة على المجموع. وبعبارة أخرى التخلص من إنية دولة ما؛ لأن المشروعات متراكبة على بعضها ولا يمكن المساس بها؛ لأنها ملك الجميع وليس دولة واحدة، وخلاصة التكاملية بناء مجموعة مترابطة من المنشآت الهندسية: سدود وقناطر وقنوات وجسور وصرف مستنقعات ... إلخ، في السودان وإثيوبيا وأوغندا باعتبارهم مع مصر المكون الخطي الأساسي للنيل وعموده الفقري . الغرض النهائي الاستفادة بنسبة أكبر من الجريان السطحي للمياه إلى لا شيء، كما في بحر الغزال والجبل في السودان الجنوبي، أو بحيرة كيوجا في أوغندا، أو اندفاع المياه في جبال وخوانق إثيوبيا، والتحكم والترشيد لاستخدام المياه في مصر. أين تقام السدود أو القنوات أو غيرها؟ فهذا هو اختصاص اللجان المختلفة لتقصي وبحث الأوضاع على الطبيعة، وليس فقط بين جدران مكاتب الوزراء والاستشاريين والنافذين. ولدينا الآن فرصة المجلس الوزاري لدول حوض النيل لتفعيل سياستها واتفاقاتها على الواقع المأمول، بتكوين لجان الخبراء في الجوانب العديدة من التخصصات الاقتصادية والاجتماعية والهندسية ... إلخ، التي سوف تكتب أشكال التكامل الحقيقي بديلا للمنافسة والقومية الراهنة، وبذلك نضيف إلى العالم إقليما كاملا من الدول المترابطة في علاقات سلام وتعاون من أجل الجميع.
وختاما فإن العبرة ليست كامنة في كم من المياه تريد هذه الدولة أو تلك، لكن العبرة هي كيف توظف هذه المياه - أو بعبارة أوجز العبرة هي في مدي إنتاجية المياه!
آخر أراضي ري الحياض 1964 ربما في محافظة قنا، انظر
ملحق الصور . (2) السدود الكبرى: نهاية مرحلة فكرية
المقصود من السدود الكبرى تلك التي ترتفع مناسيب الخزن في بحيرات التخزين أمامها عن 15 مترا فوق منسوب النهر الطبيعي، أو تلك التي تخزن جسما من الماء في حدود خمسة ملايين متر مكعب أو يزيد. الفكر وراء إقامة سد هو فكر قديم ومتعدد المقاصد، ويبدأ بسدود طينية على المجاري النهرية الصغيرة والقنوات الضحلة من أجل صيد الأسماك فيما يشبه المحبس راكد المياه. وهي ممارسة ما زالت قائمة إلى اليوم. ولا شك أن إقامة سدود أكبر على بعض المجاري النهرية قد راودت أفكار الناس من أصحاب الحضارات العليا القديمة، في المناطق التي بدأ المناخ فيها في التحول إلى الجفاف. وينطبق هذا تماما على مهاد الحضارة في الشرق الأوسط وبخاصة في مصر والعراق، لكن ذلك ليس له إلا ما ندر من شواهد وآثار باقية. (2-1) هل لمصر السبق في القناطر والسدود الكبرى
والأغلب أن إنشاء محمد علي القناطر الخيرية وتشغيلها في أول الستينيات من القرن 19 كانت أولى الإنشاءات الهندسية الكبرى الدائمة على الأنهار الكبرى، من أجل الموازنة بين المياه والري الدائم لزراعة محاصيل تجارية وصناعية وغذائية - القطن والذرة بوجه خاص.
أما السدود الكبيرة الحديثة فعمرها الآن قرن من الزمان، والأغلب أن سد أسوان 1902 كان أقدم السود الكبرى الحديثة في العالم. وأقيمت له تعليتان في 1913 و1933 من أجل ضمان محصول القطن المصري فائق الجودة لمصلحة مصانع لانكشاير البريطانية، وأصبح القطن ملكا دون منازع على الاقتصاد المصري لنحو قرن من الزمان قبل وبعد سد أسوان.
وقد كان الغرض الأولي لبناء السدود على الأنهار هو ري مساحات أوسع، أو ضمان مياه تفي بأغراض الزراعة لإنتاج المزيد من الغذاء للسكان المتزايدين، وإنتاج محاصيل تستخدم خامات صناعية كنباتات الألياف وعلى رأسها القطن. ثم أضيف إلى وظيفة السدود توليد الطاقة الكهربائية الرخيصة والنظيفة معا. وما زالت هاتان هما الوظيفتان الأساسيتان للسدود الكبرى والصغرى معا أو منفردين.
وبعد أسوان توالت السدود الكبرى في أرجاء العالم، منها سد الدنيبر في الاتحاد السوفييتي 1932 الذي كان في وقته أكبر مولد طاقة في العالم، ومشروع وادي التنيسي
TVA
في الولايات المتحدة عام 1933، والذي احتوى على 38 سدا كبيرا، ثم سد هوفر عام 1936 على نهر كولورادو في جنوب غرب الولايات المتحدة، والذي وصف بأنه السد الأضخم، وتلاه جراند كولي على أعالي نفس النهر. توقف بناء السدود الكبرى خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ثم بدأت في الصين الشعبية بمجموعة من السدود على النهر الأصفر وأنهار الصين الأخرى ابتداء من 1949 وإلى الآن، حيث العمل جار في سد الخوانق الثلاثة
Three Gorges Dam
على نهر اليانجتسي، وهو مشروع هائل بكل المعنى. وفي الستينيات بنت مصر السد العالي بعد قليل من السدود الكبرى الأخرى في أفريقيا، منها سد كاريبا في زامبيا (1957)، والفولتا في غانا (1965)، وكابورا باسا في موزمبيق (الثمانينيات)، وكذلك في البرازيل والأرجنتين مجموعة كبيرة من السدود، وفي الهند أقيمت عدة سدود لكن أكبرها على نهر نارمادا الذي وضع الزعيم نهرو حجر أساسه عام 1961، لكنه ما زال متعثرا نتيجة الاعتراضات الكثيرة الشعبية والبيئية والدولية .
وفي العالم الآن نحو 45 ألف سد كبير، كانت مرحلة السبعينيات تمثل قمة إنشاء هذه السدود في أرجاء العالم. في الستينيات كانت الدول المتقدمة قد استكملت بصورة عامة بناء كل السدود الممكنة، بينما كانت السبعينيات وأوائل الثمانينيات تمثل قمة بناء السدود في العالم النامي. (2-2) بدايات تراجع أفكار السدود الكبرى
وباختصار صارت أنهار مهمة في العالم تحت القيد والسيطرة نتيجة الإتقان الهندسي في بناء السدود، واستمرار سيادة الفكر الذي يؤيد النظم الهندسية للسيطرة على الموارد المائية وتوجيهها إلى حيث يريد، لكن الملاحظ أنه برغم استمرار بناء السدود هنا وهناك إلا أن هناك تراجعا واضحا في بناء السدود الكبيرة منذ منتصف الثمانينيات وإلى الآن. بل هناك فكر جديد يطالب بالتوقف عن بناء السدود وإزالة بعضها، مثل إزالة 29 سدا مؤخرا في الولايات المتحدة وثلاثة سدود على نهر اللوار في فرنسا.
ومما يؤكد التراجع أن عدد السدود ومشروعات السدود في البرازيل قد تراجع من 91 سدا في السبعينيات إلى 60 سدا في الثمانينيات، وإلى أقل من نصف ذلك في التسعينيات. وحتى البنك الدولي الذي كان الممول الأكبر في بناء السدود (75 مليار دولار في بناء 538 سدا) بدأ بالتراجع، ويفكر في جدوى السدود وتكلفة إعادة توطين الناس، فانسحب مؤخرا من مشروع نارمادا في الهند،
17
ومشروع آخر في نيبال.
وقد أصبح هناك تساؤل حول جدوى السدود يلخصه الشعار «نبني سدا أم لا نبني ... هذا هو السؤال!»
To Dam or not to Dam ... that is the question
على نحو سؤال شكسبير الخالد في مسرحيته «هاملت». (2-3) أسباب تراجع فكرة السدود (1)
هناك تخوف من قلة المياه العذبة التي تنصرف إلى البحار والمحيطات نتيجة كثرة السدود، وهو ما قد يضر ضررا بالغا بالنظام المائي العالمي. وفضلا عن ذلك فإن الكثير من المياه المنصرفة إلى البحار حاليا محملة بمخلفات الأسمدة الكيميائية، مما قد يؤدي بدوره إلى مخاطر غير محسوبة بيئية للحياة البحرية والإنسان. (2)
والواقع أن هناك معارضة شعبية من الدول النامية، ومعارضة أنصار البيئة في الدول المتقدمة، بلغت من القوة ما أدى إلى إيقاف مشروعات على نهر الألب في ألمانيا وفي جمهوريات التشيك والسلوفاك والمجر والبرازيل والهند وتايلاند والفلبين ... إلخ. (3)
وفوق المعارضة البيئية والشعبية فإن للتراجع أسباب اقتصادية مرتبطة بالإسراف في حجز المياه أمام السدود وتحويل بعض الأنهار في قنوات جديدة من أجل استزراع أرض جديدة. وقد أدى هذا إلى عدة متغيرات في مائية الأنهار منها تراكم الإرسابات - ظاهرة الإطماء - في بحيرات التخزين، مما يقلل سعتها وكمية الماء المخزون على مر السنين ويفقد بذلك الغرض الأساسي من بناء السدود. (4)
استمرار مناسيب المياه في النهر على مستوى ثابت من أجل توفير مياه الري طوال السنة، قد أدى إلى ارتفاع منسوب الماء الجوفي إلى حدود غير مرضية تصل في حالات إلى ظاهرات «تطبيل» وتمليح التربة وفقدانها لخصوبتها، وهو ما يحتاج إلى تكلفة كبيرة لصرف المياه بالطلمبات الضخمة وشبكات مصارف معمقة تستوعب مساحات من الأرض الزراعية. بينما كان كثير من المياه الباطنية ينصرف طبيعيا إلى مجاري الأنهار والقنوات الرئيسية عندما يهبط منسوب الماء فيها أثناء فترة انخفاض المياه بعد الفيضان الطبيعي للأنهار. (5)
وفضلا عن هذا فإن المياه الرائقة التي يسمح بمرورها وراء السدود هي غالبا ذات درجات حرارة أبرد نوعا؛ لأنها تنصرف من الأقسام التحتية من جسم مائي كبير، وهو ما يؤثر على بعض خواص النظام البيئي في الأنهار. وفي الولايات المتحدة كثير من الاعتراضات على السدود وبخاصة على أنهار الباسيفيك، مثل نهر كولومبيا وسنيك؛ لأن السدود تؤثر بشدة على مرابي أسماك السلمون. (6)
كما أن المياه تفقد الكثير مما تحمله من الطمي والعناصر المخصبة والمغذية للحياة المائية والأرض الزراعية، وهو ما دعا إلى زيادة استخدام كل أشكال المخصبات الكيميائية، ورفع بذلك كلفة الإنتاج الزراعي فوق قدرات الفلاحين الفقراء. (7)
كل هذه الإشكاليات - بالإضافة إلى ديون البنوك الزراعية وأعباء التسويق - ترتب عليها أولا: ازدياد أعداد فقراء الريف ونزوحهم إلى المدن حيث أصبحوا عبئا اجتماعيا اقتصاديا فهم غير مؤهلين مهنيا واجتماعيا. وثانيا: اضطرار حكومات الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا إلى دفع إعانات للمزارعين كي تتعادل دخولهم مع مناسيب الدخل العام داخل كل بلد، وهو ما أصبح من الأعباء المالية التي تعاني منها تلك الدول إلى جانب التأمينات الاجتماعية ضد البطالة ...
ومرة أخرى باختصار فإن السدود الكبيرة لم تأت بالناتج المرجو الموازي لتكلفة بنائها وصيانتها، ليس فقط من النواحي الاقتصادية التي أسلفنا بعضها، بل نتيجة لإضافة أعباء مالية ونفسية عديدة ناجمة عن نقل مئات الآلاف من الناس من قراهم ومساكنهم التي تغرقها مياه بحيرات التخزين وبناء مستوطنات جديدة في بيئات جديدة، وضرورة تغيير نشاطهم المهني وعاداتهم الاجتماعية. وربما زاد عدد المنتقلين من مواطنهم التي أغرقتها مياه السدود الكبيرة في العالم عن نحو خمسين مليونا في العالم. وبعض هؤلاء اضطروا إلى النزوح الجبري بقوة الشرطة كما حدث في الهند، ولكن الغالبية نزحت على أمل تحسين أشكال الحياة خاصة وأن السدود تغرق مساحات فقيرة جبلية الطابع في أعالي الوديان النهرية.
ومما لا شك فيه أن حجز مياه الأنهار في البلاد ذات المناخ الجاف أمر شديد الحيوية، كما هو الحال في مصر والشرق الأوسط. والموازنة هنا هي بين الوقوع في أزمة مياه أو الوقوع في مشكلات إطماء السدود، ومشكلات التربة وفقدان الخصوبة، وارتفاع تكلفة الزراعة، وتحول فقراء الريف إلى الهجرة للمدن. والموازنة صعبة جدا وخاصة في مصر المتزايدة سكانا بشكل يأكل مدخرات التنمية باستمرار. (2-4) الموقف في مصر
لقد اكتفى المصريون القدماء بنظام ري الحياض الذي أثبت جدارة فائقة وتواؤما كاملا مع معطيات البيئة النهرية لنحو ستة آلاف سنة أو يزيد. والقول بأن المصريين القدماء بنوا سدا عند خانق سمنة وقمة في السودان الشمالي الحالي هو قول غير مؤكد. ولعلهم، على أحسن الفروض قد حسنوا أحد المجاري المائية في شبكة النهر عند الجندل الثاني من أجل تأمين الملاحة. وربما كان العمل الهندسي المائي الكبير الذي يذكر في هذا الشأن ضبط مياه بحر يوسف عند انحدارها إلى منخفض الفيوم، وما ترتب على ذلك من تجفيف أجزاء من الفيوم واستخدامها أرضا زراعية غنية منتجة للحبوب والأعناب وغيرها لمدة آلاف السنين.
لقد كان المصريون القدماء من خيرة شعوب الحضارة الذين برعوا في استخدام الأحجار الضخام. وما كان أسهل عليهم إقامة جسور وقناطر وسدود حجرية قوية على النيل وفروعه في الوادي والدلتا. لكنهم - فيما يبدو - استخدموا مهاراتهم البنائية في عمل قناطر موازنة حيثما تدعو الحاجة على الفروع الدلتاوية والقنوات، وعزفوا تماما عن عرقلة المسار الطبيعي للنهر لأسباب: على رأسها عدم إفساد هذا الطريق الملاحي العظيم الذي يربط كل أجزاء مصر من ناحية، وعدم إحداث تغيير في مائية النيل مما يفسد عماد النظام الاقتصادي المصري الموروث من ناحية ثانية. وباختصار انتفع المصريون بالنهر كما هو، وتجاوبوا معه في قحطه وفيضه. وربما كان هذا سر بقاء مصر آلاف السنين واحة خضراء لم تتدهور خصائص تربتها بما يأتيه النيل سنويا من طمي مجدد للخصوبة ينفرش بتعادل طبيعي على طول الوادي وعرض الدلتا. (2-5) الثورة الزراعية الثانية في مصر
وحينما فكر محمد علي الكبير في توسيع الزراعة الصيفية لم يفكر - هو ومستشاروه العلميون - في تغيير النظام الطبيعي لمائية النهر. بل بدأ بتعميق وحفر ترع في الدلتا، وتلا ذلك إنشاء القناطر الخيرية لرفع منسوب المياه ضمانا للري الصيفي عند تفرع الدلتا. ومنذ ذلك الحين بدأ الفكر الهندسي المصري في إجراءات تنظيم الماء بإنشاء منظومة من القناطر والترع في الصعيد، بغرض إضافة المحاصيل الصيفية التجارية الصناعية في أجزاء من الوادي جنوب القاهرة.
18
وإلى ذلك الوقت كان النيل يجري طبيعيا بصفة عامة.
وفي 1902 بني سد أسوان. وكان أول إنشاء هندسي يغير النظام الهيدرولوجي لمياه النيل في مصر، وذلك بتخزين المياه في أواخر فترة الفيضان في بحيرة التخزين جنوب السد وإطلاقها وقت التحاريق قبل الفيضان التالي. وقد أدى ذلك إلى تغيير منسوب الماء في إقليم النوبة، وأصبح موسم الفيضان هو موسم انخفاض مستوى النهر الذي يأخذ في الارتفاع مع إغلاق بوابات السد إلى ارتفاع نحو 35 مترا عن منسوبه الطبيعي عند السد. وقد أدى هذا إلى هجرة متكررة للنوبيين في اتجاهات شتى شمال أسوان، وجنوبا إلى قرى توشكى وبلانه وغيرهما، ولكن أكبر هجرة كانت إلى أعلى الحافة الهضبية والجبلية في مواقع وعرة صعبة، وهنا اتسعت بيوت النوبيين اتساعا كبيرا في هذه الأرض المضرسة القاحلة بعد أن كانت صغيرة متقاربة، شأن القرى إلى جوار النيل في ظل ظروفه الطبيعية.
ثم أتى السد العالي فارتفعت مياه بحيرة التخزين الدائم إلى متوسط نحو 70 مترا فوق المنسوب الطبيعي عند السد، مما أدى إلى هجرة كاملة للنوبيين في مصر، وبعض النوبيين في السودان. ذلك أن الفرق بين سد أسوان وبين السد العالي أن بحيرة التخزين أمام سد أسوان كانت تشغل حوض النهر بضعة أشهر ثم تنصرف إبان الفيضان إلى بقية الوادي والدلتا محملة بالطمي المساعد على تعويض التربة بعض خصوبتها، وتاركة في بلاد النوبة أرضا للفلاحة وأنشطة أخرى بقية السنة. بينما بحيرة التخزين أمام السد العالي - المتعارف على تسميتها بحيرة ناصر بحكم قرار منشئها، أو دعوة لتسميتها بحيرة النوبة بحكم موقعها الجغرافي في بلاد النوبة - هي من النوع الدائم لا تنصرف كلية، وإن كان منسوب مياهها يتأرجح سنويا حسب كمية مياه الفيضان وبين كمية السحب إلى خلف السد بقية العام.
للسد العالي فوائد ومضار عديدة كأي تكنولوجيا. ومن فوائده نكرر ما سبق ملاحظته تجريبيا، مثل تأمين المياه للزراعة والصناعة والناس سواء كان الفيضان عاليا أو منخفضا، وتحويل آخر مناطق نظام ري الحياض في قنا وأسوان إلى الري الدائم، وتدبير بعض المياه لاستصلاح أراض صحراوية في غرب الدلتا وجوانب الوادي في المنيا وكوم أمبو ... إلخ. ولكن أحد أهم المشروعات كان توليد الكهرباء الرخيصة كطاقة متجددة - ينتج السد العالي نحو 2100 ميجاوات
19 - من أجل برنامجين هامين أولهما: التصنيع، والثاني: اجتماعي يهدف إلى كهربة الريف وما يترتب عليه من آثار اجتماعية اقتصادية كثيرة. وبالرغم من أن الطاقة الكهربية المنتجة من السد العالي وسد أسوان الآن أقل من
18٪ من الطاقة الكهربائية المنتجة في مصر من المحطات الحرارية، إلا أن كهرباء السد العالي ومحطات التحويل الكبرى في مصر كانت اللبنة الأساسية في هذا الاتجاه التحديثي في إنتاج الطاقة في مصر. (2-6) دعوة لتصحيح ما فات من سلبيات
والغرض الختامي من هذه المداخلة أن النظام البيئي في مصر قد حدث له ما حدث في أجزاء كثيرة من العالم نتيجة إقامة السدود الكبيرة. والدعوة موجهة للمختصين في هندسة الماء والزراعة والصحة والتشريع للعمل المشترك من خلال مجلس ذو سلطات عليا حقيقية، من أجل تحسين الكثير من مشكلات الري والصرف، وتقليل الاعتماد على الأسمدة والأعلاف المصنعة والمشكلات الصحية المتضخمة.
وربما يمكن ذلك جزئيا بفتح بعض المجال لاندفاع مياه الفيضان في النهر والترع إلى الأرض الزراعية لغسل التربة وتجديد بعض خصوبتها بالغرين وغسل النهر من نباتات المياه الراكدة أو قليلة الحركة، وغسل هذا النهر العظيم مما ينصرف إليه من مياه ملوثة بمخلفات الأسمدة الكيميائية شديدة الضرر.
يكفي ما وقع فيه العالم المتقدم من أزمة تلو أزمة في الغذاء المعالج وراثيا، والعلف المصنع، وجنون البقر والأغنام، وما يستجد من أمراض قد تحل محل الأوبئة التي كانت تجتاح العالم في العصور الوسطى كالطاعون والسل وما إلى ذلك - وقانا الله شرها بعمل جاد للحفاظ على حياة الجنس البشري وحياة المصريين. (3) نموذج لإطماء بحيرات السدود: تقييم مشروع «خشم القربة» في السودان - استخدام المياه في منطقة جافة
اختيار هذا النموذج هو لتوضيح واحدة من أخطر سلبيات السدود وهو إطماء حوض التخزين المائي، وبالتالي فقد دور السد بعد عدد من السنين - بمعنى أن أي سد يبنى بتكلفة ما وفي الحساب أن له عمرا معينا ينتهي به وظيفته التي من أجلها أنشئ. وصحيح أن سد خشم الجربة صغير بالمقارنة مع السد العالي، إلا أنه نموذج حي يوضح ما سيئول إليه السد العالي بعد خمسين أو مائة سنة. وهناك فارق آخر هام هو موقع أي سد بالنسبة لنوع الصخور التي تسير عليها المياه الجارية، وما إذا كان قريبا من المنابع ونوع وقوة الفيضان الموسمي، وغير ذلك من أمور يختلف فيها السد العالي عن خشم الجربة كما سيتضح مما يأتي من تفصيل. (3-1) وصف المشروع
أقيم مشروع سد وخزان خشم القربة - الجربة على النطق الشائع - على نهر العطبرة 1964 بمعونات وتعويضات مصرية للنوبيين الذين غرقت أراضيهم نتيجة إنشاء السد العالي في مصر.
تضمن المشروع أيضا توطين مجموعة من عشائر بدو البطانة، وبخاصة الشكرية واللحويين والبجة والكواهلة ... إلخ.
تقع أرض المشروع غرب مسار العطبرة في مساحة نحو 440 ألف فدان، تمتد مسافة 95كم بحذاء النهر وعرض يتراوح بين 20 و35كم. والاسم الشامل هو حلفا الجديدة كناية عن توطين المهاجرين النوبيين.
أقيمت 25 قرية مجهزة بالخدمات للنوبيين داخل أرض المشروع، و51 قرية داخل المشروع وعلى أطرافه لسكن البدو، لكن تجهيزها أقل من القرى النوبية.
بلغ عدد النوبيين الموطنين 52 ألف شخص عام 1980 يشكلون نحو سدس سكان المشروع - نحو 350 ألفا - والباقي هم عشائر من القبائل البادية في شرق إقليم البطانة.
وزعت أرض المشروع على مستأجرين بلغ عددهم 22376 مؤجرا، منهم 6553 نوبي بنسبة نحو ثلث أرض المشروع. يخص كل مؤاجر أرض مساحتها 15 فدانا بإجمالي مساحة قدرها 335 ألف فدان.
تبلغ المياه المخططة لاستخدام ري أرض المشروع 1,6 مليار متر مكعب.
تربة أرض المشروع طميية لومية جيدة، وتسقط على المنطقة أمطار صيفية تتراوح بين 250 إلى 300 مليمتر، وهي ليست بالكمية الكبيرة إذا أخذنا في الحساب ارتفاع درجات الحرارة معظم السنة، مما يؤدي إلى احتياجات مائية كبيرة في الزراعة، وإن كانت تكفي لنمو أعشاب فقيرة للرعي التقليدي.
المحاصيل المزروعة حسب المخطط والإشراف الإداري للمشروع هي دورة سنوية تشمل القطن والقمح وفول السوداني في مساحة 330 ألف فدان.
يشتمل المشروع على 25 ألف فدان مزروعة قصب السكر، و24 ألف فدان حرة للراغبين في الاستثمار. (3-2) حالة المشروع عام 1980 (دراسة ميدانية مطولة للدكتور محمد أبو سن)
20
أولا: المياه
المياه الفعلية التي تستخدم في الري لا تزيد عن 775 مليون متر مكعب، أي بخسارة قدرها 845 مليون متر مكعب. هذه الخسارة ناجمة عن: (أ)
نهر العطبرة يأتي في فيضانه القوي بكميات كبيرة من الرواسب التي أطمت جزءا كبيرا من حوض التخزين بما يعادل 21٪ من مياه المشروع. (ب)
قدر التبخر من سطح الخزان والترع بالإضافة إلى التسرب في الصخور المسامية بما يساوي 17٪ من مياه المشروع. (ج)
14٪ فواقد أخرى نتيجة لممارسات الري الخاطئة في الحقول.
وقد أدى تناقص كمية مياه الري إلى التفكير بتعويضها بواسطة إنشاء سد آخر على نهر ستيت ، أحد الروافد الهامة للعطبرة. ذلك أن المقدر أن تتناقص كمية مياه خزان خشم الجربة إلى 500 مليون متر مكعب في أواخر التسعينات، نتيجة استمرار إطماء الخزان سنويا. وهذا باختصار يعني إعالة المشروع بإنفاقات كبيرة لم تكن في الحسبان.
ويعني تناقص الماء فقدان ثقة المزارعين في جدوى المشروع. فإذا أنشىء سد نهر ستيت فإن ذلك يعني أنه سيتعرض هو الآخر للإطماء بعد فترة، وتزيد بذلك الفجوة النفسية عند المزارعين.
ثانيا: المحاصيل والإنتاجية المتدنية
تحول جانب من المزارعين من زراعة القمح إلى الذرة لاعتبارات أهمها أن الذرة مردودها أكثر، وأنها تمثل الغذاء المعتاد للناس أكثر من القمح.
تدنت إنتاجية الفدان من كل المحاصيل بصورة خطيرة نتيجة لظروف عدة، منها تناقص مورد مياه الري والممارسة غير الماهرة في الزراعة. يتضح ذلك من الأرقام الآتية:
المحصول
1965
1980
القطن
3,5
1,1 قنطار/فدان
القمح
0,45
0,12 طن/فدان
فول السوداني
0,5
0,23
برغم ذلك فإن إدارة المشروع ترى بعض الإيجابيات في جدوى المشروع. ففي الرأي الرسمي ينتج المشروع نحو 32٪ من القطن متوسط التيلة في السودان، و21٪ من إنتاج القمح و14٪ من إنتاج فول السوداني بقيمة إجمالية تساوي 5,9 مليون جنيه سوداني و1,5 مليونا و1,8 مليونا على التوالي. المجموع الكلي لهذه المحاصيل الثلاثة في المشروع هو 9,2 مليون جنيه سوداني، لكن يجب أن يضاف إلى ذلك نحو 9 مليون أخرى قيمة مبيعات الإنتاج الحيواني من أرض المشروع.
وعلى المستوى الفردي فقد قدر أبو سن دخل المزارع بنحو 200 جنيه سوداني سنويا من الزراعة، ونحو 600 جنيه من الثروة الحيوانية، وهي مبالغ زهيدة كما نرى.
نتيجة لهذا فإن المزارعين يضغطون من أجل تحويل جانب كبير من نشاطهم إلى تربية الحيوان، بتخصيص مساحات كبيرة لإنتاج الأعلاف بدلا من المساحات الكبيرة التي تشغلها الآن المحاصيل الثلاثة المقررة بواسطة إدارة المشروع. ويمثل البدو مجموعة الضغط الأولي في هذا المجال باعتبار أنهم رعاة أصلا، بينما يتأرجح النوبيون بين هذا الرأي وبين الإبقاء على التنظيم الحالي للمشروع.
لكن الإدارة تقاوم هذه الضغوط خوفا من ارتداد الرعاة إلى ممارسة حرفتهم المفضلة، وخوفا على المحاصيل، وبخاصة القطن ، من أن تصبح هي الأخرى غذاء للحيوان من الإبل والماشية والماعز والأبقار. وحيث أن +60٪ من سكان المشروع هم أصلا من عشائر الرعاة فإن الرضوخ لضغوطهم معناه فشل جانب كبير من ركيزة المشروع.
الخلاصة: أن المشروع يعاني فيزيقيا من تناقص مستمر في موارد الماء، وماديا من زيادة تكلفة الإنتاج وتدهور الإنتاجية، واجتماعيا من تناقضات أصول السكان بين الرعاة من البدو والمزارعين من النوبيين. كما أنه يعاني إداريا نتيجة عدم التقاء مصالح الإدارة العامة للسودان مع رغبات السكان، بمعنى عدم التفاهم بين المخططين الرسميين في الخرطوم والمنفذين والممارسين الفعليين على أرض الواقع ... (4) سلامة المياه في مصر (4-1) مياه النيل
ليس أكثر من مياه النيل حساسية في مصر. وسواء صدقت مقولة هيرودوت منذ نحو 2500 سنة أن «مصر هبة النيل.» أو مقولة أستاذنا الراحل سليمان حزين إن «مصر هبة أبنائها.» فالنتيجة الفعلية واحدة: النيل والمصريون معا بالتعاون وإدراك قدرات كل منهما صنعوا واحدة من أقدم حضارات العالم المثيرة للبحث والتقصي لعلماء العالم دانيه وقاصيه قديما ومستقبلا.
ومع متغيرات الزراعة المصرية من ري الحياض إلى الري الدائم، وتحديد مسار النيل بالجسور وتقنين كمية المياه بالقناطر والسدود وصلنا إلى أقصى تفعيل ممكن لمياه هذا النهر الخالد. لكننا لسنا وحدنا في حوض النيل، فهناك تسع دول تشاركنا في ملكية ماء النهر بدرجات ومساحات متفاوتة. بعض الشركاء ليسوا في حاجة حيوية لمياه النيل بما يتوفر لهم من أمطار وبحيرات ومستنقعات. والأغلب أن احتياجاتهم الأساسية هي الحصول على الطاقة الكهربائية بإقامة سدود متعددة - جنبا إلى بعض المشاريع الزراعية خلال موسم قلة المطر والجفاف. وهذا هو حال كل دول المنابع الاستوائية للنيل - أوغندا وكينيا وتنزانيا والكنغو ورواندا وبوروندي. وتمثل إثيوبيا دولة منابع تتميز بعشرات الروافد التي تتحد في ثلاثة نظم نهرية كبيرة تتصل بالنيل في السودان هي السوباط والنيل الأزرق والعطبرة. وأمطار إثيوبيا عادة كافية تسقط في موسم واحد، وتتعرض للذبذبة في الكمية وموسم السقوط؛ مما يترتب عليه مجاعات مخففة أو ثقيلة خاصة في شمال إثيوبيا في حوض العطبرة، وفي إريتريا حيث حوض نهر الجاش الذي يرفد العطبرة أحيانا، وأصبح الآن مجالا هاما للزراعة والنمو الاقتصادي في جنوب غرب إريتريا وجزء من شرق السودان.
وتعتبر السودان ومصر دولتي مصب تتجمع فيهما كل مياه المنابع الاستوائية والحبشية. وتختلف السودان عن مصر في أن الجنوب وافر المطر والمجاري النهرية القادمة من المنابع الاستوائية، فضلا عن مياه نهر السوباط الذي يصرف جنوب غرب إثيوبيا. لكن جانبا كبيرا من هذه المياه يضيع بالبخر والنتح النباتي في منطقتي مستنقعات السدود ومشار الشاسعتين. أما شمال السودان فهو صحراوي مشابه في جفافه إلى حد كبير مع الصحاري المصرية. ووسط السودان يتأرجح بين ندرة المياه شماله ووفرتها جنوبه. والوسط هو حتى الآن المجال الأكثر أهمية في حياة السودان الاقتصادية والسكانية. وتحصيل حاصل أن المعمور المصري يتركز حول النيل في الوادي والدلتا.
هذا الاستعراض السريع يوضح أن الحاجة للمياه يمكن أن تصنف إلى: (1)
إلحاح شديد في مصر (70 مليون فرد). (2)
إلحاح مماثل في السودان الأوسط والشمالي وإن يكن بدرجة أقل نسبيا (28-30 مليون فرد). (3)
احتياج إلى تأمين مصادر معقولة للمياه للزراعة الدائمة سواء كان المطر كافيا أو شحيحا في إثيوبيا الشمالية والغربية (نحو 60 مليون فرد)، وفي إريتريا (نحو 4 ملايين). (4)
احتياج إلى إقامة مشروعات حجز للمياه في بلاد المنطقة الاستوائية أيضا بغرض استزراع، ولكن بالأساس لتوليد الطاقة الكهربائية.
إن حصة مصر من مياه النيل مثبتة منذ اتفاقية 1959 مع السودان عند 55,5 مليار متر مكعب سنويا. وهناك أفكار في السودان نحو تعديل الاتفاقية بحيث ترتفع حصتها عن المقنن الحالي البالغ 18,5 مليارا من أجل إقامة مشروعات زراعية للسكان المتزايدين في النطاق الأوسط، خاصة بعد التزاحم فيه نتيجة للعمليات العسكرية في الجنوب وهجرة السكان إلى مناطق لا تطولها ويلات الحرب. هذا فضلا عن عملية التحضر لكثير من القبائل السودانية والتي تتكدس بالدرجة الأولى في إقليم الخرطوم. ولدى إثيوبيا مشروعات طموحة لإنشاء عدد كبير من السدود الصغيرة والمتوسطة على الروافد النيلية العديدة. وهذه المشروعات ربما تسييسها شركات مقاولات عالمية كبرى، قد لا نستثني منها استشارات إسرائيلية كوسيلة للضغط على مصر كي توافق على بيع أكثر من نصف مليار من مياه النيل سنويا - غالبا عبر شمال سيناء!
وهذا أو ذاك مما قد يؤثر على الحصص المائية لدول الحوض قد استدعى تأسيس «مجلبس وزراء الموارد المائية لدول حوض النيل» عام 1998 من أجل التفاهم المشترك، وربما من أجل عقد اتفاقية مياه أشمل من الاتفاقية الحالية بين مصر والسودان، تشارك فيها معظم دول النهر إن لم يكن جميعهم. وبطبيعة الحال فإن هذا أمر مشروع أن يكون لدول المجرى حقوق في المياه الجارية، لكنه قد يتعارض مع الحقوق الراهنة والتاريخية، فضلا عن تقييم الحصص على ضوء الحاجة الفعلية وكثافة السكان حول المجرى النهري وروافده، وكثافة العمل الزراعي على المياه، إلى آخر ذلك من القضايا التي هي حياة أو موت في ظل الأحوال الراهنة، وأفضليتها بالنسبة إلى إقامة مشروعات تنمية مستقبلية.
والمطلوب الآن ألا تظل أمور المياه بعيدة عن الإعلام العام في مصر حتى لا يفاجأ الناس بخبر خطير حول حصة مصر. والمعنى أن مثل هذا الموضوع لهو من الحساسية بحيث لا يجب أن تظل حقائقه باهتة أمام المهتمين بل وكل المصريين. فهو في نتائجه أشبه بحالة حرب إذا أدركها المواطن تصرف بما تقتضيه أمور الحرب من توفير واقتصاد في الاستهلاك. والملاحظ أن قلة التوعية بالمياه هي سبب لاستخدام غير مرشد للمياه في الحقل والمصنع والمسكن وأبنية الحكومة. فلا تزال كثرة الناس على ما ولدوا عليه أن النيل معطاء على الدوام. أعط الناس المعلومات الصريحة يتجاوبون معك ويتكون رأي عام على قدر الأهمية التي نوليها الآن لشئون البيئة!
وهناك مخاطر مائية قادمة نتيجة تداخلات واتفاقات دولية كمؤتمر لاهاي في مارس 2000 الذي نظمه البنك الدولي، وعدد كبير من الشركات العالمية التي تتجر في الماء - إنشاء السدود ونقل وتخزين المياه ... إلخ. وحضره عدد كبير من وزراء الموارد المائية في العالم، ومصر من بينهم، والذي أقر مبدأ تسعير المياه باعتبارها سلعة كغيرها من السلع. وكذلك الاجتماعات المتسارعة لمجلس وزراء الموارد المائية لدول حوض النيل في عنتبة ودار السلام وأديس أبابا ... إلخ، خلال السنتين 1998-2000، وما قيل عن تكوين «كونسورتيوم» بين مصر والسودان وإثيوبيا لإقامة مشروعات مائية مشتركة على النيل وروافده. فما هي هذه المشروعات المشتركة، وما هي المبادئ التي اتفق عليها في توزيع الحصص المائية بين الدول الثلاث؟ وهل ستتأثر حصة مصر؟ وهل سيكون هناك مقابل مالي نظير الحصول على حصص أكبر؟ أسئلة كثيرة محيرة تحتاج إلى توضيح وإعلام أكبر مما هو متبع حاليا.
فالواجب علينا أن نتدبر أمورنا بحكمة واقتدار كما فعل أجدادنا القدماء في ظل معارفهم التكنولوجية آنذاك، تعايشوا مع النهر فأعطاهم النهر الوافر من الخير للآلاف المؤلفة من السنين. وبعبارة أخرى يجب أن ندقق - علانية وبصراحة مطلوبة بشدة - في ميزانية المياه التي لدينا:
ما هي المشروعات التي نبدأ بها وكمية الماء والعائد الفعلي المادي والاجتماعي من مثل هذا المشروع أو ذاك؟
وما هي المشروعات التي نخطط لها والتي يمكن تأجيلها إلى أن نتأكد من قدر حصتنا من المياه في ظل ظروف متغيرة؟
وهل لا بد أن تكون التنمية في مصر مرتبطة بتأسيس مشروعات زراعية كبيرة المساحة؟ ولماذا لا نقلل من البيروقراطية التي تحبط جهود الأفراد المستثمرين في الأراضي الجديدة؟ وبدلا من الإنفاقات الكبيرة التي تتحملها الدولة في الاستصلاح الزراعي بشكله الراهن، لماذا لا تصبح المشروعات الفردية الصغيرة - أفرادا أو تعاونيات - رائدة الفكر التنموي الزراعي الجديد؟ وهل لا نتجه إلى تغيير نمط الري في الوادي والدلتا.
معروف أن الزراعة الحالية بشكلها ومحاصيلها وريها بالغمر تستولي على أكثر من ثلاثة أرباع المياه المستخدمة في مصر سنويا، فلماذا لا نغير هذا النمط بزراعة أكثر علمية تستخدم مياه أقل، ويتجه بعضها إلى محاصيل أخرى لها أسواق معروفة في الداخل والخارج؟ أو محاصيل صناعية كالكتان إلى جنب القطن والذرة من أجل الصناعات القائمة عليها، وغير ذلك يعرفه علماء مصر وفلاحوها، إنما ينقصهم التمويل والتنظيم الإداري وتنظيم السوق الداخلي والخارجي ... إلخ.
أليس من الممكن أن تحل أشكال من التنمية الصناعية والإلكترونية بتكنولوجيا عالية محل صناعات تقادم عليها العهد، كتحسين صناعة النسيج والطباعة من السجاد إلى الكتان إلى الأقطان عالية الجودة إلى صناعات الملابس وابتكار أزياء قابلة للتداول الداخلي والخارجي معا ... إلخ، مع الابتعاد التدريجي عن الصناعات الملوثة؟
مثل هذه الأشياء يجب أن تطرح بصراحة و«شفافية» كما هو المصطلح كثير الاستخدام الآن. قد يغيب عن غير المختصين دقائق هندسة المياه؛ لكن لن يغيب وعيه كمية المياه المخصصة للزراعة والصناعة والاحتياجات المنزلية للناس جميعا، ولن يغيب عن فكره ماذا سوف نخلفه لأحفادنا: نهر عظيم قدسه الأجداد وتغنى به الشعراء، أم مشكلة مياه؟ (4-2) هل تهدد الطحالب السامة مياه بحيرة ناصر
الماء هو أساس الحياة على سطح كوكبنا الأرضي كما نعرفها، وتؤكد الآية القرآنية الكريمة
وجعلنا من الماء كل شيء حي
صدق هذه المقولة، لدرجة أن واحدا من أهم أبحاث الفضاء الآن هو الإجابة على سؤال «هل توجد مياه» على سطح كوكب المريخ أو أحد أقمار كوكب المشترى؟ بمعنى هل هناك صلاحية لحياة الإنسان الأرضي على كوكب آخر؟ والإجابة حتى الآن هي بالنفي. ويعني هذا ببساطة أن الإنسان ربيب كوكب الأرض يجب أن يتخذ كل الوسائل التي بلغتها علومنا الأرضية للمحافظة على المياه العذبة المؤهلة للحياة من التلوث، وأن يرشد استخدامها حتى لا تفنى أو تتغير خواصها بحيث تتسبب في فناء الحياة النباتية والحيوانية والبشرية الحالية، كما حدثت من قبل كارثة فناء حياة الديناصورات منذ نحو ستين مليون سنة نتيجة ظروف كوكبية أخرى.
ومن أجل شيء ما نبتغيه أسرف الإنسان في استخدامات المياه العذبة الجارية في الأنهار: إذا أردنا تحويل الزراعة المطرية إلى زراعة ري دائمة، أو إذا أردنا تأمين مياه الشرب للمدن والمستوطنات البشرية المتزايدة بسرعة فائقة، أو إذا أردنا توليد الكهرباء أقمنا من السدود والقناطر ما شئنا لنفرض على الأنهار ما نريد من حجز أو تصريف بتقنين، مما أدى إلى تغيير طبائع الجريان النهري فنحيله هدارا صاخبا من خلف بركة ساكنة تتغير خواصها الحياتية بالتدريج، إلى أن تنتج إيكولوجيا جديدة مائية ومناخية ونباتية وحيوانية تمتص من الماء جزءا مما أردنا تخزينه كاحتياطي حيوي، وغالبا ما تؤدي إلى تكاثر بكتريا غير مرغوبة البعض منها ذات سمية تشكل أخطارا ضارة بصحة الإنسان وأشكال الحياة الأخرى.
صحيح أن المياه العذبة نتلقاها بالأساس في صورة تساقط الأمطار، وأن حياة الكثير من المدن والناس تقوم على ضخ المياه الجوفية الناجمة عن تسرب مياه المطر داخل الأرض، ولكننا لا نستطيع التحكم فيها قدر تحكمنا بالأنهار في صورة تلك السدود الهندسية الجبارة التي برع الإنسان في إقامتها طوال القرن العشرين. وفيما يلي مقارنة بين ما حدث مؤخرا في كندا عن تسمم مياه الشرب، وما تقصى عنه البحث العلمي عن تلوث مياه بحيرة ناصر.
كندا: حادث وردود فعل منهجية (الدراسة الآتية تلخيص عن مجلة جامعة «كويتر»:
Queen’s Alumni Review
ربيع 2001).
في مدينة «واكرتون» الصغيرة في ولاية أونتاريو الكندية توفي سبعة أشخاص بعد شرب مياه ملوثة ببكتريا «إي كولاي
E. coli »، وقد أثبتت هذه الحادثة أن المياه الملوثة لا تصيب فقط سكان الدول النامية، بل أيضا الدول المتقدمة حيث توجد كل وسائل الرقابة الصحية على مياه الشرب. فالمقدر أن شخصا يموت كل ثماني ثوان في العالم بأمراض مرتبطة بالماء الملوث. والملاحظ أن مثل هذه المخاطر لا تظهر إلا بعد حوادث مميتة في دولة من دول العالم. وإلى جانب اهتمام حكومة الولاية فقد تشكل «مركز للمياه والبيئة» في جامعة «كويتر» يضم 40 خبيرا وباحثا في علوم الأوبئة والتسمم والميكروبيولوجيا والصحة العامة والجغرافية والهندسة والقانون والسياسة والتخطيط تحت إدارة الدكتور م. حسين الرائد في بحوث المياه. كلهم علماء في تخصصاتهم ولكن عملهم كفريق متكامل أفرز الكثير من النتائج التي لم تكن متوقعة، فعلى سبيل المثال لم يكن أحد يظن أن من الممكن إجراء اختبارات على بكتريا «إي كولاي» لا تستغرق أكثر من 24 ساعة لمزرعة البكتريا. ولكن حين يجلس العلماء معا في تخصصات البكتريولوجيا والكيمياء وبيولوجيا الأنزيمات ومهندسو توزيع ومراقبة المياه، تظهر كل وجهات النظر مجمعة معا في اتجاه واضح لمفهوم الموضوع تحت الدراسة وطرق معالجته. وقد أصبحت عشر جامعات كندية مرتبطة ببرامج عمل حول نوعية مياه الشرب مع مركز جامعة كويتر. كما أصبح هناك تعاون مماثل مع جامعات ومراكز في هولندا وأستراليا والولايات المتحدة من أجل اختبار تجهيزات حديثة سريعة للكشف عن «إي كولاي» وغيره من ملوثات المياه. وهناك برنامج بحثي آخر خاص بدراسة أثر إنشاء سدود توليد الطاقة على مياه المنابع وإيكولوجية الحياة في هذه المناطق الجغرافية، وذلك بغرض رسم مخطط شامل لإدارة مناطق منابع الأنهار لتقدير حجم التلوث المائي طوال أشهر السنة؛ حتى لا يوضع كلورين في الماء أكثر أو أقل من اللازم شهريا. (للاستزادة لمن يهمه الأمر
muhussain@civil queens.ca ).
مياه بحيرة السد العالي (تلخيص معلومات عن تحقيق نشر بالأهرام 11 يونيو 2001 حول بحث د. أحمد مصطفى حمد أستاذ علوم البيئة بجامعة أسيوط، باسم بحيرة السد العالي ومخاوف التنمية).
يؤكد البحث «أن بحيرة السد العالي أصبحت ممتلئة الآن بالهائمات النباتية والحيوانية مما يؤثر على نوعية الماء. وأخطرها الطحالب الخضراء المزرقة التي يوجد منها أنواع ذات إفرازات سامة وتتكاثر بدرجة انفجارية عند وجود الملوثات العضوية. وأكثرها سمية جنس
Oscillataria
و
Microcystis . ويساعد على نموها ارتفاع درجة الحرارة وشدة الضوء وسكون المياه؛ لعدم وجود تيار مائي في البحيرة بدرجة محسوسة. وسمومها ذات أثر متلف للكبد ومضاد للأنزيمات التي تحمي الإنسان من الأورام السرطانية. وهي تشكل 64٪ من الطحالب بالإضافة إلى طحلب
Microcystis aeraginosa
ذو السمية العالية. وأكثر المناطق كثافة لهذه الطحالب هي في مياه الأخوار؛ لأن كتلة المياه ضحلة ساكنة محبوسة في هذه الامتدادات الخليجية للبحيرة، مما يؤدي إلى انعدام أي تيار مائي. وتنمو هذه الطحالب جميعا على فضلات الإنسان وفضلات غذائه؛ لهذا يطالب الدكتور أحمد مصطفى بوضع البحيرة كمحمية طبيعية يجب أن يبتعد عنها الإنسان بأنشطته الحضرية الملوثة.»
وحسب ما جاء في دائرة المعارف البريطانية لعام 2000 فإن «طحالب الألجا الزرقاء الخضراء يمكن أن تستهلك الكثير من الأوكسجين الذائب في الماء العذب إلى درجة تؤدي إلى موت الأسماك، وكائنات أخرى كطيور الماء والأبقار ... إلخ، كما أنها متهمة بتسميم الإنسان، فهل سنفقد مصايد أسماك البحيرة؟
هذا البحث يحمل في طياته إنذارا خطيرا يجب أن نستعد له بالمزيد من الدراسة بواسطة فريق بحث على نحو ما حدث في حالة كندا؛ أي مجموعة من المتخصصين في كل علوم الحياة من الجامعات، ومراكز البحوث، والجهات التنفيذية من وزارات عديدة منها الري والأشغال والزراعة والتعمير وجهاز السد العالي وبحيرة ناصر ومحافظة أسوان، يجلسون معا ويخلصون إلى أقرب الحلول الممكنة. فإذا كان موت سبعة أشخاص في كندا قد شغل وزارات ولاية أونتاريو وجامعاتها، وحشد هذا العدد من الباحثين والعلماء في هذا المركز البحثي الجاد المكلف، فلا أقل أن نحذو حذوهم؛ لأن مخاطر هذه الطحالب شديدة الضرر تهدد ملايين البشر في مصر بأمراض بعضها في الحسبان، والبعض الآخر يحتاج إلى معرفة كنهه وأسبابه كي نوقف الداء ونحجم انتشاره.
مخاطر الزراعة والسياحة على ضفاف البحيرة
كنت من المتعاطفين مع رغبة بعض سكان النوبة القديمة العودة إلى شواطئ البحيرة وإقامة مستوطنات نوبية جديدة تقوم على الزراعة، وحزنت حينما أزالت الأجهزة الحكومية مؤخرا بعض المستوطنات النوبية القائمة فعلا على البحيرة بترخيص سابق. لكنني الآن أعيد النظر حتى تنجلي الأمور بصفة علمية مؤكدة. فلقد كان النوبيون فيما قبل السد العالي يمارسون الزراعة على النهر، لكن مياه الفيضان السنوي كانت تغسل النيل من أقصى مصر إلى أقصاها، وبالتالي لم تكن هناك مخاطر مماثلة لحالة بحيرة السد الحالية التي لا تنساب مياهها إلا بقدر محكوم. فهل لي أن أظن أن إزالة المستوطنات النوبية قد تمت بعد معرفة أخطار الطحالب على المياه، وسرعة تكاثرها نتيجة المخلفات العضوية الناجمة عن الاستقرار البشري والزراعة؟ أم أن هناك أسباب أخرى غير معلنة؟ وحيث إن النوبيين يفهمون هذا القدر من الأخطار، فالمعتقد أنهم سوف يتجاوبون برضاء مع مثل هذه الإجراءات الضرورية.
لكن ذلك الرضاء لا يمكن أن يكون كاملا في ظل عدم الأخذ بنفس إجراءات الإزالة لمستوطنات أخرى على البحيرة حول مدينة أبو سمبل، سواء كانت مستوطنات زراعية أو سياحية أو إدارية. ومثل هذا ينطبق أيضا على محطات الزراعات التجريبية لمشروع توشكى، وهي المقامة على ضفاف البحيرة مباشرة، وعلى أية مشروعات سياحية أخرى تقام على شاطئ البحيرة.
وكذلك فإن كثرة السفن التي تسير بالوقود السائل قد تكون مسئولة عن زيادة نسبة الكربون في الماء. فحسب دراسة د. أحمد مصطفى حمد المشار إليها سابقا زاد الإنتاج العضوي في البحيرة، بحيث وصل إلى 5 جرام كربون في المتر المكعب/يوم.
ولحسن الحظ، وبرغم التكلفة العالية لقنوات الري، فإن صلب مشروع توشكى يقع بعيدا عن البحيرة، ويمكن أن تنصرف مياه الزراعة إلى باطن منخفض توشكى الشاسع غرب المشروع. هذا فضلا عما يعلن دائما بأن الزراعة في مشروع توشكى سوف لا تستخدم المخصبات والأسمدة الكيماوية، وتقتصر على المخصبات العضوية؛ مما يقلل من مخاطر مياه الصرف على إيكولوجية الحياة في المنطقة وما جاورها.
وعلى أية حال فإنه نتيجة لهذه المخاطر، وإلى أن يثبت عكس ذلك، فالواجب أولا: التحذير مما تردد عن بيع بعض شواطئ البحيرة للمستثمرين بغرض إقامة مشروعات سياحية. فإن ذلك سوف يعجل بنمو الطحالب، وبالتالي يهدد بأخطار تلوث عال لهذا الماء الذي هو المنبع الوحيد لمياه النيل في مصر.
وإلى أن تتم دراسات عديدة في جسم بحيرة السد وأخوارها الكثيرة والتأكد من سرعة تكاثر الطحالب أو ثبات نسبة نموها، ووسائل القضاء عليها، وحفاظا على مصدر مياه مصرية أقل تلوثا وأقل ضررا، فالمطلوب التأني والتريث - بل وتأجيل - إصدار التصاريح بإقامة أي شكل من أشكال الاستخدام البشري للبحيرة وضفافها من ناحية، وإبعاد ما يمكن إبعاده من القرى والمستقرات الحالية عن مياه البحيرة من ناحية أخرى. صحيح أن ذلك سوف يهبط بحركة استخدامات كثيرة مربحة وبالأخص السياحة، ولكنها معادلة صعبة أن نقارن عوائد سياحية بأرواح الشعب المصري وصفاء النيل الخالد. (4-3) نحو «جمعية أصدقاء بحيرة السد العالي»
في السادس من الشهر الماضي نشرت في الأهرام موضوعا بعنوان «هل تهدد الطحالب السامة مياه بحيرة ناصر»، أتساءل فيه عن مدى مخاطر هذه الطحالب على صحة الإنسان المصري، وأدعو إلى تكوين لجنة من العلميين والمسئولين لدراسة الموضوع من أجل مستقبل مصر.
وقد وردت إلي منذ هذا النشر خطابات بالبريد العاجل من عدد من الأكاديميين في جامعتي أسيوط وسوهاج، ومكالمات تليفونية من عدد من النوبيين الذين يهمهم موضوع بحيرة السد العالي، باعتبار أن بعضا منهم أقام على شواطئ البحيرة منذ قليل من السنين مستوطنات زراعية، لكن السلطات المعنية أزالتها مؤخرا. وذكر لي المتحدثون من أهالي النوبة الكرام أنهم لم يكونوا يدركون مخاطر الإقامة على البحيرة، وهم على استعداد للتخلي عن مثل هذا الحلم الجميل إذا تخلت السلطات عن مشروعات استزراع وقرى سياحية ومدن على شواطئ البحيرة أيضا، خوفا على سلامة المياه التي يشرب منها 65 مليونا.
أما الرسائل التي وصلتني من العلماء فهي تؤكد مخاطر وجود طحالب عديدة من «الميكروسيست» و«أوسيلاتوريا» و«أروجينوزا »، تؤثر على نوعية المياه كما تؤثر على أسماك مزارع الأسماك في سوهاج. وكل ما تطرق إليه رأي الباحثين والعلماء هو نتائج أبحاث متعددة مشتركة مع متخصصين أجانب في مياه البحيرة ومياه مزارع الأسماك في سوهاج. إن ظروف الحرارة العالية والضوء الشديد ومياه الأخوار غير العميقة المتصلة بالبحيرة، كلها عوامل تؤدي إلى نمو الطحالب الخضراء المزرقة التي تتكاثر بعنف وسرعة أكثر في حالة وجود مخلفات عضوية ناجمة عن مشروعات مزارع الخريجين التي تتبناها مديرية الزراعة في أسوان، ومشروعات بيع أجزاء من شواطئ البحيرة لإقامة فنادق سياحية. والخلاصة: أن مياه البحيرة هي منبع مياه مصر، فإذا فرطنا فيها فالنتائج لا شك وخيمة كما يذكر أ.د. أحمد مصطفى حمد من جامعة أسيوط.
وفي أيام كثيرة نطالع في الصحف المصرية شكاوى عن نوعية مياه الشرب في محافظات مصرية عديدة، ليس فقط لتلوث بعضها بمياه الصرف الصحي، ولكن أيضا مياه الآبار ملوثة بمخلفات الأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية المستخدمة لزيادة المحاصيل الزراعية، وكل أشكال التلوث هذه غالبا ما أسهمت في ظهور أو تفشي أمراض عديدة، كأمراض الكلى والجهاز الهضمي التي يعاني منها قدر كبير من المصريين، بدليل انتشار مستشفيات خاصة بهذه العلل التي لم تكن شائعة من قبل.
والآن يأتي دور مسبب آخر لتلويث المياه هي تلك الأنواع العديدة من الطحالب التي تشكل مخاطر صحية وبصفة خاصة الكبد الوبائي . على سبيل المثال فإن الدراسة المشتركة بين د. زكريا عطية (جامعة سوهاج) وأ. د. «واين كارمايكل» وتحليل العينات في واحد من أكبر معامل السموم في الولايات المتحدة، أن حيوان «دافنيا» المستخدم كجزء من غذاء الأسماك، يتغذى على طحلب الميكروسيست السام، ويركز السموم التي تتراكم في أحشاء ونسيج الأسماك التي تتغذى عليها! هذا البحث نشر في مجلات علمية، وفي المؤتمر العلمي الدولي الرابع للطحالب الخضراء المزرقة في أستراليا في شهر يوليو الحالي.
المسألة الآن تحتاج إلى وقفة جادة. فالحقائق الثابتة هي:
إن هناك طحالب سامة في مياه بحيرة السد العالي.
إن هذه الطحالب تتكاثر بدرجة انفجارية في حالة وجود مخلفات عضوية.
إن في بعض مزارع الأسماك - سوهاج يقينا - مخاطر صحية لم يحسم قدرها بعد.
هذا فضلا عن مشكلات مياه الشرب في أجزاء كثيرة من مصر.
فما هو موقف السلطات التنفيذية؟
الواجب لكي نقتل الشك باليقين أن تتخذ عدة إجراءات من أهمها الآتي: (1)
إيقاف كل المساعي لتنفيذ مشروعات زراعية حول شواطئ البحيرة من أجل اتقاء وجود مخلفات عضوية تساعد على تكاثر الطحالب السامة. (2)
إيقاف أية مشروعات سياحية على شواطئ البحيرة للسبب السابق، فللسياحة مخلفاتها العضوية الكثيرة، فضلا عن أن استخدام السفن السياحية هو في حد ذاته ملوث مستمر طوال رحلتها في البحيرة، بإلقاء الفضلات والمواد العضوية فضلا عن زيادة نسبة الكربون في الماء نتيجة للوقود السائل. (3)
الدعوة إلى إعلان بحيرة السد محمية طبيعية لمسافة نحو عشرة كيلومترات على جانبي البحيرة، يحظر فيها أية أنشطة اقتصادية وحضرية؛ تجنبا لحدوث المخاطر المذكورة سابقا - رأي أ. د. أحمد مصطفي حمد. (4)
الدعوة إلى تمويل حكومي كثيف لإجراء بحوث علمية مستمرة على المياه في كل أجزاء البحيرة. فلا أقل من أن تسعى حكومة مصر لضمان سلامة هذا المنبع الفعلي لمياه مصر سعيها في اتجاهات التنمية المختلفة. فهو مشروع قومي بكل المعنى، ولا شك في أن عائده سوف يرتد في صورة تناقص تكلفة العلاج لملايين المصريين. (5)
وجريا على عادة المشروعات القومية في أي دولة من العالم، فإن المشروعات القومية يجب أن تحظى بتأييد شعبي في صورة جماعة أو جمعية غير حكومية تكون وظيفتها الأساسية إثارة الوعي بين الناس وعلى الصعيد الإعلامي، واستثارة الأجهزة المسئولة على منح المزيد من الجهد لتنفيذ هذا المشروع. (6)
ربما نقترح اسما لهذه الجماعة هو «جمعية - أو منتدى - أصدقاء بحيرة السد»، يشارك فيها من أجل مصر علميون وإعلاميون وسياسيون وأعضاء برلمانيين، وكل من يحب مصر من صناعيين وفلاحين وإداريين.
فهل تحتضن مؤسسة «الأهرام» الصحفية مشكورة مثل هذا المنتدى من أجل مصر؟
وهل تبدأ صفحاتها بالدعوة إلى مثل هذا المشروع؟
لكن ذلك لم يحدث ... لماذا؟
والأخطر استمرار الدولة في إنشاء قرى استيطانية زراعية على شواطئ البحيرة لمجتمعات يقال عنها: إنها أولى بالتوطين من مناطق الفقر في كل مصر الزراعية، ونادرا ما يكون بينهم نوبيون أصحاب الدعوة إلى استعادة الحياة على هذه الشواطئ نوبية الأصل!
الفصل السابع
ماذا نحن فاعلون في القرن 21؟
(1) سيناريو الأرض وتأملات فيما كان ويكون (1-1) التغير سمة الحياة على كوكب الأرض
التغيير هو الصفة الأساسية التي تلازم كرتنا الأرضية؛ فليس هناك شيء دائم على حال واحدة، ولكن سرعة التغيير تختلف من عنصر إلى آخر. فالتغيرات التي أدت إلى تكوين كوكبنا الأرض تقاس بمليارات من السنين وحركات بناء القارات وتكوين البحار تقاس بمئات الملايين من السنين، وكذلك الحال بالنسبة لظهور أشكال الحياة النباتية والحيوانية، أما التغيرات المناخية الكبرى فتقاس بملايين السنين. وأخيرا فإننا نقيس ظهور الإنسان بمئات آلاف السنين، وانتشاره على سطح الأرض بعشرات آلاف السنين. وإذا أردنا أن نقرب ذلك إلى أذهاننا وعقولنا فربما يخدمنا في هذا السناريو التالي كفيلم نرى تتابعه؛ لكنه الحقيقة بعينها في صور خاطفة:
تطور الأرض على مر خمسة مليارات سنة: قارة واحدة تتكسر إلى عدة ألواح تكتونية هي أجزاء من القارات الحالية أضيفت إليها بالتعرية والنحت وحركات أرضية أخرى، كلها غير ثابتة بل متحركة على مقياس عدة مليمترات وسنتيمترات في السنة تراكمت على ملايين السنين لتكون ضغوطا هائلة تنتج السلاسل الجبلية الحالية أحدثها جبال الألب الأوروبية منذ نحو 50-30 مليون سنة. وما زالت الحركات الأرضية مستمرة، ومن مظاهرها المعايشة أحداث الزلازل والبراكين المفجعة، وغيرها من الحركات غير المحسوسة؛ لكنها تقع تحت طائلة الرصد والقياس حسب قدرة أجهزتنا الحالية.
تكسر الصخور بفعل المطر والحرارة وزحف حقول الجليد ونحر البحر، وأشياء أخرى تؤدي إلى تكوين مسطحات من الصخور الإرسابية أشيعها التكوينات الجيرية كالمقطم. إرساب المفتتات يحدث في قاع البحار ثم تحدث عوامل أرضية ترفع الإرسابات فوق منسوب البحار. وبالتالي فإن سطح البحر يتغير على مر الزمن.
الصخور التي نشاهدها على الأرض إما هي باطنية - نارية أو أصلية - كالجرانيت أو متحولة نتيجة الضغوط الهائلة للكتل الأرضية كالشيست أو رسوبية كالصخور الجيرية والرملية. ولكل نوع قيم اقتصادية؛ الصخور الباطنية تحتوي على معظم المعادن الفلزية كالنحاس والحديد والذهب، أما الصخور الرسوبية فهي على الأرجح مكامن معادن الطاقة كالفحم والبترول والغاز الأرضي.
الأنهار تفتت الصخور وتبني أودية ذات تربة صالحة للاستقرار وممارسة الزراعة. أحسن أنواع التربة هي ما اشتقت من الصخور البركانية كوادي النيل والدلتا، أو على سفوح البراكين الخامدة أو النشطة برغم مخاطرها.
عناصر المناخ الأساسية مشتقة من الغلاف الجوي الذي يلف الأرض ويتأثر بالحرارة الشمسية، التي تؤدي إلى الحرارة والتبخر والتكاثف وتساقط المطر والثلوج بنظام محدد على سطح الأرض؛ لكنه يتغير بين فترات زمنية متفاوتة الزمن ناجمة عن تغيرات عديدة، ربما منها تغير توجه محور الكرة الأرضية إلى غير ما هو عليه توجهها الآن إلى نجم القطب الشمالي، أو نتيجة ازدياد النشاط البركاني والزلزالي المصاحب لتكوين القارات، وما يحدثه من مليارات أطنان الغبار في الغلاف الجوي؛ مما يؤثر على الحرارة مددا طويلة أو قصيرة، أو تحرك الألواح التكتونية المتعددة أو نتيجة إصابة الأرض باصطدام نيازك ضخمة ومكونات صخرية فضائية أخرى ... وهو ما يترتب عليه أن يتحمل الغلاف الجوي بأتربة وغازات كثيفة لعدة مئات أو آلاف السنين تلف العالم وتقلل اختراق أشعة الشمس إلى سطح الأرض، مؤديا إلى تغيرات جسيمة في الأقاليم المناخية. وحسب طول وقوة المتغيرات قد يبيد شكل من أشكال الحياة كما حدث للديناصورات وهلاكها منذ نحو 60 مليونا من السنين. ومنذ بضع عشرات آلاف السنين استقرت الأوضاع المناخية على أشكال أساسية نجم عنها الأقاليم المناخية المعتدلة في العروض الوسطى والمتطرفة البرودة في المناطق القطبية والمرتفعة حراريا في المناطق الاستوائية والمدارية الصحراوية - أي مقدمات المناخ الحالي لكرتنا الأرضية.
المناخ الحالي ربما يعود إلى نحو 30 ألف سنة، والمناخات الأقدم تراوحت بين عصور جليدية ممطرة وعصور حارة جافة أو ممطرة لمئات وعشرات آلاف السنين. وفي خلال مئات ملايين السنين تغيرت وتطورت وانقرضت أشكال الحياة النباتية والحيوانية من الأمفيبيات والأسماك إلى السحالي الضخمة - الديناصورات - وإلى الحيوانات الثديية ثم الرئيسيات في الملايين الخمسة الماضية ، وآخرها الإنسان في مقدماته ومتاهات تفريعاته خلال المليونين الأخيرين، والإنسان العاقل منذ نحو بضع عشرات آلاف سنة؛ فأصبح على قمة الهرم الإيكولوجي للحياة بابتكارات كثيرة أهمها اللغة - الكتابة تعود إلى 5 أو 6 آلاف سنة فقط؛ بينما صحبت لغة الصوتيات الإنسان منذ ظهوره على الأرض، وتطورت تدريجيا إلى مقاطع وكلمات - واستخدام الآلة من الحجارة والأخشاب ثم المعادن - نحو خمسة آلاف سنة - واكتشاف الزراعة - نحو عشرة آلاف سنة - بدلا من الصيد وجمع الثمار والحبوب البرية، واستخدام الطاقة الميكانيكية بدلا من الطاقة الجسدية للحيوان وطاقة الرياح لتحريك السفن، واكتشاف كل أشكال الطاقة المستخدمة حاليا ومستقبليا.
كثرة استخدام الوقود الحفري والغازات في عصر الصناعة أدى إلى إشكاليات مناخية معاصرة على رأسها الأمطار الحمضية وثقب الأوزون وتدمير رئات العالم الغابية، وكلها عوامل تؤدي إلى التأكيد بأن الإنسان يقود المناخ إلى عصر احتباس حراري؛ مما يؤدي إلى كوارث بيئية تصيب أسس الحياة المعاصرة من الإنسان والحيوان والنبات ما لم يتداركها قبل فوات الأوان! (1-2) الإنسان وتغيير البيئة
إن النظام البشري يبدو وكأنه ميدان صراع يتنافس فيه اتجاهات وطبائع البشر:
حاول الإنسان الصانع دائما وأبدا أن يحول الشيء النادر الوجود إلى اعتيادي الوجود، وهو في المجتمع المعاصر يسعى لتحويل المحتوى إلى الشكل والعقلانية إلى روتين والفن إلى تقنية.
في الشرق والغرب نرى ظهور طبقة جديدة من النخبة
elite
هم «مديرو المجتمع» الذين لا يستمدون قوتهم من المصادر التقليدية للطبقات. وهذه النخبة ليست دائمة الوجود، إنما هي مجموعات عابرة ومتشعبة، وهي غالبا المجموعات الغامضة المسئولة عن «اتخاذ القرار» في الدوائر البيروقراطية العليا من الإدارات في الهيئات الخاصة والعامة، والتي تدفعها استحداثات التقنية إلى الإمساك بدفة الأمور.
إن الصراع بين البيئة الطبيعية والبيئة صناعة الإنسان قد تعدى نقطة اللارجوع. فنمو المدن الكبرى «ميجابولس» قد دمر الصفات التي كانت حيوية في النظرة السلفية التقليدية لكل من الأفراد والمجتمع.
1
ينعكس ذلك في مدى وشكل العقلانية والتنظيم في المجتمع المعاصر بنمو الأنماط القياسية الموحدة في السلع والخدمات، وكذلك النمو المتسارع للإعلام وتدفق المعلومات، وارتفاع نسب الضوضاء والاختناقات في المرور والحركة.
والنتيجة هي ما نراه أحيانا من توقف أو انهيار مؤقت للخدمات في المدن الكبرى الحديثة، كنيويورك أو القاهرة؛ لأنها محملة بأكثر من طاقتها بالحركة والاتصالات السلكية والطاقة الكهربية.
ومن الناحية الاجتماعية يزداد التوتر الذي يشتعل مرات إلى أعمال شغب واسعة النطاق بين فئات أو طبقات أو مجموعات إثنية مختلفة، كما يحدث بين السكان من أصول أو ثقافات مختلفة في كثير من الدول.
وقد انعدم الشبه بين المدينة المعاصرة وبين المدن القديمة التي كانت تتميز بنسيج مترابط لفئات السكان وأحيائها.
وإزاء ذلك يعلن الساسة في الشرق والغرب أنهم يسعون إلى استعادة روح الجماعة ومضمونها، لكن الدراسات الاجتماعية تظهر أننا نتباعد عن ذلك الهدف باستمرار، ربما لأن تكنولوجية المواصلات والانتقال قد ساعدت على هذا التباعد وفقدان الولاء للمدينة التي نشأنا ونعيش فيها كما كان الحال في الماضي. لهذا لا نجد كثيرا من الأفراد ينظرون للمدينة على أنها «مدينته»؛ بل يهرب منها إلى الضواحي الجديدة على أمل الالتقاء بالخضرة المفقودة، سواء كان الهروب هو للسكن في الضواحي أو للتنزه فيها، وهو بذلك يعزل نفسه عن التفاعل المعيشي وإن كان لا ينعزل عنها وظيفيا أو خدميا.
وبصيغة العموم نقول: إن الترف والثراء قد ساعد على انعزال الفرد عن الجماعة التي يعيش من خلالها. وقد كان ذلك حقيقة بالنسبة للأغنياء في الماضي، لكن التكنولوجيا الحديثة قد مدت بساط الرخاء لطبقات كثيرة من المجتمع، وتحول «الاستغراب» - العزلة والاغتراب عن المدينة - إلى ظاهرة جماعية في الطبقات العليا والدنيا على السواء. فالطبقة العليا بما لديها من موارد تنتقل إلى فيلات وقصور خارج المدينة. والطبقة الدنيا تتحول إلى سكن الوحدات الاقتصادية التي تمولها مشروعات خاصة أو حكومية خارج المدينة. أما الطبقة الوسطى فالأغلب أنها تستقر في المدينة؛ لأنه ليس لديها ميزات الطبقة العليا ولا مواصفات الطبقة الدنيا في القدرة على الحركة. فالأغنياء يملكون المال والفقراء لا يفقدون شيئا إذا انتقلوا، بينما تتمسك الطبقة الوسطى بمقدرات العيش ضمن إطار أحيائها.
ونتيجة للرخاء العام في البلاد المتقدمة، وبخاصة أمريكا وأوروبا الغربية أصبح الأفراد «يموتون» من الملل نتيجة الترف الذي بلغ درجات لم يعد وراءها تطلعات جديدة. لهذا فإن الانحرافات بين المراهقين قد أصبحت شائعة، خاصة بين أبناء الأسر الغنية. ومثل ذلك بين الفقراء، فالملل يقتلهم والانحراف يشدهم ويثير مشاعرهم، وينطبق هذا على أبناء مثل هذه الأسر في مدن العالم الثالث.
هناك أيضا وقت فراغ جبري يسمى الآن البطالة. قد يتمكن المتخصصون من المواءمة بين الإنسان والآلات، لكن فائض العمالة البشرية سيظل مشكلة ضخمة. قد تكون هناك حلول اجتماعية - ضمانات وتأمينات البطالة في الدول المتقدمة بصفة خاصة - لسد احتياجات مادية للعاملين الذين يفقدون وظائفهم، والإبقاء بذلك على قوتهم الشرائية في السوق، الذي يتأثر كثيرا من حرمانه من تعامل جزء من الناس. وفي أمريكا يفكر البعض في ضمان دخل سنوي بغض النظر عن العمل المؤدى من عدمه، وذلك كرد على استمرار البطالة - بل وتزايدها - في تركيب العمالة الحديثة. ولكن ذلك لا يفي باحتياج الناس أدبيا ومعنويا أن يكونوا عاملين ومتطلعين إلى مراتب ومواقع مشاركة في الحياة. ولهذا فإن مجتمع القرن القادم سيواجه مجموعة واسعة من المشكلات الاجتماعية والسيكولوجية، فضلا عن علاقات الجنسين ونمو دور المرأة عود على بدء ... (2) خواطر ومخاطر القرن الجديد
جذور هذه الخواطر والمخاطر هي بالأساس وليدة بعض أشكال التقدم خلال القرن العشرين. ولا شك في أن الكثير من الإنجازات العلمية لها آثارها الإيجابية وتطبيقاتها التي ولدت الكثير من التقدم والرفاهية، وساعدت على أن يكتشف الإنسان من الطاقات التي لم يكن يعرفها الشيء الكثير، وبخاصة طاقات الإنسان الخلاقة باقتراب الإنسان من بعضه البعض في المسرح والسينما والتلفاز، والتعرف على غيره بقراءة الرواية والشعر والفنون التشكيلية عبر العالم، ومنجزات العلوم أولا بأول ... ومع ذلك فإننا لا زلنا على عتبة أبواب كثيرة في العلوم الاجتماعية والاقتصادية ومعارف الفلك وعلوم الأرض والهندسة والطب والكيمياء والفيزياء.
وبفضل الكمبيوتر والإنترنت تفتح عصر المعلوماتية عبر الحدود الوطنية التي سقطت في الواقع أمام هذا السيل العرم من المعرفة والمعلومات. وتوالت اكتشافات وإرهاصات اكتشافات في كثير من العلوم، وبخاصة في مجالات الهندسة الوراثية كخطوة رائدة لا نعرف بعد أبعادها التطبيقية على الأرض والغذاء وصحة الإنسان، وفي مجالات البيئة التي هالنا كم أسرفنا في تجاهلها، حتى أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من العبث - غير المقصود - بالنظام الطبيعي على يابس الأرض، ومحاذير تغيرات المناخ على الغلاف الجوي والبحري.
وفيما يأتي نسوق بعض النماذج من المخاطر؛ علنا نسرع بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الجو والبحر والأرض، وفوق كل ذلك وجود الإنسان ... (2-1) مخاطر تغيرات المناخ وغلاف الأوزون
الهاجس الأول لبحوث الفضاء هو الإجابة على سؤال هام هو هل يوجد ماء على سطح المريخ، وبعض أقمار المشترى وغيره من كواكب مجموعتنا الشمسية؟ وما هي طبيعة الغلاف الغازي على المريخ، أو أحد أقمار كوكب المشترى؟ بعبارة أخرى هل تصلح هذه أو تلك من الكواكب والأقمار لحياة الإنسان كما نعرفها أو مع بعض التعديل؟ أم أن هناك أنواع أخرى من الحياة لا نعرفها ولا نعرف حتى النذر اليسير عن قدراتها وغرائزها وذكائها، بحيث يؤدي إلى تعايشنا معها بتكويننا البشري ... أم حرب إبادة كونية؟
فإذا تركنا هذه التساؤلات - وهي مطروحة بقوة - فإن اهتماماتنا الأولية الآن تدور على كوكبنا، وكيف نستعيد صحته ومقوماته التي درجنا واعتدنا عليها بصورتنا البشرية الحالية. فعنصر المناخ على كوكب الأرض هو في الحقيقة العنصر الحاكم الذي ساعد على نشأة كل أشكال الحياة القديمة البائدة، وتطورها إلى الحديثة المعايشة المعاصرة على سطح الأرض ومياهها. ولا شك أن التغيرات المناخية في الملايين الخمسة الأخيرة من عمر الأرض المديد - نحو 4,5 مليار سنة - قد أدت إلى اضطرابات بيولوجية وحياتية على وجه الأرض. وما هو الآن قائم من أشكال الحياة الحالية بجملتها هو نتيجة للتشكيل المناخي الذي بدأ يسود منذ انتهاء العصور الجليدية في القارات الشمالية - أي منذ نحو
مليون سنة.
المياه العذبة الحالية في صورة أمطار وأنهار وثلوج هي واحدة من أهم تفاعل عناصر المناخ العالمي، وهي أساس حياة الناس والحيوان والنبات، والآية القرآنية الكريمة تصف ذلك بإحكام بالغ
وجعلنا من الماء كل شيء حي .
وعنصر الحرارة عامل أساسي في المناخ، وكذا توزيعات الضغط الجوي واتجاهات الرياح ودورة الهواء العليا. فبدون الحرارة لا يحدث التبخر من سطح المحيطات ولا تتكون السحب ولا تسقط الأمطار ولا تجري الأنهار ولا توجد حياة كما نعرفها. تتلقى الأرض الحرارة من الشمس بدرجات معينة آمنة نتيجة وجود درع الأوزون الذي يحمي الأرض من الإشعاعات الشمسية الضارة. وقد سمعنا كثيرا عما شاع باسم فجوة أو ثقب الأوزون. وأكد العلماء كثيرا أن نحافة طبقة الأوزون فوق أماكن من العالم، إنما ترجع إلى كثرة استخدام الإنسان لمجموعة من الغازات الضارة على رأسها ثاني أكسيد الكربون
Co
2 ، الذي ارتفعت نسبة تركزه في الجو من 317 جزء في المليون عام 1960 إلى 364 جزء عام 1997. وفي هذا المجال نجد أن الانبعاثات الكربونية والإيروسول غازات ضارة معينة نتيجة احتراق أشكال الوقود والطاقة قد ثبتت في الدول الصناعية - مع بعض الذبذبات - منذ 1980 حول 2600 مليون طن نتيجة تنفيذ التشريعات البيئية بحزم وأمانة، وانخفضت في دول الكتلة الشرقية السابقة منذ 1990 من 1400 إلى 800 مليون طن، ربما لتقليل استخدام الفحم وتوقف بعض الصناعات الملوثة. وفي مقابل هذا تواصل ارتفاع انبعاثات الكربون من الدول النامية بسرعة من نحو 400 مليون طن عام 1960 إلى نحو 2500 مليون عام 1997، لاتجاهها إلى التصنيع السريع واستخدام مكثف لمصادر الوقود بأشكالها دون كبير اهتمام بالتوازن البيئي.
وهذه دلالة على مدى المخاطر التي تواجهها الدول النامية نتيجة نمو الصناعات الملوثة أو التي تحتاج عمالة رخيصة، تخلت عنها الدول المتقدمة للدول النامية كأنها مقاول من الباطن لحساب العالم المتقدم، ترضى بالقليل لحل مشكلاتها التنموية العام. وللأسف نلاحظ عدم قدرة الدول النامية على تنفيذ قوانين ولوائح المحافظة على البيئة بصورة مرضية؛ نتيجة لعاملين: أولهما: قوة رأس المال الجديد فيها، وارتباطاته عبر الحدود بأشكال من العلاقات التوابع مع تنظيمات وشركات إنتاج وتجارة دولية متعددة الجنسية، وهذا جزء مما نفهمه عن مصطلح الخصخصة. وثاني الأسباب: يلخصه تلهف الدول النامية على دخول المضمار الصناعي، وفتح الطريق أمام وظائف جديدة للمعالجة لتعديل ميزانها المختل بين الناتج القومي ونمو متزايد للسكان والبطالة معا.
النينو والنينا والتسونامي
ترجح الدراسات أن هذه الغازات إلى جانب عوامل تغيرات مناخية ذاتية تؤدي إلى متغيرات مناخية كظاهرة، «النينو
El Nino
والنينا
El Nina »، على المحيط الباسيفيكي غير المدركة آثارها على وجه الدقة برغم تتابع رصدها.
2
والخلاصة ارتفاع درجة حرارة المناخ العالمي بعدة أعشار من الدرجة المئوية الواحدة - نحو 0,8 - فقد ارتفع متوسط حرارة الكرة الأرضية من 13,8 درجة مئوية عام 1950 إلى 14,5 درجة 1997. وتميز عام 1998 بارتفاع كبير قدر بنحو 17 من مائة من الدرجة مقابل ارتفاع 12 من مائة في العام السابق. هذا التغير الطفيف له آثار كبيرة، كذوبان جزء من الجليد العالمي في القطبين وجرينلاند وثلاجات الجبال العالية، مما قد يؤدي استمرارها بعد بضعة عقود إلى رفع منسوب البحر عالميا.
3
وقد أكدت الدراسات أن منسوب البحر كان يرتفع سنويا خلال القرن العشرين بمعدل 1,2 مليمتر، مع ملاحظة زيادة كبيرة إلى 5,5 مليمترات في العقد 1950-1960. وأفادت الدراسات الأخيرة - مؤتمر باريس 2007 - أن منسوب البحر عالميا ارتفع بمقدار 100 مليمتر منذ عام 1950 (من ناقص −50ملم إلى +50ملم)، واستمرار ذلك المعدل ستكون له أخطار فادحة على المدن والمنشآت الساحلية هي محل درس وعناية البحث العلمي المعاصر. ويكفي أن نعرف أن ارتفاع منسوب البحر 1,5 متر سيؤدي إلى غرق مساحات شاسعة من محافظات البحيرة وكفر الشيخ والدقهلية والشرقية، وربما تصبح الإسكندرية ودمياط وبورسعيد جزرا إذا ما تحصنت بالأسوار ضد غزو البحر!
المساحات التي تغرق من دلتا النيل لو ارتفع سطح البحر.
نقلا عن:
Atlas of the Environment, Prentice Hall press, New York, 1990 .
هذا بالإضافة إلى أن التغير الحراري يؤدي إلى زيادة الجفاف العالمي، بحيث تلتحق مساحات كبيرة من الأراضي المنتجة إلى حالات مختلفة من التصحر تزيد من انكماش المجال الأرضي والغذائي للسكان، وهو مجال ضيق حقا من سطح الأرض. ويزيد من التغيرات المناخية غير الملائمة اقتطاع أجزاء من البقية الباقية من غابات الأمازون وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، بواسطة تجارة الأخشاب الاحتكارية العالمية، والرغبة في الحصول على أرض تستزرع أو تنمى فيها مراعي الأبقار في البرازيل والهند وجنوب شرق آسيا وأفريقيا المدارية.
علما بأن هذه الغابات تمثل المخزون الأرضي المتبقي لإنتاج الأوكسجين في الجو العالمي - وأقرب الحالات لنا هو ما يحدث في السودان من إشكالات دموية في دارفور؛ لأن الصراع على المراعي وحقول الزراعة في ظل تناقص الأمطار وارتفاع الحرارة، هو واحد من جذور المشكلة، إلى جانب أشياء أخرى سياسية وقبلية واجتماعية.
والخلاصة: هي ما يعرف علميا بظاهرة، البيت الزجاجي، أو الصوبة التي ترتفع فيها درجة الحرارة برغبة الإنسان في إنتاج نبات في غير بيئته المناخية. فإذا كان العالم كله سوف يواجه مناخ «الصوبة» التي تحتبس فيها الحرارة في معدلات أعلى من المعدلات الحالية، فإن ذلك كفيل بتغير المناخ على وجه شديد الضرر بالحياة على الأرض.
وفي أوائل التسعينيات نبه مجموعة من العلماء إلى مخاطر مناخية كثيرة ناجمة عن ممارسات بشرية، معلنين أن استخدام الطاقة والموارد بالصورة الحالية ثقيلة الأثر على البيئة العالمية، وتهدد باختلال التوازن في العمليات الطبيعية، وخاصة في دورة الكربون والنيتروجين في الجو. وفي باريس - يناير 2007 - عقد مئات العلماء اجتماعا أعادوا فيه التأكيد بأن مناخ العالم يتغير إلى الأسوأ، مطالبين الولايات المتحدة بالذات المصادقة على اتفاقية كيتو المناخية - تنتهي صلاحياتها 2012 - لكن الرد الأمريكي الرسمي كان باردا!
ودعا هؤلاء العلماء إلى إنقاص استخدام موارد الطاقة الحفرية: فحم وبترول وغاز بقدر يصل إلى أكثر من ثلاثة أرباع المستخدم منها في الدول الصناعية. ولكن قوة شركات الفحم والبترول الضخمة لا تجعل هذا الأمل قريبا . فالفحم المستخدم ما زال ينمو بنسبة نحو 125٪ للفترة 1977-1997، نتيجة لقوة شركات الفحم الأمريكية وحملاتها الدعائية عن أن مملكة الفحم هي الباقية. بينما الحقيقة أن مشكلة الفحم هي مشكلة اجتماعية؛ لأن البطالة سوف تهدد جانبا كبيرا من العاملين في مناجم الفحم، وهم كثر ولهم نقابات قوية، فضلا عن اعتماد دول كثيرة صناعية ونامية على الفحم في إنتاج الكهرباء. ونموذج ذلك أن نحو 55٪ من الكهرباء المنتجة في الولايات المتحدة وألمانيا ما زال مصدرها الفحم، وترتفع إلى نحو 75٪ في الصين وأستراليا والهند وإلى أكثر من 90٪ في بولندا وجنوب أفريقيا. وللفترة ذاتها (77-97) كان نمو استخدام البترول يتزايد بنسبة أقل من الفحم بلغت 118٪، بينما ارتفع استخدام الغاز الطبيعي إلى نحو 172٪؛ وذلك لأنه أقل تلويثا من البترول ومشتقاته، ولأن مناطق إنتاجه متعددة وموزعة بتعادلية نسبية عالميا، عكس حقول البترول التي تحتكرها أقاليم محدودة من العالم.
ويأمل البعض في إمكان تخفيض المستخدم من الطاقة والمعادن بمقدار النصف دون مشقة كبيرة بوسائل كثيرة وتشريعات قانونية. مثلا تحسين أداء الوقود في السيارات، وتخفيض وزن السيارات وجعلها أكثر انسيابية - إيروديناميك - لتقليل الاحتكاك بالهواء ومن ثم تقليل استهلاك الوقود، تحسين تقنية بناء الطرق أيضا لتقليل استهلاك الوقود، والتحول التدريجي إلى السيارة الكهربائية، وغيرها من الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
وفي هذا المجال نذكر أن الطاقة الكهربائية المولدة بالرياح ارتفعت بمعدل واحد إلى عشرة آلاف للفترة 1985-1997، وأن مبيع تجهيزات استخدام الطاقة الشمسية ارتفع بمقدار 435٪ للفترة ذاتها؛ نتيجة إدخال هذه التجهيزات في المباني أثناء بنائها أو المباني سابقة التجهيز. وغني عن البيان أن إنتاج غالبية هذه الطاقة النظيفة يتم في مجموعة الدول المتقدمة.
وأمام مخاطر الطاقة النووية فالملاحظ أنها تكاد تتوقف عن النمو عما هي عليه عالميا. ففي كل التسعينيات كان نموها هو الرقم المتواضع 104٪ فقط!
تطبيق هذه المتطلبات سيؤدي إلى تقليل انبعاث الغازات الضارة، وتقليل أثر مناخ «الصوبة» عالميا. أما الوصول إلى نتائج أفضل فتقتضي خيار الانتقال الفردي بوسائل النقل العام أو التشارك في ملكية سيارة أو استخدام الدراجة الهوائية - أو الدراجة الكهربائية التي لا تزال في بداياتها في اليابان، ومن ثم فهي غالية الثمن - أو كل هذه مجتمعة. (2-2) أزمة المياه العذبة في مصر
موقع مصر في قلب النطاق الصحراوي يجعلها أكثر الدول اعتمادا على مياه النيل. وبافتراض أن الأمطار الموسمية على إثيوبيا - التي هي المصدر الأساسي لمياه النيل في مصر والسودان الشمالي - سوف ينتابها تغير طفيف أو تغير كبير، فإن الحاجة الملحة تدعو مصر إلى ترشيد حازم وفوري لاستعمالات الماء منذ الآن. وهناك قائمة طويلة من أجل الترشيد يعرفها الجميع، من الرجل العادي إلى الفنيين في أمور هيدرولوجية النيل، وإلى رجال الدولة القائمين بوضع السياسات وتقنينها تشريعا.
وفوق ذلك يقتضي الأمر إدراج موضوع «المياه» كمقرر مستمر يدرس في جميع مراحل التعليم، ليس فقط لإشاعة المعرفة بخطورة الموقف، ولكن أيضا لممارسة ذلك الترشيد في البيت والري ودور العبادة وجميع الأعمال الهندسية والصناعية وأعمال التنظيف ... إلخ. وجنبا إلى جنب يجب إعادة استخدام المياه بعد معالجتها؛ لكي تصبح مصدرا يضاعف حصة مصر من مياه النيل. هذا فضلا عن ضرورة عقد اتفاقية شاملة بين دول حوض النيل على ضوء المبادئ الدولية المعترف بها، وحق كل الناس حسب أعدادهم واحتياجاتاهم في تلك الدول ومراحل التنمية التي تمر بها.
ومن الأمور العاجلة ضرورة تكثيف البحوث حول المياه الجوفية في الصحاري المصرية، والدراسات في هذا المجال متوفرة بكثرة لدى خبراء المياه والجيولوجيا. وكل ما علينا استعادة الرؤية بإضافة استخدام الوسائل العلمية الجديدة، وبخاصة الاستشعار من بعد والصور الفضائية لاختيار أوفق الأماكن لعمل آبار الاستكشاف، وكل ما هو معروف لكل المختصين في هذه الشئون. تجربة شرق العوينات يمكن أن تكون رائدا في هذا المجال مع الترشيد، وكذلك ترشيد استخدام المياه الجوفية الوفيرة في واحتي الفرافرة والداخلة. الشيء الهام هو عدم المبالغة في تخطيط مشروعات التنمية؛ حتى لا نضخ من المياه ما يؤدي إلى سرعة نضوبها، كما حدث في واحة الخارجة. وبعبارة أخرى إقامة مشروعات زراعية متوسطة إلى صغيرة، غالبها خاص وليس حكوميا، تسمح باستخدام أمثل وأطول مدى. المشروعات الكبرى كما حدث في السعودية وليبيا ليست هي النموذج؛ لأنها مكلفة وغالبا هي قصيرة الأجل لبضع عشرات من السنين فقط. التوازن البيئي يجب أن يراعى من أجل استخدام كل نقطة ماء في محلها. فالعالم الآن في أزمة مياه، والبحوث كثيرة حول المياه الجوفية في أنحاء مختلفة، حتى تلك التي تتمتع بقدر وفير من الأمطار والأنهار كالولايات المتحدة والهند. ذلك أن عهد استخدام الأنهار للري أوشك على الانتهاء؛ لكثرة ما أقيم على الأنهار من السدود، وعهد القنوات والترع والجريان السطحي بالجاذبية والري بالغمر هو الآخر أوشك على الانتهاء، وما زالت مشروعات تحلية مياه البحر شديدة التكلفة وشديدة الاحتياج إلى طاقة رخيصة، إلا إذا كان الأمر يتعلق بسقاية مدينة أو مستوطنة صغيرة على ساحل البحر في المناطق الصحراوية.
هذا فيما يختص بالماء عنصر الحياة الأول. أما حول تلوث الهواء نتيجة استخدام الوقود الحفري، فإن مصر، لحسن الحظ، تفتقر إلى وجود الفحم باستثناء فحم المغارة في شمال سيناء، الذي هو من نوع رديء لا يساوي ما أنفق على استخراجه. كما أن مصر تشهد توفيقا جيدا في تحويل الكثير من محطات توليد الكهرباء إلى الغاز الطبيعي بدلا من مشتقات البترول.
وحول ارتفاع منسوب البحر العالمي نتيجة للاحتباس الحراري العالمي، فإننا في مصر قد نفقد مساحة كبيرة من الدلتا الشمالية إذا ارتفع المنسوب البحري مترا واحدا، وموضوع تآكل الشواطئ المصرية يجب أن يدرس من خلال هذه العملية العالمية، وأيضا دراسة أثر احتباس طمي النيل في أعالي بحيرة السد العالي. لكن العمليات الطبيعية لا تصل ذروتها بواسطة متغيرات في عامل واحد. فربما تحدث عمليات جيولوجية تؤدي إلى حركة رفع أرضي - عكس حركة الانخفاض التاريخية - وهو ما قد يساعد على التقليل من هذه المخاطر في الدلتا، أو غيرها من سواحل العالم.
وفي النهاية يجب أن نتذكر أن مصر صحراوية المناخ، تتمتع بإمكانات كبيرة في مجال إنتاج الطاقة النظيفة من الشمس الوفيرة والرياح شبه الدائمة. هناك محاولات جيدة في هذين المجالين لماذا لا ننميها بقوة، فهي مصادر طبيعية مجانية هبة من الله، تماما كهبة النيل! لماذا لا يفتتح المستثمرون بقوة واقتدار مجالات في صناعة خلايا الطاقة الشمسية وتجهيزات مراوح وأبراج الرياح، وهي صناعات لا تحتاج إلى تكنولوجية عالية بدلا من، أو إضافة إلى، الصناعات التي يقومون بإنشائها في مجالات بعض أسواقها مغرقة محليا! لماذا لا يدرج المهندسون والمقاولون تجهيزات الطاقة الشمسية في مخططات البناء الجديد، حكومي أو خاص، لتقليل استخدام التسخين والتهوية التي تتم الآن، بواسطة مئات الآلاف من أجهزة التكييف والسخانات الكهربية والغازية لتوفير استهلاك الكهرباء والغاز وتقليل انبعاث غازاتها الضارة والملوثة للهواء؟ صحيح أن ذلك ينطوي على تكلفة زائدة في البناء، لكن المحصلة النهائية مناخ صحي، وانخفاض فاتورة الطبيب والدواء والمستشفى. أليس ذلك جدير بالتفكير الجاد لمستقبل أفضل في القرن القادم؟ (2-3) الأغذية المعالجة بالهندسة الوراثية
منذ حوادث الأبقار المجنونة في بريطانيا وأوروبا بدأ الرأي العام لدى الناس في معارضة الأغذية المعالجة وراثيا، وأخذ العلماء في تقصي الأمر محاولين فهم كم هو الضرر الناجم عن تلك الأغذية النباتية والحيوانية والداجنة والسمكية على صحة الإنسان والكائنات الأخرى. فالأعلاف الموجهة للحيوان والمستخدمة في مزارع الأبقار والدجاج والأسماك تحتوي على مكونات وبروتينات معالجة بالهندسة الوراثية، من أجل الإكثار في صفات معينة.
وقد ترتب على إحجام الناس عن شراء هذه الأطعمة أن اثنين من أكبر شركات العالم الغذائية، وهما: نسله، ويونيليفر، بدأت في تخفيض المعروض للبيع من منتجات تحتوي على معالجات وراثية في بريطانيا. وكذلك تعهدت شركات بيع الأغذية في أوروبا وبريطانيا بسحب السلع المعالجة من أرفف جميع فروع سلسلة السوبر ماركت التي تديرها، مثل سنسبري، وسيف واي، وكادبري، وكارفور، وميجروس، في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها.
تنامى الاهتمام بهذه القضية في أوروبا منذ قليل من السنين، بحيث تضمن حركة قوية ضد الأغذية المعالجة، وصلت أقصاها في فبراير الماضي حين أعلن مجموعة من الباحثين أن فئرانا أجريت عليهم تجارب تغذية ببطاطس معالج تجريبي غير موجود بالسوق، قد أصيبوا بضمور في الأعضاء وعانوا من نقص في المناعة. وعلى الرغم من أن الباحثين لم يدركوا تماما أسباب ذلك، فقد أصبحت مجالا لمزيد من التقصي والبحث. إلا أن النتيجة أن 90٪ من المتسوقين أصبحوا ينتقلون من سوبر ماركت لآخر تجنبا للأغذية المعالجة من حبوب ودقيق وخضر ولحوم وأسماك وطيور وغير ذلك، غير عابئين كم من المسافة يقطعون للحصول على مبتغاهم.
فغير معروف على وجه الدقة أثر الأغذية المعالجة على صحة الإنسان، لكن الباحثين يرون أنها تحتوي على بروتينات لم تكن جزءا من عناصر الغذاء الإنساني أبدا، ومن ثم وجب الحذر اتقاء لضرر مجهول، وبخاصة انعكاسات ذلك على نمو الحساسية الغذائية أو السميات في الجسم البشري.
ومنذ عام كانت هناك حملة دعائية واسعة لشركات صنع الأغذية المعالجة، واصفين إياها بأنها خطوة شجاعة إلى الأمام. ومقابلها كان رد الفعل شديدا بأن هذه الأغذية لم تجرب على المدى الآمن لضمان صحة الإنسان من ناحية وعدم الإضرار بالبيئة الطبيعية في الحقول التي تزرع ببذور معالجة من ناحية أخرى. وقامت سلسلة سنسبري بنشر إعلانات في صفحات كاملة في صحف كبرى تؤكد فيها لزبائنها أنها لن تعرض أبدا أية أغذية معالجة على أرففها.
وتجنب هذه الأغذية أصبح أمرا صعبا؛ لأنه لا يوجد حظر بواسطة القانون على مثل هذه السلع الغذائية، ولعدم وجود ملصقات على الأوعية التي توجد داخلها هذه الأغذية تشير إلى أنها عولجت وراثيا بقدر معين ونوع معين. أرفف المحلات في كثير من دول العالم توجد فيها مثل هذه الأغذية، رغم أن الأغلب الأعم من الدول لا تنتجها؛ وذلك لأن الولايات المتحدة هي أكبر المصدرين لهذه الأغذية.
تتركز زراعة البذور المعالجة بالهندسة الوراثية عام 1998 في الولايات المتحدة (74٪ من العالم، ونحو 49 مليون فدان)، والأرجنتين (15٪ ونحو عشرة ملايين فدان)، وكندا (10٪ ونحو ستة ملايين ونصف مليون فدان)، ومساحات قليلة في أستراليا والمكسيك وإسبانيا وجنوب أفريقيا وفرنسا. وكانت أول ممارسة لهذه الزراعات في الولايات المتحدة عام 1994، وانتشرت بسرعة البرق مشتملة على فول الصويا (52٪ من المحصول العالمي الذي تدخل زيوته في حفظ الأغذية المعالجة المعدة للبيع)، والذرة (30٪)، والقطن - داخل الولايات المتحدة فقط - واللفت في كندا .
والملاحظ أن هذه الأغذية تتركز في أمريكا، بينما تعارضها دول العالم من أوروبا إلى آسيا وغيرهما. وقد مارست كثير من الحكومات التحوط ضد هذه الأغذية من أجل صحة الإنسان والبيئة. فقد وضح أن بعض البذور المعالجة ضد نمو الأعشاب الضارة أدت إلى الإضرار بحشرات غير مقصودة. ولأن بقايا الجينات المعالجة تظل في التربة، مما قد يترتب عليه اكتساب أنواع من الحشائش غير المرغوبة مناعة كما حدث في كندا 1998.
وفضلا عن ذلك فإن الشركات المنتجة لهذه البذور المعالجة بالهندسة الوراثية، مثل شركة مونسانتو، قد أصبح لها قبضة حاكمة على المزارعين ونوع المحصول، وتنص اتفاقيات بيع هذه البذور على عدم منع إعادة بيع البذور أو الاتجار بها. ولمزيد من إحكام القبضة أصبحت الشركات المنتجة تضيف تعقيما للبذور يمنع بذور المحصول الجديد من أن تصبح صالحة لإنتاج محصول ثان. بمعنى أن الزرع لا يتمتع بالخصوبة كما هو الحال في بذور المحصولات العادية غير المعالجة.
هناك عشرات البحوث والمقالات والكتب التي تنبه إلى مخاطر صحية وبيئية للبذور المعالجة، ومن أهمها مخاطر توحيد أنواع البذور تمنع التنوع الغني الذي كان سائدا في المحاصيل العادية، والذي كان له الفضل في الإكثار من أنواع محصولية وتحسينها وإدخال أنواع أخرى. مثل ذلك القطن البري الذي تعددت أنواعه بالبحث والتحسين والانتقاء. ومن المخاطر الأخرى أن توحيد البذور يعرض المحصول للتدمير في مساحات شاسعة بعد أن كان خطر الآفات قاصرا على أنواع، والباقي قادر على المقاومة.
والخلاصة: أن المعالجات بالهندسة الوراثية خطوة علمية للأمام تعالج آفات زراعية من منظور محدد، أو تسعى لتقليل استخدام الأسمدة الكيميائية التي تضر بشدة بنوعية مياه التربة، أو ترمي إلى زيادة إنتاجية الأرض من الغذاء الذي أصبح يشكل هاجسا كبير الأبعاد في الشئون السياسية من أجل إطعام غالبية سكان الأرض والفقراء منهم بوجه خاص. لكن الرأي العام ورأي كثرة من العلماء في مجالات البيئة والنبات وصحة الإنسان ترى أن فترة التجريب هي من القصر بحيث تدعو إلى التريث في استخدامها. فأي ضرر يظهر نتيجة استخدامها قد تصعب معالجتة، سواء كان ذلك على التربة الزراعية أو صحة الإنسان، وهو أغلى هدف تسعى إليه كافة العلوم والأبحاث ومن بينها الهندسة الوراثية.
وفي وزارة الزراعة المصرية برامج مشابهة لإنتاج أنواع من البذور المعالجة لأهداف محددة، مثل تقليل كلفة الأسمدة، وتثبيت الأزوت الذي يحتاجه النبات، واستنباط نباتات مقاومة للملوحة أو الجفاف وغير ذلك. والأمل كبير في فترة تجريب معقولة حتى لا نقع في محاذير كان القصد تجنب آثارها السيئة على التربة والإنسان. فلسنا في عجلة شديدة، وعلينا أن ندرس لماذا تعارض أوروبا على سبيل المثال هذا النوع من الأغذية. خاصة أن الموضوع يمس بشدة الزراعة التي كانت وستكون عماد الحياة والحضارة في مصر منذ ثمانية آلاف سنة وحتى المستقبل البعيد.
ملحق 1:
في العام الماضي (2006) بدأت في مصر اتهامات بتسهيل وصول وزرع بذور معالجة وراثيا بواسطة وسطاء في وزارة الزراعة، وبلغ الأمر منتهاه بوصف بعضها بأنها «متسرطنة»، وبالغ بعض وسائط الإعلام بربط هذه وتلك بتفشي أمراض عديدة في مصر، لكن الموضوع برمته - لخطورته - يحتاج إلى قضاء مستند إلى تحاليل ووقائع إلى جانب إجراءات التقاضي الجنائي!
ملحق 2:
حول لحوم وألبان الحيوانات المستنسخة وراثيا
Cloned
في يناير 2007 أصدرت إدارة الأغذية الأمريكية
FDA
تقريرا مفاده: أن لحوم وألبان المستنسخات مماثلة تماما للحيوانات المرباة طبيعيا. وإذا صح هذا فإنه خبر سعيد لنجاح العلم في الاستنساخ. وقد تلقته الدوائر المهتمة في اليابان وأستراليا بالكثير من التقبل باعتبار أن منتجات المستنسخات سوف تدخل أسواق الاستهلاك في مستقبل ليس بعيدا. لكن هناك محاذير أولها: أنها لم تجرب بكفاية على البشر، حكمها في ذلك حكم النباتات المعالجة وراثيا. والأمر الثاني: أن الاستنساخ ما زال عملية باهظة التكلفة، ومن ثم فإن لحومها وألبانها تصبح أغلى أضعافا بالقياس إلى منتجات الحيوانات العادية التربية والتوالد، فضلا عن أن عمر الحيوان المستنسخ - حتى الآن - قصير ومعرض للموت لأسباب كثيرة لا نعرفها الآن. لهذا قيل: أن تقتصر عملية الاستنساخ على المحافظة على الأنواع النادرة المعرضة للانقراض.
وهكذا يكسب العلم خطوة ويتردد أو يخسر في سوق التعامل مع النتائج خطوة. فالبشر هم أعقد الخلق جميعا، وأكثرهم إلحاحا وسؤالا قبل أن يلقوا بأنفسهم للتهلكة، وذلك رغم أنهم يفتعلون التهلكة في الحروب التي اعتادوها منذ البداية! (2-4) مصايد الموت
الموت حق على كل الكائنات البيولوجية من نبات وحيوان وإنسان، نتيجة وهن المكونات العضوية لتلك الكائنات في أعمار مختلفة. لكن في بنية الطبيعة أحيانا مخاطر تؤدي إلى الهلاك المفاجئ كالرمال المتحركة، أو الزلازل والبراكين والعواصف الهوج والأعاصير المدمدمة والفيضانات الكاسحة والحرائق المدمرة، وغير ذلك من الظواهر الطبيعية المنتظمة وغير المنتظمة.
ولقد حاكى الإنسان بعض طبائع الحيوان في التربص بالفرائس. ولأنه كائن لاحم - أي آكل لحوم إلى جانب النبات - فقد زاد على طبائع الحيوان عمل الفخاخ والمصايد سواء كانت حفرا مغطاة أو حواجز يمد بينها شباك، أو توجيه الفرائس إلى هاوية تدق الأعناق، وذلك من أجل الحصول على لحوم الحيوان وفرائها وجلودها. ورويدا طبق الإنسان هذه الوسائل في صراعاته الفردية وحروبه القبلية والأممية.
حقول الألغام
وظل الإنسان يطور أسلحته وتقنياته في الخداع والتصيد إلى أن وصلنا إلى اختراع المتفجرات بأشكالها، فنشرت القيادات العسكرية مصايد مميتة هي عبارة عن حقول من ملايين الألغام تظل تعمل حتى بعد عشرات السنين من انتهاء الحروب. والأمر ليس بعيدا عنا ففي الصحراء الغربية وسيناء حقولا من الألغام لا تزال تهدر حياة مئات الأبرياء. وهناك اتفاقيات لتطهير الأرض من هذه الألغام لكن تنفيذها يتطلب وقتا ومالا، وفوق ذلك صدق المتحاربين على تسليم خرائط الألغام.
فإذا كانت الألغام مصايد عسكرية فإننا نعاصر اليوم مصايد أخرى بعضها عسكري الطابع، ولكن أخطرها هي المصايد التي يتسلل تأثيرها إلى بني الإنسان من خلال تطبيقات متعجلة في تكنولوجيا الغذاء غير مؤكدة النتائج بالنسبة لصحة الإنسانية. لعل ذلك أشبه بصندوق «باندورا» في الأسطورة الإغريقية حين حدت الرغبة باكتشاف ما في الصندوق، فانفلت إلى العالم آلاف الشرور التي كانت حبيسة بالصندوق، فأفسد بذلك عالما كان خاليا من الشر والأشرار، والشيء الوحيد الذي تبقى هو الأمل. فهل ما زال هناك أمل؟!
النفايات النووية
المصايد العسكرية الطابع غالبا ما يمكن ضبطها. فهي لا تطلق إلا في حالة نشوب الحرب. ولكنها مع ذلك هي من الخطورة بحيث يمكن أن تؤدي بمستقبل البشرية على سطح الأرض، والتي عبر عنها بعض الروائيين الذين يستشرفون المستقبل فيما أسموه «الشتاء النووي» أو «اليوم بعد الكارثة النووية». فإذا كان الردع النووي قد أصبح حقيقة قائمة الآن بحيث يكاد أن يستحيل معه قيام حرب نووية عالمية، فإن المخاطر الكبرى حقيقة واقعة تحت أنظارنا تتمثل في إشكالية التصرف في النفايات النووية الناجمة عن استخدامات عسكرية ومدنية كإنتاج الطاقة. وهي إشكالية أكثر خطورة من الحرب؛ لأن إشعاعات النفايات تتسرب إلى باطن الأرض، وغالبا ما تؤثر على المياه الجوفية، والكثير من مدن العالم ومزارعه تستمد مياهها من الطبقات الحاملة للمياه في جوف الأرض. ونموذج هذا - وإن كان على مقياس آخر من المسببات والمخاطر - ممارس لدينا حيث نعرف - ونحاول أن نعالج - تسرب مياه الصرف الصحي والصرف الزراعي - بما فيها من بقايا أسمدة ومبيدات كيماوية - إلى المياه الجوفية في الوادي والدلتا، مما يتسبب في أمراض كثيرة تأتي مباشرة وغير مباشرة.
إن قراءة مجهودات الدول الكبرى في التخلص الآمن من النفايات الذرية تجعلنا نشعر بشيء مخيف قد أطلقه العلم واستخدمه العسكر على عجل من أجل ضمان الانتصار في الحرب أو التلويح به كقوة ردع، لقد بدأت الدول المتقدمة في دفن النفايات في أراضي الدول النامية باتفاقات سرية مع قادة تلك الدول. وحين افتضح الأمر - غالبا بواسطة أنصار السلام، ومجموعات السلام الأخضر - كانت كما نقول: «فضيحة بجلاجل»، وأصبح التخلص من تلك النفايات أمرا بالغ التعقيد باهظ التكاليف.
وكنموذج نأخذ مجهودات الولايات المتحدة في التخلص بطرق آمنة من النفايات باعتبارها أكبر دول العالم استخداما للطاقة النووية عسكريا ومدنيا. - المعلومات الآتية عن أمريكا مستمدة من المجلة الجغرافية الأمريكية
National Geographic ، عدد يوليو 2002.
تصنف مخاطر إشعاع النفايات على النحو الآتي: (1)
نفايات ذات إشعاع عال من نفايات الطاقة المستخدمة في المفاعلات (52 ألف طن)، ونفايات سائلة وصلبة ناجمة عن إنتاج البلوتونيوم (91 مليون جالون). (2)
نفايات عالقة بمعدات وآلات وملابس ومواد أخرى انتقلت إليها الإشعاعات أثناء المعالجات المختلفة - إشعاعات البلوتنيوم وعناصر إشعاعية أخرى صناعة الإنسان، وكلها أثقل من اليورانيوم - وتقدر 11,3 مليار قدم مكعب مدفونة في أماكن معدة خصيصا. (3)
نفايات ذات إشعاع منخفض من المستشفيات ومراكز الأبحاث ومحطات إنتاج الطاقة الملغاة. (4)
بقايا خام اليورانيوم بعد استخلاص الركائز، وهي أكبر النفايات حجما (265 مليون طن)، ولكنها أقلها إشعاعا.
وتخزن النفايات في براميل متفاوتة الأحجام بعضها يحتوي على 17,5 طنا وسمك جدران البراميل تسع بوصات (نحو 23 سم) مصنوعة من صلب الكربون. ويطالب البعض أن تصنع البراميل من سبيكة صلب يدخل فيها النيكل لمزيد من العمر قد يصل إلى عشرة آلاف سنة. لكن هذا لا يمنع من وجود براميل مخزنة في العراء قد أصابها الصدأ وأصبحت خطرة، كما هو الحال في بادوكا (ولاية كنتكي)، ولوس ألاموس (ولاية نيو مكسيكو). وأخطر المدافن هي تلك في هارتفورد بولاية واشنطن (شمال غرب الولايات المتحدة)، حيث 52 ألف طن من نفايات الإشعاع العالي مدفونة بعناية تحت الأرض.
وهناك مشروع ضخم لعمل مدافن للنفايات على عمق 300 متر تحت سطح جبل يوكا
Yucca
في ولاية نفادا، يحتوي على 50 ميلا من الأنفاق الداخلية، ويستطيع أن يخزن 77 ألف طن من النفايات تنقل بواسطة ناقلات كهربية ومجموعة من الإنسان الآلي. ويتكلف المشروع نحو خمسين مليار دولار، وتطلب حكومة الولاية ضمانا أن تظل النفايات آمنة عشرة آلاف سنة، وبالرغم من تأييد البعض إلى أن هناك من الخبراء من لا يستبعد حدوث انبعاثات إشعاعية تتخلل شقوق الجبل وتتسرب إلى المياه الباطنية. هذا بعض من كل. ففي الولايات المتحدة مئات من المفاعلات لكافة الأغراض، فضلا عن الأسلحة والصواريخ في الأساطيل والغواصات والطائرات. وسواء كان عمر الإشعاعات الضارة عشرة آلاف سنة أو 24 ألف سنة - وهو ما يساوي نصف عمر العناصر المشعة - فإن المخاطر تهدد الإنسان اليوم وباكرا في عقر دار أكثر أقاليم الدنيا استخداما للطاقات الإشعاعية. فالنفايات المستخدمة في أوروبا يعاد معالجتها ثم تنقل في براميل ضخمة زنة مائة طن إلى مكامن آمنة لفترة انتقالية تتراوح بين 20 إلى 30 سنة، حيث تنخفض درجة حرارتها من نحو 400 درجة مئوية إلى 200 درجة، فيمكن التعامل معها بتخزينها نهائيا في أعماق مناجم غير مستخدمة.
وفي ألمانيا حدث اتفاق بين الحكومة وحركة السلام الأخضر يتم بموجبه إغلاق محطات الطاقة النووية كلما بلغ عمر استخدام الواحد منها 32 سنة. وبعبارة أخرى فإن جميع المحطات ال 19 في ألمانيا سوف تغلق بعد نحو عشر وخمس عشرة سنة. وقد جاء هذا الاتفاق نتيجة المظاهرات العديدة التي كانت تسعى لإيقاف القطارات المحملة بالنفايات بعد إعادة معالجتها في معامل معينة في فرنسا وبريطانيا. وقد كلفت مظاهرات مارس 2001 الحكومة 22 مليون دولار تكلفة 15 ألفا من الشرطة الخاصة لتفريق المتظاهرين على طول الطريق الحديدي . ومثل هذه التظاهرات موجودة في فرنسا وهولندا وبريطانيا والسويد. ولأن المحطات النووية في الاتحاد الأوروبي تنتج نحو 30٪ من الطاقة المستخدمة، فإن هناك جدلا كبيرا حول مصير محطات إنتاج الطاقة النووية: هل تغلق لتكفي المستقبل شرورها؟ أم تبقى لتظل الدول الأوروبية أكثر استقلالا، وأقل اعتمادا على مصادر الطاقة الأخرى المستوردة، وبخاصة الغاز الروسي الذي يصل وسط وغرب أوروبا في شبكات ضخمة من الأنابيب؟
مشكلات النفايات موجودة في أراض مختلفة من الاتحاد السوفيتي السابق، وقد لا تكون فيها إمكانات مماثلة لتجنب الإشعاعات لتكلفتها العالية. ومثل ذلك غالبا موجود في الصين. وعلى الأغلب يكون الأمر أشد بؤسا نتيجة المنافسة القاتلة بين الهند وباكستان. والخلاصة: أنه في انتظار طاقة بديلة نظيفة، فإن التقدم التكنولوجي المبهر في مجالات استخدام الذرة في شتى النواحي الحياتية والصحية أصبح له من الآثار الجانبية ما قد يهدد بقاء البشرية، ويحتاج إلى اتفاقات ملزمة كاتفاقية كيوتو ضد التأثيرات الصناعية والطاقة الملوثة على حالة مناخ الأرض، والذي تنصلت منه الولايات المتحدة من أجل مصالحها الخاصة!
4
مصايد وفخاخ أشد فتكا
أوسع مصايد الموت انتشارا هي تلك التطبيقات المعاصرة لتكنولوجيا إنتاج الغذاء، مثل مزارع الدواجن ومزارع الأسماك والبذور المعالجة وراثيا لمحاصيل غذائية واسعة الاستهلاك كالذرة وفول الصويا وبعض الفواكه. فبالرغم من أن نتائج هذه التطبيقات تعد بالأمل في إطعام الشعوب وبخاصة الفقيرة، إلا أننا نجد جدلا شديدا بين المؤيدين والمعارضين، سواء كانوا من العلماء أو الاقتصاديين والساسة الذين يمولون بعض البحث العلمي ليطوعوا العلماء والعلم لمصالحهم الخاصة. فالعلم بطبيعته يبني على مهل ويفسر الظواهر على قدر المعرفة ويترك الباب مفتوحا لقدر آخر من المعلومات يأتي فيما بعد، وبالتالي فالعلم لا يعرف القرارات الحاسمة التي يصدرها الساسة وأصحاب المصالح والاستثمارات الرأسمالية.
وبين المؤيدين والمعارضين تساؤلات وفجوات، نلخص بعضها في النقاط الآتية: (1)
لا شك في أن إنتاج البذور المعالجة وراثيا ضد الكثير من أمراض النبات وأوبئته أعلى من إنتاج البذور غير المعالجة، ولكنه يوفر الكثير من الإنفاقات على مكافحة الأوبئة والأعشاب الضارة، وربما يوفر دخلا أكبر للمزارعين. (2)
إن زيادة الإنتاج الزراعي في دول العالم الثالث سوف تقلل من فاتورة استيراد الأغذية الأساسية لدول العالم الثالث، وتساعد على مكافحة الجوع الذي يسبب الكثير من أمراض سوء التغذية بين الشعوب الفقيرة. مثال ذلك «الذرة ب ت»، كما أن إنتاج فول الصويا والأقطان المعالجة سوف ترفع دخل الفلاح في العالم المتقدم والنامي على حد سواء. وهناك مساع أخرى لإنتاج أرز معالج - الأرز الذهبي - لمكافحة نقص فيتامين «أ» لدي المستهلكين. (3)
يمكن للبذور المعدلة وراثيا للأغذية الأساسية المساعدة على زيادة البروتين أو علاج نقص الفيتامينات في النبات، وربما أيضا معالجة جينات الحساسية. (4)
إن تكنولوجيا الهندسة الوراثية ما زالت تحبو في مدارجها الأولى، ولا شك في أنها ستتحسن باستمرار الأبحاث لتنطلق إلى آفاق أرحب وأصح.
وفي مقابل ذلك نرى آراء أخرى معارضة منها: (1)
إن جينات البذور المعدلة قد تنتشر على حساب التنوع البيولوجي للنبات، مما يقضي على مخزون الطبيعة من أنواع قابلة للاستخدام المستقبلي، وتلزم الناس بأنواع محددة قد يصعب التعامل معها حين تتهدد بأمراض وأوبئة جديدة. وقد أدى ذلك بحكومة المكسيك إلى منع زراعة الذرة المعدلة؛ خوفا من التنوع البيولوجي للذرة باعتبار أنها كانت الموطن الأول للذرة في العالم. (2)
البذور المعاجة بمضادات الحشرات «ب ت» قد تساعد في مستقبل قريب على ظهور حشرات مقاومة لهذه المضادات، فتفسد بذلك ميزات هذه الهندسة الوراثية . (3)
يخشى أن تمتد سموم «ب ت» إلى التربة فتعدل النظام الإيكولوجي للتربة، وبالتالي أنظمة الحياة النباتية لغير الأحسن. (4)
الأوضاع الحالية تمثل احتكارات هائلة لشركات محدودة تسعى إلى السيطرة العالمية على مقدرات الغذاء التي عرفها الإنسان طيلة آلاف السنين منذ ابتكار الزراعة. فهذه الشركات مثل «مونسانتو»، و«كون آجرا»، و«دي بونت»، و«نوفارتس»، و«كارجيل»، تمارس إنتاج بذور «معقمة» لا تصلح لإكثار بذور جديدة، بل لا بد من شراء البذور كل موسم زراعي، فضلا عن احتكارها لبنوك التسليف الزراعي والأسمدة وغالبا تسويق المحصول، وكلها إجراءات تجعل المزارع الأمريكي في قبضة الشركات، ولا مهرب له إلا أن يهجر الزراعة . فما بالنا بالمزارعين في البلاد النامية؟ (5)
كما أن هذه الممارسات المتقدمة تكنولوجيا تجد تحذيرا قويا من جانب عدد كبير من العلماء في أوروبا وأمريكا، باعتبار أن مردودها على صحة الإنسان غير مؤكد؛ لأنه لم يمر من الوقت ما يكفي لمراقبة نتائج استهلاكها على البشر ومن ثم للحكم عليها؛ لذا فإن هناك رجعة قوية إلى الزراعة العضوية الخالية من سموم الأسمدة الكيماوية وبذور الهندسة الوراثية، وتجد محصولاتها مستهلكين متزايدين في العالم المتقدم.
لقد عرف الإنسان الثروة الداجنة والأسماك منذ عشرات آلاف السنين، لكن الاتجاه الذي شاع منذ عقود قليلة لإنتاج اللحوم البيضاء على نطاق كمي في صورة مزارع كبيرة للدواجن والأسماك قد أتى بنتائج طيبة للمنتجين، وأشاع هذه الأغذية والبيض على مائدة جمهرة كبيرة من الناس. لكن في الفترة الأخيرة حدث كساد نسبي لكثرة المعروض محليا واستيرادا. واتضح - بين ما ظهر من دراسة ارتباطات مرضية وتلك المنتجات - أن طبيعة محابس الدجاج مثلا تؤدي إلى إصابة الدواجن ببكتريا «إي كولاي
E coli 0157 H7 » وغيرها مثل
Listeria
والسالمونلا. وبعضها يمكن تجنبه بالطهي في درجات عالية (+80 درجة)، وبعضها لا يتأثر بالتبريد العالي. والخلاصة: أننا لا نرى أو نشم أو نذوق البكتريا، وأن الأطفال وكبار السن والحوامل أكثر تعرضا لهذا أو ذاك من البكتريا الممرضة. ومثل هذه المحاذير تطلق على مزارع الأسماك التي تتعرض مياهها للصرف الزراعي، بما تنقله من سموم ومبيدات مثلها في ذلك مثل الخضر المروية بمثل هذه المياه الملوثة، وأيضا لحوم الأبقار التي تصاب بأمراض شتى أشيعها جنون البقر، نتيجة تغذيتها بأعلاف مصنعة تدخل فيها بقايا عضوية حيوانية وسمكية كثيرة.
ليس معنى هذا التخويف والتهويل، وليس معناه أيضا الدعوة إلى العودة إلى نظام تربية الدواجن والحيوان التقليدية، فليس هناك متسع مكانيا في ظل أعداد السكان المتزايدين وخاصة في العالم الثالث الذين يمثلون مصيدة أخرى للتعاسة والمرض، فلماذا لا نترك الخيار للمنتجين إما التربية التقليدية أو المحابس الحديثة، وبالتالي نترك الخيار للمستهلك لهذا أو ذاك؟! ولكن هناك من المحاذير ما ظهر من دراسات في أمريكا أن ربع السكان يعانون سنويا من أمراض سمنة وتخمة التغذية، ومنهم حوالي ثلث مليون شخص يعالجون بالمستشفيات والقليل يموتون. بطبيعة الحال فإن نمط الأغذية السريعة
Take away
في الحياة الأمريكية غالبا ما تتحمل جانبا كبيرا من المسئولية. وفي الدانمرك تضطر مؤسسات البيض الكبرى إلى تسليط أشعة فوق البنفسجية للتخلص من البكتريا العالقة بسطح البيض. وتسعى مطاعم مشهورة عالميا إلى ضمان صحة ما تقدمه بمراقبة تعرض اللحوم لحرارة عالية للقضاء على الكثير من البكتريا الضارة. ولعلنا نتذكر صحة ممارساتنا الشرقية في طهي الكباب على النار كوسيلة تقليدية للمذاق الطيب مع رائحة الشواء، لكنها في الواقع وسيلة نفعية تجريبية لآلاف من السنين للتخلص من احتمالات الأمراض، وهناك حكايات لا نهاية لها عن الغذاء النباتي والحيواني والسمكي وضرورة غسله جيدا وأحيانا بالصابون وغيره من المطهرات.
فالعالم اليوم يأكل من مصادر مجهولة - عصابات يرأسها فاقدو الضمير لاستيراد وبيع أغذية فاسدة - وسكان المدن يأكلون ويشربون من مصادر بعيدة، قد لا تتوافر في نقلها الاشتراطات الصحية سواء كانت «بودرة» ألبان أو لحوم مجمدة وخضروات وفاكهة مبردة.
ملحق: إنفلونزا الطيور هي وباء وخيم مميت ينتشر تدريجيا في العالم، رغم المضادات التي ينتجها العلماء للحد من تأثيره القاتل. وربما كان إبادة الطيور غير المعالجة، وخاصة في بلاد العالم الثالث ومصر، وسيلة وقاية أكثر منها علاج. والأغلب أن هذا الوباء هو نتيجة غير محسوبة لتمادي الإنسان في «تصنيع» الغذاء بصورة أكبر من تحمل نتائجها. ومثل ذلك تماما عن مزارع الأسماك في مصر التي تعيش في مياه ترع ومصارف، وبحيرات مسممة ببقايا الأسمدة الكيماوية في الأراضي الزراعية، وأشياء أخرى يكشف مزيد التقصي والبحث. (2-5) العولمة ومنظمة التجارة العالمية
تسير العولمة بخطى سريعة لكنها غير عادلة في أنحاء العالم المختلفة. وفي تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي
UNDP
عام 1995، أن العولمة سريعة وتصل إلى أعماق مهمة، إلا أن معظم العالم غير مشارك فيها. فقوانين العولمة واللاعبين الأساسيين فيها يركزون أعمالهم على اندماج وتكامل الأسواق العالمية، متجاهلين الأسواق التي لا تستطيع التوافق معها، ومتجاهلين احتياجات الناس لكيلا يندمجوا في محيط عملية أكبر منهم أو لم يستوعبوها بعد. والواقع حتى الآن أن العملية بمجموعها هي تركيز القوة في أيد محدودة، وتهميش الفقراء إلى حدود بعيدة.
اللاعبون في ميدان العولمة هم المؤسسات والهيئات العالمية التي تشتمل على المؤسسات المالية والبنكية، والشركات الكبرى متعددة الجنسية، والاتحادات الإجرامية مثل المافيا، وصناع السياحة، والجمعيات الأهلية، وأخيرا الطلب على العمالة الماهرة. وكل هؤلاء يعبرون الحدود القومية والإقليمية وحدود الأعمال التقليدية بحرية تامة. فالحدود القومية اختفت بصورة كبيرة أمام المنظمات المالية المتكاملة مع الأنشطة الاقتصادية والشركات الكبرى، واختفت أمام شبكات الإنترنت للمعلومات الصناعية وتجارة الاستثمارات، واختفت أمام الأفراد ذوي الكفاءات في شتى عالم الأعمال والعلوم التطبيقية من بلاد العالم المختلفة، حيث يشتد عليهم الطلب في أوروبا وأمريكا وتفتح أمامهم الحدود، بينما تفقد أوطانهم الأصلية هذه الثروة الفكرية والعلمية، سواء كانت هذه الأوطان من بلاد شرق أوروبا أو آسيا أو العالم العربي أو أفريقيا وأمريكا اللاتينية. أما بقية الناس الذين لا يتصفون بهذه المهارات فإنهم لا يتمتعون بمزايا العولمة، ولا تمتد إليهم حرية الحركة والعمل، وقد ترتب على ذلك أن كثيرا من الأسر قد انقسمت عبر الحدود نتيجة قوانين الهجرة التي تحبذ المهرة وتمنع غيرهم.
وعلى هذا فطبقة «النخبة والصفوة» العالمية تتمتع بحدود مفتوحة ومنافع وخدمات وافرة، بينما مليارات الناس يجدون الحدود مغلغة دونهم. وفي رأي كثير من المفكرين أن العالم كان أكثر عولمة في القرن الماضي، حينما كانت الهجرة مفتوحة أمام الناس من المهرة وغير المهرة. فلكل وظيفة. أما الآن فالوظائف قاصرة على احتياجات معينة، مما يقع تحت مسمى «استنزاف العقول».
ظاهرة العولمة في الحضارة والتاريخ
كثرت الكتابات عن العولمة الراهنة فيما بين التأييد والمعارضة حسب المنطلقات الفكرية في المجتمعات المتقدمة، وفي المجتمعات التقليدية التي تمر بأطوار من التحولات والتغيرات، إلى أشكال أخرى من التكنولوجيات والمفاهيم المعاصرة من أجل اللحاق بمسرى التاريخ وحركته السياسية والاقتصادية والمجتمعية.
وللحقيقة فإن العولمة المحدثة ليست إلا إحدى علامات طريق في تنظيمات حياة الأمم والشعوب على مر التاريخ. لكن الذي يجعل منها هموما كبرى بالنسبة لكثير من المجتمعات أننا نعيش عصر المعلوماتية، وكل ما حدث في أي مكان من الكرة الأرضية له صدى أو دوي حسب القرب أو البعد المكاني والإيديولوجي، سواء كان هذا الحدث أمر طبيعي كالبراكين والأعاصير والجفاف، أو حدث مجتمعي كالأمراض الفتاكة الجديدة والمجاعات والبطالة وحقوق الإنسان، أو حدث اقتصادي كارتفاع سعر الطاقة، أو كانهيار بورصة مضاربات مالية مفتعلة أو حقيقية، مما يؤدي إلى آثار وخيمة على النشاط الاقتصادي في إقليم معين أو على مستوى عالمي، أو حدث سياسي كالعنصرية والحروب المدمرة الأهلية أو الدولية. وفي كل هذه الحالات وغيرها يصحب الحدث أنواع من الإعلام غالبها موجه وغير موضوعي، من أجل تعبئة الرأي العام في دولة أو إقليم أو العالم، بحيث يقع الناس ضحية غسيل مخ قد يلبس الحدث الضار ثوبا غير حقيقته. أو قد يكون الغرض الإعلامي تخويف الآخرين، على منوال المثل العربي «إياك أعني واسمعي يا جارة!»
والكثير من تحليلات ظاهرة العولمة الحالية تذهب إلى واحد من النتائج الآتية: (1)
الغرض النهائي هو الهيمنة السياسية للقطب الواحد الراهن أو أقطاب أخرى تساندها وتشاركها في الغنيمة، كالاتحاد الأوروبي أو دول الثمانية الصناعية أو نمو الصين إلى جانب هؤلاء جميعا. (2)
الهدف الأساسي ليس الهيمنة السياسية التي تكلف كثيرا في ردع أية دولة مهما كان حجمها، كما نلاحظه في تكلفة وترتيبات الحرب ضد أفغانستان والعراق. ولكن الهدف هو سيطرة اقتصادية عالمية بواسطة المؤسسات متعدية الجنسية. والردع في هذه الحالة لا يكلف سوى أنواع من العقاب كالضغط أو الحصار الاقتصادي للدولة «المتمردة». وبعبارة أخرى أن يكون هناك نوع من «الحكومة» الاقتصادية العالمية تشرف وتراقب أداء الدول المختلفة، ومدى تقبلها أو معارضتها للشروط التجارية العالمية السائدة. وحين تبدو بوادر «تمرد» في دولة ما، يلصق بها قائمة من الاتهامات أبسطها عدم تطبيق حقوق الإنسان، أو معاملة الأقليات العرقية والدينية والفكرية على غير معاملة غالبية السكان، ومؤخرا الاتهام بالارهاب. وحين تعاقب دولة ما تحجب الأسباب الرئيسية الاقتصادية، وتعلن بدلها أسباب أكثر قبولا وشعبية لدى الرأي العام في الدول المهيمنة، كاضطهاد الأقليات، أو كبت التنظيمات المعارضة، والتضييق على حرية الرأي.
والغالب أن كلا من التحليلين صحيح، فالسياسة والاقتصاد تشكل عناصر متفاعلة مندمجة بحيث يصعب معها تطبيق مبدأ السببية إلى أبعد الحدود.
وفي الماضي البعيد والقريب تجارب كثيرة للعولمة. لكن كل منها كان يحتوي ويضم مساحة من الأرض على قدر تكنولوجية السلاح السائد، وسرعة الحركة وانتقال الأخبار ونوع الفكر، والإيديولوجية التي تتمنطق بها مساعي عولمة ما تريد فرضها على الشعوب الأخرى. قد نشأت دول الحضارات الأولى في مصر وسومر والصين والسند على الزراعة في الوديان النهرية في شبه عزلة، دون أن تكون لديها مساع لمد نطاق هذه الحضارات وفرضها على المناطق المجاورة، ولكن هذه الحضارات كانت من الغنى بحيث تعرضت لهجوم الشعوب المتحركة الطامعة في ضمان الغذاء الدائم والوفرة التي تقدمها المنتجات الزراعية لهذه الحضارات. ربما كانت حركات الشعوب في الألفية الثالثة والثانية ق.م من وسط آسيا ناجمة عن مجموعة من التغيرات المناخية التي زادت فقر أواسط آسيا، ودفعت الناس إلى السند والهند والصين وواحات إيران وسهول الرافدين والنيل وسهول الدانوب وأوروبا. وقد أدت التحركات العنيفة لهذه الشعوب إلى أن تترك دول الحضارات القديمة عزلتها وتكون إمبراطوريات منظمة عسكريا لصد الطامعين. وهنا تبرز أسماء ملوك محاربين مثل ملوك الدولة الحديثة في مصر الفرعونية، وبالأخص تحتمس الثالث ورمسيس الثاني والثالث، ودولة الشانج في الصين في الألفية الثانية ق.م، وكذلك ظهور دولتي أشور، ثم بابل الثانية في الألفية الأولى ق.م، بعد سقوط دولتي الحيثيين في الأناضول، والميتاني في أعالي الرافدين. هذه الدول المتعددة على مر الزمن لم تكن حضاريا ودينيا متعصبة، فالكثير من العلاقات التبادلية التجارية والثقافية كانت تربطها ببعض، ومن خلالها انتقلت تكنولوجيات متعددة على رأسها استخدام الحديد بدلا من البرونز، واستخدام عربة الخيول الحربية وسلاح الفرسان إلى جانب قوة المشاة التقليدية، وبناء الحصون وآلات تدميرها ... إلخ. وبرغم أن هذه الاستحداثات سلمية أغنت المركب الحضاري للعالم آنذاك.
وربما كانت أولى مساعي الهيمنة على العالم ذي الأهمية الإنتاجية والتجارية قد بدأ بنشأة ممالك إيرانية متعددة - ميديا وبارثيا وفارس - منذ نحو 550ق.م، امتدت حدودها في عهد الأخمينيين - جهود قمبيز وداريوس - من السند وأطراف وسط آسيا إلى مصر وشمال اليونان، متضمنة سهول الرافدين وبلاد الشام والأناضول. وبذلك سيطرت على كل تجارة الشرق من الهند والصين، وتجارة الشمال من سهول روسيا والبحر الأسود، وتجارة الجنوب والغرب من الشام ومصر وأعالي النيل، ولكن الإمبراطورية الإيرانية تحطمت في الغزوة الأسطورية الخاطفة للإسكندر المقدوني في 330ق.م، في فتوحات زادت في اتساعها على مساحة الإمبراطورية الإيرانية. وبالرغم من تفكك إمبراطورية الإسكندر بسرعة إلى ثلاث ممالك، إلا أن أكبر الأثر لهذه الممالك هو نشر الثقافة الهلينية - الإغريقية - في الأرجاء، وكانت الكتابات العلمية والفلسفية بهذه اللغة هي التي حفظت التراث القديم، الذي نقل إلى العربية في عصر الخلافة العباسية، ومن ثم إلى اللاتينية ولغات أوروبية فيما بعد.
ومنذ القرن الأول الميلادي تصارعت الإمبراطوريتان الفارسية والرومانية على حكم العالم ذي الأهمية. خط الصراع كان دائما سهول الرافدين. وبذلك لأول مرة نرى عالمين متعولمين على مساحات كبيرة: الفارسية في الشرق إلى الهند ووسط آسيا، والرومانية في الغرب من الشام ومصر إلى أوروبا الغربية. وقد كانت عولمة الإمبراطورية الفارسية إيرانية هندية الطابع، بينما عولمة الإمبراطورية الرومانية إغريقية لاتينية. كل الثروات بما فيها تجارة الصين وبلاد البلطيق وأفريقيا كانت تنصب في عاصمتي فارس وروما. وقد فرض كل منهما هيمنته العسكرية في تنظيمات إدارية محكمة أشهرها ما عرف في التاريخ باسم «السلام الروماني
». وهو المصطلح الذي استعارته الإمبراطورية البريطانية فيما بعد
، ويستعمله البعض الآن لوصف الهيمنة الأمريكية
بدعوى أنهم خلفاء روما - فيا للعجرفة ومنتهى الغرور!
وفي القرن السابع الميلادي سقط العالم الفارسي تماما أمام الحضارة الإسلامية، وكذلك سقط الجزء الأكبر من بيزنطة - خليفة روما - وامتد العالم الإسلامي من حدود الصين والهند إلى وسط آسيا والقوقاز، وإلى الشام ومصر وكل أفريقيا الشمالية والأندلس. وبذلك انتهت ازدواجية القوى الشرقية والغربية إلى قوة واحدة ذات حضارة إسلامية واحدة متعددة اللغات، وإن ظلت اللغة العربية هي لغة الكتاب والثقافة لفترة طويلة. لقد استوعبت العولمة الإسلامية في أرجاء هذا العالم كل الأصول الإيرانية الهندية التركمانية من ناحية، والكثير من الثقافات الإغريقية والتنظيمات الرومانية المنتشرة في حوض البحر المتوسط. كما امتدت إلى شرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وأنشأت علاقات تجارية مباشرة مع الصين وبلاد الروس والبلطيق وأوروبا.
وفي القرن 13 تكونت إمبراطورية المغول العسكرية من الصين إلى شرق أوروبا، وأغارت على البقية الباقية من الخلافة العباسية، وربما كانت بذلك أكبر إمبراطورية متكاملة على يابس أوراسيا، لكنها سرعان ما انقسمت بتأثير الحضارات التي ضمتها: فالمغول في الشرق صاروا صينيين، وفي الغرب والجنوب صاروا مسلمين، وفي شرق أوروبا تحولوا تدريجيا إلى المسيحية الأرثوذكسية. فقد كان العالم المغولي مجرد فتوح عسكرية دون عولمة ثقافية متأصلة الجذور، ودون تنظيم اقتصادي شامل، بل كان يعتمد على النظم السابقة إلى أن ابتلعتهم الثقافات والحضارات التي حكموها.
ويمثل المغول آخر العوالم الكبرى في العصور الكلاسيكية. فقد أخذ العالم يتفتت إلى إمبراطوريات وأمم محدودة المساحة، ومبنية على مؤسسات ثقافية محدودة كاللغة أو الدين فقط، مثل ذلك الإمبراطورية العثمانية يقابلها ممالك أوروبية في طور النمو والتقدم، أهمها إمبراطوريات النمسا وفرنسا وبريطانيا وروسيا، إلى جانب إسبانيا والبرتغال اللتان سعيا للخروج من غلالة الحضارة الإسلامية طوال القرنين 14 و15، ثم راحت تبحث عن طرق التجارة العالمية بعيدا عن احتكار العالم الإسلامي. وبذلك تأصلت نظرية «الدولة القومية»، وهي عكس أفكار العولمة القائمة على تخطي مؤسس حضاري واحد كاللغة أو السلالة والعرق أو الدين والمذهب. فكأن العالم دار دورة كاملة وعاد من حيث أتى دولا صغيرة كدول الحضارات الأولى!
ولكن المنافسات المميتة بين الدول القومية من أجل الهيمنة على طرق التجارة العالمية كتبت تاريخا طويلا من الصراع بين أساطيل هذه الدول وأساطيل شركاتها الكبرى: صراع وحروب بين الأسبان والبرتغال والهولنديين والفرنسيين والإنجليز في بحار الهند والعرب وجنوب شرق آسيا والبحار الأمريكية. وفي النهاية فازت بريطانيا بالجزء الأكبر، وأصبحت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. والخلاصة: أنه أصبحت هناك ثلاثة عوالم: الإنجليزية - بما في ذلك الولايات المتحدة - والفرنسية والإسبانية. وبعد استقلال المستعمرات في النصف الثاني من القرن العشرين حلت مؤسسات قانونية لتجمعات سياسية محل العوالم السابقة، فأصبح هناك رابطة الكومنولث البريطاني، والتجمع الفرانكوفوني، والروابط الثقافية بين دول أمريكا اللاتينية وبين إسبانيا والبرتغال.
وفي ذات الوقت كانت روسيا تتقدم ببطء منذ القرنين 17 و18 على المحاور البرية المؤدية إلى اتجاهات: هي الاتجاه جنوبا في البلقان والقوقاز على أنقاض الدولة العثمانية، والاتجاه جنوبا بشرق إلى وسط آسيا صوب إمارات سمرقند وبخارى وغيرهما، والاتجاه شرقا مع غابات سيبيريا حتى المحيط الهادي قبالة الصين واليابان، ثم عبروا المحيط واستعمروا ألسكا - إحدى ولايات أمريكا الآن - والجزر القريبة من الساحل الكندي الغربي، وبذلك كونت روسيا دولة شاسعة تشابه الدول الكلاسيكية في الأزمان الماضية، وحين تفكك الاتحاد السوفيتي صار هناك كومنولث يربط روسيا والدول التي انسلخت عنها - تماما كما حدث للإمبراطورية البريطانية. فالسوابق واللواحق واحدة، انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية في ستينيات القرن العشرين لحقه بعد أربعة عقود الانهيار السوفيتي قرب نهاية القرن!
والآن تبدأ الولايات المتحدة عولمة جديدة بقوتها الاقتصادية والعسكرية. والولايات المتحدة، وإن شابهت أوروبا كدولة قومية، إلا أنها أكثر شبها بدول العوالم الكلاسيكية، وبخاصة العولمة الإسلامية. فكلاهما - العالم الإسلامي الماضي والأمريكي الحالي - منفتح على العالم يستقطب الأفكار والعلماء والمبتكرين والفنانين والمبدعين، بغض النظر عن أصولهم ولغاتهم ودياناتهم. فأسماء البخاري، والترمذي، والبيروني، والمسعودي، وابن خلدون، والمتنبي، والمعري، وشوقي، والأفغاني، ومحمد عبده في تاريخ الحضارة الإسلامية دليل عولمة قوية عربية اللغة والثقافة. وأينشتاين، وأحمد زويل، ومحمد عبده، دليل على نهج مماثل في الولايات المتحدة، يستقطب العلماء من أي مكان، بفضل توافر إمكانات بحثية هائلة متطورة، وهو الأمر الذي يسمى في الدول النامية على وجه الخصوص بظاهرة «استنزاف العقول».
وقد كانت القيم الإسلامية حول حرية الفكر سائدة بين علماء «دار الحكمة» أيام الخليفة المأمون، ومن قبله ومن بعده، فإن مثل هذه القيم تنقص مساعي العولمة الأمريكية الحالية برغم الديموقراطية الداخلية؛ ولهذا فقد قادت مظاهر القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية إلى مزالق كثيرة، أدت سياسيا إلى شيوع صورة «الأمريكي القبيح»، الملتجئ أبدا إلى القوة المفرطة في العالم النامي والمتقدم على السواء، وذلك برغم وجود قيم جيدة كثيرة بين الأمريكان كشعب وأفراد.
والغطرسة الأمريكية ليست ظاهرة فريدة، بل سبقتها غطرسة السيادة والعنصرية الإنجليزية والفرنسية والألمانية من قبل. وعلى أي الحالات فإن عدم انصياع أمريكا للكثير من مقررات الأمم المتحدة في الصراع العربي الإسرائيلي، ونقض الاتفاقات الدولية بتفضيل مصالحها، ولو أدى إلى ضرر عالمي بيئي، مثل انسحابها من اتفاقية كيوتو، والالتجاء إلى القوة كما حدث في الصومال، وما يحدث في أفغانستان الآن «والعراق»، والإصرار على تنفيذ اتفاقية التجارة العالمية، كلها أمور تعتم صورة أمريكا، وتجعل دعوى العولمة الحالية مثار جدل عنيف في كثير من دول العالم، برغم ما قد يكون فيها من بعض الميزات تراها أوروبا ولا تراها قوميات أخرى أو عوالم الإسلام والكنفوشية والهندوسية.
والخلاصة: أن دعوى العالمية الحالية ليست نهاية المطاف. فقد سبق أن استوعب العالم عولمات سابقة وطوعها إقليميا وطرح جانبا ما فيها من خشونة واستبداد. وستظل مثل هذه التوجهات العالمية مستمرة ما بقي التطور الفكري والتنظيري لدى الإنسان من أجل عالم أفضل، تقل فيه فروق الشعوب، وتكبر فيه قيمة الإنسان ساكن هذا الكوكب. (3) احتياجاتنا لكي نشارك في عصر المعلومات
بعد الانبهار الذي صاحب زيارة رئيس الدولة للصين وبخاصة مدن الإلكترونيات، تصاعدت التصريحات حول إنشاء مدينة مماثلة لصناعة الإلكترونيات في مصر، قيل: إنها ستكون على الأغلب في مكان قرب مدينة 6 أكتوبر، ولكن قبل ذلك كانت هناك أيضا أقوال كثيرة عن القرية الذكية «مدينة مبارك»، وأيضا «وادي التكنولوجيا» قرب الإسماعيلية. وكان وادي التكنولوجيا في أواسط التسعينيات مخصص له قطاع أرضي من شمال 6 أكتوبر، أزيح عنه من أجل استثمارات عقارية أو نحو ذلك، والآن يعود الوادي المقترح إلى 6 أكتوبر مرة أخرى.
وفيما بين هذه الاتجاهات الكثيرة والآمال الطموحة كانت هناك بعض صناعات الاتصالات الإلكترونية في غرب الإسماعيلية، ونواح أخرى من مصر. وفي ذات الوقت انتشرت استخدامات الكومبيوتر على مستوى هيئات حكومية وخاصة كثيرة كالبنوك والأعمال المالية والائتمانية والسكك الحديدية ومصر للطيران وهيئة الكهرباء وكثير من الوزارات، جنبا إلى جنب كليات الحاسب الآلي في الجامعات الكبرى والمعاهد الخاصة، وشيوع أجهزة الكومبيوتر الشخصي لدى عدد لا بأس به من الأفراد والمكاتب، وظهور شركات خاصة لشبكات المعلومات العالمية «إنترنت»، وشاعت أيضا معاهد ومراكز خاصة لتعليم الكمبيوتر، وأيضا ما يسمى «مقهى الإنترنت» للذين لا يملكون هذه الخدمة المعلوماتية العالمية كطلبة البحوث العليا.
بطبيعة الحال كل هذه أمور جيدة، لكنها ما زالت في مرحلة استخدام المتاح من المعلومات دون المشاركة في إنتاجها؛ أي إننا ما زلنا مستهلكين إلى حدود عالية. بعض الهيئات والشركات تنشئ لنفسها مواقع على الإنترنت، لكنها إسهامات ضعيفة بالمقارنة بعالم المعلومات المطلوب لبناء شبكة قومية أو عربية من ناحية، وشبكة تجارية اقتصادية من ناحية ثانية، وشبكة معلومات ثقافية حضارية علمية وأدبية من ناحية ثالثة.
ولا شك في أن هناك حساسيات مرتبطة بمعلومات عن الأمن القومي والداخلي، وهذه بالقطع غير مطلوبة للشبكات المعلوماتية إلا بقدر ضئيل، ولكن إلى جانب ذلك هناك معلومات عادية كثيرا ما توصف بالسرية، وغالبها ناتج عن هاجس يسيطر على البيروقراطية دون مبرر حقيقي سوى الخوف من المساءلة، علما بأن الكثير من هذه المعلومات الموصوفة بالسرية هي معلومات متاحة في العالم الخارجي! متى نكف عن هذه الممارسات البيروقراطية البشعة، وننفتح على أنفسنا قبل أن ننفتح على الخارج. وبدلا من أن نطلب المعرفة والمعلومات من الشبكات الأخرى - وقد يكون بها توجهات سياسية معينة - نطلبها من الشبكة القومية، رغم أنها هي الأخرى قد تكون ذات توجهات معينة.
إذا نجحنا في إنشاء مدينة لإنتاج الإلكترونيات وأجهزة الاتصالات فإن ذلك سيكون له نظريا عائد تصديري معقول ومرغوب في العالم العربي. لكن العائد الأكبر هو القدرة على اتخاذ القرار داخل البلاد العربية، لكن علينا أن نلاحظ أننا ندخل هذا الميدان متأخرين، وبهذا فنحن منطقيا غير قادرين على منافسة الكم الهائل من إنتاج الأجهزة في شرق آسيا أو الصين أو الهند. والأمل أن يسعفنا الوقت لنبني لأنفسنا مكانا صغيرا في العالم حولنا . وذلك بالتركيز على إنتاج احتياجات السوق المصرية السودانية أو العربية أو هما معا، ويحتاج مثل هذا الأمر تكاتفا كبيرا لرأسمال وطني عربي من أجل استخدام طيب لقاعدة العمل البشري المدرب في هذا المجال من مصر وبقية العالم العربي، هذا هو الجانب المادي من احتياجاتنا من عالم المعلومات؛ أي إنتاج الأجهزة والبرمجة العربية. والتركيز على المشاركة العربية المالية والتكنولوجية أمر حتمي باعتبار السوق العربية سوقا واحدة. ولا يجب أن نفهم من ذلك أننا سنستغني عن أجهزة المعلومات الأجنبية، بل إن انفتاحنا على شبكاتها أمر ضروري للمزيد المعرفي على المستوى العالمي.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف الذي يساعدنا على أن نتشارك علميا وعمليا مع عالم المعلومات، فنحن في حاجة إلى تنفيذ ما تفرضه احتياجات السوق بإنشاء شبكة معلومات باللغة العربية. وأول المفروض هو الحصول على معلومات على النطاقات الوطنية العربية؛ لكي نزود بها قاعدة المعلومات والبيانات العربية بطريقة محدثة باستمرارية تزويد الشبكة بمعلومات أحدث. وتنفيذ مثل هذه القاعدة ليس واجب الحكومات، وإنما كان يمكن لها أن تسهل قيامها بالمساعدة في تغذيتها بالبيانات، ووضع الأطر واللوائح القانونية لعمل مؤسسات وشركات المعلومات. وإذن فإن شركات خاصة هي التي تقوم بإنشاء الشبكات المعلوماتية وتتولى تغذيتها وتحديث معلوماتها ضمن إطار لوائح لا تخل بما تعتبره الدولة مساسا بالسيادة والأمن العسكري والاقتصادي. ولكن ما نتحرز منه قد حدث مرارا في الولايات المتحدة، فقد أمكن اختراق السرية رغم كل أشكال التأمين للمعلومات.
والخطوة الكبرى في هذا المجال تتولى فيها الحكومات العربية - وربما بالاشتراك مع مؤسسات من القطاع الخاص العربي والأجنبي - إنشاء قاعدة معلومات خاصة تهتم بالعالم العربي. وستكون هذه الأقمار المصدر الذي سيحيل صناعة المعلومات العربية، إلى أن تصبح جزءا من المعلومات العالمية. كما أنها سوف تساعد الدول العربية على حسن إدارة مواردها الطبيعية بما يتلاءم مع إيكولوجية البيئة العربية، ويحافظ عليها من الإهلاك، مع إمكانية التنمية الاقتصادية دون أضرار مستقبلية.
كيف يمكن ذلك؟
أن تتخصص الأقمار العربية في موضوعات تصبح معه - بالاشتراك مع بقية العالم - مصدرا معلوماتيا له آفاق دراسية وتنموية. مثال ذلك أقمار خاصة بدراسة المناطق الجافة والصحاري التي تشغل الجزء الأكبر من البلاد العربية، فإن تتبع أشكال السطوح الصحراوية الرملية والصخرية وتباين تضاريسها ومكوناتها الجيولوجية، ومكونات تربة المنخفضات والأودية الجافة ورسم خرائط دقيقة نقلا عن المرئيات الفضائية، وربما أيضا تتبع التكوينات المعدنية، كلها تشكل إسهامات علمية جبارة ترشدنا إلى أين يمكن أو لا يمكن إحداث هذا الشكل أو ذاك من أشكال الاستخدام البشري لبعض المسطحات الشاسعة في الصحاري العربية.
صحيح أن بعض هذه المعلومات موجودة ولكن على نطاق عام أو على نطاق دقيق محدود. فالصورة الشاملة قد تعطينا مفتاح ألغاز في انفصال أو ترابط بعض الظاهرات الصحراوية وتاريخ تكوينها. ففي غيبة بعض المعلومات أو نقص تقنية البحوث الراهنة فقد أمت محاولات الإنسان لاستعادة بعض أرض الصحاري وتعميرها إلى أضرار بالغة، ساعدت على تدهورها وأسرعت بتصحرها من جديد. مثل ذلك المشروعات الزراعية المعتمدة على حفر آبار عميقة في مصر والجزيرة العربية وشمال أفريقيا، أو حفر آبار في النطاق الهامشي الجنوبي من الصحراء الكبرى لمساعدة الرعاة على ضمان مياه لسقي حيواناتهم. فقد أدت هذه النهاية إلى تفكيك التربة الهشة حول الآبار لكثرة تجمع قطعان الحيوان حولها، وبالتالي لم تعد الأرض تنتج الأعشاب القليلة التي كان يتغذى عليها الحيوان، وهو ما يضطر الإنسان في النهاية من هجر المنطقة لتتكرر العملية الهدمية مرة أخرى. لقد كان حفر الآبار يتم بنوايا حسنة، سواء لتأمين النشاط الزراعي أو الرعوي، لكن النتائج مؤسفة. ومن ثم فإن مخططات التنمية والتعمير يجب أن تدعمها معلومات معمقة عن البيئات لتجنب التصحر وفشل مشروعات أنفق عليها الكثير وعلقت عليها آمال كبار في البدايات غير المدروسة بكفاية. وباختصار يجب أن يكون هناك تقويم بيئي حقيقي لكل المدخلات الطبيعية والبشرية وتفاعلاتها، قبل الإقدام على إنشاء متغير تنموي في البيئة الصحراوية الهشة.
وحيث إن العالم العربي تحده بحار كثيرة من الأطلنطي إلى الهندي مرورا بالبحر المتوسط والأحمر والخليج العربي، وحيث إن الكثير من المدن والمواطن العمرانية العربية تقع على السواحل العربية، فإن دراسة السواحل أمر ضروري ومطلوب؛ لأن هناك بعض التغيرات المناخية العالمية التي تؤدي إلى ارتفاع سطح البحر تدريجيا وببطء مما يهدد هذه المدن؛ ومن ثم فإن الأقمار الصناعية يمكن أن تعطينا معلومات جيدة عن أشكال كثيرة من عمليات نحر البحر في أماكن مختلفة على ذات البحر، أو اختلاف العمليات بين ساحل عربي وآخر على بحار مختلفة. والأدلة التاريخية والجيولوجية كثيرة عن هبوط الأرض وارتفاع البحر في سواحل مصر الشمالية. مثل المدينة الغارقة في الإسكندرية التي تشكل جزءا من إسكندرية البطالمة، أو نمو وتراجع شاطئ الدلتا وتكوين البحيرات الساحلية. نحن نعرف ذلك من تاريخ عمران هذه الأماكن منذ بضعة آلاف السنين، مثل بيلوزيوم (بالوظة)، والفرما (شرق بورسعيد الحالية)، وبي رمسيس (صان الحجر) ... إلخ؛ ولهذا فإن المرئيات التي تبثها الأقمار يمكن أن تساعدنا على تفهم حقيقة الأوضاع، ومن ثم ننشئ أو لا ننشئ مشروعات كمشروع ميناء حاويات شرق التفريعة (بورسعيد).
مدن دول الخليج الكبرى مبنية على البحر مباشرة: الكويت والدمام والمنامة والدوحة وأبو ظبي ودبي والشارقة ورأس الخيمة ومسقط. وعلى هذا نعود مرة أخرى إلى ضرورة الحصول على معلومات شاملة من أجل حسن إدارة الشواطئ العربية، يراعى فيها تقييم الظروف الطبيعية والبشرية والآثار المترتبة على مشروعات لم تدرس بعناية شمولية الأبعاد. ليس الغرض التوقف ولكنه الحفاظ على البيئة من أجل الأجيال القادمة، فيما تبقى من النطاقات الساحلية على البحار العربية.
وفي داخل كتلة المعمور المصري في الدلتا والصعيد يمكن رصد النمو السكني خارج الكوردون المسموح، بغرض المزيد من المحافظة على الأرض الزراعية. صحيح أن هذا الواجب يمكن إتمامه بالصور الجوية، لكنها عملية شاقة ومكلفة وبطيئة. بينما يمكن للأقمار الصناعية عمل المسح اللازم بسرعة أكبر وتكلفة ربما تكون مساوية أو أرخص من الصور الجوية. وفوق هذا يمكن عمل مسح عدة مرات في السنة حسب الطلب، وهو ما يساعدنا على كشف التلاعب في التعدي على الأرض الزراعية بسرعة فائقة. كما أن مثل هذه المرئيات تعطينا فرصة للتعرف على ديناميات الحركة والنشاط في الريف المصري، مثل الحرائق وحريق القش النباتي، ومسار المياه في الترع، وانسياب أو عرقلة الحركة على الطرق البرية نتيجة حوادث، أو تجمهر سوق أسبوعي ... إلخ. (3-1) أقمار الرصد المناخي
لكن الأقمار المناخية هي من أهم المنجزات العلمية الحالية. فليس كالمناخ عنصر طبيعي آخر له من الآثار المباشرة في جبهة عريضة من الأرض، ونحن نحس ذلك في التغيرات الموسمية واليومية للحرارة والرياح والعواصف المتربة والأعاصير الممطرة والسيول المرتقبة. أقمار الرصد المناخي تعطينا كل هذا لنترجمه على النشاط البشري في الزراعة وصيد البحر والصناعة والسياحة والنقل الجوي، وعلى اليابس وفي البحار وحالات الفيضانات النهرية، وغير ذلك من الخدمات. وباختصار فالأقمار المناخية تبشر وتنذر.
وبرغم القول الذائع أن مصر بصفة خاصة ذات أجواء معتدلة، إلا أن المدقق يعرف أن هذا تعميم لا يرقى إلى الدقة العلمية. صحيح أن مصر الآن لا تتعرض لفيضانات مدمرة ولا برودة شديدة ولا أمطار كثيرة، إلا أننا نعاني من درجات حرارة مرتفعة أكثر من نصف السنة، ونعاني جفافا طويلا وشمسا مبهرة وأحيانا رطوبة عالية، وخماسين متربة ونوات ممطرة وسيولا جارفة في أحيان ومواسم مختلفة. (3-2) أشكال الطاقة المتجددة
وفي مقابل تلك المنغصات الجوية فإن مصر والعام العربي يتمتعان بسطوع الشمس ساعات طوال، وبرياح شمالية - بدرجات ميل مختلفة - معظم السنة. وهذان عنصران مناخيان لهما في التكنولوجيا الحديثة ترجمة إنتاجية مرغوبة كمصادر متجددة لطاقة نظيفة. مصر والبلاد العربية إجمالا لا تشكو من قلة مصادر الطاقة. فهنا مصادر ضخمة من الطاقة الحفرية متمثلة في الغاز والبترول، فضلا عن الطاقة الكهرومائية النظيفة في مصر بصفة أساسية. وحيث إن البترول أكثر مصادرنا العربية تلويثا، فقد اتجهنا إلى محطات الغاز الأقل تلويثا، ولكنه لا يرقى في النظافة إلى الكهرباء المولدة من الطاقة المائية، ولا إلى الطاقة المولدة من الرياح والشمس. كما أن هذه الطاقات متجددة بينما البترول والغاز مصادر طاقة غير متجددة. ولهذا فإن الاتجاه العالمي الآن هو نحو طاقة ودودة للبيئة، ومن ثم هناك أبحاث وتطبيقات كثيرة لطاقة الرياح والشمس في بلاد العالم المتقدمة . فهل نتخلف عنهم علما بما لدينا من مصادر هائلة من هذه الطاقات النظيفة؟
وربما كانت طاقة الرياح أكثر تطبيقا وتقدما بالقياس إلى استخدام الطاقة الشمسية. فمعظم الدول المتقدمة لا تسطع فيها الشمس بالقدر الذي يوجد في العالم العربي، ومن ثم كان تقدم أبحاث طاقة الرياح؛ لهذا تقدمت توربينات المراوح الهوائية المولدة للكهرباء، وتنوعت أحجامها وقوتها. وفي معظم بلاد العالم المتقدم لجان ومجالس متخصصة وهيئات لوضع الخطط اللازمة لتنفيذ محطات إنتاج هذه الطاقة ودراسة تكنولوجيات الإنتاج وتوزيع الكهرباء المنتجة. وفي عام 1999 كان إنتاج العالم من هذه الطاقة يقدر بنحو عشرة آلاف ميجاوات، وكان80٪ منها يولد في أربعة دول متقدمة إضافة إلى الهند، ولم يكن ذلك بالرقم الكبير، فإنتاج مصر حاليا هو نحو 15 ألف ميجاوات من جميع مصادر الطاقة: الغاز والبترول وكهرباء السد العالي. وقد ارتفع الإنتاج العالمي من هذه الطاقة بعد سنتين إلى أكثر من 20000 ميجاوات. وبعبارة أخرى فإن كهرباء طاقة الرياح شهدت نموا غير مسبوق من بين مصادر الطاقة الأخرى. ففي 1989 كان إنتاج ألمانيا 800 ميجاوات، قفز إلى أكثر من عشرة أضعاف في 12 سنة بحيث بلغ 8750 ميجاوات عام 2001. وفي ذات السنين ارتفع كهرباء الرياح في الولايات المتحدة من 150 إلى 4300 ميجاوات، وإسبانيا من 400 إلى 3300 ميجاوات، والدانمرك من 300 إلى 2500 ميجاوات. وتسعى كندا إلى إنشاء محطات لطاقة الرياح سوف تنتج عام 2005 نحو خمس كل الطاقة المستخدمة في ذلك التاريخ. وكذلك تسعى الولايات المتحدة إلى مضاعفة إنتاجها إلى 10000 ميجاوات بإنشاء محطات معظمها في السهول الوسطى. وبلغ عدد المشتركين في الاتحاد الأوروبي في كهرباء طاقة الرياح مليونا ومائتي ألف مشترك عام 2001، ويهدف مخطط دول الاتحاد الأوروبي إلى زيادة الإنتاج إلى 40000 ميجاوات عام 2010، وهي ربما تساوي 12٪ الكهرباء المنتجة من كل المصادر الآن في دول الاتحاد الأوروبي. (3-3) وماذا عن مصر في هذا المضمار؟
تعد مصر المركز الإقليمي لتوزيع المعلومات التي يبثها القمر الأمريكي المناخي «متيو سات»، عن الأحوال المناخية لشمال أفريقيا وجنوب أوروبا. وتحلل نتائج هذا البث إلى معلومات في صورة تنبؤ بحالة الطقس لمدة ثلاثة إلى خمسة أيام مسبقا. وربما ساعد ذلك إلى جانب مجهودات هيئة الأرصاد الجوية المصرية على بدايات استخدام طاقة الرياح في حقول ما زالت محدودة. هناك حقل رأس غارب بطاقة 400 كيلووات، وحقل الزعفرانة بقدرة 80 ميجاوات، بينما يستغل حقل الغردقة في تحلية مياه البحر، وهناك أيضا مشروعات لإقامة خمسة حقول جديدة في مناطق متفرقة. والأغلب إنشاء المحطات قرب الهوامش الساحلية للصحاري وبالقرب من مناطق العمران. وحينما تشيع هذه الاستخدامات فربما يصبح تكلفة الكيلوات من الكهرباء أرخص منه في المحطات الحرارية، وبذلك نوفر قدرا من الغاز لمزيد من التصدير، أو أن نطيل عمر احتياطي الغاز لاستخدامات مستقبلية.
أما الطاقة الشمسية فهي في الحقيقة الرصيد الكبير للطاقة النظيفة المتجددة. وبغض النظر عن الاستخدامات المحدودة للطاقة الشمسية على مستوى البيوت وبعض الفنادق، فإن هناك مشكلات كثيرة لم تحل في تكنولوجية إنتاج الطاقة ونقلها على المنسوب التجاري. وحتى الآن فإن ذلك يحتاج إلى تجهيزات رأسمالية كبيرة لإنتاجها على نطاق توزيعي كبير على غرار البرنامج الضخم الناجح في كاليفورنيا. وهناك برامج بحثية كثيرة في مجال الطاقة الشمسية على رأسها برنامج «ستارت». وتسعى مصر حثيثا في هذا المجال، وهي الدولة العربية الوحيدة المشاركة ضمن 12 دولة أخرى في برامج تطوير التعاون البحثي لتكنولوجية الطاقة الشمسية، وتبادل المعلومات - الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وفرنسا وسويسرا وإسبانيا ومصر وجنوب أفريقيا والبرازيل والمكسيك وإسرائيل وأستراليا.
ولدى مصر مشروع كبير باسم «نور السلام»، تشارك فيه الولايات المتحدة وغيرها بتكلفة مبدئية قدرها 65 مليون دولار، لتوليد الطاقة الشمسية نهارا ومن الغاز ليلا. ولا شك في أن نجاح تطبيقات الطاقة الشمسية في مصر والبلاد العربية سيكون له مردودات كبيرة في توزيع طاقة ودودة للبيئة، أقل من الطاقة المولدة حراريا الآن في مصر والتي تتوزع مصادرها بنسبة 35٪ بترول، و19٪ غاز، و26٪ توربينات غاز وبترول معا.
وأخيرا فإن في مصر وبعض البلاد العربية طاقة نظيفة مستخدمة منذ نحو نصف قرن هي الطاقة الكهرومائية المتولدة عند السدود والقناطر. وفي مصر محطتان هما: السد العالي 2100 ميجاوات (= نحو 15٪ من مجموع الطاقة المصرية)، وسد أسوان 622 ميجاوات (= نحو 4,3٪)، إضافة إلى مشروع قناطر إسنا قيد التنفيذ.
الخلاصة: أن في مصر خبرات متعددة تطبيقية في مجالات الطاقة المتجددة النظيفة من الماء والرياح والشمس. لكننا في حاجة إلى مزيد من المعلومات بواسطة أقمار متخصصة في المناخ وغيره، من أجل اختيار أصلح الأماكن لإنشاء حقول طاقة الرياح والطاقة الشمسية، بحيث توفر المردود المناسب للإنفاق على المحطات وتطويرها، ولعقد اتفاقات مع أطراف داخلية وخارجية لمزيد من محطات جديدة، وتحديث القائمة بصفة دائمة تبعا لتقدم المعرفة العلمية والتطبيقات التكنولوجية المستجدة دائما. ولا شك في أن اتساع آفاق العمل في هذه الأنواع من الطاقة المتجددة سوف يخلق كوادر فنية عديدة على مستويات مختلفة، هذه الكوادر غالبا ما تمهد المناخ لظهور مهارات الابتكار والتحديث والإبداع. ولكن لا يغيب عن الأذهان أن كل أشكال التقدم هذه في مجالات الطاقة هي وليدة عصر المعلومات. كذلك لا ننسى الكثير من الفوائد سالفة الذكر عن التعرف على أشكال النشاطات البشرية، وفي أي الأماكن وبأي التقنيات يمكن استخدامها للمزيد من التنمية غير المناطحة للظروف البيئية.
ولهذا فإنه لا مناص أمامنا إلا أن ندخل هذا العصر بتهيئة مراكز بحثية جادة بدون بيروقراطية، سواء كان ذلك في صورة وادي التكنولوجيا أو القرية الذكية، وللأهمية القصوى للموضوع نورد بعضا من تفاصيله لعل المعرفة تستحثنا على التفكير والتنفيذ معا، من أجل مستقبلنا وأجيالنا القادمة. (4) مصادر الطاقة الطبيعية المتجددة في مصر منحة وهبة (4-1) ميزانيات البحوث أولا وأخيرا
بمناسبة الدعوة إلى إقامة الطاقة النووية والعمل الدءوب في استكشاف إمكانية تفعيلها، تحسبا لنضوب مصادر الطاقة الحفرية الحالية من بترول وغاز طبيعي في وقت ليس بالطويل، فإني أعرض هنا لموضوع الطاقة المتجددة التي يعرفها المتخصصون في دوائر العلوم والتطبيق المصرية. ليس العرض هنا لأن الموضوع غائب عن الأذهان، بل لزيادة التطرق للموضوع بتخصيص أرصدة وفيرة للبحث والتنمية
R&D ، على كافة المستويات الرسمية والشركات والهيئات الخاصة المهتمة باستخدام هذه المصادر الطبيعية، باعتبارها منحة طبيعية شبه مجانية لكي تشترك مع مصادر الطاقة الحفرية - بما فيها النووية - كمصادر إضافية وتبادلية في الشبكة القومية للطاقة ، وربما في النهاية قد تصبح مصادر أولية لإنتاج الطاقة في المناطق المصرية النائية التي يراد تنميتها.
الطاقة هي مرتكز القوة في تقدم الحضارة الإنسانية. بدأت باستخدام طاقات طبيعية كتيارات المياه الجارية، ومياه البحار كوسيط للطفو للنقل والتنقل بمشاركة طاقة الرياح أو طاقة انحدار الأنهار. وإلى جانبها استخدم الإنسان القديم الطاقة البيولوجية متمثلة في القدرة العضلية لنفسه، وقدرة الحيوان المستأنس في الجر ثم الحمل بعد اختراع البردعة والسرج والهودج ... إلخ، ثم نقل الأحجام الكبيرة بعد اختراع العجلات وبناء المركبات. قوة الماء المندفع كانت أكبر وأوسع وأكثر انتشارا، كطاقة تحرك عجلات الطواحين وتروسها لطحن الغلال، بوصفها المصدر الأساسي للغذاء - الخبز - ثم مع التطوير أصبحت قادرة على تطويع بعض الصناعات المعدنية لأغراض مختلفة.
وللماء المندفع مصدران أولهما: مياه الأنهار سواء كانت منحدرة طبيعيا أو تصنع لها انحدارات بالبناء الحجري، وثانيهما: قوة مياه المد البحري في خلجان معينة لإدارة الطواحين الذي كان شائعا في غرب أوروبا. والمصدر الطبيعي الثاني الذي استخدمه الإنسان بكفاءة، هو طاقة الرياح أيضا لإدارة الطواحين، وهو ما كان شائعا أيضا في غرب أوروبا وبخاصة في هولندا. (4-2) مصادر الطاقة المتجددة
تطور الأمر بعد الانقلاب الصناعي إلى مصادر الطاقة الحرارية باستخدام الفحم ثم البترول والغاز، فانتقلنا من عربات الحيوان إلى القطار والسيارة، وتطور استخدام مياه الأنهار إلى بناء السدود لتوليد الكهرباء، وتطور استخدام الرياح مؤخرا إلى المراوح المنتجة للطاقة. وإذا كانت أشعة الشمس تستخدم من قديم لإنضاج المحاصيل بعمل أجندة فصلية لزراعة أنواع المحاصيل، فقد أضيف إليها الآن تجميع الطاقة الشمسية على سطوح معينة لتسخين المياه وإنتاج الطاقة.
لم يقف الفكر الإبداعي للإنسان، فهو ما زال يفكر في أشكال أخرى من الطاقة المتجددة وبخاصة طاقة أمواج البحر، وتكثيف المياه السطحية الدافئة في البحار الاستوائية والتيارات البحرية إلى بخار يضخ في توربينات تبرد بالمياه البحرية العميقة تتدفق إلى محطات إنتاج الطاقة.
هذا فضلا عن توليد الطاقة من مصادرها الحرارية في باطن الأرض، المسماه حرارة جوف الأرض «جيوثيرمال
Geothermal » من المناطق التي تظهر فيها ينابيع مياه حارة وبراكين غيرها من الظاهرات الطبيعية. والكثير من الإبداع الفكري لا يزال في أطوار البدايات، أكثرها ناجحة، وإن كان ينقصها التطبيق الواسع والربط بشبكات الطاقة.
وهناك فوق ذلك استعادة للطاقة البيولوجية من بقايا المحاصيل في محطات لإنتاج «البيوجاز
Biogas »، من أجل الحصول على غازات هامة لتوليد الحركة، وعلى رأسها غاز الميثان شديد الضرر بتركيب الهواء إذا تركت البقايا النباتية للتعفن في حفر أو مياه راكدة. ومن نفس الفصيلة ولكن لغرض آخر أصبحنا نحصل منذ فترة على وقود سائل وبخاصة الإيثانول
Ethanol
من محاصيل وأعشاب معينة، مثل قصب السكر في البرازيل التي تمثل أعلى الدول في هذا المضمار، تليها الولايات المتحدة التي تنتجه من الحبوب في شمال السهول الوسطى. وهناك البيوديزل
Biodiesel
المنتج من زيوت الخضروات والحبوب كفول الصويا ... إلخ. وقد سبق لي أن كتبت عنهما بعنوان «هل يمكن زراعة الطاقة في مصر» - الأهرام أبريل 2006.
حقا إن هذه الطاقات المتجددة لا تزال تشكل نسبة صغيرة من الطاقة على مستوى العالم. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال وبوصفها أكبر منتج ومستخدم للطاقة، نجد أن الوقود الحفري - بمعنى أن له مخزونا ينضب - ما زال يمثل في 2004 النسبة الكبرى من مصادر الكهرباء المستهلكة، تبلغ 86٪ موزعة على البترول 40٪، ولكل من الغاز والفحم 23٪، بالإضافة إلى 8٪ من المحطات النووية. ويتبقى 6٪ من الكهرباء تنتج من مصادر الطاقة المتجددة تتوزع على المصادر التالية: البيوجاز (47٪)، والطاقة الكهرومائية من السدود (45٪)، والجيوثرمال (6٪)، والرياح (2٪)، وأخيرا الطاقة الشمسية (1٪). وفي ألمانيا كانت المصادر الحفرية للطاقة تمثل 84٪، والطاقة النووية (12,6٪)، وأشكال الطاقة المتجددة 3,4٪، مع ملاحظة أن الليجينايت - الفحم البني قليل الدرجة - يكون 11٪، لكن استخدامه يتناقص بنسبة 1,5٪ سنويا. وبالتالي فالاعتماد هو على البترول (36,4٪)، والغاز الطبيعي (22,5٪)، والفحم الحجري (13,7٪). (4-3) مستقبل الطاقة المتجددة
وبرغم صغر المساهمة للطاقة المتجددة إلا أن بعض أنواعها تنمو سنويا بسرعة أكبر بكثير من الطاقة الحفرية. في الولايات المتحدة أيضا نمت أشكال الطاقة للفترة 2000-2005 على النحو الآتي: الطاقة الشمسية 29٪، طاقة الرياح 26٪، البيوجاز 17٪، مقابل الفحم الذي نما بنحو 4,4٪، والغاز 2,5٪، والبترول 1,6٪، والطاقة النووية 1,1٪. وفي ألمانيا تراجعت الطاقة المائية في 2003 بنسبة ناقص 6٪ «بسبب جفاف الأنهار»، مقابل نمو 20٪ في استخدام طاقة الرياح، برغم انخفاض قوة الرياح في الصيف، وتفسير هذا النمو الكبير راجع إلى زيادة الاستثمار في إقامة محطات طاقة الرياح. والخلاصة: أن الدول المتقدمة آخذة في الاهتمام بتنمية مصادر الطاقة المتجددة؛ لأن كثيرا من مصادر الطاقة الحفرية - باستثناء الفحم - مستوردة من بعض دول العالم النامي، وبخاصة دول البترول في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، والغاز الطبيعي وبخاصة من روسيا وكندا ودول الخليج العربي.
وأيا كانت دلالات هذه الأرقام فإن نتائجها النهائية تظهر واضحة في كم استهلاك الفرد من الطاقة الكهربائية. فحسب أرقام سنة 2000 كان استهلاك الفرد من الطاقة مقوما بكيلوجرامات فحم حجري مكافئ
SKE
في بعض الدول كالآتي: +11 ألف كيلوجرام في كل من كندا والولايات المتحدة، و+5000 في كل من فرنسا وروسيا وبريطانيا وألمانيا واليابان، مقابل 976 كيلوجرام لمصر، و602 للصين و450 للهند، وكان المتوسط العالمي 1900 كيلوجرام/فرد. ودلالة ذلك أن اختلاف الدول في استهلاك الطاقة هو أساس الفجوة الكبيرة بين العالم المتقدم والعالم النامي. (4-4) ماذا لدينا في مصر؟
لا تختلف مصر عن كثير من دول العالم في أن إنتاج الطاقة يأتي من مصادر متنوعة حفرية وطبيعية. وبحكم ظروفنا الجغرافية فإن تركيز إنتاج واستهلاك الطاقة يكاد أن يلتزم تماما بالمعمور المصري الأساسي، وهو الوادي والدلتا - نحو 94٪ من الإنتاج، و6٪ بقية الدولة.
وأيضا بحكم التركيب الجيولوجي الحفرية لدينا مرتبطة بحقول البترول الرئيسية المنتشرة في مياه خليج السويس وحوله، بينما تكاد تتركز حقول الغاز الطبيعي في شمال الدلتا ومياه البحر المتوسط. ولحسن الحظ لم يوجد لدينا من حقول الفحم الحجري ذو الأضرار السيئة بيئيا ومناخيا، باستثناء فحم المغارة في شمال سيناء وهو من النوع غير الجيد، وربما نضطر إلى استخدامه بتكنولوجية عالية في حال الاحتياج الملح.
وأخيرا فإن هناك جدل حول مصدر للطاقة النووية في مصر. هناك مواد مشعة كالرملة السوداء، أو ربما معادن مشعة مرتبطة بمعادن أخرى كالفوسفات وغيره. والأمر يحتاج إلى بحوث ومخصصات مالية وكشفية عالية؛ لحسم موضوع اليورانيوم وحجم مخزونه، وتكلفة إنتاجه أو شرائه من الخارج مخصبا أو لتخصيبه ... إلخ. (راجع محمد فريد خميس في الأهرام 25 نوفمبر 2006، بعنوان «الجدل حول اليورانيوم في مصر»). (4-5) مصادر الطاقة المتجددة
أما المصادر الطبيعية المتجددة للطاقة في مصر فهي في الواقع هبة الموقع الجغرافي - على نحو مقولة هيرودوت أن مصر هبة النيل - فتكوين النيل والموقع الفلكي والمناخ الجاف كلها عوامل ظهور أشكال الطاقة المتجددة، هي مصادر كبيرة وتنتشر بتعادليات مدهشة بين أقاليم مصر.
الطاقة الهيدرولوجية مرتبطة بالسد العالي وسد أسوان وكذا قناطر إسنا (الآن أم فيما بعد؟) ومستقبلا ما بعدها شمالا في قناطر نجع حمادي وأسيوط. والحقيقة أن الواجب تعويض النقص في إنتاج واستهلاك الطاقة في كل محافظات الصعيد، البالغة 12٪ فقط من مجموع الطاقة مقابل 18٪ لكل من القاهرة وغرب الدلتا، و23٪ لشرق الدلتا وقناة السويس.
الطاقة الشمسية شاسعة الانتشار على مسطح مصر بأجمعه، ومثلها طاقة الرياح وإن كانت تبرز في نطاقات متعددة في الصحاري والسواحل المصرية، مثل حقل منطقة زعفرانه.
كذلك لدينا مؤشرات للطاقة الحرارية من باطن الأرض - جيوثرمال - متمثلة في الينابيع الحارة الطبيعية، ونعرف منها على وجه التأكيد العيون الحارة في الواحة الداخلة، وحمام فرعون على شاطئ سيناء الغربي. وربما يؤدي المزيد من البحث الموجه إلى اكتشافات أخرى لهذه المصادر الحرارية من باطن الأرض. وأخيرا فإننا لم نجرب بعد - أو ربما كانت هناك تجارب محدودة لاستخدامات المد البحري والأمواج لإنتاج طاقة محلية. والغالب أن استخدام طاقة المد تحتاج إلى وجود خلجان طويلة ضيقة، وليس في ذهني الآن سوى خليج جمسة - أو جمشة - جنوب رأس غارب عند نهاية خليج السويس، وكذلك بعض الخلجان الضيقة في جزر هذه المنطقة، وبالأخص جزيرة تيران عند مدخل خليج العقبة.
وأخيرا فمن الطاقات المتجددة ما نهدره في مصر بحرق قش النباتات بعد الحصاد، وهو ما اتهم كثيرا بأنه مسبب للسحابة المغبرة تضيق بها أنفاس ملايين القاهريين. وقد سبق ذكر كيف يمكن الحصول على «البيوجاز»، أو طاقة الغازات الكامنة في بقايا النبات، وأعتقد أن وزارة البيئة وربما الزراعة أيضا قد أنشأت بعض محطات للتخلص الصحي بدلا من الحرق المكشوف . وأرجو أن يكون وراء هذا الإجراء تعميم أوسع لإنتاج جانب من الطاقة الرخيصة في أماكن متعددة محليا وسط الريف. وفي هذا المجال لا أستطيع الدعوة إلى إنتاج زيوت الوقود، مثل «الإثانول» من قصب السكر، فاستهلاك مصر أكبر من إنتاج السكر المحلي - لماذا وما هو دور بنجر السكر؟ (4-6) حرق قش النباتات
ربما يحتاج هذا الموضوع إلى وقفة تدبر. لم نكن نعرف ممارسة حرق المخلفات النباتية من قبل. لماذا؟ الواقع أن الريف، وبخاصة ريف الدلتا، قد دخل منذ عقدين أو ثلاث في مرحلة تغيير ثقافي حضاري، شأنه في ذلك شأن كل المجتمعات لأسباب كثيرة معروفة. ففي الماضي غير البعيد كانت سطوح البيوت الريفية تستخدم لخزن الحطب و«الجلة» - كعكات روث الماشية المجففة بالشمس - وكذلك الأواني الفخارية المصنوعة من الطين المجفف لخزن الحبوب، هذه المواد كانت تستخدم وقودا للفرن الفلاحي لطهي الطعام وخبز العيش. وكان معظم الفلاحين من متوسطي الملاك وإلى ما فوقهم لديهم «خان» للبقر والجاموس، أو داخل حوش بيوت فقراء الملاك إذا كان العدد بقرة أو جاموسة واحدة، وكانت تلك الحيوانات ترعى بقايا النبات بعد الحصاد. وباختصار كان هناك نوع من الاقتصاد المنزلي يستوعب معظم القش. كلنا نعرف أن الأمور تغيرت وخاصة بعد: (1)
دخول المياه والكهرباء. (2)
دخول مدخرات العاملين في الدول النفطية المجاورة. (3)
التجاء الأجيال التالية - بما فيهم كثير من الإناث - إلى الوظائف ذات الدخل الثابت.
من ناحية ثالثة: حدث انهيار للاقتصاديات المنزلية مع هذا التغيير المجتمعي، ولم يعد الفرن والحطب والجلة من الركائز البيتية مقابل الثلاجات والسخانات وأفران البوتاجاز، وأصبح سهلا الحصول على الخبز والغذاء من السوق متعدد السلع في داخل القرى والبلدات المجاورة. وعلى الأغلب انحسرت الحيوانات إلى مزارع متخصصة في تربية الحيوان. والنهاية معروفة: لم يعد الناس في حاجة إلى الحطب وقش النباتات. ومن المعروف أن ترك البقايا تتعطن يؤدي إلى تسرب غازات ضارة كالميثان والكربون. ومن ثم فإن حرق القش كان إجراء صحيا محليا، لكن دخانه وهبابه كان يغطي مساحات كبيرة حين تحملها الرياح الشمالية صوب القاهرة ، فيزيد من كابوس السحابة السوداء.
إذا نظرنا للموضوع على هذه الصورة الشمولية، فالواجب معالجته على ضوء أن القش وبقايا النباتات هو مصدر للطاقة، ومن ثم الدعوة إلى أن يستثمر القادرون أموالهم في إنشاء محطات هذه الطاقة، أو تكوين تعاونيات في هذا المجال؛ لأنه في النهاية عمل رابح وطاقة إضافية منتجة ونشاط بيئي وصحي يحتاجه ريف مصر للمزيد من التنمية بتحديث أشكال جديدة من الأعمال. (4-7) اختلاف منهج وفلسفة التطبيق
على أي الحالات فإن التفكير في الطاقات المتجددة ينبثق من منطلق مبدئي مختلف الفلسفة والتطبيق عن استخدام الطاقة الحفرية من البترول والغاز والفحم واليورانيوم. فقد تدرب العالم منذ أكثر من قرن ونصف على إنتاج الطاقة من مصادرها الحرارية الحفرية والمائية، وإنشاء شبكات الطاقة عبر أقاليم ودول كثيرة. أصبحت هندسة هذه الإنشاءات واقتصاديات تشغيلها واستهلاكها أمرا يدخل باب الشائع من المعرفة والتطبيق العالمي، وبالتالي أصبح تقليدا واعتيادا إنشاء محطات الطاقة المتداولة؛ لأن لها جاذبية المألوف مع قوة قدرات الشركات الكبرى المنتجة لها في جوانب رأس المال والتكنولوجيا والتخطيط والتنفيذ، من أجل ربحية عالية كما هو معروف عن شركات البترول والغاز.
أما استخدام الطاقات الأخرى المتجددة: الشمس والرياح والحرارة الباطنية والأمواج وقوة المد البحري ... إلخ. فهي غالبا تسد حاجات كثيرة محليا. فأسطح البيوت والعمارات يمكن أن تغطى بالمنتجات التي تمتص أشعة الشمس وتتولد منها طاقة لتسخين مياه البيت والشقق، ومن ثم وفر كبير استخدام سخانات الغاز والكهرباء. كما يمكن إقامتها في الأماكن النائية كالواحات، أو تقام محطة شمسية معقولة الحجم تغطي احتياجات مشروع عمل في الصحاري، سواء كان تعدينا أو زراعة أو صناعة. كما يمكن ربطها بغيرها في صورة شبكة مصغرة في إقليم محدود.
طاقة الرياح يمكن إنتاجها في أي مكان يتميز برياح ذات استمرارية على السواحل وفي الوديان وسطوح المناطق الصحراوية ... إلخ. وعلى وجه خاص يمكن إقامتها في شمال الدلتا، وإنشاء شبكة كهرباء محلية تقوم بإدارة طلمبات صرف المياه الباطنية المتزايدة التي أصبحت تهدد الخصوبة المتوسطة لحقول الشمال بالبوار، وأيضا لما تحتويه من ملوثات الأسمدة الكيماوية، وتحويل هذا الشمال إلى مراع للأبقار، كما كان في زمان مضى، ولكن على نمط علمي في الإنتاج وصناعة منتجات الألبان واللحوم على نحو مشابه لمراعي هولندا والدانمرك، وغيرهما في شمال غرب أوروبا. ونموذج صناعات الألبان والأجبان والجلود والصوف في بعض مدن شمال الدلتا معروف من قديم، كدمياط وفوة ورشيد.
الخلاصة: أن الاهتمام بأشكال الطاقة المتجددة لا ينفي استمرار استخدام البترول والغاز الطبيعي، أو مشروع الطاقة النووية إذا أمكن، أو توليد الطاقة من السدود النهرية. عكس ذلك فإنها قد تساعد على تقليل استخدام البترول والغاز؛ تحسبا لنضوب الأول، وتمكينا لمزيد من الدخل القومي، حيث ترتفع الأسعار في السوق العالمي. والميزة المحققة أن الطاقة المتجددة سوف تساعد على إيجاد نوع من التعادل بين التركيز الحالي لاستخدام الطاقة في الوادي والدلتا، وبين النقص في كثير من المناطق في أعماق مصر وسواحلها. ولا ننسى أن هذه الطاقات سوف تحتاج إلى عمالة دائمة أكثف من الشبكة الموحدة؛ لأنها سوف تنتج في أماكن متفرقة، وبالتالي قد يكون ذلك واحد من فرص تقليل البطالة بتهيئة عمالة فنية متوسطة، وذلك بتقوية وتركيز مناهج مراكز التدريس، والتدريب على هذه الأنواع من الأعمال الجديدة، بدلا من التوجهات الحالية التقليدية في مناهج المدارس الصناعية.
الفصل الثامن
من مشكلاتنا الاجتماعية
(1) التعليم وغرام المركزية (1-1) المركزية والمحليات
منذ عهد سحيق اعتدنا ممارسة السلطة المركزية السياسية والإدارية، ولكن كانت تعتري ذلك الاعتياد فترات تقل فيها المركزية لصالح لا مركزية إدارية ناجحة في معالجة شتى الأمور المحلية. وقد طبقت مصر في العقود الثلاثة الماضية شكلا من أشكال اللامركزية، تحت مسمى الحكم المحلي في الريف، وباسم المجلس الشعبي في أحياء المدن، وفي كلتا الحالتين مفهوم الأداء والوظيفة عائم غير واضح، وقدراته التنفيذية مكبلة بالإدارة الأعلى في المحافظات والأقاليم. كما أن تلك الإدارات في الأقاليم مكبلة هي الأخرى بالإدارات العليا الوزارية في القاهرة.
والخلاصة: أن هناك نوعا من الصراع بين المركزية المفرطة والحكم المحلي. صحيح أن المركزية أنشأت المحليات لأسباب مختلفة، على رأسها محاولة إسناد حكم ديموقراطي في واجهة النظام الحاكم في مصر منذ نحو أربعة عقود. وهو ما يشابه إلى الحد الأعلى إنشاء المركزية لنظام التعددية الحزبية كواجهة براقة لشكل الحكم الديموقراطي في مصر. ولكن في كلتا الحالتين تحجم المركزية نمو المحليات ونمو الأحزاب بطرق متعددة.
فالأحزاب التي تولدت منذ أربعة عقود ضعيفة بدرجة لا مثيل لها؛ لأنها تنشأ وتتخذ الصورة القانونية لوجودها بواسطة موافقة آليات حددها وصاغها النظام المركزي - فإذا لم توافق لا يولد حزب حتى لو كان له عضوية وولاء شعبي فهو لا وجود له قانونا ولا شرعية له. وليت الأمر يقتصر على الموافقة من عدمها، بل إن حياة حزب يرتبط بلا حدود مع التوفيقات المادية والمالية التي تمنحها المركزية للحزب. وبالمثل فإن حياة حزب تتحدد أيضا بإصدار جريدة أو مجلة أو نشرة تعبر عن رأي الحزب فيما يمكن أن نسميه عظائم الأمور، كالإشراف على الانتخابات، وتعديل بنود من الدستور، والامتناع عن مناقشة بنود أخرى؛ لأن المركزية لم تطرحها للتعديل سواء كان هناك نقاش أو جدية نقاش يعبر عن مكنون الرأي لدى حزب أو كتلة أو جماعة ضغط أو مراجل غضب لا تبلغ درجة الفوران!
وبالمثل صراع المركزية والمحليات. ذلك أن النجاح المحدود «جدا» - جد جدا للتأكيد - للحكم المحلي والمجالس الشعبية في بعض الأمور المتولدة من داخل الأمور وواقعها، راجع بدرجة كبيرة إلى هذه الهيمنة البيروقراطية التي تمتلئ بثغرات تتسلل منها المصالح الخاصة والمحسوبيات، فتفسدها وتجعلها في مهب الانتقادات كلما أرادت المركزية الحد من استلاب المحليات بعض المخصصات المركزية. ومن هنا تظهر بين الحين والآخر دعوات إلى التخلص من المحليات أو تحجيمها، بحيث تصبح مروضة تماما للسلطات المركزية في تدرجها من المركز إلى المحافظة إلى العاصمة.
والكلام عن المحليات في هذه الأسطر القليلة هو من قبيل الإشارة إلى مفهومها، كجزء من شكل الحكم الدستوري المصري يمكن أن يكون ذا نفع كبير في تسلسل المشاركة العامة في الحكم، وفي التدرب على الممارسة الانتخابية، وفي ظهور قدرات سياسية كامنة لدى أفراد من ذوي الكفاءة وروح المسئولية يفيدون أقاليمهم ويفيدون مصر الدولة في النهاية! أما تفصيلات الموضوع ودقائقه في الممارسة الحالية، فغيري كثيرون أقدر على تشخيص العلل التي تنتاب هذا النوع من الحكم المحلي الملتصق مباشرة بالناس والاقتصاد والأرض في دوائر محدودة لا تدرك دخائلها المركزية الأعلى، ولا تعرف عنها سوى هوامش الهوامش. وذلك بدليل ما نقرؤه في الصحف من شكايات الناس عن مشكلات سكان قرية أو شارع لا تعرفها المركزية الأعلى، أو تتجاهلها، أو تؤجل البت فيها لأسباب قد يكون منها تغيير الأولويات أو نقص الاعتمادات المالية أو تحويلها من بند إلى آخر، لتحسين أماكن هي فعلا محسنة، ولكنها تحتاج ديكورا لعمل براق على السطح.
ولكن من المفيد أن نقول: إن تجربة المحليات - برغم عدم نجاحها المطلوب - هي تجربة جيدة ومشكلاتها المزمنة الحالية لا يجب أن تصبح عوامل يأس منها أو تدعونا إلى إلغائها. وعلى عكس ذلك فالواجب تقويتها بالتفتيش عن معوقاتها. وربما كان مراقبة انتخاباتها - كما هو مخطط حاليا - بنفس الحيدة التي مارستها الدولة في بعض دوائر الانتخابات البرلمانية الأخيرة واحدا من أسباب تدعيم الحكم المحلي - بدلا من إلغائه أو إخلاده للركود - وذلك بإظهار العناصر المحلية النشطة، وبالتالي تقليص دور ذوي المصالح الخاصة، ودوائر النفوذ المركزية والبيروقراطية معا. (1-2) التعليم مسألة المسائل في مصر
مركزية مكاتب التنسيق
وفيما يلي سأتناول نوعا من المركزية أعرفه بحكم عملي التدريسي بالجامعات. فقد درجنا منذ أربعين عاما أو نحوها على أن يبت مكتب للتنسيق في توجيه الطلاب الذين يرغبون في الالتحاق بالدراسات الجامعية إلى كليات ربما لا يرغبونها. وربما كان ذلك ناجم عن زيادة الطلاب عن المقاعد المتاحة في كليات الجامعات المصرية. ولكن مثل هذا التنسيق الآلي يفرض على الكليات ترتيبا تصاعديا، بحيث يصبح التخصص الواحد في القاهرة تخصصا في كلية قمة وفي سوهاج أو طنطا كلية أقل قدرا أو ما يشبه ذلك. ويترتب على ذلك نوع من التفاوت بين كليات التخصص الواحد لا يجب أن يكون؛ فالكليات تتمايز بتركيزها على شكل من أشكال البحث العلمي والتطبيقي، وبالتالي بنوعية خريجيها، وليس بدرجات الطلاب الذين يلحقهم بها مكتب التنسيق. مثلا تهتم كلية بأبحاث الكلى، وأخرى بالطفيليات وبخاصة البلهارسيا اللعينة المتشبثة بمصر، وثالثة بطب المناطق الحارة، أو تهتم كلية بأبحاث هندسة المستشفيات وأخرى بهندسة المعادن، أو تهتم كلية بالتاريخ الوسيط وأخرى بالتاريخ الحديث، أو الجغرافيا الاقتصادية وأخرى بالجغرافيا الطبيعية وتدريس نظم المعلومات الجغرافية، أو كلية بالقوانين الدولية وأخرى بالقوانين التجارية أو النظم المحاسبية أو التأمين والبورصة، وما إلى ذلك من تفريعات مفيدة في التخصيص والتطبيق والتوظف والبحوث.
والغرض من هذا أن كل كلية سواء في القاهرة أو الإسكندرية أو الأقاليم الأخرى تمايزات بواسطة أساتذة يكونون مدرسة مهمة في تخصص معين. فالترتيب الذي يفرضه مكتب التنسيق هو ترتيب آلي ضار بسمعة الجامعات. وفي الخارج قد تتميز جامعة صغيرة بمدرسة فكرية معينة يجعل الطلب عليها كبيرا في هذا التخصص. وباختصار فإن الجامعات تتميز عن بعضها بوجود مدارس لها شهرتها في تخصص أو أكثر، مثل أكسفورد في المجالات الفكرية وإم أي تي
MIT
الأمريكية في التكنولوجيا ... إلخ.
حرية اختيار الطالب لنوع دراسته
لا أعرف لماذا لا تترك الكليات حرة في قبول الطلبة المتقدمين إليها إذا استوفوا الشروط التي تعلنها الكلية مسبقا - ليس فقط في المجموع العام بل أيضا في تقديرات المتقدمين في علوم مرتبطة بالتخصص . لماذا لا يبحث الطلاب عن هويتهم التعليمية بأنفسهم، كما هو الحال في جامعات العالم الآخر، وكما عليه الحال منذ نصف قرن مضى؟ لماذا لا يجتازون أيضا اختبارات المقابلات الشخصية التي تضعها الأقسام العلمية المختلفة؟ وهناك تساؤلات كثيرة كي نضمن للطالب أنه بنفسه اختار تخصصا، وأنه عليه وحده تقع مسئولية نجاحه وتفوقه أو العكس، بدلا من تعليق مسئولية تعثره على اختيارات رقمية تتحدد من خلال مكتب التنسيق.
لا شك أن أعداد طلبة الثانوية أكبر من طاقة المقاعد المتاحة بالجامعات - ليس في مصر بل في العالم أجمع. ولكن السؤال الملح هو لماذا يجب أن يظل أمام حملة الثانوية طريق ذو اتجاه واحد يقود حتما إلى الجامعة؟ فحسب جداول الجهاز المركزي للإحصاء 2005 فإن 24٪ فقط من خريجي الإعدادية يلتحقون بالمدارس الفنية الصناعية والتجارية والزراعية، بينما يكمل نحو 40٪ تعليمهم الثانوي والجامعي، «بينما يتوقف نحو الثلث عند تحصيل الإعدادية أو يتسربون دون إكمالها!» والمفترض في مثل هذه الموقف أن تكون النسبة معكوسة بمعنى أن تتجه الأغلبية إلى التعليم الفني؛ لأن الغالب أن البطالة بين خريجي الجامعات مشابه في الكم للبطالة بين خريجي التعليم العام سواء كانوا في التعليم الثانوي أو التعليم المهني. وهذه أمور تقتضي النظر إلى الهيكل التعليمي العام، لكي نوقف التكدس حيث لا يجب أن يكون.
ولا شك أيضا في أن احتشاد الطلاب بأعداد كبيرة في الجامعات
1 - سواء كانوا منتظمين أو منتسبين - يؤدي بالضرورة إلى انخفاض نوعية الخريج، وخاصة في الكليات التي تشكل فيها الساعات المعملية والتطبيقية نسبة كبيرة من المقررات الدراسية. فإذا كانت طاقة معمل 50 أو مائة طالب فإنه لا يجوز أن يزيد العدد إلى الضعفين، أو أن تتكرر الساعات المعملية عدة مرات مما يبعث على الملل، ولا يعطي الفرصة للتميز ولا يؤسس التمعن والابتكار سواء كان ذلك بالنسبة للأستاذ المحاضر أو مساعدي المعمل أو الطلاب. والغالب أن هذا هو واحد من أسباب الضعف العام للخريجين.
وعلى مقياس المركزية نجد أن عدد الطلبة في الجامعات الحكومية الثلاث: (القاهرة وعين شمس وحلوان) + الأزهر يشكلون نصف عدد الطلبة الجامعيين في مصر (810 ألفا 2004)، وأن بجامعات الدلتا والشمال (الإسكندرية وطنطا والمنوفية والمنصورة والزقازيق وقناة السويس) نحو 40٪ (641 ألفا)، بينما تضم جامعات الوادي (أسيوط والمنيا وجنوب الوادي) 10٪ فقط (161 ألفا) من طلاب جامعات مصر الحكومية! وهذا ناهيك عن الجامعات الخاصة القديمة والجديدة الأجنبية والأهلية التي تتزاحم في القاهرة (الأمريكية والبريطانية والألمانية والفرنسية والكندية والجامعات المصرية الخاصة كمصر الدولية وأكتوبر ... إلخ.) وهو ما يجعل نصيب القاهرة ما قد يصل إلى ثلثي طلبة الجامعات في مصر. وهكذا نرى المركزية القاهرية في صورتها المتشددة الحاكمة، ولا شك في أن ذلك يحتاج فعلا إلى تصويب شأنه شأن احتكار القاهرة لأغلب أشكال النشاط الاقتصادي والخدمي والثقافي والترفيهي ... فليس من الأوضاع الصحية مثل هذا التمركز الذي يخنق وتختنق معه هذه المدينة العظيمة!
كليات نظرية وأخرى عملية
وبالمناسبة فإن المعامل لا تختص فقط بما درجنا عليه من تسميات حين نفصل بين كليات «نظرية» وأخرى «عملية»! فواقع الأمر غير ذلك تماما، وواجبنا أن نعيد صياغة تفكيرنا. ففي الكليات المسماة «نظرية» مجالات معملية كثيرة، أقربها وأقدمها خروج المعلم والطالب إلى الدراسات الميدانية في علوم كالاجتماع والجغرافيا والتاريخ والأدب والفولكلور، واللغات الحية شرقية وغربية وعلم النفس والأنثروبولوجيا، والقوانين والدساتير وعلوم الاقتصاد والمحاسبة والعلوم السياسية، وغير ذلك كثير مما يشمل حياة المجتمع وتوزيعاته وأنماط سكنه وتفضيل أعماله. وفي حاضرنا الآن معامل للغات والنظم الجغرافية والمكتبات وغيرها من فروع كليات الآداب تبحث فيها المعلومات التي تحصل من البحث الميداني في كافة مجالات الآداب والفنون وطرائق حياة المجتمعات واقتصادياتهم وأنشطتهم، كل ذلك على برامج محددة لاستخلاص نتائج ثلاث تمثل إسقاطات الوسط والحدين الأعلى والأدنى على ضوء تفاعل عوامل مختلفة بشرية ومادية وسياسية معا.
لا أريد أن أرتب كل هذه الأشياء غير السارة على مكتب التنسيق، لكنه ضالع فيها بطريقة أو أخرى. وغرض هذه الأسطر إزاحة العبء عن مكتب التنسيق الذي أصبح مؤسسة تفرض نفسها على المجتمع من خلال أطروحة رقمية فقط، وترك الفرصة حرة للطلبة يختارون، وللكليات أن تحدد شروطها الدقيقة كي تتحسن أحوال خريجي الجامعة. وفي النهاية لا يلقى عبء الفشل على اختيارات التنسيق فقط، بل يصبح الطالب مسئولا عن تفوقه أو تقاعسه نتيجة اختياراته الحرة.
الوزارات المركزية
هناك عدد من وزارات الخدمة العامة لها فروع ومكاتب شديدة الانتشار في كل بقاع مصر، وعلى رأسها وزارات التربية والصحة والشئون الاجتماعية والأوقاف والمياه ... إلخ، بعضها يحتاج إلى متابعة مركزية كالري والأوقاف، والبعض الآخر يحتاج إلى أن يرسم خطة تنفذها وكالات الوزارة في المحافظات، دون الرجوع المستمر للوزارة المركز مثل التربية والصحة.
وسوف أفرد الأسطر التالية لوزارة التربية؛ لأنها الأكثر أهمية في البناء المستقبلي للأمة. وليس معنى هذا مثلا أن الصحة أقل أهمية، فهي تعالج مشكلات حالية مثل التربية وتسعى إلى تحسين الأحوال الصحية العامة من خلال مخططات وقائية وعلاجية مستقبلية، أما التربية فتعالج تكوين أجيال متتابعة على مدى زمني مستمر لا يتوقف، مثل ما يحدث عند النجاح في مقاومة مرض كالسل أو البلهارسيا، وإعلان إقليم أو كل الدولة نظيفة من هذا المرض أو ذاك الوباء.
كيف تدير مليون ونصف مليون مدرس في وزارة واحدة؟
وفضلا عن ذلك فإن عدد الموظفين والمدرسين في وزارة التربية هو الأكبر بالنسبة لجميع وزارات مصر. فعلى سبيل المثال قارن بين عدد العاملين في وحدة صحية في تجمع قروي، بعدد العاملين في المدارس في نفس المكان! وحسب الأرقام الرسمية في تعداد 1996 فإن عدد المدرسين التابعين لوزارة التربية أو بإشرافها كان يبلغ مليونا و511 ألفا أو ما يعادل 10٪ من القوة العاملة في مصر. هذا الرقم هو - برغم عدم كفايته عمليا لاحتياجات تحسين ونشر التعليم على الأصول - إلا أنه كرقم في حد ذاته جيش جرار لا يماثله سوى عدد المشتغلين بأجهزة الدفاع، والمشتغلين بالتجارة جملة وقطاعي وأعمال البناء والتشييد (أقل قليلا من 10٪)، وهو أربع مرات قدر عدد المشتغلين بالصحة والأنشطة الاجتماعية (نحو 2,7٪)، ولا يزيد عليه سوى العاملين بالزراعة (نحو 30٪) وأشكال الصناعة (نحو 14٪).
والغالب أن هذا العدد لا يضم أو يشمل الموظفين الإداريين في وزارة التربية ووكالات الوزارة في 23 محافظة، ونعلم أن عدد الإداريين من المديرين والكتبة والمهندسين والأطباء والمفتشين في فروع مختلفة هو أيضا ليس بالعدد الهين يضاف إلى المدرسين فيقترب العدد في وزارة التربية إلى نحو مليونين - ربما كرقم محافظ - فكيف يمكن تحري الدقة والعدل مركزيا؟ صحيح هناك هيراركية إدارية وتعليمية ولكنها بحكم مواقعها أكثر نجاحا في التصديق على قراراتها واقتراحاتها من المركز، وبالتالي هي أكثر قوة من تظلم المظلوم في معظم الحالات ... وليس هذا الأمر بقاصر على وزارة التربية بل هو السمة الأساسية في أشكال البيروقراطيات المفرطة المركزية - كحال وزارتنا القاهرية.
وقفة لا مركزية ضرورة لتحسين الأداء.
هذا الحشد الكبير من العاملين في مجال التربية يستلزم وقفة لا مركزية، ليس فقط لمجرد العدد، بل أيضا لأسباب موضوعية سبق أن طرحتها على هامش موضوعات أخرى. فمن الواضح - على سبيل المثال - أن البيئة ومفاهيم وتوجهات الناس والنشاط الاقتصادي هي عناصر متغيرة بين التجمعات المكانية والسكانية: بين العاملين في حقول الإنتاج الزراعية، أو صيادي البحر والمزارع السمكية، أو العاملين في المصانع، أو تنمية الحرف اليدوية، أو صناعة السياحة وحقول الخدمات العامة في التعليم والصحة والخدمات الدينية ... إلخ، فالأمور في محافظة أسوان غيرها بالقياس إلى كفر الشيخ، أو مدينة الأقصر بالقياس إلى السويس، أو البحر الأحمر بالقياس إلى الوادي الجديد، أو سيناء الجنوبية إلى الشمالية ... إلخ.
تعليم نمطي لسبعة عشر مليون تلميذ - كيف؟
ولا يقتصر الأمر على عدد المدرسين الضخم وإدارتهم مركزيا و«وساطيا»، فإن وزارة التربية مسئولة عن نحو 17 مليون تلميذ في جميع المراحل التعليمية عدا المرحلة الجامعية - نحو 1,7 مليون طالب جامعي - ترعى الوزارة التعليم الابتدائي والإعدادي والفني والثانوي ورياض الأطفال، فكيف نعلم هذه الملايين نفس المقرر ونفس المنهج مع اختلاف بيئاتهم كما سبق، لكن الأهم كيف ندير التلاميذ منهجيا لكي يتعلموا تعليما يعينهم على التخلص المهني. فنحن جميعا نعرف أن هناك من يقصر تعليمه على مرحلة ابتدائية ثم ينسحب لظروف معاشية كثيرة، واضطرار إجباري على بداية أن يشتغل ويكسب قوته وأسرته. وهناك من ينسحب في المرحلة الإعدادية أيضا. لماذا لا نعترف بواقع الأمور ونمنهج بعض مقررات التعليم في اتجاهات عملية غير الاستيعاب بحفظ أشياء قد لا تفيد العمل، وإن كانت تثقف العقل شيئا ما، كأشعار وأدب العصور الخوالي على سبيل المثال؟
ارتفاع عدد البنات في التعليم العام شيء مبشر
وحيث إن نسبة الإناث في مراحل التعليم العام - رسميا - تكاد تقترب من نسبة الذكور،
2
أليس من المستحسن أن تكون بين المناهج ما يفيد البنات في حياتهم الأسرية - خاصة مع تفضيل الزواج المبكر في بعض مجتمعاتنا - كشئون الصحة وبعض مظاهر الأمراض، وعدم تناول أدوية لم يقررها طبيب أو مساعد؟ أو أعمال يدوية وفنية ليست بالضرورة أشغال الإبرة ...
فباستثناء الأسس الصلبة للعلوم والموضوعات المختلفة كأصول اللغة أو الرياضيات والاجتماعيات، كيف إذن أن تدرس كتب ومناهج واحدة في هذه المناطق المتغايرة؟ المفروض أن تعد المناهج التلاميذ والطلاب لفهم أكثر التصاقا بالمجتمع المحلي لعله من خلال ذلك يمكن التوصل إلى إدراك كنه الإيجابيات والسلبيات في المجتمع المحلي بواسطة إعداد الدارسين للعمل من خلال أطر هذا المجتمع، والسعي الحثيث لتحسينه وخلق مناخات توفر العمل بدلا من الانضمام إلى جيوش الموظف الحكومي أو طابور العاطلين.
هذا جنبا إلى المفاهيم العامة عن مصر وإمكاناتها وتوجهات مستقبلها. مثلا كيف يمكن التحقق من جوانب الصحة أو المبالغة في كينونة بعض التوجهات أو الشعارات الكثيرة، مثلا عن غزو الصحراء أو الخروج من الوادي الضيق، أو سياسة التوجه إلى التصدير، أو مشكلات التنمية الزراعية في المشروعات الجديدة، أو مشكلة النمو السكاني ... إلخ.
خلخلة المركزية = عامل تنموي للأقاليم.
إذا تركت شئون التعليم ومناهجه للأقاليم على أن تكون ضمن إطار سياسة التعليم المركزية، فإن ذلك سيوفر أشياء كثيرة مما سبق ذكره على التوافق بين المناهج والبيئة والمجتمع المحلي ومتطلباته. وفي جانب المكاسب المادية فإن خلخلة مركزية القاهرة في جوانب عديدة على رأسها طبع ملايين الكتب المقررة سنويا، سوف يحل محله إتاحة الفرصة لنشأة وتنمية صناعة الطباعة في الأقاليم المختلفة، وخلخلة التحكم المركزي للأبنية التعليمية المركزية وإضافة مهامها إلا وكالات التربية في المحافظات فهي - على أرض الواقع - أقدر على تحديد الأولويات، وهي بذلك تخلق الفرص لزيادة العمالة في قطاع المقاولات داخل كل محافظة، بدلا من تزاحمها في المركز القاهري. وفي هذين المثالين ما هو واضح بجلاء من حيث توزيع أنصبة العمل والوظائف على الأقاليم، وبالتالي تخفيف ضغوط الهجرة للعمل داخل العاصمة في كنف الوزارات المركزية. وهذا مطلب تسعى إليه الدولة لتخفيف الأعباء عن القاهرة والعواصم الكبرى.
فإذا كانت هذه إحدى جوانب اللامركزية عند تطبيقها على وزارة واحدة، فما بالنا لو أصبحت هذه خطة رسمية للدولة تنطبق على وزارات الخدمة الكثيرة في مصر. فإذا تم ذلك فلسنا بعد في حاجة إلى مدن جديدة تنشأ وتظل في فراغ. فإن تنمية فرص العمل في القطاعات المختلفة في المحافظات والأقاليم ستؤدي بالضرورة إلى نمو قطاع الإسكان ذاتيا في تلك الأقاليم، حسب احتياجها من قبل القطاع الخاص وبدوافع وحوافز من الداخل بعيدا عن الإسكان المركزي، وبالتالي نسهم في حل مشكلة الهجرة إلى العواصم الكبرى.
وكل المطلوب في الأقاليم تجنب الإغارة على الأرض الزراعية لامتداد السكن كما هو قائم الآن تحت سمع وبصر الإسكان المركزي. كيف يتم ذلك؟ لعل للكلام عنه مناسبة أخرى ويكفي هنا أن نقول: إن تحسين الزراعة لتصبح نشاطا اقتصاديا مربحا لعله يكون حافزا لرفض الملاك تحويل المزرعة إلى أرض للبناء. وبالتالي لا بد من توصية بنمو المساكن رأسيا في داخل كوردون القرية والمدينة، وقد يظن البعض أن ذلك غير وارد لكن المتفحص لأحوال القرى يجد النمو الرأسي للمساكن قد أخذ سبيله إلى الوجود في عملية إحلال للمسكن الريفي التقليدي البيئي، الذي سوف نفقده بكثير من الأسى والأسف.
جدول : أعداد التلاميذ والطلبة 2004. *
المرحلة التعليمية
إجمالي عدد الطلبة 2004 ٪ نمو الأعداد قياسا على 1996
عدد الطالبات ٪ نسبة الإناث لإجمالي العدد
الابتدائية
8634000
114
4150000
48
ابتدائي أزهري
929000
132
316000
34
الإعدادية
2890000
78 †
1697000
47
إعدادي أزهري
328000
119
118,000
36
فني ثانوي
2090000
117
960000
46
ثانوي عام
1229000
156 ‡
670000
51
ثانوي أزهري
272000
176 ‡
96000
35
جامعي
1615,000
156 ‡
777000
48
مجموع عام
18057000
113
8521000
47 *
الأعداد نقلا عن الجهاز المركزي للإحصاء والتعداد - أسطوانة مدمجة 2005. †
التناقص في طلبة الاعدادية جاء نتيجة إعادة السنة السادسة الابتدائية، فتأجل القبول بالإعدادي. ‡
يلاحظ ارتفاع عال في نمو الاتجاه إلى الثانوي العام والأزهري والجامعي، بينما تقل نسبة نمو التعليم الفني عن بقية المراحل، وهو اتجاه غير صحي من حيث استمرارية خط التعليم إلى الجامعة مع انخفاض فرص العمل.
أعداد التلاميذ والطلبة في مراحل التعليم عام 2004 (1-3) آليات تنشئة الشباب للمشاركة الحياتية الشاملة
تمهيد تنظيري عام
منذ قدم التجمعات البشرية وتربية الجيل الجديد تحتل مكانة رئيسية في التنظيمات الاجتماعية. وانقسمت مؤسسات التنشئة إلى قسمين طبيعيين على أساس الجنس وتقسيم العمل، وبدون تراتب اجتماعي على أساس الغنى والفقر. فالبنات يتدربن مع جيل الأمهات، والذكور يتعلمون تراث المجتمع وتنظيماته في «بيت الرجال»، الذي ينعقد عشية الأيام في بناء خاص خارج التجمع السكني.
استمر هذا التنظيم خلال كل الحقب الحضارية مع سيادة الأب ومجتمع الذكورة منذ الحضارة الزراعية والرعوية والصناعية، ومن خلال نسيج كل الديانات. ولا تزال بقاياه قوية في العالم النامي.
وفي مصر الريف والمدينة كانت التنشئة تتصف بتميز واضح للذكور على الإناث حتى أواسط القرن العشرين، حين انفتح المجال أمام المرأة في عدد من نواحي النشاط الاجتماعي والقليل جدا من العمل السياسي وفي فترات زمنية محدودة. وهذه إحدى مثالب التنشئة؛ لأنها تحرمنا من مدخلات نصف المجتمع ومشاركته الفعالة في كثير من المجالات المجتمعية والسياسية الداخلية، والاهتمام بهذه القضية له أولوية خاصة؛ لأن الأم هي أول ملقن في التنشئة القيمية للجيل الجديد - إناثا وذكورا على السواء.
آليات ووسائل التنشئة في مصر في القرن العشرين
بعض الناس لا يفضلون مصطلح «آلية»، ولعلنا نستخدمها هنا بالتبادل مع «وسائل»، ولكليهما منطق وتنظيمات متشابهة وإن كانت آليات تعطي انطباعا بالحداثة. ويمكن بعمومية تقسيم أشكال وسائل وآليات التنشئة خلال قرن في مصر إلى ثلاث مراحل هي؛ أولا: آليات المواجهة المباشرة، ثانيا: آليات المواجهة غير المباشرة، وأخيرا: فقدان الرؤية وربما التعثر والضياع في الحالات القصوى.
الأسرة كوسيلة تنشئة ضرورية
الأسرة هي قاسم مشارك في هذه المراحل، وإن كان تأثيرها في تلقين القيم والقدوة يتراوح بين القوة والضعف. وقد أصبح الضعف سمتها الأساسية في المرحلة الأخيرة لأسباب كثيرة معظمها معروف لدى الجميع.
أولا: آليات المواجهة المباشرة
القصد منها إمكانية الحوار في ذات المكان في صورة جدليات مباشرة. وتنقسم مكانيا إلى آليات التنشئة في الريف والمدينة كل على حدة. (1)
في الريف المصري كان «دوار العائلة» هو واحد من أعم آليات التنشئة للشباب. ففي هذا الدوار يستمع الشباب إلى كل أشكال التراث المحلي والمشكلات الحياتية، والجريمة والعقاب والردع القيمي لجرائم الشرف وغيرها من الجرائم والجنايات، وصراعات أو تنافس العائلات على الثروة والجاه والمناصب الاجتماعية، والروابط النسبية والقرابية بين بعض العائلات في القرى المجاورة، والعلاقات السياسية الناجمة عن تآلف العائلات مع أحزاب مختلفة حين تحكم وحين تتبادل السلطة مع غيرها، والنشاط السياسي عند الانتخابات، وعند الأزمات القومية الكبرى، كالمد الثوري إبان 1919، والهزيمة في فلسطين، والانتقال إلى النظام الجمهوري والأحداث العسكرية في 1967 و1973. وكانت أصداء كفاح شبيبة القاهرة ضد الاحتلال وتكوين أحزاب وجماعات غير مشروعة تصل بصورة باهتة في الريف، يتناقلها الناس بالتضخيم مع قليل من إدراك مفاهيمها ومحتوى اتجاهاتها. ولكن شيوع الراديو جعل أحداث النصف الثاني من القرن تأتي مباشرة إلى جمهرة الريف، خاصة بعد تداعي «الدوار» نتيجة قوانين تحديد الملكية الزراعية. وأصبح ظهور القيادات ونجاح بعض الريفيين في أشكال من الحياة السياسية أو الحياة العامة أمثلة تحتذى كقدوة تلهب من يحس الطموح.
وبلا شك كانت المشكلات الاقتصادية التي عايشها المجتمع الريفي من أهم موضوعات التنشئة في الدوار فهي تمس الحياة من الصميم. وفي خلال الفترة من أواخر القرن 19 إلى منتصف القرن 20، كانت القوى الاقتصادية الاجتماعية متمثلة في العائلات الغنية المستندة إلى أملاك زراعية كبيرة في صورة «عزب» و«وسايا» - جمع وسية - بالإضافة إلى شركات زراعية أوروبية حلت محل أراضي الدائرة السنية، أو نتيجة سقوط بعض الملكيات نتيجة الرهن والاستدانة في أيدي الأجانب في قلب الريف. نفوذ هذه القوى كان من الموضوعات الرئيسية في التنشئة الريفية باعتبارها القوة النافذة في تشغيل الزراعة، وحينما انحسر نفوذ الملاك الكبار بعد منتصف القرن العشرين نتيجة لقوانين الملكية، وما أدى إليه غياب وحدات الإنتاج الزراعي الكبيرة ذات التشغيل الاقتصادي الأوفر، ركد الريف اقتصاديا عند مناسيب منخفضة لوحدات الإنتاج الصغيرة والقزمية؛ أي تقزم وصغر الملكيات الزراعية وتشتت الثروة الناجمة عنها، ومن ثم بداية شيوع الفقر والركود الريفي. وبناء على ذلك صارت أحاديث التنشئة في الريف تدور على جملة موضوعات أخرى عن الضائقة الاقتصادية والهجرة إلى أي عمل في المدن وبخاصة القاهرة = مع نماذج نجاحات فردية محدوة، لكنها نماذج للطموح دون مقومات سوى القيل والقال.
وعلى هذا فإن الموضوعات شديدة الأهمية التي كان يدور حولها النقاش والتنشئة في الريف في النصف الأول من القرن: تناقص الدخل الزراعي نتيجة قوة وسطاء السوق من مصريين وأجانب على سعر المحاصيل النقدية، وأخبار بورصة القطن المحلية في مدن الدلتا، واحتكار شركة السكر للقصب في بعض مناطق الصعيد، وقوة تجار الفاكهة في سوق روض الفرج على منتجي الفواكه. نفس الموضوعات الخاصة بتناقص الدخل الزراعي ولكن بطرق أخرى كانت تثار في النصف الثاني من القرن: حول قوة بنك التسليف الزراعي والجمعيات الزراعية وتسليم المحصول إلى هيئات حكومية تفرض السعر وترهن الأرض.
وباختصار كان «الدوار» - صغر أو كبر - هو مجال التنشئة في صورة المواجهة المباشرة بين الناس، وتدريب الشباب على الرجولة وتعلم مواجهة المشاكل في ضوء هدوء وحكمة كبار السن وكل من يسميهم الشباب «آبا ... فلان» - استعارة تراثية لجيل كل الآباء. (2)
في المدن المصرية لم يكن هناك دوار، ولكن كان مكانه عدة أماكن للعلاقة والمواجهة المباشرة في التنشئة، نذكر منها باختصار الآليات الآتية:
اجتماع العائلة في مناسبات عديدة وخاصة عند الأزمات عند كبير العائلة.
اصطحاب الأب ابنه الأكبر في زياراته بيوت أصدقائه، والسماح له بالاستماع إلى المناقشات السياسية والاجتماعية - دوار حضري مصغر - وبطبيعة الحال يكون هؤلاء الأصدقاء من نفس التيار الحزبي، فيتشرب الأبناء جزءا من طبيعة التراكيب الحزبية المصرية. وكانت هذه الممارسة مقتصرة على النصف الأول من القرن العشرين، حيث اقترن العمل السياسي في جانب كبير منه بالكفاح ضد الاستعمار والنظام الملكي وأذنابه في السلطة وبعض الأحزاب، مقابل حزب الوفد الذي كان دائما شعبيا يتخذ غالبا موقفا معارضا مستندا لكثرة أعضائه، وبالتالي كان واجهة تجمع لآراء مختلفة بين اليمين الوفدي - كبار الملاك - ويسار الوفد (شبيبة المدن المثقفة + اليسار المصري في أوائل تكوينه).
دور زملاء المدرسة الثانوية والجامعة في العمل السياسي والعلاقة مع شبيبة الأحزاب أو الجماعات السياسية غير الحزبية وغير الرسمية كحركة الإخوان المسلمين ونقيضهم من الحركات اليسارية، وبالتالي تكوين جماعات عمل منتمية للتيارات السياسية للمتعاطفين مع التيارات والأحزاب وأعضائها العاملين. والمناقشات المستمرة مع الزملاء سواء كانوا طلبة أو عمالا من أجل توسيع العضوية أو كسب الرأي العام للتيار السياسي. وهذه الآليات كانت تخلق دينامية حركية بالتصادم أو الالتقاء بالتيارات المختلفة بين الشباب طلابا وعاملين. وهو ما كان يخلق حيوية للمجتمع، يناقش لقمة العيش ونمط الحكم والاستقلال كقضايا مترابطة مرهون بها مستقبل مصر. ولسنا نعفي المجتمع من وجود فئات انتهازية، فهي سمة موجودة في كل المجتمعات والتيارات لتحقيق مكاسب شخصية.
دور المقهى في المواجهة المباشرة حيث تناقش بعض القضايا من خلال الأدب والشعر المعبر عن المواقف السياسية والاجتماعية والأحوال الاقتصادية والأحلام الرومانسية، التي بدونها يصبح الشباب بدون دوافع معاناة الحياة. وكان لمقاه معينة أدوار هامة في التقاء المثقفين وذوي الميول، وبخاصة السياسية اليسارية مقابل دور مركز الإخوان المسلمين وجوامعهم المفضلة.
وفي فترة ما بعد 1952 وتغير نظام الحكم إلى الجمهورية، وإلغاء الأحزاب وكل الجماعات السياسية، أرادت الحكومات المتتابعة إرساء قواعد تنشئة سياسية للشباب في صورة عدة تنظيمات شبابية أخذت أسماء مختلفة. وقد نجحت في إنشاء كوادر بعضها تولى مناصب في سدة الحكم منذ فترة. ولكن مثل هذا التنظيم الطليعي أو تنظيم الشباب في الحزب الوطني الحاكم كان موجها من البداية، ولم يكن يسمح فيه بالرأي الآخر إلا في أضيق الحدود، مما جعل فاعليته تقصر على الانتشار الواسع بين الشبيبة، بل كان هناك حاجز ثلجي بين بعضهم وبقية الشبيبة باعتبار ولائهم المتشدد للنظام. وهو ما أدى إلى انتشار تيارات أخرى معارضة بعضها يساري الفكر غير منظم، والبعض الآخر يميني حديدي التنظيم الفوقي وما تحت الأرض. ولا شك في أن ظهور مثل هذه التمايزات بين الشبيبة لهو مما يشجع على إعطاء الفرصة لكي تفرز بالتدريج على الساحة العلنية الأشكال المطلوبة لآليات الديموقراطية. ولعل نجاح عدد كبير من المستقلين في الانتخابات الأخيرة دليل على هذا المنطوق - برغم عودة المستقلين للحزب الوطني للمساهمة في حصاد منافعه.
ثانيا: آليات المواجهة غير المباشرة
المقصود بها وسائل التنشئة السياسية عن بعد ودون مجال التقاء وجها لوجه. وأشكالها الثلاثة: هي الصحافة والراديو والتلفاز.
فيما قبل 1952 كانت الصحافة مختلفة الاتجاهات السياسية، وبالتالي كانت منبرا مكتوبا ومتداولا لآراء الزعامات وتوجهات الحزب في المراحل المختلفة. وقد صنف الناس الصحافة إلى صحافة صفراء موالية غالبا للملكية والبورجوازية، والصحافة الحزبية التي تصادر من حين لآخر أو تسحب رخصة إصدارها أو توقف فترة أو تصدر بفقرات مطموسة، بفعل الرقيب الحكومي وأمر الداخلية، وهذه كانت وقودا للمناقشات بين الشباب عما يكون قد حذف ولماذا، والمطالبة بحرية السلطة الرابعة طالما أنها لا تقوم بالتحريض على الإخلال بالشرف والمواطنة.
وفيما بعد 1952 أصبحت الصحافة موحدة الاتجاه مما جعل أية جريدة تكاد أن تكون نسخة من الأخرى، لولا اختلاف أسلوب الكتاب في تناول القضايا، وارتباط بعض الصحف بميزة علاقة وثيقة مع الحكم، مما يعطيها أفضلية السبق الصحفي في أحيان وأوقات مهمة - هيكل والأهرام.
لا شك في أن إنشاء صحف جديدة متخصصة للشباب أو الرياضة أو الأدب أو غير ذلك شيء جيد، ولكنها لا تكون رأيا عاما يلتف حوله أو يعارضه الشباب؛ لأن غالب موضوعاتها معلوماتية إعلامية قد لا تساعد على مشاركة الشباب في قضايا حيوية أهمها: قضايا العمل، والبطالة، ومناقشات حرة حول مشكلات مصر الكثيرة.
الراديو والتلفاز أجهزة حكومية لها أدوار متعددة. وفيها تجري مناقشات مفتوحة هي على جانب كبير من الحرية حول قضايا كثيرة من القومية والاقتصاد والسياسة والمشكلات الاجتماعية وغير ذلك. لكنهما لا يوجهان دعوة تنظيمية للشباب؛ لأن دورهما بصفة عامة إخباري وإعلامي بالدرجة الأولى، وربما أيضا نوع ما من التمجيد الشخصي لعله يربح شيئا من مداخلاته القوية. ويمثل المستمع دور المتلقي، ولكن المعلومات المتضمنة في هذه الندوات تشيع بين الناس إدراكا بجانب كبير من حقائق الأوضاع. وهو ما يفيد في البنية السياسية للشباب المصري تخلق وعيا مطلوبا بحقيقة أن هناك وجهات نظر متعددة لأي موضوع مصيري، وليس وجهة نظر وحيدة. وهذه التعددية في الفكر قد تساعد على تنشئة الشباب على عدم التعصب لرأي واحد.
ولكن بدون أن يكون هناك تنظيمات تضم الشباب فإن الوعي بالمشكلات يظل حبيس الفرد، وقد يكون ذلك هو المطلوب من جانب السلطة، لكنه أيضا قد يكون مردودا غير مطلوب يتمثل في عنف انفجار الأشخاص غير المنظمين في ظل ظروف معاناة مالية أو فكرية.
ثالثا: مرحلة التعثر وفقد الرؤية
هناك عوامل عديدة ساعدت على وصول بعض الشباب للضياع نختار منها ما نتصوره، أهمها: (1)
هيكل التعليم العام يقود إلى باب مسدود هو التعليم الجامعي. ويحتاج التعليم الأساسي إلى إعادة هيكلة وتحديث بحيث يصبح مرحلة منتهية وشيئا قائما بذاته وليس مجرد خطوة إلى الجامعة، وعلى أن يشمل التعليم العام قدرا أكبر ومحتوى أحسن من أشكال التعليم والتدريب المهني والوظيفي. والتعليم الجامعي يحتاج أيضا إلى الخروج من كلاسيكيته إلى مجالات تطبيقية يحتاجها المجتمع دون الإضرار بأسس ونظريات ومناهج العلوم الأساسية. ولا يجب أن تكون الجامعات على نمط واحد من عدد الكليات والتخصصات، بل يستحسن تميز كل جامعة بأنواع معينة من العلوم الأساسية والتطبيقية حسب بيئة المكان الذي تقع فيه الجامعة. على سبيل المثال، لماذا لا تصبح جامعة قناة السويس أكثر التصاقا بالصناعة والهندسة البحرية، وأن تتخصص طنطا في الصناعات الزراعية، والزقازيق في زراعة الفواكه واستصلاح الأراضي الرملية، وكليات 10 رمضان في التكنولوجيا الحديثة؟ مثل هذه الترتيبات في التنشئة التعليمية سوف تساعد على حل جزئي لأزمة الخريجين المزمنة. (2)
البطالة المقنعة هي تأجيل حكومي لقضية البطالة المتفاقمة بين الخريجين، وذلك بالقيام كل بضع سنوات بتعيين البعض في وظائف ليس لها توصيف اقتصادي. وهذه المشكلة هي من نتائج شكل التعليم الحالي كما أسلفنا. والبطالة هي شيء مخيف ليس فقط بالنسبة للخريجين، بل - وبالأساس - بالنسبة للدولة ومستقبل الصراع داخلها. كما أن المتعطلين هم بلا شك مصدر لا ينضب لكل أشكال التطرف. أي مستقبل غامض يواجهه الخريجون إزاء أزمات العمل - الزواج، السكن، التمتع ولو بقدر ضئيل بمباهج الحياة التي يرون طرفا منها في أحياء الأغنياء، وطرفا أكبر في إعلانات التلفاز عن دريملاند وملاعب الجولف وأمثالها! (3)
الأندية والمجتمعات الخاصة المترفة شقت الثياب شقين: من عندهم ومن ليس عندهم
The haves and have nots ، كأننا عدنا إلى مجتمع الآلام والحرمان عند نشأة الرأسمالية في أوروبا منذ قرون. هذه الأوضاع أصابت البنية الاجتماعية لدى الشباب ببالغ الضرر وأصبحت له مخاطره على كل الأبعاد الزمنية والعلاقات الفردية. وظهور الزواج العرفي وأشكال العلاقات بين الجنسين هي أحد هذه المشكلات التي يواجهها المجتمع الآن. (4)
النمو الطفيلي لشديدي الثراء وفضائح رجال الأعمال وفقدان الثقة في التعاملات المالية الكبيرة في البنوك مظهر آخر يزيد من يأس الشباب؛ بل إن ذلك قد يشكل قدوة للحصول على الثروة بأقصر الطرق غير الشرعية، خاصة مع ما ينشر حول تهريب الأموال وهروب الأشخاص خارج مصر دون جزاء رادع. (5)
كثرة القوانين التي يجيزها مجلس الشعب في عجلة، ثم تدفع المحكمة الدستورية ببطلان شرعيتها هي أيضا من عوامل فقدان ثقة الشباب بالنظام.
السعي لإيجاد التوازن وتنشيط فاعلية الشباب
العناصر التالية على الجانب الهام من إسهام الشباب في الحياة السياسية فهم رجال المستقبل:
أحزاب تسعى لتنشيط دينامية الشباب، والسماح للطلبة بممارسات سياسية من خلال تنظيمات الشباب الحزبية.
صالونات سياسية ثقافية للشباب مع خطاب موجه للآباء بتشجيع العمل السياسي العلني.
قيم جديدة مواكبة لأشكال الحياة مع تقبل اختلاف الإيديولوجيات التي تعطي دفقة دماء في عروق الشباب.
سياسة تعليم جديدة في المراحل الأساسية والمهنية والعليا حسب احتياج المجتمع، والكف عن مكتب التنسيق فكل جامعة كفيلة بنظم القبول، وإضافة بعض الرسوم السنوية بدلا من المجانية الصورية الحالية، مع تحسين رواتب المدرسين للدرجة التي قد تساعد على التخلص من ظاهرة الدروس الخصوصية.
عدم المواربة في القضايا المصيرية الداخلية لتصبح الدولة قيمة غير محاطة بالشكوك.
باعتبار أن إسرائيل تمثل تهديدا على أبوابنا فحري بنا دراسة النمط الإسرائيلي بالنسبة للشباب. فبرغم تعدد السلالات والثقافات والمذاهب الدينية وإيديولوجيات الأحزاب، إلا أن إسرائيل نجحت في تنشئة الشباب داخل الأطر العريضة لكيانهم السياسي. كما نجحت المؤسسات الشبابية اليهودية في أرجاء العالم في كسب تأييد كل يهودي خارج إسرائيل. بينما شبيبة المصريين والعرب ليسوا على قلب واحد في الداخل والخارج بالنسبة لقضايا مصيرية سياسية وثقافية! (2) الشارع المصري: الوضع الحالي وأطفال الشوارع
تنشئة شبيبة مصرية جادة ومخلصة لقوميتها ووطنها متفاعلة غير متقاعسة في تحسين وتحديث مقومات حياتها ومكونات وجودها، هو أمر يحتاج فعلا إلى وقفات كثيرة من جانب الدولة ووزاراتها المعنية من جانب، وعلمائها في مختلف التخصصات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وجمعياتها الأهلية متعددة الوظائف وبخاصة تلك التي تتحلق حول الطفولة من جوانب أخرى.
لعل هذه الورقة أن تطرح ما فات وأن تضع لبنة لما هو آت، عسى أن نأخذ الأمر على أنه أحد البنى الأساسية لمستقبل مصر.
مقدمة
الوضع الحالي للشارع المصري يمكن معالجته من زوايا كثيرة ومنطلقات عملية عديدة. هناك موضوعات متعددة متداخلة ومتفاعلة البعض مع البعض أو تحته كخلاق لأزمة أو أعلاه كجبل الثلج ظاهرة نحو السبع، والباقي غاطس ينذر بأخطار كبار في مقومات حياة مصر.
الأزمات عديدة ندركها جميعا لكن لا بد من تذكر بعضها: العشوائية، السلبية، السلوكيات بأشكالها الجديدة وأشكالها المعيبة، الجنس كمشكلة حادة مظهرها التحرش والاغتصاب، العنف بأشكاله في دوائر عديدة من الحياة للأفراد وكتل المجتمع الغني والفقير معا؛ في البيت بين أفراد الأسرة: الأب والأم والأبناء والبنات، وفي الشارع والسوق وفي الديوان الحكومي وتنازع اختصاصات الوزارات، وفي المؤسسات والهيئات والشركات الوطنية وشركات الخليط الوطني والمتجنس والشركات متعددة الجنسية، وفي القرى وتنازع اختصاص المحليات ومحاولة البقاء على الفتات، وفي المدرسة والجامع والكنيسة، وأجهزة الإعلام حكومية وحزبية وأجنبية من خلال الإنترنت والفضائيات ... إلخ. ... إلخ.
وتأتي أزمة أطفال الشوارع فوق كل ذلك فتحدث فورانا مجتمعيا، تماما كما حدث في بريطانيا مؤخرا حول قتل خمسة نساء ممن تخصصن في علاقات الجنس، وأصبحت مادة لحديث المجتمع الإنجليزي ووسائل إعلامه، ليس ضد مهنة القتيلات، بل لقتل حياة الناس أيا كانت وظيفتهم. وفي مصر الصورة نفسها وإن كانت أبشع؛ لأن الضحايا أبرياء وإن كانوا بلا مأوى؛ لأن هناك بالقطع جبل ثلج تحت ظهور هذه الأزمة يلهب قضية مجتمعية طالها صمت وعشى رؤية وقصور علاج.
3 (2-1) حال الشارع المصري
ليس المقصود فقط آلاف المشردين والمشردات في شوارع مدن مصر من أقصاها إلى أقصاها، بل كل أشكال عدم الانضباط في الشارع. فالشوارع هي شرايين المدن إن مرضت مرضت المدينة ... وهذا هو واقع الكثير من مدن مصر وبخاصة القاهرة، بحكم قوة جذبها غير المتوازن للنمو الانفجاري من الهضبة الشرقية في التجمعات والرحاب ومدينتي، إلى الهضبة الغربية في 6 أكتوبر وما يستجد حولها على طرق كانت صحراوية ، إلى الإسكندرية والفيوم والواحات. وكذا النمو الانفجاري من الشمال في قليوب والعبور والسلام والقناطر إلى الجنوب في زهراء المعادي و15 مايو والتبين والشوبك ... إلخ.
وحيث إننا في عصر فقدنا فيه النقل الحديدي الخفيف المعروف بالمترو والترام الحديث، ذو الفاعلية الأكبر في حمولة الأشخاص وانتظام المرور وندرة ملوثات الجو ...
وحيث إنه قد امتلكنا واحتوانا عصر السيارة بأشكالها من ضخام المقطورات، إلى الباصات، إلى أنصاف النقل، إلى الميكروباص، والتوك توك، والملاكي.
وحيث إن كل ذلك يساوي صحة الشارع الفيزيقية أو مرضه، فإننا نرى حال الشارع المصري غير مرض، بحيث أصبح الانتقال مغامرة تخسر فيها من الزمن ما لا يقدر بمال أو إنتاج أو صحة الأفراد؛ لكثرة سموم عوادم السيارات، كل ذلك برغم المحاولات الجادة من جانب الأجهزة الحكومية المختصة للتحسين والضبط، ولكن فاعلية ذلك أقل من تراكمات المشاكل، وأصعب في الحل؛ لتداخل عشرات العوامل الفيزيقية والبشرية، مما يستوجب حلولا جذرية ليست في الإمكان ...
يعاني الشارع من تعثر سير المرور الآلي ومخاطر مرور المشاة إلى حفر الشارع وارتفاع فتحات البالوعات - المطابق - أو انخفاضها، والمطبات العشوائية غير الهندسية وتموجات الأسفلت بين النعومة والخشونة، والارتفاع والانخفاض وكثرة العلامات الحديدية للإنذار «التي سبق أن أسميتها أسنان القط»
4
لكنها تأكل كاوتش الإطارات، والرصف السوء وتجديد الأسفلت «بالسفلقة» - أي بوضع طبقة جديدة دون كشط وإصلاح الأرضية الأساسية، مما يؤدي إلى ارتفاع الشارع والأرصفة عن أبواب البيوت والمحال التجارية والمقاهي، التي غالبا ما تتوسع بمعروضاتها وكراسيها على حساب الرصيف منتهزة فرصة التسيب وعدم المحاسبة القانونية إلا بين الحين والحين، وبينهما الكثير من غض الطرف وتسهيل الأمور بما هو معروف.
وكذا إشغالات الشارع بمئات آلاف السيارات، فأصبحت الشوارع جراجات عامة دائمة نتيجة تجاوزات إدارات الأحياء في المدن عن فتح جراجات العمائر التي أصبحت - لجشع الملاك - محلات ومخازن لسلع بعضها مسبب لكوارث الحريق والدمار وهلاك الناس قبل الأبنية. ومن ثم تنخفض مساحة الطريق من حارتين أو أربع إلى النصف والربع في حالات الوقوف العمودي للسيارات. وشوارع مدن مصر أصلا مخططة لتسيير ربما خمس أو ربع عدد السيارات الحالية؛ لأن شوارع القلب التجاري خططت وبنيت في عصر كانت فيه السيارة حدث جديد نادر وقليل. بينما شوارع الأحياء السكنية غالبا ضيقة؛ لأن إمدادات المرافق من المياه والصرف والكهرباء كانت مكلفة، فضلا عن أن البيوت كانت واسعة الأحواش وأعداد الناس أقل، والحفاظ على حقوق خصوصية الجار كانت سلوكا وآدابا مرعية - أغلبها فقدناها.
واليوم اختلط الحابل بالنابل ولم يعد الشارع آمنا ضد جرائم الاعتداء والخطف والسرقة بفقدان عسكري وجاويش الدورية و«الكونستابل» راكب الموتوسيكل، وكثرت احتكاكات السيارات والخناقات وعصبية الجهالة والحوادث المميتة، بفقدان شرطة المرور، وعدم صلاحية علامات المرور الكهربية، وقلة شرطة النجدة وعربات الإسعاف وبطء وصولها - إن وصلت - نتيجة اختناقات المرور، وقلة آداب وسلوك السائقين.
ولدينا قوانين ولوائح تنظيم البناء كانت مرعية بحذافيرها في الماضي. لم تكن هناك تجاوزات لخط التنظيم. ولكن الآن، إن لم تتجاوز هذا الخط - وهو أمر يتكرر في أحيان - إلا أن البلكونات تبرز فوق هذا الخط على حساب الأرصفة. وكانت القوانين تمنع ارتفاع العمارات أكثر من مرة ونصف عرض الشارع، وذلك لعدم حرمان البيوت المواجهة من الشمس وتجدد الهواء، ولكن هيهات فقد تقاعست إدارات الأحياء عن القيام بالإزالة، لأسباب بعضها يتضح من محاكمة مهندسي الأحياء عما حصلوه نتيجة التباطؤ المقصود في الإنذار بالإزالة.
وكانت لوائح التنظيم أيضا تنص على الإبقاء بيئيا وجماليا على منظر النيل المتهادي وسط القاهرة والجيزة، وذلك بأن تبنى على كورنيش النيل فيلات وبيوت الدور أو الدورين، تليها للداخل عمارات أعلى إلى خمسة أو ستة أدوار. وحتى حينما بنيت فنادق أو أبنية رسمية كانت على هذا النحو من الالتزام، كفندق هيلتون النيل، ومبنى الجامعة العربية، متسقا بذلك مع النمط العمراني السابق، متمثلا في فندق سميراميس القديم، وقصور وفيلات جاردن سيتي على النيل، ومستشفى القصر العيني في رأس جزيرة المنيل. وبهذا فالكل يستمتع بالمنظر الجميل: سكان الفيلات، وسكان العمارات، والمشاة المتنزهين على ضفاف النهر وحدائقه كالأندلس والنزهة والنهر.
أين النيل منذ أربعين أو ثلاثين سنة؟ تلاشى تحت وطأة العماليق من الأبنية سواء كانت فنادق فاخرة، مثل كونراد، وهيلتون رمسيس، وسميراميس، وفورسيزون، وجراند حياة عملاق رأس المنيل، وشيراتون الجزيرة ... إلخ، أو أبراج بنوك أو مراكز تجارة أو عمائر سكنية، بل وشاركت الحكومات المصرية ذلك الضرب من التصرف بإنشاء أبراج هي الأخرى للتلفزة والإذاعة ووزارة الخارجية ومبنى الاتحاد الاشتراكي (سابقا) ... إلخ.
كل هذه القوانين التنظيمية للبناء ضربت في مقتل ... فيا للخسارة والحسرة معا؛ لأن ما بني سيظل شاهدا على تجاوزاتنا عشرات السنين، ويكون سابقة يصعب مقاومتها!
مدن مصر غالبها تقع في نطاق حرارة الصيف الطويل، ولهذا كان سكانها القدماء أشطر في التكيف مع البيئة منا الآن، فأسقفوا بعضا من الشوارع مع فتحات تهوية، وبخاصة الشوارع التجارية. وحين شقت طرق واسعة أو أنشئت ضواح جديدة كجاردن سيتي ومصر الجديدة والمعادي والزمالك والدقي وحلوان في أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين، اتبع المخططون وسيلتين بيئيتين أولاهما: إنشاء أرصفة مغطاة عرفناها باسم «تحت البواكي» - جمع باكية - جلبا للظل وتمرير الهواء في المناطق التجارية، كما كان الأمر في مصر الجديدة قبل توسعها، أو في أسواق العتبة كسوق الكانتو وباب اللوق وسوق الحدادة وغيرها بين العتبة وصيدناوي. والوسيلة الثانية: تشجير الشوارع بأشجار الظل كما كان في المعادي والزمالك وغيرهما، فضلا عن معظم شوارع القاهرة في بولاق والسيدة والقلعة ... إلخ، أين نحن الآن مما كنا عليه من زمن لا يزال كثير من أفرادنا الأحياء عرفوه وعايشوه! (2-2) المدن الأضداد
المقصود من مدن الأضداد هو تواجد تناقضي وتصادمي لمدن أو أحياء شديدة الاختلاف بين عمارتها وناسها وحياتها، تقع غالبا على مسافات متقاربة. وباختصار هذه تمثل المواجهة بين الغنى المترف والفقر بأنواعه ودرجاته. وهي بهذه الصورة تكاد تشبه المدن الأفريقية أثناء عصر الاستعمار الأوروبي، حيث كنا نجد المدينة الأوروبية بتخطيطها وخدماتها وأنديتها يفصلها إطار شجري عن المدينة الأفريقية بسكانها الفقراء وأعمالهم الخدمية في المدينة الأوروبية، ولا يسمح لهم بالتواجد فيها مساء بقوة القانون. الفرق بين هذا وذاك النمط الاستعماري أن السكان هنا مصريون تفرقهم طبقية حادة.
والغرض من هذه المداخلة أن الاقتراب المكاني بين نمطين شديدي الاختلاف سكنا وسكانا وطرائق حياة هي كوضع الهشيم الذي يمكن أن يشتعل لألف سبب أو يزيد. وهو ما يزيد من تأزم حالة الشارع المصري ككينونة معنوية.
الآن لم تعد النظرة البيئية تؤخذ في الحساب إلا لماما. فالضواحي الجديدة غالبها أصلا للصفوة، ومن ثم قصورها وفيلاتها تنتشر في حدائقها الخاصة وشوارعها الفسيحة ليست غالبا للمشاة لأطوالها الكبيرة. وحدائقها العامة هي نواد لألعاب خاصة الخاصة، مثل الجولف، أو نواد لممارسة أجهزة الصحة لمعالجة تخمة العيش ... وأحياؤها السكنية من العمائر أيضا محاطة بشوارع ذات أشجار. وفي مقابل ذلك أحياء للطبقة المتوسطة تتزاحم فيها العمارات تزاحم خلايا النحل، وتضرب بخطوط التنظيم والارتفاعات والمسافات البينية عرض الحائط، كمدينة نصر بين مدينة مصر الجديدة الرشيقة المتكاملة سكنا وخدمات وأسواقا، وبين التجمعات الأولى والخامسة والقطامية التي تكون عزبا تسيطر عليها السيارات والمولات التجارية التي تحتاج إلى عشرات آلاف الأمتار المربعة لمواقف السيارات. وإلى جوارها مدن شبه فقيرة وفقيرة كالأمل، وبدر، ترتفع إيجارتها برغم صغرها، ويسيطر عليها الميكروباص الذي يبتلع جزءا غير يسير من رواتب قليلة! والحال نفسه أو بصور أخرى داخل 6 أكتوبر بين أحياء مترفة ومتوسطة وفقيرة، وكذا المهندسين والدقي والعجوزة أحياء مترفة وفوق المتوسط، مقابل الزحام البشع في أحياء إمبابة والمنيرة وبولاق الدكرور وما جاورها من قرى سلخت جلدها لتتحول إداريا من قرى زراعية إلى حيز العمران المدني، وما هي سوى مدينة تحت التجربة جرفت أرضها الزراعية لتحل محلها زراعة المباني الأسمنتية في أقبح صورها، ويسكنها ناس يعملون في كل أعمال غير مجزية تساوي في نهاية المطاف إهدارا لأشكال العمل المنتجة وإفقارا ما بعده فقر.
والخلاصة: أن تجميع هذه العوامل الفيزيقية والمادية والاجتماعية الاقتصادية في أضداد ليس فقط في الضواحي الشرقية والغربية، بل داخل القاهرة بين عشوائيات كمنشأة ناصر والهجانة وعزب شبرا الخيمة والجيزة، وأيضا بين أحياء فقيرة كباب الشعرية ومهمشة والساحل وعابدين والسيدة ومصر القديمة والخليفة والبساتين والتبين والجيزة وإمبابة ... إلخ، وضعها مقابل الأحياء المتوسطة والغنية كالمعادي والزمالك والدقي وجاردن سيتي، هي الواقع المكاني مفرخة لكثير من مآسي وأزمات الشارع المصري. (2-3) سكان الشوارع وأطفالها
قضية أطفال الشوارع أخذت الرأي العام بصورة مفاجئة برغم أننا نراهم ونعرف أن هناك مشكلة ما وراءهم. وربما كان النشر الصحفي المتكرر للموضوع قد لفت النظر، لكن الأغلب أن الذي شد الانتباه وفاجأه هو الشذوذ الجنسي والقتل المصاحب له - سواء كان ذلك أقل أو أكثر مما نشر.
والواقع أن المشكلة وراء هذه القضية هي أنها واحدة من القضايا الحادة التي تلخص جانبا من توصيف الحالة التي نحن بصددها بصورة مأساوية بالغة. ومن ثم فتناولها في هذه الورقة هو جزء من كل إشكالات الشارع المصري المتعددة التي أوردنا موجزها أعلاه.
وأول ما يتبادر إلى الذهن هو مجموعة تساؤلات مطروحة عن الموضوع: ماهية المشكلة وتعريفها، وكيف نشأت وأسبابها وأبعادها المكانية والاجتماعية - وربما أيضا كيف نواجهها؟
طبيعة المشكلة أنها ليست فقط خاصة بأطفال الشوارع، بل هم جزء من مجموعات من الناس يعيشون أغلب ساعات النهار أو كل ساعات اليوم في الشارع بلا مأوى رسمي، سواء كان ذلك مسكن خاص أو مأوى جماعي تحت سقف مهجور أو وراء جدران المقابر، أو مجرد الأرصفة بلا سقف على الإطلاق. حتى أولئك الذين لديهم غرفة ضمن شقة أو ما يمكن أن تسمى شقة، يتركون الغرفة طول النهار للعيش في عتبات الشارع كتفريج نفسي للضائقة المعاشة مكانا ومأكلا وجنسا وزحام عيال وجيران!
وحيث إن الغالبية الساحقة، ذكورا وإناثا، هم فقراء أو قد لا ينطبق عليهم الفقر؛ لأنهم أدنى من ذلك في واقع الأمر، فإنهم - باستثناء كثير من الشحاذين - لا يعملون أعمالا رسمية. أغلبهم يمتهنون أعمالا طفيلية أياما محدودة من الأسبوع ولا يجدونها أياما أطول.
هم يتزوجون وينجبون والبحث عن عمل ما أو لقمة عيش واجب على أفراد الأسرة ذكورا وإناثا، كبارا وأطفالا.
5
وبذلك فإن التعرف على الشارع هو من المهام التربوية لدى هؤلاء. وبالتالي ينقص تكوينهم أي شكل من أشكال الانتظام في المجتمع، فلا هم وحدة اجتماعية اقتصادية، ولا هم يتعلمون، ولا سبيل لأي تدريب على مهنة حتى الصبي «بليه» القديم عند الميكانيكي أو النجار أو العجلاتي أصبحت على الأغلب من تراث الماضي؛ لأن الصنعة - وإن كانت يدوية - قد أصبحت تتطلب نوعا ما من المهارة غير متاح لأبناء هذا المجتمع الذي ليس له مأوى رسمي. فقد انهارت الصنعة اليدوية القديمة ولم تعد قائمة لغلبة الصنعة ذات العدة والآلات.
في مثل هذا المجتمع المهترئ لا وجود لقيم كثيرة يسمع بها الفرد أحيانا من الراديو أو تلفاز المقهى ولا تعني عنده شيئا؛ لأن الخطاب غالبا موجه إلى أفراد مجتمع متماسك وسوي نوعا ما. فالمجتمعات في مصر تغيرت وتتغير دون بدائل قيمية تحل مكان القيم السالفة. وفي هذا يقول خليل فاضل: «نريد أن نفهم لا أن نصرخ أو نبكي.»
6
فالبدائل القيمية لا تنبع من فراغ بل تكون تعبيرا عن تغيرات مجتمعية اقتصادية شاملة كما يحدث في العالم بصفة إجمالية، لكنه متأخر كثيرا في العالم النامي دون تصميم سياسي تربوي، باستثناء ما نشهده في الهند كدولة رأسمالية المنهج فقيرة السكان، والصين كمجتمع اشتراكي متزامن مع المتغيرات الإيديولوجية والسياسية تنطلق في قوة إلى أرجاء العالم.
لهذا فالحلول التي يراها أفراد مجتمع الشارع هي تقليدية تتسق مع أنساق حياته، السرقة والعنف والبلطجة والاغتصاب والجنس غير المشروع والإدمان والقتل ... إلخ، وكلها أحداث تتكرر في صفحات الأخبار اليومية بطريقة لم تكن معروفة من قبل. وأغلب الظن أن هناك أحداثا كثيرة لا يعلن عنها ضحاياها اتقاء الفضيحة. ولا شك في أن ذلك كله أو بعضه يشكل لدى المقترفين للجريمة وللمجتمع الذي يعيش فيه موقفا نفسيا ضد الأنظمة وضد الشرطة وضد القانون، باعتبار أن كل ذلك لا علاقة له بأحوالهم ومجتمعهم وفقرهم وجوعهم المادي والبيولوجي.
7
وفي هذا المجال شبه الأسري شبه المعيشي تبرز شخصيات قيادية تأسر أفرادا في تكوين عصابات قانونها الأساسي الولاء والتبعية أو التصفية.
8
والتميز في هذا التكوين العصابة مرتبط بمدى نجاح تابع في عدد السرقة أو الجناية بأشكالها، وربما أيضا مرات دخول السجن ... إلخ، ويجد الجاني دائما تعاطفا من أفراد مجتمعه اللصيق الذين يساندونه أمام القضاء، بادعاء أنه مظلوم وغير قادر على الإيذاء أو ادعاء حماقته أو بلهه أو جنته. وهو أمر طبيعي ومسلم به فالكل متساندون في مجتمع هامشي سواء كانوا أقارب أو جيرة، وبعضهم بشهادتهم السلبية يسلم من انتقام أعوان المتهم.
وهناك إلى جانب ذلك جريمة منظمة تنتمي إلى تكوين عصابات أعلى في الهيراركية من عصابات الغلمان. بل ربما هي ترتيبات تضم مجموعات من العصابات الصغرى المتخصصة في أنواع من الجريمة أغلبها السرقة والدعارة وتجارة المخدرات. وعلى الأغلب أن تنظيم هذه العصابات مرتبط بشخصيات بعيدة عن ناس الشوارع يعيشون كأفراد عاديون، قد لا تطالهم الشبهات بدون اعترافات وأدلة إدانة يقبلها القانون.
هذا بإيجاز أوضاع ناس الشوارع، والتدقيق في جزئياته يحتاج بحوثا طويلة متخصصة بواسطة لجان متعددة الاختصاص في التحليل والتوصيف والتنظير والتشريع. ولكن - وبإيجاز أيضا - هناك عدد من النقاط التي تؤخذ مجتمعة وليست فرادى لفهم المشكلة، ومحاولة طرح بعض من إيجابيات الحلول بصيغ مرنة تتعدل مع جوهر الإشكالية مرحليا: (1)
في مصر قوانين لحماية الطفل،
9
وهناك دور للرعاية الاجتماعية مسئولية الدولة والجمعيات الأهلية، ولكن التبني غير معروف رسميا والكفالة أصبحت مطلب رسمي يعلن عنه. طائلة القانون لا تطبق على من هم أو هن دون 15 سنة،
10
وهناك نوع من التشدد لأولئك بين 16-18 سنة، وبعد ذلك يأخذ القانون مجراه التشريعي أمام الجنح والجنايات. (2)
دور المشرف الاجتماعي في المدارس مسئولية مهمة لمن يدخلون المدارس الحكومية والخاصة، لكنه يحتاج إلى تفعيل أكبر فلا يقتصر مهمة المشرف على من يأتي له بمشكلة. وربما من أهم المسئوليات متابعة المتغيبين من التلاميذ؛ حتى نعرف أسباب تسرب التلاميذ من التعليم الإلزامي، وتجد الوزارة حلولا له، علما بأن استمرار التلاميذ في المرحلة التعليمية هو أحد الأركان طويلة الأجل للقضاء على جزء من خامة أطفال الشارع. (3)
مسببات موضوعية ومكانية، فهي في الريف أقل انتشارا من المدينة بحكم المعرفة الشخصية في القرية والتحري عن الغريب بصراحة وإصرار وسؤال متكرر لناس مختلفين من أجل اليقين. أما في المدينة فالمعرفة الشخصية تكاد تنعدم إلا عند البواب أو المكوجي أو الصيدلي، ومنها يستقي الناس بعض المعلومات عن أشخاص يترددون في الشارع، لكن المعرفة الشخصية في الأحياء العشوائية تكاد تشبه القرية الريفية وربما أدق لما يمكن أن يحدث من منافسة الغريب أولاد الكار في عملهم. (4)
وفي الكلام عن العشوائيات وأحياء شديدة الفقر نحتاج إلى دور رجال الدين المسيحي والإسلامي في مزيد من الزيارات لتنظيم حلقات درس في القيم والخلق الحميد. وحيث إن البيئة الاجتماعية الاقتصادية غير ملائمة، فليس المطلوب دروس عظة وإنذار وتخويف وحفظ نصوص، بل بابتكار أساليب تدخل التلاميذ الفكر السوي بجعلهم يروون حكاياتهم في موقف ما، ثم يدلي كل تلميذ برأيه في صواب أو خطأ التصرف من سياق الواقع ... إلخ. كنوع من التدريب على تفتيح الأفق وتشغيل العقل. (5)
لن يشترك رجال الدين والتعليم في واجب تحسين المجتمع كل على طريقته إلا من خلال تحبيذ وتخطيط من قبل وزارات التعليم، والأوقاف، والأزهر، والمحافظة، ورؤساء الأحياء ومجالسها، ومجالس آباء وأمهات، بحيث تتلاقى الخطوط في اتجاه الأخذ بالأطفال إلى بعض مفاهيم عن قيم العلم والمهن، وبالتالي كرامة العمل والفرد ... إلخ. (6)
الجوانب الفكرية والقيمية قد تساعد على البلبلة والقلق بين الصغار والكبار ما لم تدعمها تحسينات اقتصادية للأسر الفقيرة والعاطلة، أو التي ليس لديها أي تأهيل مهني. كيف يتم ذلك؟ هنا حقا مربط الفرس. والرهان هو على أساليب كثيرة في سد أبواب البطالة وتسهيل إقامة منشآت الأعمال كثيفة العمل لعدة عقود حتى تستوعب البطالة ويدرب غير المؤهلين على أعمال ومهن بسيطة تنتظم بها حياتهم المادية، وذلك حتى يأتي دور الأطفال على العمل المنتج. بعبارة أخرى إن علينا أن نبتكر أو نكتشف فترة لتهدئة الأوضاع الراهنة بأعمال منتظمة ثابتة؛ حتى يأتي الجيل الجديد مؤهلا بما يضمن انتماءه للعمل. (7)
لا بأس من أن تقوم الدولة ببعض المحفزات كما كان الحال أيام القرن 19؛ بمعنى إعطاء نقود بسيطة للتلاميذ، وإعطائهم وجبة غذاء وشراء ملابس لهم صيفا وشتاء، وإطالة اليوم المدرسي والنشاط الرياضي والثقافي والتمثيلي. ليس هذا هباء لكنه تدوير للمال بين الحكومة وترزي الملابس وصانع الحذاء ومطعم الحي، وقدرة شرائية صغيرة لدى التلاميذ لشراء اشتهاء الأنفس من مثلجات أو أقلام ألوان ... إلخ، وفي النهاية سيصب ذلك التدوير الحكومي في رفع كفاءة العمل وتقليل البطالة ورفع الناتج المحلي العام وتقليل الفقر والفقراء تدريجيا، وكذلك التخلص من الأمية لصيقة التخلف والجهل والمرض وعدم الشعور بالمواطنة ... كل ذلك إرهاصات لحل مشكلات مجتمعية عديدة كالإسكان والترويح والترقي ورفع روح الانتماء. (8)
قد يبدو ذلك كالحلم. لكنه أبدا ليس حلما. إذا بدأنا خطوة خطوة سنجد الصفحات تتالى بفعل القصور الذاتي. إذا أردنا أسرة محدودة العدد أو دخلا موزعا على عدد أقل أو مستوى حياتيا أعلى همسة، أو مستوى صحيا أحسن، أو تفاعلا اجتماعيا أصح، أو تكوينا نفسانيا أقل إنية وأقل عدوانية وأكثر تشاركية، إذا أردنا مستوى من أي عمل أكثر إنتاجا وأقل اعتمادا على الدولة، إذا أردنا إعلاما أكثر واقعية وأكثر صراحة، إذا كذا وكذا ... فعلينا البدء من الجيل الصغير في أسرة موازية للأسرة البيولوجية أو أحسن؛ علينا بمدرسة ومدرس وناظر مدفوع الأجر والكرامة يستقبل التلميذ كابن له في بيت ثان، وليس كمصدر دخل من مرتب ودرس خاص. (9)
وأخيرا ليس معنى هذا أن المنحرفين سوف ينقرضون من الشارع. لكن سيظل الأمر بدرجات أقل، وربما لا نسمع أو نقرأ كثيرا عن انحرافات مفجعة وجرائم بشعة. وستظل هناك جرائم انحراف وقتل وجنس ورشوة وسرقة وتهرب ضريبي وتهريب أموال، ولكن في الحدود الاجتماعية الآمنة بتطبيق العدالة على الكل سواسية. فالنفس أحيانا أمارة بالسوء لكن خير رادع هو تحسين المجتمع في كل نواحيه الاقتصادية والاجتماعية والصحية والنفسية والسياسية والتشاركية ... علنا نفلح. (3) مغامرة أن تمرض
الإنسان معرض لأنواع مختلفة من الأمراض في أي مكان من العالم المتقدم والنامي والمتخلف والبدائي على حد سواء. ولكن علاج الأمراض يختلف، فقد كان لكل شعب وسائل علاجية مرتبطة بظروف البيئة والحضارة، كما أن نظرة الناس للمرض والعلاج ومفهوم الحياة والأعمار تختلف من شعب لآخر، والخلاصة أن الناس ارتضوا أشكال العلاج المحلية من الأمراض كاعتياديات يقينية، ولكن ذلك لم يمنع من استقدام شكل جديد من علاج الأمراض من شعب مجاور أو معلومات طبية تنتقل نتيجة ارتحال الناس للتجارة من إقليم لآخر. ولا ننسى أن العلاج كان يتقدم محليا نتيجة إبداع بعض أطباء الأعشاب وأطباء استقدام الأرواح وغيرهم من الممارسين للطبابة، وتفهمهم لأعراض الأمراض وتأثرها بأنواع العلاج نتيجة دقة الملاحظة وتبين الجديد من معاطاة الدواء ومقدار جرعاته.
واستمر الأمر على هذا النحو آلاف السنين تتبادل فيها الشعوب المعرفة الطبية ببطء وتنشأ معها مستشفيات عامة أو متخصصة كما كان الحال في بيمارستانات بغداد أو القاهرة في العصور الوسطى، وأطباء المسلمين في جزيرة صقلية التي أصبحت ضمن مملكة النورمان في جنوب إيطاليا.
وبالتدريج انتشرت المعاهد الطبية في أوروبا إلى أن وصلنا إلى مرحلة الطب الحديث الذي غزا العالم بأجمعه؛ لأن الكثير من الأمراض لم تعد محلية بل عالمية الانتشار، نتيجة تغير الظروف الاقتصادية والمجتمعية في أجزاء كثيرة من العالم واقترابها بصورة أو أخرى من نمط الحياة الغربي السائد حاليا.
لقد أصبحت الأمراض شائعة بين الشعوب سواء كان في العالم المتقدم أو العالم النامي أو المتخلف. أسباب المرض كثيرة على رأسها ضعف أو فقدان وظائف واحد من أجهزة الجسم كالقلب والكبد والكلى والبنكرياس ... إلخ، نتيجة كبر السن أو إصابة بفيروسات نتيجة سوء التغذية أو أغذية فاسدة أو أغذية غير متوازنة، ولكن أكثرها يرجع إلى نمط الحياة الجديدة بين الفقراء الذين يتأرجحون بين عوامل كثيرة منها دخل متدن، واحتياجات حياة العصر مرتفعة التكلفة، والسكن المكدس غير الصحي وعدم القدرة على العلاج، والغذاء غير المتوازن أو المسبب للمرض نتيجة كثرة سموم الأسمدة الكيماوية. أما كسور العظام أو تيبس فقاريات العمود الفقري فهي غالبا تنشأ عن حوادث أو اعتياد الجلوس والنوم، وأنواع من العمل كالانحناء طويلا في الأعمال الزراعية اليدوية في الماضي، أو على سبيل المثال الجلوس ساعات طويلة منكبا أمام ماكينات المصانع، أو منحنيا أمام أجهزة الكمبيوتر في الوقت الحاضر. (3-1) الفروق بين مريض العالم المتقدم والعالم النامي كثيرة منها ما يأتي
أولا:
العناية الصحية الدائمة المجانية في العالم المتقدم نتيجة حسن تطبيق التأمين الصحي الفعال، من خلال شركات التأمين للهيئات المختلفة، وهي التي تؤدي إلى اكتشاف الأمراض في حينها، ومن ثم علاجها مجانا أو بتكلفة مخفضة جدا حسب عمر المريض ونوع العلاج وتكاليف الإقامة بالمستشفى أو المشافي الطبيعية متضمنة جميع أشكال العلاج الطبيعي، وذلك باعتبار رعاية المواطنين وبالأخص كبار السن الذين أدوا واجباتهم للمجتمع.
ثانيا:
في مصر أيضا تأمينات صحية للعاملين في الهيئات المختلفة، ولكن علينا أن نعترف بأن هناك فروقا كثيرة بين الرعاية الطبية في بلادنا وبين دول العالم المتقدم في كل شيء بدأ من دورية الكشف الطبي وجديته إلى التطبيب والعلاج في مستشفيات التأمين الصحي محدودة العدد التي تقبل مثل هذه المعالجات، وأخيرا التكلفة التي يدفعها المريض للمستشفى بما لا يتناسب مع الإقامة وتجهيزات الغرف فضلا عن تكلفة شراء الأدوية والحسنات المدفوعة للممرضين والممرضات بل وحتى عاملات النظافة، لأسباب كثيرة من أجل رعاية أحسن بقدر متناسب حسب إمكانات المريض والمريضة.
ثالثا:
في الخارج يتفاعل الطبيب المختص بمرض معين مع مجموعة أطباء من تخصصات مختلفة فيما يمكن أن يسمى «كونسولتو»، بحيث تعرض حالة المريض بعد الكشوف والتحليلات المتعددة فلعل لدى أخصائي آخر تفسير مفيد لتفاعلات المرض مع أجهزة الجسم الأخرى . وفي مصر فإن المريض - على الأغلب - يترك لأخصائي واحد يقوم بالاستعانة بأخصائي آخر فقط في حالة حدوث تطورات واضطرابات تؤدي إلى تدهور صحة المريض، وهذا شيء مقبول في الحدود الدنيا في عالم الطب فالمستحسن أن يعرض المريض على أطباء من تخصصات عدة لبحث المشكلة، ومن ثم على الطبيب المعالج تقرير الأدوية غير المتضاربة مع بعضها.
رابعا:
نظام التمريض في الخارج على مستوى عال؛ لأن الممرضات هن اللائي يقوم عليهن العمود الفقري في مراعاة المريض طوال إقامته بالمستشفى. وعلى الرغم من وجود مدارس ومعاهد عديدة وكلية جامعية للتمريض في مصر إلا أن التمريض لا يزال مشكلة المشاكل في مستشفيات عديدة بدون سبب واضح، هل ينقصهن التدريب أو الإحساس اللازم بأهمية العمل أو سرعة تبليغ الطبيب المختص عند حدوث مشاكل لدى المريض، أو هل هناك تقاعس في تنفيذ قوانين إدارة الممرضات، أو كل ذلك وغيره من الأسباب؟
ليس من الضروري أن نحس بالإحباط إزاء كل أو بعض هذه السلبيات. ففي مصر أطباء مشهود لهم بالكفاءة العالية ومشاهيرهم معروفون منذ تاريخ طويل. وفي مصر مستشفيات عديدة ناجحة وإلا ما تقاطر عليه المرضى. ولكن أيضا هناك غير ذلك من المستشفيات التي تنقصها الهيئة الطبية متعددة التخصصات، ومستشفيات تبالغ في تقدير الأتعاب، ومستشفيات لا تقبل حتى حالات الطوارئ بدون دفع مقدم كبير غالبا ليس متوفرا في لحظتها مع أهل الحالات المفاجئة، مما يؤدي في غالب الأحيان إلى حالات مفجعة، وهو بلا شك تصرف غير إنساني وغير أخلاقي ولا يتفق مع المهمة السامية للمستشفيات والأطباء. (3-2) هيمنة القاهرة في عالم الطب أمر خاطئ
وأخيرا فإن التركيز الشديد للمستشفيات المتخصصة في القاهرة وحولها لهو أمر يحتاج إلى تصحيح. لماذا لا نستفيد من بعض ميزات البيئة المصرية المتعددة في إقامة مشافي ومستشفيات في أماكن تؤهلها البيئة. في بعض البلاد الغربية مثلا نجد دور الاستشفاء من أمراض الصدر تقام في وسط بيئة طبيعية من الغابات بعيدا عن المدن بضجيجها وجوها المشبع بغازات ضارة. (3-3) بيئات مصر الصحية كثيرة ولكن ...
وفي مصر أماكن متعددة لأمراض شتى في سيناء والساحل الشمالي والبحر الأحمر بعيدا عن مدن الدلتا والوادي، وعلى سبيل المثال يمكن أن تكون محافظة أسوان أو محافظة الوادي الجديد أو سيناء مقرا لدور الاستشفاء من أمراض الصدر والروماتزم، وعلى الأغلب فإنه سوف يكون لها سمعة طيبة على المستوى الإقليمي والعالمي، حيث إنها ستجمع بين الجو الجاف الصحي والبيئات الطبيعية المتعددة والمعالم الأثرية معا مما يحيلها إلى مؤسسات مزدوجة الوظائف؛ لأنها سوف تجمع بين الشفاء كمستشفى وبين السياحة كفندق يتمتع برعاية صحية.
الحاجة النفسية إلى هذه المشافي
ولا أبالغ إذا زعمت أن كثيرا من المصريين والعرب والأجانب سوف يترددون على هذه المؤسسات العلاجية الفندقية، فسكان العالم الآن، وبخاصة في بلاد العالم المتقدمة يحتاجون هذا النوع من الرعاية التي لا يشعرون فيها أنهم مرضى فقط بل سياح يتجولون في رحلات محسوبة بين مناظر طبيعية في بيئات غريبة عنهم تماما. وكذلك يجب توفر أماكن للترفيه كإنشاء كازينو بكل معناه ومطاعم ومقاهي متعددة الأذواق في منشآت غير بعيدة عن المستشفى؛ كي يحس المترددون أنهم غير مرضى بالنوع المعروف، بدليل أنهم يمارسون حياتهم الطبيعية ولكن بشروط يحددها الأطباء.
العلاج التقليدي وتذكرة داود
كما أنه يمكن الجمع في هذه المؤسسات بين الطب الحديث والعلاج التقليدي المتوارث الذي بدأت ممارسته تنتشر في الغرب كطب الأعشاب، وما يمكن أن نضيفه من أنواع العلاج الطبيعي والنباتي الواردة في الكتاب الشهير «تذكرة داود»، بعد تنقيحها علميا بواسطة التحليل المعملي لمكونات الوصفات الواردة في ذلك الكتاب، وهناك أشياء أخرى كممارسات البدو العلاجية.
شروط النجاح: الطب وكرة القدم
وهناك شروط هامة لنجاح مثل هذه الرؤية على رأسها حسن اختيار الهيئة الطبية المتخصصة من مصريين، مع إمكانية توظيف استشاريين وممارسين أجانب لفترات وعقود محددة أو ممتدة حسب الحال والاحتياج، ولا مانع أيضا من توظيف أجانب في مجال التمريض إلى أن تتشكل هيئة تمريض مصرية على المستوى اللائق علما وضميرا مهنيا معا. ونعني بالأجانب أطباء وممرضات من جنسيات مختلفة ليس شرطا أن تكون أوروبية أو أمريكية ، فهناك في الهند والصين وشرق آسيا ومن العالم العربي أطباء وممرضات من ذوي السمعة الطبية.
ولا شك أن إدارة مثل هذه العيادات والمستشفيات تحتاج إلى هيئة إدارية حازمة تعطي الكثير من الصلاحيات، وتفوض في التعاقد مع العاملين وفصلهم دون تكبيلهم بالكثير من شروط وقوانين العمل السائدة. فالمسألة هنا هي حياة أو موت للمرضى فضلا عن الإبقاء على السمعة الطيبة لمثل هذه المستشفيات، وليس عيبا أن تكون الإدارة أو المدير أو الاستشاري من الأجانب على نحو ما تفعله أندية الكرة المصرية من استقدام المدربين واللاعبين من الأجانب، فإذا قارنا بين المستشفيات وأندية الرياضة ربما كان كلاهما في نظر البعض على قدم المساواة، فواحدة تعالج الأمراض وتعطي أسباب الحياة قدر المستطاع، والأخرى تشبع رغبات الجماهير في الصراع البشري بين مجموعة وأخرى كاستكمال للصراع الدموي القديم، ولكن على منسوب حضاري أعلى تقننه قوانين الاستمتاع بالرياضة. (4) في متغيرات الطب منذ القدم من الشامانية إلى الطبابة الأوتوماتية
الشامانية اصطلاح يستعمله علماء الأنثروبولوجيا لأنواع من الطب البدائي والعرافة الذي كان - وما زال - سائدا في الممارسة العقلية لكثير من الناس، وبخاصة في حالة الضعف وفقدان الأمل في الطب الحديث أو الرغبة في عاجل الشفاء، كما حدث لبطل رواية يحيى حقي حول زيت قنديل أم هاشم. والكلمة مأخوذة عن مصطلح «شامان» الذي كان سائدا بين جماعات وقبائل سيبيريا - التنجوس والتشوكشي والساموئيد ... إلخ - يصف الرجل - أو المرأة في أحيان كثيرة - الذي يداوي الناس غالبا بالأعشاب والتمائم، وغير ذلك من الوسائل الغيبية التي يتعرض لها الشامان خلال حالات الانتشاء وفقدان الوعي أثناء محاولة اتصاله بعوالم ما فوق الطبيعة أو ما تحتها. ومثل هذه الممارسات كانت شائعة لدى الكثير من قبائل الفينو-أوجريه بشمال أوروبا وقبائل الأميرند - الهنود الحمر - في أمريكا وغيرهم في عوالم مجتمعات البيئة القديمة في الهند وأفريقيا وأستراليا ... إلخ، وبهذا فإن الشامان كان عادة رجل الطب في عالم الطبيعة، ونادرا ما كانت له إيماءات واتصالات بعالم السحر الضار. هو رجل مطلوب في المجتمع ولكنه لا يتولى سلطات سياسية ، وليست له انتماءات طبقية داخل المجتمع. الأغلب أنه يتعلم كصبي أسرار المهنة التي كانت تؤهله فيما بعد لكي يصبح شامان ذو قدر إذا أضاف شيئا جديدا في ممارساته. عالمه هو عالم الطبيعة النباتية والحيوانية، وربما أيضا مياه بعض الينابيع حيث تفاعلات كيمائية لا يدرك مكوناتها وإن كان يدرك مفعولها في حالات معينة. وإلى جانب التحرك داخل أشكال الأعشاب والنباتات مع المراقبة الدقيقة التي تفطن لما يعتريها من تغيرات حسب المواسم المناخية، فقد كانت هناك أيضا «الشيء لزوم الشيء»، هناك تعاويذ تلقى بكلمات غامضة المعنى وحركات جسدية وتشنجات وخروج إلى اللاوعي على دقات طبول طقسية، وبلوغ الاتصال بأرواح العالم الخارجي.
هذا الوصف ليس بعيدا عنا فإن ما يمكن أن نطلق عليه الآن «شبشبة » هو مماثل في الشكل، ولكنه ذو مضمون متدهور ومنقوص عن مضمون الشامانية الأصلي. فالشامان لا يعيش كما يعيش «شيخ» أو «كودية» تدعى العرافة بيننا، فعالم اتصاله أو اتصالها بالنبات محدود بما يسمع أو يقرأ من كتاب «تذكرة داود» الذي كتب أصلا لغاية معرفية أصيلة. وتكمن المشكلة الحالية أساسا في استعداد الناس لتصديق وصفات نادرة - مثل ديك بلون الببغاء أو آخر أعور أو أعرج - من أجل شفاء حبيب أو عزيز، كما أن عراف اليوم يعتمد على أعوان للحصول على معلومات عن المريض، وتقتصر تشخيصاته على أنه «ممسوس» بقوى خارجية يجب استعطافها بالاستجابة إلى طلبات مغرقة الغرابة كمؤشر على جدية الموضوع، وتبرير الإنفاقات العالية في ممارسة الطقوس.
عاشت الشامانية وأفكار مماثلة لها آلاف السنين لأسباب كثيرة منها: (1)
أنها وسيلة التخفيف عن الأمراض التي يعتقد أن مسبباتها قوى وطاقات من العالم الخارجي. (2)
لأنها كانت في مجموعها ممارسات تطبيبية ناجحة؛ لأن حياة المجتمعات القديمة كانت بسيطة متعايشة مع البيئة الطبيعية، ومن ثم فالأمراض غالبا بسيطة تأخذ أشكالا متشابهة متكررة. (3)
أن قاعدة العلاج عند الشامان هي مستخلصات وممزوجات نباتية عشبية، التي أصبحت فيما بعد قاعدة الصيدلانية الحديثة حتى الآن. (4)
وأخيرا فإن الطقوس التي يقوم بها الشامان من صوتيات وأنغام بمفردات غير مفهومة مع إيقاع الجسد وتكرار دق الطبل المفاجئ بين حين وآخر في محاولة الاتصال بعوالم القوى الخارجية، تضفي على الممارسة الشامانية أجواء تشيع رهبة النفس لدى المريض والحضور، وبذلك تكتمل الأشكال الأساسية في العلاج البدني (الأعشاب)، والنفسي (الطقوس).
وبما أن المجتمعات بسيطة الاقتصاد - صيد ورعي خفيف - فإن أعداد الناس كانت قليلة وتتحرك طبقا لحركة مصدر الغذاء في مساحات واسعة. ولكن قد يحدث لأسباب كثيرة أن تتسرب إلى تلك المواطن أمراض وأوبئة تنقلها القوارض والطيور من مناطق بعيدة، فتتشكل مجموعة غامضة من أعراض المرض على الناس. وحين يصبح علاجها صعبا قد يؤخذ برأي الشامان في الهجرة إلى مواطن أخرى بعد أن أصبحت الأرض ملعونة؛ لأن قوى معادية غير طبيعية تبغي الاستيلاء عليها.
وحين تتقدم المجتمعات وتصبح منتجة للغذاء - زراعة ورعي - ويعاد صياغتها إلى فئات وطبقات وحكام ومحكومين وعاملين وملاك وتجار، ينشأ نظام الحرب ومبدأ الاستيلاء على ما لدى الغير. حينئذ لا تفيد بساطة الشامانية ويحتاج الأمر إلى تأييد آلهة جدد أقوى اتصالا بالمؤسسات السياسية الاقتصادية الجديدة. وفي هذه الحالات تنقسم الشامانية إلى قسمين؛ أولهما: استمرار المتخصصين في التطبيب؛ لأنه ضرورة لا غنى عنها للناس، وهؤلاء هم «طبيب الأعشاب». والثاني: الكهانة المرتبطة بالآلهة الجدد الذين لا غنى عنهم لمركبات المجتمع الجديد، والذين أصبحوا طبقة قوية بما لديهم من قوى الاتصال الإلهي وأوقاف المعابد الكثيرة. ولكن في المراحل الأولى قد يجمع حكيم الصفتين معا. وأشهر الحكماء «أمحوتب» وزير الملك زوسر باني هرم سقارة المدرج (نحو 2800 قبل الميلاد). فقد كانت له إسهامات تطبيقية عديدة في الهندسة والوزارة، ولكن أكثر إسهاماته عمرا وأثرا كانت كتاباته الطبية لدرجة أن المصريين فيما بعد أضفوا عليه صفات الألوهية في الطب قبل «أبوقراط» الإغريقي - صاحب القسم المشهور في كليات الطب - بأكثر من ألفي سنة، فما أحرانا بقسم نتذكر فيه هذا الحكيم سابق العصر في الدنيا جميعا. وقد لا يقتصر الأمر على منطقتنا، فإن فلسفة «التاوية» السابقة على البوذية في الصين - نحو ألف عام ق.م - تضم في أسسها العناية بصحة الناس في المأكل والمشرب كجانب عملي تطبيقي حيوي للحياة، وإلا ما عاشت مثل هذه الفلسفات.
تطور طب الأعشاب إلى سجلات كتبها وأضاف إليها حكماء أقاليم العالم وورثها «العطار» في حياتنا الشرقية. وفي قلعة هايدلبرج في ألمانيا متحف رائع للعقاقير العشبية جمعها العلماء بالدقة المعروفة عنهم، وما أحوجنا إلى مثل هذه المتاحف والدراسات التي لا تبغي شهرة ذات فرقعة! وكما أسلفت القول فإن الاهتمام بالنبات يشكل أسس المعرفة الصيدلانية الحديثة. ولكن دخول المركبات الكيماوية في العقاقير ربما حد من استمرار نمو العقاقير النباتية بعض الشيء. إلا أنه بين حين وآخر تظهر اتجاهات عودة للعلاج النباتي. وآخر ما كنت أعرفه كان في النمسا وألمانيا في السبعينيات والثمانينيات حين ظهرت صيحة ما أسمي «هيميوباتي»، الذي هو علاج طبي من أشربة من مستخلصات نباتية تلعقها قطرة قطرة على ظهر يدك، لعلها بذلك تمزج بين جسم المتعاطي والدواء في علاقة بيولوجية متبادلة. ولا أدري ماذا حدث بعد ذلك: هل ما زالت الصيحة مستمرة أم قضى عليها التقدم الآلي المذهل في تشخيص الأمراض، كالتصوير الداخلي للشرايين والقلب وجراحات الليزر، واجتهادات الاستنساخ وخريطة الجينات ... إلخ؟
والحقيقة أن التقدم في التجهيزات الطبية قد ربط بين الطب والهندسة وعلوم التقنية الأخرى بشكل ليس له مثيل، وفتح آفاقا لم تكن معروفة من قبل. بل ربما نحن الآن على عتبة كشوف في الجسم والنفس لا نعرف مداها.
تدخل مركزا طبيا الآن لا تكاد تفرقه عن تجهيز مركز للتقنية الحديثة سوى أن المستقبلين ما زالوا يلبسون رداء الرحمة الأبيض. ولكن الاستقبال يقودك بعد الفحص الأولي إلى التعامل مع الحسابات حيث تتحدد قيمة مسبقة غالبا عالية؛ لأن تكلفة هذه المراكز عالية من حيث هندسة البناء الطبي والإدارة والتخصصات الطبية، والتجهيزات الآلية وتحديثها وإبدالها وصيانتها والتمريض والضرائب وغير ذلك أشياء كثيرة أخرى.
لقد انتهى عهد أعلام الأطباء الذين كانت شهرتهم فائقة السمعة أمثال علي إبراهيم ورامز وحندوسة والمفتي وباركير وفيلنجر، وربما بقي منهم اسم على مستشفى أو مركز طبي كتراث، أو الإعلان عن حضور أحد المشاهير المتبقين أسبوعا لإجراء فحوصات وعمليات في مستشفى معين كطبيب القلب المصري الشهير يعقوب. بطبيعة الحال فإن لكل عصر سمة، وعصرنا برزت فيه التقنيات أكبر من شخصية الطبيب وخبراته؛ بمعنى تقدم الآلة على العلاقة المباشرة التي كانت تتم بين الطبيب والمريض وفيها يتم تحديد نوع العلاج. بل في أحيان كانت أريحية بعض مشاهير الأطباء تؤدي إلى علاج مجاني أو ما أشبه رأفة برقة حال المريض وتصدقا منه على علمه، وهو ما لا يحدث اليوم؛ لأنه لا توجد مثل هذه العلاقة الإنسانية المباشرة. فإدارة الحسابات لا يوجد في بنودها مثل هذه الصدقات إلا بإعلان وزفة، وربما أيضا لكسر نسبة الضرائب.
ليس معنى هذا الكلام رغبة في عودة الماضي. فما مضى لا يعود. ولكنها الرغبة في أن نرى - إلى جانب المؤسسات والمراكز الطبية الحالية - بعض المراكز والمؤسسات التي تفتح برءوس أموال خيرية لمساعدة المحتاجين حقا من المرضى بعد استفحال قيمة الطبابة. أي هل تنشأ مؤسسات بحثية وعلاجية لغير غرض الربح
non-profit ، كما هو الحال في بلاد أخرى من العالم كنوع من مساعدة الدولة في مجهوداتها المشكورة في هذا المجال الإنساني؟ وربما لست على دراية بكل جوانب الموقف، ولكني أقرأ وأسمع أن بعض المؤسسات الطبية الحكومية تتحول جزئيا عن المجانية إلى شكل قريب من الاستثمارية، وأن المحتاج يصرخ إلى أن ينال عطف قرار بالعلاج المجاني على نفقة الدولة، ولو كان هذا اتجاها واقعا فلا غرو أن يحذر الناس أنفسهم من الوقوع في مغبة المرض؛ لأنهم لن يستطيعوا له غلابا!
الفصل التاسع
تنويعات على بعض صفات المجتمع
(1) الشخصية المصرية
تنويعاتها الإقليمية وتغيرها وتطورها إلى أين؟ (1-1) ماهية الشخصية
موضوع الشخصية من الموضوعات شديدة الصعوبة؛ لأنها تقيس اتجاهات بدون مقياس ودون منوال؛ فوقه أو تحته. كما أنها تسجل انفعالات قد تكون وقتية لفرد الواحد، ويمكن تغيرها لنفس الفرد في ظل مجموعة ظروف أخرى في مواجهة نفس المواقف، ومع ذلك يمكن مراقبة نفس الانفعالات لشخصيات عديدة تمثل مجموعة بشرية سواء كانت عائلة أو مجموعة قرابة نسب أو عشيرة أو قبيلة أو سكان إقليم معين. بمعنى أن عملية نضوج الفرد كعضو في مجموعة حياتية أو ما يمكن أن نطلق عليها انطواء الفرد لمجتمعه
socialization ، هي أساس تكوين الشخصية للفرد والمجتمع معا. وقد يحل التعليم الحديث أو الإيديولوجيات السائدة لمجتمع ما محل تلك المدخلات مؤسسة بذلك قواعد وأسسا خارج علاقة الدم والنسب، وعوامل أخرى كالديانة والمذاهب والخلقيات العامة والنظم الفكرية يتشربها الأفراد.
وقد نجترئ فنقول: إن الشخصية هي جمع التفاعلات التي تحدد حركة وفعل تجاه مواقف معينة معظمها معنوي مثل الكرامة، الرجولة، الخنوع، الذل، الإهانة، الثأر ... إلخ. وهذه التفاعلات تحدد شخصية الفرد أو الجماعة أو مجموعة إقليمية أو أقلية أو الأمة بأسرها، أو مجموعة شعوب داخل إقليم عبر الحدود السياسية متشابه في ظروفه الحياتية والعقيدة والفكر. وهناك أيضا مجموعة تفعيلات لفرد أو جماعة تستمر وتصبح منوالا موروثا للاتجاهات والأفعال مثل قوة البأس أو شهوة السلطة والتفرد، أو سيادة الروح العسكرية مع تبجيل قيمة العنف الإمبريالي، أو قوة المال والسيطرة الاقتصادية، مما ينجم عنه سمة لشخصية شعب ما. وكثيرا ما وصفت الشعوب بشخصيات معينة كالسويسريين بأعمال المال والبنوك، والإنجليز بالتفكير النفعي، والألمان بالدقة العلمية والتنظيمية، أو في الماضي استناد الأقليات إلى التميز بقوة ما كالمال أو البراعة الحرفية، أو استناد قوى الاستعمار إلى قوة عسكرية وإدارية وتابعية اقتصادية معا مثل الإمبراطورية الرومانية. وهذه كلها أضافت عفويا وتلقائيا شخصية معينة لهذا الشعب أو ذاك. فالهولنديون فلاحون وملاحون، والفينيقيون وسطاء وبحارة، والإغريق مدنيون وتجار مهاجرون متوطنون، والمصريون فلاحون علومهم تجريبية نفعية ... إلخ، ونضيف في الوقت الحاضر تأثير القناعة والانضمام إلى مؤسسة ناشطة في اتجاه أو آخر، كالعدالة والمساواة أو حقوق المرأة أو إيديولوجية فكرية وحزبية أو استعادة جذور الماضي «الجميل» ... إلخ، وهذه المجموعة الأخيرة من مؤثرات الشخصية تتسم بأنها عالمية أكثر منها قومية؛ أي إنها تعبر الحدود الوطنية إلى إطارات إقليمية واسعة كالعالم العربي أو الغربي أو الإسلامي أو النامي، وبالتالي تتعدد الشخصيات داخل الدولة الواحدة بين الانفتاح والانغلاق. (1-2) الشخصية المصرية المحلية
في مصر شخصيات عامة ومحلية. الشخصية المصرية المحلية هي تلك التي نجدها تختلف إقليميا أو محليا بين سكان المدن والريف، أو بين سكان الدلتا والصعيد، وبين سكان الموانئ ذات الأعمال التجارية وسكان مدن الداخل ذات الأعمال الإنتاجية، كما نجده بين الإسكندرية ودمياط وبورسعيد والسويس، وبين طنطا والزقازيق وكفر الشيخ، أو بين أسيوط والمنيا وإسنا على سبيل المثال. بل في أحيان بين مدن ومناطق متقاربة كمدن الصناعة والزراعة، مثل تلك الفروق بين سكان المحلة الكبرى وبسيون وتلا، أو بين كفر الدوار ودمنهور أو نجع حمادي، وهو بين دشنا أو البلينا ... إلخ، ويتلخص كل هذا في بعض مصطلحات معروفة تصف شخصيات ذات سمات محلية كالصعايدة - البحاروة - المصاروة (القاهرة) - السوايسة - الدمايطة - المناصرة - الأسايطة - الفييامة ... إلخ، ولسنا في حاجة إلى كثير من الشرح في هذا المجال. فكلنا يعرف الكثير عن اختلاف الشخصية المصرية المحلية عبر اللكنة اللغوية، ومن خلال عشرات الأمثال والأقوال والنكات مما لا يحتاج لحصر.
وليست هذه صفة مصرية بل هي غالبة على كل الشعوب. على سبيل المثال بين الشامي (الدمشقي) والحمصي والحموي والحلبي في سوريا، وبين الطرابلسي والبيروتي والزحلاوي في لبنان، وبين الحجازي والنجدي في السعودية، وبين السندي والبنجابي في باكستان، وبين البافاري والسكسوني في ألمانيا، والفيناوي والتيرولي في النمسا، وبين الإنجليزي والأسكتلندي والولشي (ويلز) في بريطانيا، وبين اليانكي والديكسي في الولايات المتحدة، والماندرين والبكيني في الصين، وهكذا دواليك. (1-3) الشخصية المصرية العامة
الشخصية العامة غالبا هي تلك السمات التي تنسجم مع الأطر الوطنية بمعنى أنها لا تظهر طوال الوقت بل تبدو خامدة، ثم تتقد مرة واحدة في حالات الدفاع عن الوطن وكيانه الخارجي والداخلي أو تبني مواقف سياسية أو خلقية أو دينية معينة. فالكيان الخارجي واضح كأن ندافع عن استقلال الوطن عسكريا وسياسيا، وكأن نحس بالظلم نتيجة ممارسة القوى الكبرى مواقف غير عادلة تجاه قضايا الوطن. لكن الإحساس بالظلم لا يبني شيئا إذا كان انفعالا وقتيا غير منظم، وبالتالي هو انفعال غير مفيد مثل مقاطعة بضائع أو خلافه. لكنه يصبح قوة مفيدة تسند سياسة الدولة في مواجهة مشاعر الظلم إذا انتظمت مشاعر الناس ونضخم الإحساس بها، حتى يصبح موجة شعبية قد تؤدي إلى تعديل الموقف ولو جزئيا. وعلى وجه العموم فإن الأحاسيس والمشاعر حسابها قليل في السياسات الخارجية لكتل العالم المختلفة فالسياسة لا قلب لها، ومن ثم قد تجرحها موجات الغضب مرحليا لكنها لا تعدلها ما لم تتغير أسس السياسة «نسبيا» بتغير أوضاع تلك القوى، كأن يأتي الديموقراطيون بدل الجمهوريين في أمريكا، أو العمال بدل المحافظين في بريطانيا أو نظام عسكري بدل آخر في بعض دول العالم النامي.
أما الكيان الدخلي للدولة فهو المجال الأكبر للشخصية المصرية؛ لأنه يتعامل مع مواقف ومؤسسات قائمة، وبالتالي فهي محسوسة بصور مختلفة بين الناس؛ لأن الجميع يعرف تلك المواقف ويتحرك بردود فعل إزاءها، مثلا كالموقف إزاء أزمة القضاة. أيا كان التنظيم المسئول عن هذا التساند للقضاة فإن الأغلب أن كثيرا من المساندين كانوا يرون أنها قضية هامة في البناء الداخلي. كما أن هناك عداء معروف لدى جانب غير يسير من الناس ضد «العسكرتاريا»، وهو عداء قديم لأسباب أكثرها غير مدرك بكفاية لكنه تراث؛ لأن العسكرتاريا تستند إلى التنظيم العسكري كقوة ضغط من جانب الدولة، إما على الحرية أو دفع الضرائب أو حجز الأفراد بسبب أو بدونه. (1-4) ثقافات وشخصيات فوق بعضها
في مصر حيث تاريخ الاستيطان للمصريين طويل جدا أصولهم غالبا أصول سكان شمال أفريقيا (السابقين للبربر)، دخلت عليهم جماعات مختلفة الأصول من أفريقيا وآسيا (العهود القديمة)، ومن آسيا وأوروبا (أشوريون وفرس وإغريق ورومان وعرب وكرد وجركس وترك)، لكنهم تداخلوا وهضمتهم مصر الأرض والحضارة. ولا شك أن كل هؤلاء تركوا بصمات على الشخصية، لكنها تذوب مع الأصل وتتشكل من جديد على الدوام، بحيث لا تظهر سوى بصمات الجماعات الأحدث في بعض مظاهر الشخصية، وبخاصة المجموعة العثمانية التي ضمت أتراكا وأرمن وأكرادا وجركس. ومعظم هؤلاء سكنوا المدن وأثروا فيما عرفناهم في القرن الماضي باسم أولاد البلد بتنظيمات وخصائص لغوية وفتونة وشهامة وعصبية الحارة - ومنها شيخ الحارة - إلا أن ذلك ذاب منذ أربعينيات القرن الماضي في خضم انتشار التعليم وفقدان العصبية المكانية بالسكن في أحياء جديدة خارج بولاق والقاهرة المملوكية من باب الشعرية والدرب الأحمر إلى الخليفة والسيدة زينب. ومثل ذلك في المدينة الكبرى الثانية، حيث كان الرمل سكنا للأجانب مقابل أحياء الإسكندرية القديمة في الأنفوشي والمنشية وكوم الدكة ومحرم بك والقباري وكوم الشقافة حيث أولاد البلد الذين زحفوا على الرمل تدريجيا إلى أن صارت للإسكندرية لهجتها وأمثالها الخاصة. وهكذا يمكن تتبع مؤثرات الشخصية في المدن القديمة كدمياط والفيوم وأسيوط وجرجا وأسوان مع اختلاف أصول التجمعات المدنية.
إذن تختلف بعض مظاهر الشخصية بين المدينة والأخرى وبين المدينة والريف وبين الدلتا والصعيد بشكل أوضح. وبالمناسبة من هم أهل الصعيد؟ جغرافيا من جنوب الجيزة إلى أسوان، لكن صفات الصعيدي الجاد: الرجولة والعصبية والحمية والثأر على سبيل المثال قد تكون أظهر ما يكون من المنيا حتى الأقصر وإسنا، بينما تقع بني سويف في ظل القاهرة الكبرى والفيوم فريدة بما فيها من تراكيب الواحة حيث بعض سكانها بدو متريفين.
وتستحق محافظة أسوان أن نفرد لها أسطرا؛ لأنها قد تمثل لنا مرحلة أولية من مراحل تاريخ اندماج الجماعات العديدة في أطر الشخصية المصرية. هنا في أسوان - على ضيقها الزراعي والعمراني، نتيجة البيئة الطبيعية - نجد الشخصية تتفرد بين الجعافرة والصعايدة والعبابدة والنوبيين؛ لأن هذه المجتمعات ما زالت تعيش جنبا إلى جنب دون أن تذوب معا؛ لظروف شديدة الخصوصية على رأسها استمداد الأصول من طبقة الأشراف بين الجعافرة الحسينية والحسانية، وبدو العبابدة الذين استقروا ما زالوا يستمدون تفردهم من وحي البداوة السابقة والتجارة مع شمال السودان، والصعايدة سكنوا معظم منطقة كوم أمبو بعد استصلاحها وتركيز زراعتها حول اقتصاديات قصب السكر ومصنعه. ويمثل النوبيون - من كنوز وعليقات وفديجة - إضافة جديدة للسكان حول حوض كوم أمبو بعد تهجيرهم من بلاد النوبة التي غرقت بإنشاء السد العالي. وأخيرا فإن سكان مدينة أسوان يمثلون مزيجا تاريخيا يمتد آلاف السنين، وما زال يتقبل إضافات جديدة بحكم أنها أكبر مركز عمراني في جنوب مصر، وبحكم التجارة المستمرة مع السودان قرونا طوال - شاركها في ذلك مدينة دراو مركز العبابدة التاريخي التجاري - وحاليا فإن السياحة هي صناعة أسوان الأساسية؛ لأن بيئتها فريدة ساحرة: حيث النهر المندفع في زرقة يمشط أمواجه الزبد الأبيض بين الجزر الجرانيتية الداكنة والرمال الحمراء على البر الغربي ترتفع في بهاء تتوجه قباب، وفنادقها العائمة، و«بولفار» الكورنيش الجميل ممشى تحت أشجار عين تحفة للناظرين، وأجمل فنادقها «كتراكت» بألوانه البنية وأفاريزه البيضاء يفترش مع «تراسه» الجرانيتي أجمل بقعة تطل على النيل الخالد، والأشرعة البيض لمئات الفلايك تغدو وتروح كالحمائم فوق هذا الفيض من البهاء والبهجة ذات الألوان.
فالحقيقة الأولى أن اختلاف التاريخ لأي جماعة يساوي اختلافا في تكوين أسس الشخصية حتى لو كان هذا التاريخ سطحي أو عميق، شفاهي أو مكتوب. والموضوع الأول: هو أن تراكيب مجتمعية معينة، وشخصيات تاريخية هي التي تبدأ بالتغاير بين مجموعة وأخرى حتى لو تجاورت مكانا في ذات القرية أو الإقليم.
فقصص قبيلة العبابدة وأبطالها القدامى والمحدثون تختلف تماما عن قصص مجموعة الجعافرة وعن قصص الهوارة وقصص العرب في جنوب مصر. هذه القصص تمثل الروابط التي تؤدي إلى استمرار بعض الفواصل بين مجموعات من الناس يعيشون على نفس الأرض ويمارسون الفلاحة، أو ريادة الصحراء، أو الاتجار فيما يهم السياح من سلع وبضائع بعضها كنوز حقيقية وغالبها مصنع على النسق الفرعوني للاتجار ... وسكان الصعيد الأوسط منقسمون أيضا بين تراث الفلاح المجيد وبين تراث القبائل الغربية كالجوازي والفرجان والباسل التي دان لسطوتها الفلاحون قرونا ثم نفضوا عنهم ذلك التراث، وأصبح النموذج المحتذى هو الحصول على درجات من العلم تصل بهم إلى المناصب المرموقة بديل التباهي بالأصول الماضية. ونفس القصة نجدها في قنا بين الفلاحين - العرب - والهوارة، وكذا في المحافظات المتاخمة للصحراء من الفيوم والجيزة إلى البحيرة والشرقية.
إذن التعليم هو مبدأ التغيير في بلورة الشخصية. ولكن إلى جانب ذلك هناك عوامل أخرى على قدر من الأهمية: من بينها التجنيد العسكري وهجرة العمل في دول البترول العربية. فالتجنيد يؤدي إلى ارتباط المجند برباط محكم مع زملاء له سواء كانوا من نفس المحافظة أو من غيرها. وهو مثل التعليم في مراحله العليا حيث يختلط الطلبة ببعض من أصول مختلفة من مصر. هنا يعمل الالتحام الطوعي للأفراد على أن يكونوا أكثر تقبلا للغير من مجرد الالتجاء إلى النسب.
أما هجرة العمل فتؤدي إلى تفتح على آفاق أوسع بحكم العمل مع شخصيات متعددة الثقافات من عرب الخليج ومن المهاجرين من الهند وباكستان وإيران وفلسطين ولبنان وسوريا ومن أوروبا وأمريكا. وحين يعود المهاجر يكون قد اكتسب - إلى جانب المدخرات المالية - بعضا من الثقافات قد تضيف إلى الريف والمدينة تنوعا ثقافيا وشخصية شبه دولية مما قد يجعلهم قنطرة للعبور إلى عالم غير تقليدي وسط عالمه التقليدي السابق .
لكن هناك أيضا الشخصية التي تنبني على الوضع الاجتماعي، ومن ثم هناك ثقافة الفقراء وثقافة الأغنياء وفيما بينهما ثقافة الطبقة الوسطى التي تميل للانحدار والتفكك بين صعود بعضها إلى الطبقة العليا وسقوط غالبها إلى الطبقة الدنيا. لا يحدث هذا دفعة واحدة بل بدرجة كبيرة من التدريج وبالكثير من التدرج بحيث لا تظهر على السطح كظاهرة اجتماعية. ولا ينقضي وقت طويل حتى يفقد المجتمع ثقافة التوازن بسقوط الطبقة الوسطى واضمحلالها وتصبح كفتا الميزان بين ثقافة الطبقة العليا والطبقة الدنيا، وإن كان جاه التعلم والتوظف في مناصب حاكمة يحفظ للطبقة الوسطى بقية وجود. ولكن بميزان المال فإن وجود الطبقة الوسطى ربما هو أقل من بعض أفراد من الطبقة الدنيا، كما يحدث انتقال مالي مادي لبعض أفراد من الطبقة الدنيا إلى ثقافة العليا بدون مؤهلات سوى التغير المرتقب للجيل الجديد من أبناء تلك الطبقة. هل هم ال «نوفوريش» كما كان يطلق على أغنياء الحرب؟ أم هم بحكم قدرات أهاليهم وقدرات تعلمهم جزء جديد يضاف للطبقة العليا؟ وفي كلتا الحالتين نحن أمام متغيرات في السمات الثقافية وبالتالي في الشخصية. (1-5) تغيرات الاقتصاد والشخصية
في الماضي غير البعيد كانت هناك شخصية الريف بكل ما يعنيه الريف من قيم وأحكام. صحيح أنه كانت هناك تفاوتات ولكن كان يعبر عنها بجملة توضح أسس الشخصية الريفية ألا وهي «الأرض عرض»، بمعنى أن ثقافة الريف كانت لصيقة بما يملكه الشخص من الأرض حتى لو كانت ملكية قزمية. كان مجتمع القرية بصورة عامة مجتمعا متساندا ليس فقط في مظاهر المشاركة في الأفراح والأحزان ولكنه متساند بحيث يعطي الغني إمكانات عمل للفقير، أيا كانت أقوال الناس عن الاستعباد وغير ذلك من المصطلحات «الديماجوجية» المدوية فإن التساند هنا هو تماما مثل التساند الرأسمالي، حيث يتيح صاحب المصنع للبروليتاريا مجال عمل غالبا بخسا مهما كان نوع ما يؤديه من عمل ماهر أو غير ماهر. ومثل ذلك كثير في مجتمع الماضي والحاضر حيث يعمل الناس في أجهزة الحكومة والقطاع العام والخاص من شركات صناعية وتجارية وهيئات خدمية على نفس القيم لا أقل ولا أكثر؛ أي إن الأجور هي محددة تعسفيا من قبل الإدارات الحكومية ومجالس إدارات الشركات المساهمة وأصحاب المال في الأعمال الصغيرة، وعلى الموظف أو العامل أن يقبلها أو يرفضها بضمانات أو بدونها. صحيح أن في مجتمعنا بعض ضمانات للعاملين بينما لا توجد مثل هذه الضمانات بالنسبة للفلاحين. ولكن في الحالتين يجد العامل في الشركات والريف نفسه عاطلا في معظم الأوقات.
وكان لدينا إلى وقت قريب مثل شائع منطوقه: «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه.» لكن لم يعد لهذا المثل أي معنى لدى الكافة فقد سقط مدلوله وحل محله اتجاه إلى العمل في مؤسسات وهيئات تضمن أجورا شهرية غير منقطعة إلا في حالات الإفلاس، أو مؤخرا في حالات تخصيص وبيع الشركات العامة التي لا يلتزم فيها الملاك الجدد بالتزام كتابي حول توفيق أوضاع العاملين، ولكنه في الحقيقة يعني فصلهم مع بعض التعويض. وربما يكمن السبب في ذلك إلى تحديث آلات المصانع وعدم الحاجة إلى أعداد كبيرة من العمالة التي كانت ضرورة في ظل نظم الإنتاج القديمة. وفي أحيان تغيير الصفة الأساسية للشركات من إنتاج إلى آخر، وبالتالي تحدث تصفية عمالة.
التوازنات المجتمعية بإجمال يصيبها كثير من عدم التوافق باستمرار كإحدى آليات المجتمع النامي الذي يسعى إلى التحديث من خلال النظم المختلفة، وإن كان ذلك أشيع من خلال المنظومات الرأسمالية المحلية والمتعولمة. كثير من السلع والمنتجات تنخفض قيمتها وهي التي لم يعد الناس في حاجة لها؛ لأن سلعا أحدث قد أزاحتها من العرض في حين ترتفع أسعار المعروض الجديد.
وكل هذا يحدث مع ذبذبات تميل في مجموعها إلى ارتفاع الأسعار، وهو ما أفقد التوازن بين الدخول والأجور وبين منتجات سلع الحياة. وإلى أقل من نصف قرن كان الموظف أو العامل الذي يتقاضى 30 جنيها شهريا يعتبر ميسور الحال، وحينما ارتفع سعر كيلو اللحم إلى جنيه واحد شاعت النكتة أن فلان مرتبه 30 كيلو لحم وآخر 20 كيلو! وهكذا عبرت هذه المقولة عن اهتزاز كبير في توازنات الحياة. ولست أدري ماذا يفعل الناس لتدبير احتياجاتهم من الخبز اليومي بعد أن استبعدت اللحوم من المائدة معظم أيام الأسبوع أو الشهر. وماذا عن مصروفات التعليم والدروس الخصوصية ومصاريف الانتقال بالباص والميكروباص بعد أن فقدنا الترام، ومصاريف الملبس المتجدد الموضه، وفاتورة الكهرباء بعد إدخال قيمة رفع «الزبالة» على الفاتورة، رغم أنها ما زالت ترفع فعلا بواسطة المحترفين السابقين مقابل أجر يدفع لهم أيضا ...
ومهما قيل أو حدث من رفع الأجور والمرتبات بأي نسبة فإن مجرد إطلاق شائعة ما، في هذا المجال ترفع أوتوماتكيا أسعار السلع الضرورية للحياة، بحيث تزيد عن الزيادة المرتقبة أضعافا فينطبق عليها القول الشائع «كأنك يا أبو زيد ما غزيت!» (1-6) تجلي الشخصية المصرية
كل هذه المتغيرات المجتمعية الاقتصادية لها أصداء على الشخصية المصرية العامة التي قد تظهر في «الشدة» كتكاتف الناس في إعانة أهالي ضحايا عبارة البحر الأحمر، أو تساند مجتمعي في قضية استقلال القضاء. فليس كل من ساندهم وعركته عصي الشرطة متآمرا ضد الحكم بل هو مد شعبي غالبه غير منظم. فالشدة هي التي تلم الناس، وبالتالي فإن الشدة هي التي تبرز الشخصية المصرية وتدفعها للتساند وتحمل هراوات الجنود. هوية الشخصية هنا كثيرة الدوافع والأسباب بعضها منظم من قبل الأحزاب، ولكن غالبها ينطلق من أسباب شخصية ترى أن هذه معركة من يستند إلى الحائط، ولم يعد هناك ما يخسره نتيجة ضيق الحياة التي تأخذ بالخناق في أشكال شتى أبرزها حرية التعبير عن الرغبة في التغيير. والقضاء هو الفيصل بين الظلم والعدل. وقديما ما زال القول المعلن على اللافتات: «العدل أساس الملك (أو الحكم)»، فإذا انهارت هذه المعتقدات، فأين المفر؟ في الزمان القريب كان الأزهر وشيوخهم مركز القوة - لاعتبارات كثيرة من بينها أنهم كانوا رجال القضاء - في مواجهة الاحتلال الفرنسي ... وضد الإنجليز وقف الأزهر والكنيسة والمثقفون معا في سيمفونية رائعة، وضد استبداد الملكية وقف المثقفون على اختلافهم من رجال دين وعلمانيين وقفة أهلت مصر لمتغيرات عبر بها شباب الجيش إلى إنهاء النظام الملكي عام 1952. هذه كلها مواقف الشدة التي تظهر فيها بجلاء الشخصية المصرية بقوة دماء جديدة في الماضي والحاضر. (1-7) الشخصية بطيئة الانفعال
الشخصية المصرية ربما تكون بطيئة الانفعال ولكنها تبرز بقوة حين وقت الحسم فتفاجأ المراقبين وتذهلهم بعد أن كانوا يعتقدون أن الشعب خانع خائف مستسلم. هذه هي سمة الشعوب في العالم مكانا وزمانا. فالثورة الفرنسية لم يتصورها أحد بهذا الشمول والقوة والتمادي في الديموقراطية الفجة غير المنقاة غير المنظمة. لكنها ثورة تجمعت خيوطها على مهل كما فوق كم حتى اكتمل الانفعال، فانقض مدمرا واحدة من أعتى الملكيات وأقواها وأغناها وأكثرها ترفا ونزقا. صحيح أن نابوليون وجيشه ومارشالاته قد حول الجمهورية إلى إمبراطورية، لكنها لم تعش طويلا فعادت ملكية البوربون بعد سقوطه بين 1815 و1848، ثم عادت الجمهورية لكن الرئيس نابليون الثالث استغل رئاسته وحولها إلى ملكية 1852 حتى سقطت الملكية نهائيا في فرنسا في 1870.
ومثل هذا الثورة البلشفية في روسيا القيصرية ثم أجلت الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة ظهور مفاسد «أولجارشية» النظام الذي أصابه الوهن لطول مدد الحكام. ثم انتقل الوضع إلى سياسة المصارحة، بالإضافة إلى تداخلات ومساعي الدول الغربية لإسقاط المعسكر الشرقي تدريجيا بدأ من بولندا وألمانيا الشرقية، مما أدى في النهاية إلى تفكك الاتحاد السوفيتي نفسه كنهاية للحرب الباردة بانتصار الغرب. ولكن الخبراء يرصدون في الآونة الأخيرة بوادر حرب باردة بين روسيا وحلف الأطلنطي بسبب التنافس على شرق أوروبا وبخاصة بولندا والغزل الغربي لأوكرانيا، لكن هذه المواجهة لا تظهر بقوة بسبب انغماس أمريكا في حربها التي لا تستطيع منها فكاكا مشرفا في أفغانستان والعراق والموقف تجاه إيران، وبقية منطقة الشرق الأوسط في سوريا ولبنان وفلسطين وإسرائيل.
لسنا بسبيل المقارنة لكننا بالمعرفة نصبح أقدر على تبني أساليب أقل حدة في معالجة الضغوط التي يتحملها الناس، فليس من مصلحة مصر حدوث ردود فعل عنيفة: مخزون الطعام اليومي محدود ومليء بالثغرات والشهوات وأطماع التجار الكبار، ومصير الحركة والانتقال داخل مدينة مختنقة كالقاهرة سوف يخنق الجميع، والأحزاب كلها لا تستطيع ضبط الأتباع والمؤيدين وأولئك من الطغمة التي يشار إليهم حديثا بالبلطجية. وحتى التنظيمات القوية الملتحفة بالدين لا تستطيع السيطرة على كثير من الاندفاعات التي تعربد ما حلا لها نشاطها المدمر أن تفعل ذلك!
المفروض التعقل من كل الأطراف، ففي أوقات الشدة سوف تظهر الشخصية المصرية مرة أخرى ويمكن أن تصبح أداة فاعلة إذا نالت حرية التعبير واطمأنت إلى العدالة الاجتماعية والعدالة القانونية والعدالة التشريعية. وإذا كانت التعددية سمة المجتمع بغض النظر عن اختلاف الاتجاهات الحزبية والجماعات المختلفة، فإن الكل سيتأسس على أن مصلحة مصر أعلى من مصلحة الحزب. وبالتالي فإن حق السماح بتداول السلطة هو الملاذ حتى لا تركد في الماء الآسن وتنذر بشرر ولو مستصغره. (1-8) نحن والعولمة
كل هذا واجب قومي يجب أن يعرفه ويتداوله كل المهتمين من الأحزاب ومؤيديهم في ظل العولمة التي تشكل هاجسا كبيرا لدى الناس، لعدم المعرفة الدقيقة بحقيقة تداخلات العولمة في النسيج الاقتصادي المصري، ومن ثم تتضارب المفاهيم بين النقيض والنقيض. فنحن نعيش فعلا داخل العولمة ولسنا في موقف اختيار أو معارضة. فاقتصاديتنا الرئيسية هي جزء من نسيج معولم: البترول والغاز الطبيعي وقناة السويس والسياحة والقمح والقطن والسكر والشاي والبن وصناعة الدواء ... إلخ.
لكن لا يزال لدينا رصيد من الإنتاج غير معولم كالخضر والفاكهة والأرز، وربما الذرة وصادرات السلع الزراعية البيولوجية، وجانب كبير من أعلاف الماشية وصناعة المنسوجات القطنية وصناعة الملابس والأسمنت، وبعض المنتجات الكيمائية ... إلخ، وهنا تبرز حدود مخططاتنا القومية في القدرة على التوفيق بين الاستهلاك المحلي وبعض الفائض للتصدير. علما بأن الشعار العالمي الآن هو «أنا أصدر إذن أنا موجود
Vendo ergo sum »، على نسق الشعار القديم للفيلسوف ديكارت «أنا أشك إذن أنا موجود
Cogito ergo sum ».
أما منبر معارضة العولمة ورفضها فهو بالأساس قائم على الحفاظ على العناصر الحضارية في مصر وغير مصر: اللغة والدين والأعراف والأسرة والسلوكيات وأحكام المجتمع في الزواج والطلاق، بل أيضا في تباين الزي فليس لدينا لباس قومي كالهند أو بعض أفريقيا. وستظل هذه العناصر محك تجربة فردية وجماعية حسب الانتماءات الإيديولوجية والمعتقدات، إلى أن تثبت مناسيب وسط تسمح بتداخلات أعلى أو أدنى من المتوسط - تماما كما يحدث الآن.
من خلال كل هذه التفعيلات - التي نرجو أن تمر سلميا على المصريين - سوف تعاود الشخصية المصرية الظهور بوضوح بحيث تكون عاملا فاعلا في الإبقاء على الحوار البناء بين الجميع مع شعور الانتماء لجميع المصريين، ومن ثم ظهور مصر كقوة واضحة الشخصية في مجالاتها الإقليمية والعالمية. (2) سلوكيات المجتمع ومنظومة القيم
لكل مجتمعات الدنيا في الماضي والحاضر أطر من القيم ونسيج من السلوكيات المتسقة داخل إطار القيمة مما يشكل في النهاية تقاليد وأعرافا وقوانين تدين أي سلوك أو تصرف خارج الإطار القيمي العام. لكن كانت هناك متغيرات مجتمعية اقتصادية سياسية تقود غالبا إلى غزوات وحروب، وكلها تؤدي إلى بعض الحركة والحراك الاجتماعي خارج الإطار القيمي بحيث يحدث التغير برغم مقاومة المحافظين للحفاظ على الموروث من السلوكيات والقيم التقليدية. وبعبارة أخرى فإن أطر القيم في الحضارات ليست خالدة بل يعتريها التغير من آن لآخر، وإن احتفظت ببعض الميراث متداخلا مع العناصر الجديدة في تراكيب جديدة.
وعلى هذا فإن التغير في القيم والأطر الحاكمة قد يحدث بالتدريج نتيجة تراكمات كمية تستمد جذورها من الداخل، نتيجة اكتشافات في جوانب الحياة الاقتصادية ومجالات استخدام أشكال جديدة من الطاقة. أو قد يحدث تغير قيمي سريع شبه انفجاري نتيجة تداخلات ثقافية حضارية تأتي من مجتمعات وقوى خارجية تتخذ صورة صراع الحضارات الذي حدث مرارا وتكرارا في تاريخ البشرية على مدى ثلاثة آلاف سنة على وجه التعميم. فقبل ذلك كانت المجتمعات صغيرة العدد متقوقعة في توزيع جغرافي شبه منعزل يتغير ببطء من الداخل مع قليل من الاحتكاك بالعوالم خارج عالمها الخاص، لا يعلمون عن بعضهم سوى صور ضبابية تسيطر عليها الأسطورة: فالسكان الأخر لهم أشكال جسمية ولغات وثقافات غريبة يحسن اتقاؤها، كأنهم ليسوا من البشر كقصص الملاح الغريق من العصر الفرعوني، أو مغامرات سندباد البحر والبر في العصر الإسلامي، أو رحلات جاليفر بين الأقزام والعمالقة في العصر الحديث.
ومنذ نحو ثلاثة آلاف سنة بدأت بعض المجتمعات في تشكيل ممالك وإمبراطوريات بعض سماتها الغزو والتوسع وإشاعة أفكار وعقائد وثقافة جديدة، وبخاصة الفارسية والإغريقية والرومانية، ودول الخلافة في دمشق وبغداد واسطنبول وانتهاء بإمبراطوريات الاستعمار الأوروبية، وأخيرا المساعي الإمبراطورية للهيمنة الاقتصادية والسياسية الأمريكية الأوروبية التي تتخذها صورة العولمة المعاصرة.
وتمر مصر منذ نحو قرن في مراحل متغيرات قيمية متتابعة تسارعت في نصف القرن الأخير بحيث سقطت بسرعة كثير من السلوكيات السالفة، وحلت محلها سلوكيات أخرى ولكن بدون تشكيل قيمي جديد واضح. ولهذا فإن التضارب السلوكي في أداء المجتمع أصبح شيئا مثيرا للبلبلة والشكوك حول الأداء المجتمعي: ماذا يروم وإلى أين يتوجه؟
ماذا نقصد بالمجتمع والأداء المجتمعى؟ المجتمع هنا هو كل الناس وكل التشريعات والقوانين والأجهزة الإدارية والحاكمة. والأداء المجتمعي هو التفاعلات التي تحدث بين كل مكونات المجتمع إيجابا أو سلبا. وبرغم الفصل بين هذه المكونات إلا أنها تترابط وتتشابك وتتأثر وتؤثر بعضها البعض، بحيث قد يكون أداء الناس بالتأييد أو المعارضة، رائدا ودافعا إلى التغيير التشريعي أو التنفيذي والعكس صحيح. هذا مع اعتبار أن هناك فاصلا زمنيا بين المؤثر والتأثير، أي يتأخر التشريع فترة في استجابته للمؤثرات النابعة عن الجهاز التنفيذي، أو نابعة عن الضغط الذي تمارسه قوى محلية ذات مصالح. ومن ناحية أخرى فهناك مقاومة من الناس أو من الجهاز القضائي لقوانين تصدرها الأجهزة الحكومية، مما يؤدي إلى تأزم المواقف أو تراجع القوانين وتعديلها.
وفي خلال مثل هذه الاصطراعات والتغيرات تطلق شعارات قيمية معظمها غامضة كالدعوة إلى قيم الريف أو إلى مصداقية الفعل للقول أو الشفافية. هذا علما بأن الشعارات لا تصبح قدوة قيمية بمجرد إطلاقها، فالقيمة القدوة للمجتمعات تتولد من ذات المجتمع وتتحكم فيه بالممارسة الحرة والتوارث الاجتماعي إذا ظلت الأمور الاقتصادية الاجتماعية مستقرة، مثل استقرار الاقتصاد المصري طوال قرن على القطن والصناعات المرتبطة به. ولكن التغيرات التي صاحبت الاقتصاد المصري في نصف القرن الماضي نبعت من ترتيبات وأفكار إلى ترتيبات أخرى مغايرة المضمون: من تجارب شكل من الاشتراكية والملكية العامة إلى عودة الرأسمالية والخصخصة؛ أي من نقيض إلى آخر، وهو ما أدى إلى حدوث بلبلة قيمية وسلوكيات متغايرة في فترة قصيرة. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعداه إلى مضمون النشاط الاقتصادي. فالانفتاح على أموال خارجية ذات اتجاه أكثر إلى تجارة الاستيراد مع صناعات حديثة بعضها تجميعي لمكونات من الخارج كالسيارات وبعض الإلكترونيات، واستثمارات أكثر في عالم السياحة، كلها وقفت على طرف آخر مختلف عن أشكال الإنتاج الزراعي والسلعي الصناعي السابقة، بحيث أصبح هناك شبهة انفصال بين الإنتاج الجديد والقديم أدى إلى هبوط ملحوظ في الاستثمار الزراعي الصناعي التقليدي المحلي المنشأ، بحيث ظهرت بوادر ركود في هذه المجالات السابقة.
وحتى الاهتمام بتوسيع رقعة الاستزراع خارج الوادي والدلتا حظي بالكثير من اهتمام الدولة واستثماراتها، بينما تراكمت مشكلات الأراضي الزراعية القديمة في جوانب كثيرة على رأسها ضعف التربة ومشكلة ارتفاع منسوب الماء الباطني ونظام الري بالغمر، وزيادة تكلفة الإنتاج بفاتورة متزايدة القيمة للأسمدة والبذور، وأخطرها ضعف التسويق ووقوع الفلاحين في حلزون هابط من القروض الائتمانية من البنوك الزراعية. وبعبارة أخرى فإن منظومة الاقتصاد الزراعي أصبحت خليط من ممارسات قديمة وحديثة بين الأراضي القديمة والحديثة في نمط الري والتسميد والبذور والمحاصيل والتسويق، لكن سلوكيات الفلاح العامل لم تتغير في كلا الحالتين.
وليس بوسعنا تتبع عوامل كثيرة تسبب تغيرات الأداء المجتمعي والقيم السائدة. وربما كان أهم العوامل تغير قيمة المال من مقوم حياتي اجتماعي اقتصادي في معظمه إلى ما يقرب من شهوة الحصول عليه بأيسر الطرق وأقلها اتساقا مع قيمة العمل. ليس معنى هذا أن المال لم يكن يلعب دورا هاما في الماضي أو الحاضر. فهذا شيء لا ينكره أحد. ولكن الحصول على المال في ظل القيمية السالفة لم يكن يحدث غالبا إلا من خلال العمل داخل إطار القانون السائد، ومن ثم كان نادرا أن تحدث الوسائل التي نراها اليوم بين بعض النافذين في «انتهاب» الأموال من البنوك بدون الضمانات والمتابعة القانونية إلا فيما بعد الافتضاح، أو تكوين أرصدة شخصية من العمولات غير المشروعة والرشوة لتسهيل أعمال غير مطابقة للمواصفات المطلوبة في أي مشروع. وغاية ما أتذكره أن أحد الوزراء فيما قبل 1952 اشتهر عنه - بحق أو ظلما أو مبالغة - أنه كان يرحب بالعملاء باستخدام الرقم الذي يريده لتسهيل أو تمرير العطاءات كأن يقول: «يا تلتمية أهلا أو مرحبا» - يعني 300 جنيه ... إلخ. أما الآن فإننا نقرأ اتهامات وأحكاما قضائية بمئات الملايين أو بالمليارات. ونقرأ عن وزراء ومحافظين ومستشاري وزراء ورؤساء هيئات وإدارات وغيرهم كثير توجه إليهم اتهامات الفساد والرشوة واستغلال النفوذ، وأقلها الاتهام بإهدار المال العام. وبعض هؤلاء هربوا للخارج يمارسون رغد العيش بما حصلوه من أموال بطرق غير مشرفة. القصد أن تغير سلوكيات الحصول على الأموال هو السبب في مثل هذه الجرائم التي تنحدر وتجد طريقها إلى صغار المسئولين فيطولهم الفساد بأقدار مختلفة.
الفساد واحد قديما وحاليا ولكن شيوعه على مناسيب متعددة يجعل الناس يتساءلون عن بعض القيم التي كانت سائدة، كالشرف والذمة والأمانة واحترام الذات واحترام الناس ... إلخ. هل هذه القيم ما زالت قائمة وفعالة، ولهذا توجه الاتهامات للمنحرفين عن المتعارف عليه من القيم والشرائع والقوانين التي تسند وجودها؟ أم هناك قيم جديدة تريد فرض نفسها كبدائل لقيم عصر مضى؟ إن التساؤلات في هذا المجال تطرح نفسها بقوة على الفقهاء والمشرعين، وقد نحتاج إلى صياغات أخرى تأخذ في الاعتبار مقتضيات العصر. ولكني أرجو ألا يفهم أن أي طرح جديد يمكنه الاستغناء عن قيم إنسانية مارستها أجيال متعاقبة تسعى إلى العدالة للجميع وتحمي حقوقهم وتوفر للذات الإنسانية التوقير والاحترام.
مثلا في مفهوم الرأسمالية إن قروض البنوك هو عمل ضروري للمستثمر وتشغيل لأموال الأفراد المودعة في البنوك. فهي إذن ممارسة وسلوك متفق عليه وجاري العمل به. وليس المطلوب التوقف عن القروض؛ لأن أخطاء قد حدثت نتيجة لانتهازية البعض في استمراء القروض لتكوين ثروة من العدم وتهريبها، أو أن آخرون جانبهم الصواب في تقدير علاقات الإنتاج والسوق، مما أدى إلى فشل مشروعاتهم. فإذا ضيقنا الخناق قد تتحول البنوك إلى صناديق آمنة لوضع أموال لا تتحرك ولا تربح.
وفي نهاية الأمر، وعلى الأغلب، سوف تتكون مفاهيم منظومة أخرى غير المنظور الرأسمالي الحالي في إدارة الأعمال، خاصة مع العولمة القادمة والتجارة الحرة شكلا مع التخصيص الإنتاجي والاستهلاكي لأقاليم العالم في العقود القليلة القادمة.
أطلنا قليلا في موضوع المال؛ لأنه لا يمس أداء الدولة فقط، بل ينصرف إلى سلوكيات وقيم العمل لدى الأفراد أيضا، حيث أصبح الإحساس بقوة المصالح الشخصية أعلى من المصلحة العامة. وقد يتمثل ذلك بوضوح في التهرب الضريبي من جانب الأفراد، كما يتمثل في فرض مستمر لضرائب جديدة تثقل التوافق بين الرواتب المجمدة والاحتياجات المتنامية للأسرة، نتيجة تداعيات الترويج لأشكال جديدة من السلع الاستهلاكية، وبالتالي حلزون متصاعد من التضخم وهبوط قيمة العملة مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات.
أشكال الانحراف الناجمة عن عدم التوافق هذه كثيرة. وكمثال على ذلك قضية الدروس الخصوصية التي عجز عن حلها الوزير تلو الآخر. وهي تكاد تشبه في الشكل وليس المضمون توظيف حارس العمارة براتب محدود على أن يحصل باقي احتياجاته من السكان في صور شتى من الشهرية إلى خدمات أخرى. فرواتب المدرسين في المدارس العامة والخاصة محدودة وقليلة الحوافز ولا تنمو إلا بالكاد، ولا تفي قطعا احتياجات المعيشة. ومما لا شك فيه أن المدرس القدوة الذي قال عنه أحمد شوقي «قم للمعلم وفه التبجيل.» أصبحت قيمة من تراث الماضي. كنا في الماضي نحترم المدرس أشد الاحترام، ولكن التلميذ يرى في المدرس الآن أجيرا بمال أبيه، فكيف يكون التبجيل والاحترام؟ وفي الماضي كان التلميذ الذي يأخذ دروسا خصوصية يخشى افتضاح أمره بين زملائه، بينما العكس صحيح الآن. ولهذا سقطت قيمة المدرسة كعامل مساند للأسرة في تربية النشء.
المجانية في التعليم قيمة عظيمة تتيح تكافؤ الفرص أمام الجميع. لكن المجانية في واقع الأمر انتهت لكثرة نفقات الدروس الخصوصية. كما أننا فقدنا هدف التعليم فأصبح طريقا ذو اتجاه واحد من الابتدائي إلى الجامعة. لقد كان لذلك مبررات منذ نصف قرن حين أطلق طه حسين قوله المأثور: «إن التعليم كالماء والهواء.» لكننا بالغنا في الهدف فعظمنا الشهادة الجامعية على غيرها من أشكال التعليم المهني، ففقدنا المهنة وفقدنا نوعية خريج الجامعة . والآن تزخر مصر بالعاطلين من خريجي الجامعات. فما أحوجنا إلى فهم قيمة التعليم في الجوانب المهنية والعلمية على أنهما ضرورة لبناء مجتمع سوي. لهذا فالتعليم المجاني «بحق» لا يجب أن يتعدى نهاية المرحلة الإعدادية. وما بعد ذلك من مراحل تعليمية يجب أن يكون متاحا بمقابل سواء الثانوي الفني أو العام. الغرض من هذه المداخلة أن نستعيد قيمة التعليم كمنتج حقيقي لاحتياجات الفرد والمجتمع. أما المجانية في التعليم الثانوي والعالي فيجب منحها للمتفوقين فقط، وبذلك يصبح للتفوق قيمة تدعو إليه. لقد تحولت الدراما الحالية في التعليم إلى تراجيديا تمس كل الأسر المصرية عند بلوغ أبنائها شهادة مرحلية، وبخاصة الثانوية العامة التي أجريت عليها تجارب وجراحات وما زالت في طور العناية المركزة. لا يوجد في العالم مثل هذه المأساة التي تنبع عن قصور في فهم قيمة التعليم وأهدافه المجتمعية.
والأسرة تكاد تفقد هي الأخرى وظيفتها في التنشئة نتيجة عوامل كثيرة. وربما حل محلها قيم عنف مستمدة من وسائل إعلام أقواها التلفزيون، ومن أصدقاء السوء والسقوط في بؤرة المخدرات. وكذلك تتهاوى قيمة الأسرة نتيجة رفض الشباب لأشكال الحرمان من السلع الاستهلاكية التي تملأ السمع والبصر، فينجذبون إلى تجمعات التطرف والهوس تحت شعارات عديدة متناقضة كالحرية الفردية أو إصلاح المجتمع بوعظ قتال. ولهذا نرى جرائم لم تكن تخطر على بال ولا تحدث حتى في عالم الحيوان. فكيف يقتل أو يتآمر فرد على قتل أب أو أم أو أخ من أجل حفنة نقود؟ طبيعي أن هذه حالات محدودة، ولكن دلالاتها أنها تحدث فهي نقلة قيمية يجب تدارسها بعمق حتى لا تستشري كنمط وقيمة جديدة.
ومن المشكلات الأخريات الشيء الكثير نسوق بعضا منها كسلوكيات مرفوضة وإن كانت واقعا مريرا. فالتسيب في حركة المرور صار مشكلة المشاكل التي تستجدي حلا دون كثير جدوى نتيجة إمعان الناس في فوضى المرور وفقدان الردع الفعال. وقانون إقامة الجراجات في العمارات والنوادي «مضروب» عيانا بيانا لا تلاحقه المجالس المحلية للمدن والأحياء، كأن القانون شيء وتنفيذه شيء آخر! والتعدي على نهر النيل مسلسل مستمر حتى صار مجرى ضيقا ضعيف التيار يراه الناس بحزن شديد حسرة على ما كان عليه من قوة واتساع وجمال. ولو جاء الشعراء الذين امتدحوه بالأمس لأنكروا اليوم أن يكون هذا هو النيل المتدفق «من أي عهد في القرى» كما قال الشاعر. والتعدي باسم التجميل والتطوير على المدن والأحياء التاريخية، وهي أمور تنافي كل وسائل الحفاظ على التاريخ. والعشوائية الفكرية والتنفيذية والتعتيم هي وسائل من أجل حصول المصالح الخاصة على منفعة كموضوع جزيرتي الوراق والدهب. والسحابة السوداء تلصق فقط بقش الأرز بينما المساهم الأكبر هو سيارات الحكومة والأفراد المتهالكة، تنفث من الغازات والأكاسيد ما يفوق قش الأرز وكذلك حصار القاهرة بأدخنة المصانع والمسابك والورش في شبرا الخيمة وطره وحلوان والتبين، بحيث أصبح جو القاهرة الكبرى مصدرا خطيرا للقلق الصحي.
وباختصار ظلت القيم الأخلاقية والاقتصادية الاجتماعية والصحية معلقة كشعارات، لكن تعتريها ممارسات وسلوكيات عشوائياتها أكثر من كونها منظومة شاملة.
وليس القصد من هذا الموضوع التشاؤم والبكاء على الأطلال، لكن القصد أننا مررنا بفترة طويلة نسبيا من التغيير القيمي دون أن نرسي بدائل تتماشى مع المتغيرات سريعة الإيقاع حولنا وفي داخلنا. ومن ثم سادت تصرفاتنا الاجتهادات التفسيرية والبلبلة الفكرية نتيجة فقدان مرجعيات قيمية جديدة. وإن بقيت بعض هذه المرجعيات فإنما هي بعض قيم دارسة في صورة قالب عام نتمسح به، ونلجأ إليه كشعارات مريحة في الأزمات كالشرف والعدالة والحق دون محتواها الكلاسيكي.
فالحق أننا نحتاج إلى تدبر حقيقي لفاعلية قوانين وتشريعات تتناسب مع المتغيرات الراهنة في منظومة القيمة والسلوك. فلا شيء خالد وكل شيء إلى تغيير. (3) نماذج من ممارسات غير محبوبة (3-1) الأستاذ الجامعي والوزير
الترقي في الوظائف والمراكز الاجتماعية لا ينتهي حيث ينتهي التأهيل التخصصي للناس كما هو الحال في العالم المتقدم. فعلى سبيل المثال المدرس الجامعي ينتهي عادة عند درجة الأستاذية. قليل منهم من يصبح عميدا لكلية أو رئيسا لجامعة. لكن الطموح زاد بحيث أصبحت السلسلة الطبيعية للترقي لا تنتهي ولا تتوقف. فلا شك في أنه في البلاد النامية وفي ظل حكومات التكنوقراط يحتاج الأمر إلى وزراء ورؤساء وزارات يختارون من بين أساتذة الجامعات بحكم تخصصهم الدقيق. وهذا هو الشيء عندنا.
لكن هناك ملاحظات على ذلك أهمها أن الأساتذة في قاعات الدرس بين الطلبة وفي المعامل والمكتبات بين المراجع وكتابة البحوث وإجراء التجارب ونشر التقارير العلمية، أو رئاسة الأقسام وعمادة الكليات شيء، وبينهم كوزراء يسوسون عمل وزارة بين فطاحل المتمرسين في العمل الحكومي المكتبي والعصبيات «الشللية» في الوزارة شيء آخر. ففضلا عن جدة العمل على الوزير الأستاذ، فهو قد اعتاد منطق العمل العلمي المتأني الذي لا يصل إلى تقرير أفضلية ما بالسرعة التي تتطلبها احتياجات العمل اليومي في الوزارة. ومن ثم قد يستغرق وقتا في التعرف على طبيعة العمل التنفيذي في وزارة تضم آلاف العاملين من مختلف الوظائف والمؤهلات في القاهرة، وفي فروع الوزارة ومكاتبها ضمن الهياكل الإدارية للمحافظات من أسوان إلى سيناء.
وبعد فهل ينجح الوزير الأستاذ كما ينجح الوزير القادم من تحت السلاح في نفس الوزارة؟ الوزارة عمل سياسي بالأساس، والأستاذ أكاديمي بالطبع والتطبع. بعض الأساتذة الوزراء تطبعوا بالعمل الوزاري بمضي الوقت. والسؤال الملح هو هل يصبح الأكاديمي مستشارا؟ وهل تكون الاستشارة دائمة أم محددة بقضية معينة؟ تطبيق مثل هذا النمط من الاستفادة من الأكاديمي الاستشاري تساعد بدون شك على بقاء الأستاذ منشغلا بالعلم الذي تمرس فيه طيلة حياته العملية، وتساعد الوزارات باستشارات مدروسة لا توضع على الرفوف. هذه قضية يمكن أن نأخذها في الحساب الدقيق كي تسير الأمور كما نود أن تكون.
في العالم الغربي لا نجد سلسلة الترقي التي وصفناها في العالم النامي. بل منتهى أمل الأكاديمي أن يصبح «السيد الأستاذ» فقط أو يصبح رئيسا لقسم علمي. أما عمادة الكلية ففي غالب الأحيان تصبح دورية بين الأساتذة لمدة سنة واحدة، وبالتالي فهي ليست مطمعا أو مطمحا. وكذلك على النمط نفسه يصبح منصب رئيس الجامعة غير مطمح. فالكثير من الأساتذة يعزفون عن مثل هذه المناصب؛ لأنها تشغلهم عن أبحاثهم أو عن قيادة فكرية في عالم المؤتمرات والندوات التي تملأ الحياة الجامعية. كما أن مناصب العمادة والرئاسة غالبا ما تتضمن أعمالا روتينية يستطيع مسجل الكلية أو الجامعة إجراءها ضمن اللوائح والقواعد المرسومة والمتبعة بدقة وحيدة غير بيروقراطية. لو طبقنا هذا بالتدريج فأغلب الظن أن الدولة سترفع عن كاهلها عناء البحث عن عميد أو رئيس جامعة، مع الأمل أن تتحول الجامعة إلى وحدات حلقاتها الأساسية، هي الأقسام العلمية المسئولة عن التطور المرغوب في عالم تتغير فيه المعرفة بسرعة تفوق البنية العلمية في ظل الهيراركية الحالية. (3-2) شباب البورصة وشيوخ الجامعة
ذكرني الاستجواب المثير في مجلس الشعب التي نقلت وقائعه بالتلفاز ونشرتها الصحف حول البورصة، وسوق المال، وإهدار المال العام، ومرتبات شباب غض بآلاف الجنيهات، ذكرتني هذه المناقشة الحامية وتوابعها الحالية من مساءلات وإجراءات قانونية، بقانون الجامعات الذي أقره مجلس الشعب على عجل ومر دون توابع، برغم أنه حول مكافأة الأساتذة غير المتفرغين الذين أفنوا حياتهم في مدرجات الجامعة، يبنون الشباب علميا وثقافيا وفكريا من نحو 1500 جنيه إلى مجرد 190 جنيها، بعد استقطاعات غير مفهمومة لمكافآت مفروض أنها غير خاضعة لأية استقطاعات.
أي منطق هذا الذي يحيل مكافأة لأستاذ أقل من مكافأة عمال غير مهرة من أدنى الرتب! ويضاف هذا إلى معاش تقاعد ضئيل أقل من ألف جنيه (على الأغلب بين 600 و800 جنيه)، وتعويض أشبه بإعانة العجزة من الصندوق الاجتماعي في الجامعة بما قيمته 600 جنيه، فيصبح دخله الصافي بين 1300-1500 جنيه شهريا، بعد أن كان بين 2100 و2500 جنيه. وحتى هذا الرقم متواضع لا يفي باحتياجات حياة كريمة لأستاذ كبير السن والمقام، ولا يكفي متطلباته الصحية بحكم السن الذي يحتاج فيه إلى رعاية طبية عالية التكلفة بنسبة لا يوفرها التأمين الصحي. هل تكريم الأستاذ اقتطاع أم زيادة في المرتب والمكافأة - أم أنه ينطبق عليه القول الشائع: «آخر خدمة الغز ...»
قيل: إن القانون الجديد يوفر للدولة نحو خمسة ملايين جنيه سنويا نتيجة خفض المكافأة، فهل هذا التوفير - إذا صح - يساوي تكريم أستاذ عانى ما عاناه وأصبح ناضجا علميا؟ ولأنه ليست له أطماع إدارية بحكم القانون فهو غالبا كالحكيم العجوز يتصف بالرأي الموضوعي في مجلس القسم. لكنه لم يعد عضوا في مجلس القسم حسب القانون الجديد، وبالتالي افتقد زملاؤه الأصغر وتلامذته خبرة سن ربما جنبت بعض مزالق.
قيل أيضا: إن القانون الجديد يفتح الباب لشباب الأساتذة. فهل كان في قدرة الأساتذة كبار السن إغلاق الباب أمام الشباب؟ وإلا فكيف ترقى الشباب في مراتب الجامعة إلى درجة الأستاذية؟ أليس بواسطة أساتذة أكبر منهم؟
العلماء لا يبلغون سنا للتقاعد إلا عندما يتوقفون عن أي شكل من أشكال الإضافة العلمية: كتابة بحث أو الإسهام في بحث، أو إصدار كتاب أو مراجعته، إشراف علمي على الدارسين لمراحل الماجستير والدكتوراه، إسهام في تنمية الأقسام التي ينتمون إليها، تقديم استشارات تطلبها منه هيئات وأجهزة حكومية وخاصة، وغير ذلك كثير. أما أن يتساوى الأستاذ الباحث مع غيره من موظفي الدولة من مديرين وفنيين وإداريين في سن موحد للتقاعد، فهذا هو اللامعقول في المؤسسة الجامعية. بل إنه غير ممارس في الجامعات الأوروبية والأمريكية، حيث الحكم هو رغبة الأستاذ في التقاعد وليس بلوغه سن معينة. كما أن التقاعد لكبر السن غير ممارس في بعض الوظائف المصرية - ربما غير الحكومية - كعضوية مجالس إدارات البنوك والصحف على سبيل المثال.
الاستجواب المثير في مجلس الشعب ، وضعنا في كفة الميزان مع شباب حديث التخرج يتقاضون في البورصة أضعافا مضاعفة قدر مكافأة الأساتذة الذين علموهم، بادعاء وتبرير أنهم خبرة نادرة؟ فمن أين أتت الخبرة ومتى وكيف وكل علامات الاستفهام؟
لسنا ضد الشباب، فللأساتذة أبناء شباب يتمنون لهم وللجيل القادم كل الخير. والخبرة الطويلة للأساتذة علمتهم أن لكل جيل دور لا ينازعه فيه أحد، وإن كان الشيوخ يشيرون على الشباب إذا طلبت منهم المشورة والحكمة. ولكن الرواتب والمكافآت يجب أن تكون متناسبة مع قدر الدخول في مصر. بمعنى أنه إذا كان متوسط الدخل العام في مصر مثلا ألفي جنيه، فكيف يرتفع الراتب أو ينخفض عن هذا المعدل كثيرا؟ الرواتب سبب الاستجواب هي غالبا عالية جدا؛ لأن أحدا من المسئولين لم ينكرها صراحة. فإذا بدأ بعض الشباب في البورصة وغيرها بمرتبات كبيرة فكم نتوقع لهم من رواتب خلال مدة خدمتهم الطويلة؛ 30 ألفا أو50 ألفا، أو أكثر، وحين يصبحون «خبراء» فعلا كم ستكون رواتبهم ومكافآتهم وعضويتهم «المجاملة» في كثير من مجالس الإدارات ولجان متعددة، شأنهم في ذلك شأن التقليد الممارس حاليا!
ملاحظة: بعد نحو سنتين من تطبيق هذا القانون أحيل القانون إلى محكمة عليا - لعلها الدستورية - التي حكمت ببطلان القانون وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه بالنسبة للأساتذة غير المتفرغين الذين كانوا قبل صدور القانون يتقاضون المكافأة الأعلى. أما الأساتذة المتفرغين الذين يبلغون سن السبعين فيما بعد فيطبق عليهم المكافأة الأدنى. وبعبارة أخرى فقد حدث اختلال في المكافآت بين أساتذة غير متفرغين قدامى ومحدثين. صحيح أن هذا الاختلال سوف يزول بمضي السنين، ولكن مجرد وجود فئتين من هؤلاء الأساتذة فيما يختص بقيمة المكافآت هو أمر قانوني يثير العجب! فهو نوع من المصالحة بين أوضاع كانت قائمة وبين قانون جديد مر على عجل.
ويدعونا هذا الموقف وغيره للتساؤل مرة ومرات هل هذه قيمة تكريم المجتمع لأساتذته في شيخوختهم؟ لقد طالبت الجامعات بتطبيق كادر القضاء على الأساتذة دون جدوى. وحتى ما بقي من بعض تميز أزاله القانون الجديد. أليس من الواجب الآن المطالبة برفع مكافآت الحالية من 190 إلى ألف جنيه كتقدير وتكريم؟! (3-3) مشكلة جزيرتي الوراق والدهب
أثار قرار اعتبار الجزيرتين أرض منفعة عامة عاصفة من الاحتجاجات من قبل 30-40 ألفا من المواطنين ساكني الجزيرتين ويعملون بهما منذ عشرات السنين. وحسب ما قرأته فإن قرار الحكومة باعتبارهما أرض منافع عامة بني على مقولة أن الجزيرتين قد ظهرتا بعد السد العالي؛ أي منذ 30 سنة! وحتى لو كان ذلك القول أمر حقيقي فإن حق وضع اليد للمزارعين والساكنين ينطبق بالتمام والكمال، ويصبح المطلوب توفيق أوضاعهم مع وزارة الزراعة أو غيرها، دون المساس بهذا الحق.
ولكن مقولة أن الجزيرتين تعودان إلى ما بعد السد العالي مقولة يجانبها الصواب تأسيسا على وجود الجزيرتين على خرائط المساحة المصرية 1-10000 جزيرة الوراق في لوحة روض الفرج رقم (3) من لوحات مدينة القاهرة صادرة سنة 1929، وجزيرة الدهب على اللوحة (9) الجيزة والروضة من خرائط القاهرة ونفس المقياس وصادرة 1929، كما تظهر أيضا على اللوحة (11) مصر القديمة وساقية مكي وصادرة عام 1934. ومعنى ذلك أن الجزيرتين مأهولتان تمارس فيهما زراعة الحقل والأشجار والعمران القروي منذ 72 سنة على الأقل، حسب سجل رسمي تمثله خرائط مصلحة المساحة المصرية الحكومية. والغالب أن هناك خرائط أقدم في مكتبة مصلحة المساحة المصرية.
على أية حال ادعاء أنها أرض منافع تدحضه الخرائط الصادرة عن المساحة التي هي أعلى جهاز موضوعي في مصر. وربما أضيفت هذه الحقيقة إلى مواقف يدعم أحقية الأهالي بالشراء أو التوريث أو وضع اليد. ولعل في وزارة الزراعة ما يثبت ذلك أيضا.
وقد أعلن رئيس الوزراء أنه لا مساس بالحقوق القائمة، فكيف يتفق ذلك الإعلان مع القرار الوزاري أن الجزيرتين أرض منافع؟ وربما يكون توصيف المنفعة العامة منطبقا على الأرض التي أضيفت نتيجة هبوط مستوى النهر بعد السد العالي حول الجزر، وهي بدون شك أراض هامشية وتخضع لحق الشفعة باعتبارها امتداد لملكية مجاورة، وهو حق معمول به كالقانون تماما. وعلى أي الحالات فالحكم في ذلك يرجع إلى الصور الجوية أو أي مساحة أجرتها المساحة المدنية بعد، 1970 حيث ستتضح حقيقة ومساحات الإضافات إلى الجزر وفيما إذا كانت أرض شفعة أو أرض جزاير حسب المتبع في مصر قبل السد العالي.
ما الحكمة في إثارة هذه الزوبعة؟ هل هي التخوف من إقامة عشوائيات؟ وإذا كان ذلك فلماذا لم تمنع السلطات الوزارية المسئولة تلك العشوائيات البشعة المتنامية أمام أعيننا حول الطريق الدائري في المرج وشبرا الخيمة وإمبابة والجيزة فوق أرض زراعية منتجة؟ أين وزارة الإسكان والتعمير والمرافق العامة، وأين وزارة الزراعة وقوانينها التي تمنع البناء على الأرض الزراعية خارج الكوردون العمراني للمدن والقرى، وأين محافظات القليوبية والجيزة والقاهرة وأجهزتها التنفيذية في إزالة المخالفات؟ أين كل هؤلاء من تلك العشوائيات التي ما زالت تبنى حول الطريق الدائري فتهدر قيمته؟
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نمنع عشوائيات في الجزر ولا نمنع غيرها ؟ أليست هناك حقوق ملكية تحترمها الدولة؟ أم هل الغرض إزالة السكان والمزارع وتحويل الجزيرتين إلى أماكن سياحية بالمعنى الذي نمارسه؛ فنادق ومطاعم وملاه كلها من فئة النجوم الخمسة؟ لماذا تجميل الهدف بتوصيف غير مطابق للواقع؟ لماذا لا نتصارح بالغرض الحقيقي أيا كان، ثم تدفع تعويضات حقيقية لآلاف المواطنين، أم أن ادعاء أنها أرض منافع سوف يسهل للحكومة الحصول عليها بأقل القليل من التعويضات؟! (4) نموذج سلوكيات يحتذى
جمعيات خيرية ومؤسسات غير ربحية
ليست كل القيم في مصر مهدرة أو في حالة تفسخ ووضع غير مفهوم. بل هناك بعض بارقة أمل في ظهور مؤسسات وجمعيات خيرية لا تسعى للربح، بل إن سعيها غالبه هو إلى تضميد بعض الجروح في المجتمع بعيدا عن تحميل الأجهزة الحكومية الكثير من العنت التي قد لا تقدر على الاستمرار فيه بنفس قوة الخطوات الأولى.
القصد من هذا الموضوع هو طرح الفروق بين الجمعية الخيرية والمؤسسة التي تقام لأغراض خيرية أيضا بدون قصد الربح
non-profit foundation . في الحالتين؛ المنفعة العامة لغير القادرين هي موضوع الناس، الذي من أجله أنشئت الجمعية أو المؤسسة. المنفعة العامة موضوع يحتوي على أشكال عديدة من احتياج الناس. ومن هذه الاحتياجات ما يصيب الناس فقراء وأغنياء على حد سواء من بحثية. المزمنة أو الحرجة كالسرطان والأورام والإيدز، أو أمراض خلقية كالإعاقة الذهنية - تخلف عقلي - أو الإعاقة الذهنية والحركية معا - حالات قصوى من التخلف القعيد بدون قدرة على أي حركة للجسم والأطراف.
وثمة احتياجات أخرى اجتماعية تعليمية ومهنية أو وقائية أو علمية بحثية. وفي بعض هذه الاحتياجات تظهر الفروق في التراتب المجتمعي المهين بين قمة الغنى والوفرة وحضيض الفقر والعوز والفاقة، وبخاصة في احتياجات التعليم والتأهيل المهني واتباع تعليمات الوقاية بأشكالها الصحية والغذائية والتوالد السكاني. أما الاحتياجات العلمية والبحثية فهي للنخبة المؤهلة لذلك العمل، لكنها قد تفتقر إلى التجهيزات اللازمة لإجراء البحوث، أو أن دخل مثل هؤلاء الأفراد من التواضع بحيث تؤدي ببعض المؤهلين إلى التماس مواصلة الحياة في وظائف تكاد تمنعهم من إجراء البحوث، وبالتالي يفقد المجتمع بعض المتميزين في المجالات البحثية التي هي أساس التقدم أو مواكبة ابتكارات الزمن.
الفرق بين الجمعيات والمؤسسات الخيرية؛ أن الأولى تمولها التبرعات التي يهبها الخيرون من الناس مرة أو تكرارا، بينما الثانية لها دخل ثابت من مخصصات مالية وعقارية رصدها واحد أو أكثر من الأشخاص أو شركات كبرى صناعية أو تجارية تخصص للمؤسسة المعنية أموالا وممتلكات دائمة أو نسبة مئوية قد تصل إلى 10٪ من مبيعاتها السنوية لتدير بها شئونها الخيرية. كما تتقبل المؤسسات منح وهبات ضمن شروط معينة يتبرع بها آخرون لتدعيم أنشطة المؤسسة وزيادة فعاليتها. وعلى هذا فإن الجمعيات الخيرية التي تقوم فقط على التبرعات قد تعاني من نقص أو تدفق التبرعات سنة عن أخرى، مما قد يؤدي بها إلى ثبات النشاط الخيري وعدم قدرتها على زيادة فعاليتها، بل إنه في حالات قد يؤدي إلى الانكماش وتحول إدارة الجمعية إلى أيد أخرى حكومية أو أهلية؛ ولهذا فإنه من المستحسن أن تكون لدى الجمعية أرصدة مالية عاملة أو ممتلكات عقارية تزودها بدخل شبه ثابت يعوض الذبذبة في كم التبرعات السنوية.
ولقد عرفنا في مصر منذ زمن بعيد نظام الوقف الخيري لصالح نشاط جمعية في مجال ما من مجالات خدمة المجتمع. وأظن أقدمها كان مارستانات العصر المملوكي - أشهرها قلاوون والمؤيد شيخ - حيث يعالج المرضى بشيء كثير من العناية والإخلاص المهني والإنساني، وربما على هذا النسق كانت مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية على نيل العجوزة - تعود إلى الربع الثاني من القرن الماضي - ومبرة محمد علي في مصر القديمة. ولست أعرف ماذا صارت إليه الأمور بعد إلغاء الأوقاف والجمعيات في النصف الثاني من القرن الماضي، أغلب الظن أنها تحولت إلى مستشفيات حكومية أو هيئة عامة لوزارة الصحة. وكذلك كانت هناك جمعيات خيرية في مجال التعليم، كمدارس الجمعية الخيرية أو رقي المعارف التي أصبحت مدارس حكومية على المنوال نفسه التي جرت عليه الأمور في النصف الثاني من القرن الماضي. وكانت هناك أوقاف خيرية من أطيان زراعية لدعم البحوث العلمية. والمثال الذي أعرفه جيدا حالة الجمعية الجغرافية المصرية التي تواجه الآن أخطار مافيا انتهاب الأراضي الموقوفة عليها، برغم أنها أوقاف خيرية وليست أهلية، وبالتالي لا يصح التصرف فيها. وإذا تمكن المدعون من الاستيلاء على هذه الأوقاف، فإنه مما لاشك فيه أن الجمعية الجغرافية سوف يهددها الانكماش بعد نحو قرن ونصف قرن مجيدة من النشاط العلمي المشهود له عالميا!
أكتب هذا الموضوع بعد زيارة قمت بها مؤخرا لمقر «جمعية أصدقاء الغد المشرق» الكائنة في مدينة السلام على أول طريق بلبيس الصحراوي. وهي جمعية خيرية أنشئت 1989 وبنت مقرها الكبير الحالي في 1997. وهي - كغيرها من الجمعيات المماثلة - ترعى ذوي الاحتياجات الخاصة ذهنيا، ولكنها ربما تتميز بأن بها قسما خاصا للمعاقين ذهنيا وحركيا، وهي مهمة صعبة في حاجة إلى كفايات طبية وفكرية واجتماعية عالية ومتفانية في العمل الإنساني.
وفي مصر جمعيات خيرية تقوم بواجبها الإنساني في ظل ظروف صعبة، وبخاصة نقص التمويل مما يؤدي إلى الكثير من الدعوة إلى التبرع بشتى وسائل الإعلام، وبالأخص على التلفزيون مثال ذلك مستشفيات الأورام والأطفال وغير ذلك كثير.
وهذا يقودنا إلى التفكير الجاد في تحويل بعض هذه الجمعيات الخيرية إلى مؤسسات خيرية، بمعنى أن تكون الدعوة لا للتبرعات المرحلية فقط بل إلى وقف أملاك وعقارات وأرصدة دائمة للمؤسسات، بحيث تضمن استمرارها في أعمالها الخيرية دون اهتزاز مصادرها المالية. فالمؤسسات ليست في حاجة فقط إلى أبنية وتجهيزات وعمالة مخلصة لنخبة من الأخصائيين، بل يجب أن تكون هناك من الموارد ما يسمح بتحديث التجهيزات المعملية وترتيب عمالة دائمة مدفوعة الأجر. فالعامل تبرعا قد لا يحاسب كالعامل الدائم، كما أن هناك طاقة لفعل الخير لا يمكن قياسها على مدى زمني طويل. إذن المؤسسة هي بنية ذات قوام متكامل، وبالتالي أكثر ثباتا ودواما من الجمعية الخيرية. وليس الغرض أن تتحول كل الجمعيات إلى مؤسسات خيرية أو شبه خيرية، فلكل مهام ومواصفات لا يستغني عنها المجتمع المدني خاصة في البلاد النامية التي نحن منها بدون جدال.
هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن للمؤسسات الخيرية وشبه الخيرية مجالات عمل أخرى غير الجوانب الصحية على كثرتها. فهناك جمعيات تعطي إحسانا للمعوزين من كبار السن الذين لا عائل لهم. وهناك مؤسسات من أجل تحسين الغذاء وتقليل كثير من أمراض سوء التغذية، وأخرى للتوعية بشئون البيئة، وثالثة للمساعدة في التعليم الأساسي والمهني، ورابعة لمساعدة طلاب الدراسات العليا، وأخرى لشئون المرأة بعضها مصري النشأة في أمريكا وبعضها آسيوي وبعضها ديني، ومؤسسات للأمراض المميتة كالإيدز دولية الانتشار في أفريقيا وأمريكا وأوروبا. ومؤسسة فورد
Ford foundation (تأسست 1936)، هي من أكثر المؤسسات انتشارا وذات اهتمامات متعددة في أنحاء العالم، ومؤسسة سيفيكوس
Civicus
التي تهتم بشئون المجتمع المدني في قارات عديدة. وثمة مؤسسات تابعة لبعض الجامعات، وبخاصة في أوروبا لمعادلة شهادات أوروبا الشرقية، والمساعدة في توظيف الوافدين حسب تأهيلهم العلمي والمهني وذلك إثر دخول دول أوروبا الشرقية في عضوية الاتحاد الأوروبي. ومن بين أشهر المؤسسات الأوروبية أغاخان، وفان لير الهولندية، ومؤسسة الملك بودوان البلجيكية، ومؤسسة بنك السويد الوطني، التي تعطي منحا كثيرة للبحوث في مجال الإنسانيات وغير ذلك الشيء الكثير.
كل هذه المؤسسات تنفق مليارات الدولار والجنيه واليورو من أجل تحقيق معادلة المجتمعات والمساعدة على تقليل الفروق الكبيرة بين العالم المتقدم والنامي. ومما لا شك فيه أن هناك لوائح وقوانين ولجانا حكومية استشارية لمنع تضارب المؤسسات في مهامها واختصاصاتها. هذا فضلا عن أن الأموال المخصصة لمثل هذه المؤسسات هي خاضعة للإعفاء الضريبي أو ما يشبه ذلك.
ونحن في مصر في حاجة إلى مثل هذه المؤسسات، وحري بكبار الرأسمالية المصرية أن تنشأ على نحو مماثل وعلى مقياس مصر مؤسسات في شتى الاتجاهات التي يحتاجها مجتمعنا. هل نجد في مستقبل قريب مؤسسات تحمل أسماء مؤسسيها في الصناعة والزراعة والبيئة والسكان والتعليم وسلوكيات الفندقة والسياحة، وإرشادات الحياة في المدن بعد هجرة الريف غير المنضبطة، بدلا عما نقرؤه عن أشكال الفساد والتهرب من الضرائب وتهريب الأموال للخارج؟ (5) قضايا التراث: على هامش ندوة علمية (5-1) دعوة ملحة لحماية جذور الحضارة المصرية
إذا كانت «مصر هبة النيل» كما قال هيرودوت، فإن «مصر هبة الصحراء» أيضا، كما يؤكد علماء ما قبل التاريخ في معهد هاينريخ بارت في جامعة كولن بألمانيا، الذين يقومون بدراسات مضنية منذ سنوات بحثا عن أركيولوجيا الحضارة في مصر الصحراء، في الفترة من خمسة إلى عشرة آلاف سنة مضت قبل أن تتحول إلى الصحراء التي نعرفها الآن.
في شهر مارس الماضي نظمت هيئة اليونسكو بالقاهرة، وبالتعاون مع هيئة المساحة الجيولوجية المصرية ندوة علمية أشبه بالمهرجان الرصين، في قاعة رشدي سعيد المجهزة للندوات والمؤتمرات على أفضل ما يكون، بعنوان «تراث حضارة مصر فيما قبل التاريخ». وقد شارك في الندوة كوكبة من العلماء المرموقين من المصريين والأجانب، ولمعظمهم دراسات ميدانية وحفائر تمتد إلى أكثر من ثلث قرن في الصحاري المصرية. قدم الندوة وأدارها د. سمير رياض عن اليونسكو، وشارك د. رشدي سعيد الجيولوجي المصري ذو السمعة العلمية العالمية، ود. أبو الحسن رئيس المساحة الجيولوجية بكلمات ترحيب وثناء على المجهودات الجادة لهؤلاء العلماء الأجلاء، في خدمة التعريف بحضارات ما قبل التاريخ التي تعتبر الجذور الأساسية التي منها استمدت الحضارة الفرعونية أصولها.
هذه البحوث المضنية في قلب الصحاري لا تفصح عن مكنوناتها إلا بالجهد المعرفي والتنظيم الإداري والمالي الجيد، والشراكة الفعلية في أحسن صورها بين المحافل العلمية المصرية والأجنبية، وأخيرا العلماء المتميزين بالرغبة في كشف مصادر الحضارة الإنسانية في مصر.
فإلى جانب ما تقدمه الهيئات المصرية من إمكانات مادية وانتقال ومعيشة وعلماء ومعامل، هيئات مصرية متخصصة على رأسها هيئة المساحة الجيولوجية، وهيئة الاستشعار عن بعد، وهيئة الآثار المصرية، إلى جانب بعض الجغرافيين الجيمورفولوجيين والجيولوجيين المتخصصين، إلى جانب هؤلاء هناك العديد من الهيئات العلمية الأجنبية التي تشارك في هذه الأبحاث، نذكر منها أكاديمية العلوم البولندية، وجامعة لوفان البلجيكية، وجامعة المثودست في دالاس بالولايات المتحدة، وجامعة روما بإيطاليا، وجامعة كولن بألمانيا، وجامعة تورنتو بكندا، والمعهد الأركيولوجي الألماني بالقاهرة، والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة.
وهذه الصورة من التعاون العلمي الجاد والمضني في آن واحد تعيد إلى الأذهان المشاركة والتعاون العلمي والمادي العالمي، أثناء إنقاذ آثار النوبة قبل بناء السد العالي في أوائل الستينيات. ولكن الصورة فيما يختص بحفريات ودراسة حضارات ما قبل التاريخ، هي أقل إعلاما بالقياس إلى حالة النوبة، بحيث لا يكاد يعرفها سوى المهتمين بأصول الحضارة في وادي النيل سواء في مصر أو السودان.
حقا إن إنقاذ آثار النوبة اشتمل على نقل معابد وتماثيل ضخمة كأشياء مادية ملموسة مدون عليها سجلات التاريخ التي لا تقبل الشك إلا فيما ندر. وفي مقابل هذه الفخامة والضخامة نجد أن حفريات وبحوث ما قبل التاريخ لا تشتمل على مثل هذه الضخامة من الأبنية والمنحوتات الرائعة. وبرغم ذلك فإن هذه البحوث تكشف صفحات من حياة الحضارة مطوية وغير معروفة جيدا، وتبين أن حضارة مصر الفرعونية لم تنشأ من فراغ، وإنما بجهود وئيدة على مر خمسة آلاف سنة قبل أن تشرق الحضارة الفرعونية بعظمتها وزهوها الذي أثار العجب والدهشة على مر الزمن، لدرجة أن بعض غير المتخصصين زعموا أن هذه الحضارة المصرية وافدة من كوكب آخر، وليست نبت إنسان أرض النيل وجهده المستمر المتصل طوال هذه الآلاف من السنين.
والبعض الآخر يدعي زورا أن اليهود - كعبيد في مصر - هم الذين شاركوا في بناء الحضارة المصرية، وخصوا بالذات بناء الأهرامات على مثل هذه المشاركة. هذا مع العلم بأن اليهود - كمجموعة دينية - لم يظهروا إلا بعد خروجهم إلى سيناء في العصور الفرعونية المتأخرة، وأن من سبقهم كانوا قبائل من البدو تأتي أطراف الدلتا تستغيث من الجدب والظمأ، أو لتبادل حيواناتها بالمنتجات المصرية الزراعية شأنهم في ذلك شأن كل البدو الذين يأتون أطراف الدلتا والوادي على مر العصور قبل وبعد العبرانيين. والعبرانيون اصطلاح يصف المجموعة التي قبلت ديانة سيدنا موسى وخرجت من مصر وتاهت، وأقامت في الصحراء عدة عقود قبل أن تعبر نهر الأردن وتدخل فلسطين من الشرق، ومن ثم أصبحوا يعرفون باسم العبرانيين ومفردها «عبري» باللغات المختلفة. وللأسف الشديد إن إطلاق الأكاذيب سهل وليس لدى غالبية أبناء البشر قابلية التحقق، ومن ثم يبتلعون الكذب إلا فئة العلماء الذين يعرفون الحقيقة، ولكن ليس لديهم أبواق إعلامية كالكذابين!
وعلى أية حال فقد آن الأوان أن نعلن عن تلك البرامج البحثية كبرنامج عمل حضاري يبحث عن جذور قدر كبير من جهد الإنسان، للتعايش مع الظروف المناخية الملائمة منذ عشرة آلاف سنة، ثم انسحابه التدريجي إلى الأمان الذي يقدمه النيل الخالد نتيجة انكماش الأمطار وحلول الجفاف وتكوين الصحراء.
التمهيد المعرفي بالصحراء
المعرفة بالصحراء الغربية معرفة علمية جغرافية جيولوجية بشرية وحضارية تعود إلى عصر الكشوف الجغرافية المتأخر في أفريقيا. في القرن 18 وبتشجيع من محمد علي باشا كانت هناك محاولات من بعض الإيطاليين والفرنسيين، نذكر منهم بلزوني الإيطالي، وفردريك كايو الفرنسي، ودروفتي القنصل الفرنسي. وفي عصر الخديوي إسماعيل كان هناك مجموعة من الكشافين الجغرافيين والجيولوجيين الألمان، مثل جورج شفاينفورت وجوستاف ناختيجال، لكن أشهرهم وأكثرهم اكتشافا للصحراء الغربية وتوقيعا على الخرائط، كان الجغرافي جرهارد رولفس في رحلته المشهورة (1873) من أسيوط إلى بحر الرمال الكبير (حيث كادت البعثة أن تهلك لولا سقوط أمطار مصادفة)، ومن ثم إلى سيوة. وقد مول الخديو إسماعيل هذه الرحلة العلمية بأربعة آلاف جنيه (وهو مبلغ كبير آنذاك)، وكانت البعثة تضم علماء أخر مثل الجيولوجي كارل زيتل، والطبوغرافي فيلهلم يوردان.
ومنذ أول القرن العشرين بدأت المساحة الجيولوجية المصرية أعمالها الكشفية بباحثين وعلماء إنجليز منهم ليونز وجون بول وهيوم وبيدنل. وربما كان جون بول أشهرهم كرحالة وكشاف، وشارك الأمير كمال الدين حسين في رحلاته إلى جنوب الصحراء وهضبة الجلف الكبير. وكذلك شارك الهنغاري الكونت لاديسلاف دا المازي الأمير كمال في بعض رحلاته للجلف الكبير (1923). وللعالم الأثري أحمد فخري دراسات أثرية متميزة عن الواحات البحرية والفرافرة والخارجة.
وإلى جانب ذلك الأمير ورحلات الأمير عمر طوسون كان أحمد حسنين باشا أول رحالة مصري يعبر الصحراء من الشمال إلى الجنوب: السلوم إلى دارفور عام 1923، وكان بذلك أول من اكتشف علميا جبل أركنو وجبل العوينات في نقطة تلاقي حدود مصر وليبيا والسودان، وكان قد سبق له في عام 1920 أن شارك الرحالة الإنجليزية روزيتا فوربس من الساحل الشمالي إلى جغبوب والكفرة عام 1920، وكانت روزيتا تتسمى في تلك الرحلة باسم خديجة، وبذلك تمكنت من دخول الكفرة التي كان السنوسيون يحرمون دخولها على الأجانب وغير المسلمين. ولرشدي سعيد (مدير المساحة الجيولوجية 1968-1977) أعمال هامة منشورة عن جيولوجية مصر ونهر النيل والصحراء، وربما كان من أهم أعماله تنظيم برنامج الدراسة العلمية للصحراء الجنوبية، وهو البرنامج القائم حتى الآن.
ولم تكن روزيتا فوربس هي المرأة الوحيدة التي قامت بأعمال كشفية، فقد كانت هناك الهولندية الكسين تيني (الصحراء الكبرى 1869)، ودوروثي كلايتون (بحر الرمال والجلف الكبير 1932)، وفالتراود لاما (زوجة سمير لاما الكشاف المصري في منطقة الجلف الكبير 1946)، والهولندية أريتا باييتر (الفرافرة وبحر الرمال 1995)، وأخيرا كساندرا فيفيان التي بدأت اهتماماتها وأسفارها في الصحراء الغربية منذ 1978، ولها كتاب جامع نشرته الجامعة الأمريكية سنة 2000 باسم «صحراء مصر الغربية» بالإنجليزية.
حضارة ما قبل التاريخ
هذا التمهيد المعرفي الطويل بالصحراء الغربية والذي استمر قرابة قرن ونصف القرن قد ساعد بدون شك في بدء الدراسات الأثرية والحضارية. كانت الفيوم - وما تزال - منطقة جذب أولي وهام لتلك الدراسات باعتبارها بيئة تغيرت على مر زمن سجله الجيولوجي مدروس ومعروف، وسجله التاريخي مكتوب ومدون منذ العصور الفرعونية والإغريقية والرومانية والإسلامية.
وكذلك كان من الطبيعي أن تبدأ دراسة حضارات ما قبل التاريخ في مناطق الهوامش الصحراوية للوادي والدلتا ، ومن ثم كانت المنشورات العلمية عن حضارات العصر الحجري القديم في مناطق، مثل نجع أحمد الخليفة قرب أبيدوس في غرب محافظة سوهاج ويعود تاريخها إلى نحو مائتي ألف سنة، وآثار نزلة خاطر جنوب مدينة أسيوط التي تعود إلى نحو 33 ألف سنة مضت، وآثار مناطق الشويخات والمخادمة قرب قنا، والكوبانية جنوب إدفو وتعود إلى أكثر من 35 ألف سنة. وأحدث من هذا نجد بقايا حضارات عصر ما قبل الأسرات التي تعود إلى العصر الحجري الحديث وما بعده، مثل حضارة مرمدة بني سلامة في أقصى جنوب البحيرة غرب الدلتا، وحضارة الفيوم وحضارة البداري قرب أسيوط وكلها في حدود سبعة آلاف سنة مضت، ثم حضارة نقادة في غرب مدينة قنا 6000-4500 سنة مضت، ومنها انتشرت إلى باقي الوادي في أشكال متعددة ، وحضارة المعادي 5800 سنة ... إلخ.
وفي سيناء أماكن عديدة لآثار ما قبل التاريخ تكاد أن تتركز في ثلاث مناطق هي: سلسلة التلال الشمالية من المغارة إلى جبل لبنى وجبل حلال، وعين جديرات ومعظمها ترجع إلى العصر الحجري القديم الأوسط (60-35 ألف سنة مضت)، وواحدة تعود إلى عصر البرونز في المغارة بين 4800 و3800 سنة مضت. المنطقة الثانية: وادي جيرافي بين طابا والكونتلا وتعود إلى عصور متعددة من الحجري الحديث (8 آلاف سنة) إلى النحاس.
خريطة مواقع آثار ما قبل التاريخ في مصر
عن هيئة المساحة الجيولوجية المصرية وهيئة الاستشعار عن بعد وهيئة اليونسكو - فبراير 2004، انظر
ملحق الصور .
وفي الوقت الذي لم تحظ فيه الصحراء الشرقية بدراسات عن الحضارة - ربما لأن آثارها تقع تحت ظل الحضارة الفرعونية وما تلاها من عصور - فإن الصحراء الغربية قد حظيت بالدراسات المتعددة، ربما لأنها لا تنتهي جنوبا أو غربا، بل تقود إلى علاقات ما قبل التاريخ وعلاقات العصور التاريخية كلها من مصر إلى السودان وتشاد وليبيا وشمال أفريقيا.
وبطبيعة الحال تركزت الدراسات حول الواحات حيث توجد أقدم الآثار في الخارجة والداخلة وتعود إلى الحجري القديم الأوسط (140-40 ألف سنة)، وأوائل العصر الحجري الحديث (10-7 آلاف سنة)، ونهايات الحجري الحديث (7-4 آلاف سنة)، وربما كانت أقدم هذه الآثار في منطقة بلاط في شرق الداخلة. وفي الفرافرة نجد معظم الآثار تعود إلى أواخر الحجري الحديث، وكذلك الحال في سيوة. وفي الجلف الكبير آثار تعود إلى عصري الحجري القديم والحديث معا. وفي كل الحالات توجد آلاف مؤلفة من المنتجات الفخارية وكسر الفخار حسب صناعات وأشكال مختلفة. وفي أماكن كثيرة وبخاصة في وادي صورة في غرب هضبة الجلف الكبير رسوم على جدران الأودية لسيدات وصيادين، وأشهرها لوحة السباحين الرائعة. فعلى الأغلب كانت في تلك الفترة بحيرات - ربما موسمية حسب فصل المطر - تمارس فيها أنواع السباحة والقفز والغطس، كما توجد جداريات في منطقة كركر في منحدرات جبل العوينات تمثل قطعان الزراف وقوافل من الإبل وغير ذلك ...
أبحاث الندوة
تركزت أبحاث الندوة حول الجزء الجنوبي الشرقي من الصحراء الغربية ؛ أي تلك المنطقة التي تقع غرب أبو سمبل ومشروع توشكى بنحو 80 كيلومترا في حوض نبطه، وجبل الرملة شرقي طريق درب الأربعين التاريخي. والمنطقة مليئة بآثار عصر الحجري الحديث من واحة دنقل إلى صفصف وبير طرفاوي وبير صحرا.
وقد عرض الأساتذة علي مظهر (مصري)، وفرد ويندروف (أمريكي)، ورومولد شيلد (بولندي)، ورودلف كوبر (ألماني)، نتائج أبحاث عشرات المواسم بالخرائط والصور والأفلام. المنطقة كانت منذ نحو عشرة آلاف سنة تتلقى أمطارا صيفية تسمح بتكوين بحيرات موسمية في المنخفضات، ونمو الكثير من الأعشاب والشجيرات، ومن ثم كانت الحياة البرية والطيور كثيرة مما سمح للسكان بالاستقرار على ضفاف البحيرات وممارسة الصيد ورعي الأغنام والأبقار، وربما زراعة أنواع من الذرة الرفيعة لفترة امتدت إلى نحو خمسة آلاف سنة مضت، قبل أن يحل الجفاف التدريجي والهجرة شرقا إلى وادي النيل.
جمع الباحثون 127 نوعا من بذور النباتات بما فيها السرغم - نوع من الدخن والذرة الرفيعة - وخضروات وفواكه ودرنيات ربما غالبها ناجم عن تجارة البدل والمقايضة مع جماعات أخرى، غالبا على ضفاف النيل مقابل الأغنام أو الأبقار التي يرعونها. وعثر الباحثون على هياكل عظمية للإنسان في مختلف الأعمار وهيكل لبقرة صغيرة.
وربما كان واحدا من أهم الاكتشافات تلك الدوائر الحجرية التي تحيط بحجرين أو أربعة أحجار كبيرة موجه فلكيا تجاه الشمال، وبعضها تجاه مشرق نجمة الشعري اليمانية، ومن ثم يسود الاعتقاد العلمي أن هذه «النتيجة الحجرية أو التقويم الحجري» هي الأصول الأولى لعلم الفلك في العصر الفرعوني، وتشير إلى الانقلاب الصيفي، وهي الفترة التي كانت تسقط فيها بعض الأمطار الصيفية الأفريقية التي كانت تطول المنطقة وتملأ بحيرة المنخفض، ومن ثم يأتي الناس لرعي أبقارهم وأغنامهم. كما أن هذه المصفوفات الحجرية الدائرية التي قد ترجع إلى ثمانية آلاف سنة مضت، ربما كانت الأولى في العالم من أنواع الأبنية التي تخدم غالبا أغراضا فلكية ودينية قديمة. وهي بدون شك أقدم بنحو ألف سنة من الدائرة الحجرية الكبيرة في جنوب غرب إنجلترا والمعروفة باسم «ستون هنج
Stonehenge »، وإن كانت أحجار نبطه الظاهرة أقل حجما من مثيلها في إنجلترا؛ لأن الجزء المغمور تحت طين البحيرة القديمة كبير. ويؤكد الكثير من العلماء أن آثار نبطه هي أول ما عرفه الإنسان في دائرة المعارف الفلكية، ويسميها الأخصائيون «علم الفلك العتيق
Archaeoastronomy ».
دعوة لإنقاذ التراث
الدعوة المطلوبة مبنية على عدة أسس أولها: أن الصحراء الغربية تحتوي على أماكن أثرية لم تكتشف بعد، وربما نفقدها إلى الأبد إذا ما دخلت بعض المناطق ضمن مشروعات الاستزراع والإصلاح الزراعي في الواحات أو شرق العوينات. وثانيا: أشارت بعض الصور التي عرضت إلى أن مفيض توشكى يدفع خلال مواسم الفيضانات العالية بكميات كبيرة من المياه، تكون بحيرات مختلفة الأحجام في منخفض توشكى الطبيعي. وهذا المنخفض قريب من مناطق الآثار، وبخاصة حوض نبطه. والخشية أن تتسرب المياه الباطنية فتطمر مناطق الآثار ويضيع تاريخ إلى الأبد.
صحيح أننا في حاجة إلى مشاريع الاستزراع، وفي حاجة إلى درء أخطار الفيضانات العالية، ولكن المطلوب إقامة ما يمكن لتحويل مياه المفيض بعيدا عن نبطه وما حولها، وإجراء مسح أثري لمناطق الاستزراع شرق العوينات وغيرها، كي لا نهدم الميراث أثناء تلهفنا لإيجاد مجالات زراعية جديدة.
ويعرض البعض اقتراحا بتحويل منطقة الجلف الكبير وجبل العوينات - بالاتفاق مع ليبيا والسودان اللتان تشاركان مصر ملكية الجبل - إلى محمية طبيعية وحضارية؛ تحسبا للأضرار بما فيها من غنى أثري لا يعوض. فهل تستجيب الدوائر المسئولة في وزارات الري والزراعة والثقافة والبيئة بدراسة مشتركة للإبقاء على أصول التراث الحضاري؟ والمسألة في الحقيقة أكبر من الجهود المصرية وحدها، بل إننا نتساءل هل يمكن عقد اتفاق ثقافي شامل، بمشاركة هيئة اليونسكو، بين مصر والسودان وليبيا من أجل المحافظة على هذه المنطقة الأثرية الممتدة بطول حدود الدول الثلاث، لإفساح الوقت لمشروعات بحثية لمزيد من التنقيب والتقصي عن الجذور المشتركة لحضارة هذا الركن الشمالي الشرقي من أفريقيا. (6) قضايا جوهرية (6-1) التراث ليس ملكا لأحد
قرأت هذا الأسبوع في إحدى المجلات الأسبوعية القاهرية أن محمية الغابة المتحجرة - جبل الخشب - في شرق القطامية مهددة بالزوال، نتيجة التوسع العمراني لوزارة الإسكان في منطقة التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة. وحيث إن هذه الغابة الحجرية محمية طبيعية منذ 1989، فالمتعارف عليه ألا تمتد إليها يد بالتغيير أو الإفساد سواء كانت يد جهاز حكومي أو يد أفراد ممن ينتهبون الأراضي العامة، وهم كثر.
مساحة المحمية الآن ستة كيلومترات مربعة هي البقية الباقية من غابات كانت تمتد في العصر الجيولوجي المعروف باسم «الأولوجوسين» - منذ نحو 30 إلى 20 مليون سنة مضت - في شمال الصحراء الشرقية من القاهرة-حلوان إلى منطقة خليج السويس الحالية. وفي تلك الفترة كان المناخ في شمال مصر مطيرا مما سمح بنمو تلك الغابات التي ربما كانت ممتدة أيضا إلى شمال الصحراء الغربية، لكن تعاقب عصور الجفاف غالبا قد طمست معالم تلك الأشجار تحت تكوينات الرمال الكثيفة. وفي هذا العصر الجيولوجي كانت بداية ظهور الفيل بخرطومه المعهود حاليا، وظهور أوائل النسور والصقور في عالم الطيور.
المناخ - كما يعلم الجميع - ليس عنصرا بيئيا ثابتا على الدوام، بل هو يتغير من نقيض إلى نقيض تدريجيا على فترات زمنية طويلة، حسب مسببات ذلك الانتقال المناخي سواء كانت سريعة - عشرات آلاف السنين - أو بطيئة - مئات آلاف السنين - ومن ثم تعرضت أواسط أوروبا الحالية لمناخات مدارية وشبه استوائية منذ نحو 50 إلى40 مليون سنة. وتعرضت أوروبا وأمريكا الشمالية لمناخات جليدية متعددة منذ بضعة ملايين من السنين من الآن، ثم تحولت تدريجيا إلى ما هي عليه الآن مناخيا خلال قرابة المليون سنة الأخيرة. وبالمثل كانت صحاري مصر كلها تتمتع بمناخ أكثر رطوبة ومطرا - نسبيا - حتى نحو عشرة إلى ثمانية آلاف سنة من الآن، ثم حل الجفاف سريعا أو متباطئا خلال الخمسة أو الستة آلاف سنة الماضية، فتراكمت تكوينات الرمال التي نراها الآن على تكوينات أسبق من الرمال والصخور، بحيث أعطتنا صورة الصحراء الحالية.
إذا عدنا لموضوعنا فماذا تعني غابة حجرية أو أشجار متحفرة أو حفريات شجرية ونباتية أو حفريات لأشكال الحياة الحيوانية والطيور، إلى آخر ذلك من مصطلحات علمية؟ حين يحل مناخ جاف أو شبه جاف تموت الأشجار وتحل المعادن الصخرية المذابة محل أنسجة النبات، وبخاصة جذوع الأشجار فتبقى على الشكل النباتي، ولكن في صورة متحجرة. ومثل ذلك يحدث في عالم الحياة البيولوجية، ولكن غالبا في صورة انطباع كامل على وجه الصخر اللاحق.
لهذه البقايا الحفرية أهمية على جانب كبير عالميا؛ لأنها تعطينا مؤشرات عن جوانب الحياة على ظهر الأرض وتطوراتها المختلفة. هذه الحفريات الشجرية - والنباتية الأخرى وحفريات الأحياء - تهم علوم النبات ومنها يستدل على شكل المناخ السابق على تكوينها. وهي أيضا تهم علوم البيولوجيا؛ لأن لكل بيئة نباتية أشكالا من الحياة الديدانية والحشرية والحيوانية، حتى لو كانت الحفرية المكتشفة صغيرة تبدو قليلة الأهمية، ففي فترة لاحقة قد تصبح مفتاحا لأحد ألغاز الحياة. وتصبح القيمة المضافة للحفاظ على مثل هذه المحميات عالية لا تقدر بثمن قطعة أرض؛ لأنها تصبح - إذا ما درست من كل جوانبها - حلقة من حلقات المعرفة عن التغيير البيئي العالمي، تضاف إلى ما سبقها من معارف عن مناطق أخرى. وقد تساعد هذه المعارف أبحاث الفضاء في الكشف عن نماذج لأشكال من الحياة على كوكب مجموعتنا الشمسية، وبالأخص على سطح المريخ الذي هو الشغل الشاغل لتلك الأبحاث في الوقت الحاضر.
هذا فضلا عما يصيب الفرد المواطن من زهو وافتخار أن بلاده تقع على خريطة العالم المعرفية . تماما كما نعرفه حين نقول: إن محمية وادي الحيتان قرب الفيوم هي إضافة علمية قومية وعالمية في آن واحد، وتماما أيضا حين نزهو بحضارة مصر ذات الأغوار في العصور الفرعونية والمسيحية والإسلام.
ماذا تفعل وزارة الإسكان في محمية الغابة المتحجرة؟ ربما هي لن تمسها في الصميم وكل ما قيل: إنها تريد شق طريق وما يتبعه من بنية تحتية - مياه وصرف وكهرباء واتصالات - خلال المحمية من طرف إلى آخر. إلى هنا يبدو منطق التنمية العمرانية مقبولا. لكنا نعرف ونعي وندرك تماما أن شق الطريق أمر لا يتسم بالبراءة حتى لو كان ذلك هو كل مخطط وزارة الإسكان، ذلك أن أي طريق يجلب من ورائه ما نعرفه من مغزى المثل القديم «مسمار جحا». فالطرق كالمغناطيس تجذب التعديات الأولى التي سرعان ما تصبح هي القاعدة، حسب المثل السائر أيضا «الحي أبقى من الميت».
في الأسطر السابقة أوضحنا أن القيمة العلمية أبقى وأدوم من تنمية عمرانية قد تزول في فترة لاحقة، وبذلك نخسر الأمرين خسارة مريرة. وفي الخبر الأسبوعي المشار إليه في مطلع هذا الموضوع أن وزارة البيئة قد تصدت لمخطط وزارة الإسكان، وبقيت معدات وآلات الحفر التابعة للإسكان على أسوار المحمية. صحيح أن وزارة البيئة قد تأخرت بعض الشيء لكن تصميمها المحافظة على المحمية قد أدى إلى مواقف متصلبة من الجانبين، حدت برئيس الوزراء إلى التوسط في الأمر وتشكيل لجنة للتقصي من ممثلين عن كل من الوزارتين بالاشتراك مع خبراء من وزارة البحث العلمي. وأيا كان رأي اللجنة فإنه ينقصها اشتراك علماء الحفريات لتقرير القيمة الحقيقية للمحمية.
والسؤال المطروح مزدوج الأوجه:
الوجه الأول:
هو لماذا لا تبحث وزارة الإسكان عن طريق يدور بعيدا عن المحمية، وبذلك تصبح عنصرا فاعلا في الحفاظ على المحمية بدلا من تدهورها، وبذلك يصبح لها السبق في التصرف المتوازن بين احتياجاتها وحماية التراث، فالموضوع في جوهره ليس اختصام كل وزارة لاختصاصاتها وأعمالها، بل إن العمل الجماعي للوزارات يجب أن يكون هو الرائد خاصة إذا كان الموضوع يمس التراث القومي والمعرفي العالمي معا.
والوجه الثاني:
هو لماذا تأخرت بحوث العلماء؟ وربما كانت الإجابة على هذا الوجه من السؤال على النحو الآتي: (1)
أن البحث العلمي في مصر ينقصه الشيء الكثير وبخاصة التمويل. (2)
وربما أيضا أن هناك أولويات في ميزانيات البحث العلمي لدى الجامعات، بحيث تطغى في بعض التصورات على القيمة الفعلية لدراسات الحفريات بيولوجيا ونباتيا وإيكولوجيا. (3)
وربما - للمرة الثالثة - يقودنا هذا إلى طرح سؤال آخر هو لماذا لا تطرح الغابة المتحجرة كمشروع بحث علمي مشترك مع نظائر جامعاتنا وعلمائنا في أوروبا وأمريكا أو شرق آسيا؟ فمثل هذه البحوث شديدة التخصص شديدة التكلفة الميدانية والمعملية شديدة التخصص في النشر، وتحتاج في مراحل معينة إلى عقد أنواع مختلفة من الندوات والحلقات النقاشية والمؤتمرات العلمية، لتبادل الرأي والمشورة وما خاب من استشار .
ويقودنا الموضوع إلى مواضيع مماثلة في مصر والولايات المتحدة وألمانيا لنرى كيف يمكن التصرف في التراث العالمي. «نبطه» وحضارة جنوب مصر
في أقصى جنوب الصحراء الغربية وعلى مبعدة يسيرة من أبو سمبل - نحو 80 كيلومترا غربا - يوجد حوض نبطه الصغير الذي يضم مجموعة من الآثار الحضارية للناس منذ عشرة إلى ثمانية آلاف سنة مضت. ونبطه ليست سوى مكان واحد من عدة أماكن تمتد غربا إلى مناطق آبار نخلاي وتخليص والشب وكسيبه وصفصف وطرفاوي وصحرا، وربما أبعد من ذلك غرب شرق العوينات، وقد تتصل المنطقة الأثرية بما هو معروف عن السكن البشري في العصور الحجرية في هضبة الجلف الكبير وجبل عوينات على الحدود المشتركة المصرية الليبية السودانية.
في نبطه وجد الباحثون 127 نوعا من البذور بما فيها الدخن - ذرة رفيعة من العالم القديم - والنباتات الدرنية وبقايا عظمية لهياكل الإنسان في أعمار مختلفة، وبقايا هيكل لبقرة واحدة، ومصفوفات حجرية في صور دائرية حول أحجار أكبر مصفوفة بعضها في اتجاه شروق نجمة الشعرى اليمانية، والبعض الآخر في اتجاه الشمال. الصورة كلها تكاد تشبه بصورة مصغرة المصفوفة الحجرية الضخمة المعروفة باسم
Stonehenge
في جنوب غرب إنجلترا، ولكنها غالبا أقدم منها فآثار نبطة تعود إلى نحو ثمانية آلاف سنة. كما أنها قد تكون الأصول الأولى للمزولة الشمسية الفرعونية وبدايات علم الفلك المصري القديم. وخلاصة البحوث أن هذه المنطقة الجنوبية كانت تتشكل فيها بحيرات غالبا موسمية تهيئ إيكولوجية حياة رعوية، يتبادل الناس فيها منتجاتهم الحيوانية مع منتجات الحبوب للناس حول وادي النيل القريب.
يحلل بعض الباحثين بعض الصور الفضائية للمنطقة ويطلقون تحذيرا أن المنطقة قد تغرق أو تمحى آثارها الحفرية نتيجة وجود بحيرة عند نهاية مفيض توشكى في سنوات الفيضان العالي، وأن هذه البحيرات ليست بعيدة عن منخفض نبطه الصغير بحيث قد تنصرف المياه إليه أو على الأقل تتسرب إليه كمياه باطنية، ومن ثم ينادي بعض الباحثين بإعلان المناطق الجنوبية محمية طبيعية بشرية للحفاظ على خبيئات أثرية تكتشف في مستقبل الدراسات التالية، ومعلوم أن فيضان النيل ليس عاليا كل سنة ومن ثم فالخطر - وإن كان كامنا - إلا أنه لا يحدث كل سنة، ومع ذلك فمن الواجب اتخاذ احتياطات ما لحماية هذه المنطقة التي قد تكون أحد العناصر التي تشكلت عنها الحضارة الفرعونية الرائعة.
نموذج حضاري آخر مهدد
المعلومات الآتية عن المجلة الجغرافية الوطنية
National Geographic
عدد أكتوبر 2005.
في جنوب غرب ولاية ميزوري بالولايات المتحدة وعلى ضفاف نهير صغير باسم زاك
Sac ، منطقة «بيج إدي
Big Eddy » التي يعتبرها العلماء كنزا حضاريا من العصر الحجري لا يبارى بالنسبة لأمريكا الشمالية. ففي هذا المنخفض الصغير أقيمت حفائر في منطقة لا تزيد عن 30 مترا ينخفض قاعها نحو أربعة أمتار عن مسار نهر زاك، وجد فيها لقى أثرية عديدة لرءوس حراب وأدوات حجرية أخرى، وبقايا فحم نباتي ترجع إلى نحو 14600 سنة، وبالتالي فهي أقدم مما نعرفه عن تعمير الآسيويين للأمريكتين بنحو 500 إلى 1000 سنة قبل حضارة كلوفيس
Clovis
في ولاية تكساس.
وقد أقيم سد لتوليد الكهرباء على بعد عشرة كيلومترات من بيج إدي على نهر زاك، مما أدى إلى تصريف مائي كبير عند التشغيل الأقصى للمولدات، مما ينجم عنه اندفاع الماء في المنخفض يغطي وينقل أدوات التراث ويربك تصنيف مواقعها، ويرى فريق البحث الحالي أن المنطقة كلها ستزول في أقل من 15 سنة ، ومن ثم إسراع الفريق في العمل الموسمي الحقلي لتحصيل ما يمكن تحصيله قبل وقوع الكارثة، وهكذا فإن مصلحة محدودة تتغلب على أصول معرفية تعويضها مستحيل، فيا للأسف على الضياع!
نموذج للحفاظ التراثي من ألمانيا
المعلومات التالية عن مجلة موبيل الألمانية
Mobil
عدد سبتمبر 2005.
في ولاية هسن
Hessen
الألمانية وبالقرب من مدينتي فرانكفورت ودارمشتاد يقع منخفض صغير يعرف باسم «ميسيل
Messel »، لا يتجاوز قطره 800 متر وعمقه في حدود 60 مترا، مسور بالأسلاك الشائكة كمحمية طبيعية للبحث والاكتشاف والدراسة. هذا المنخفض الذي يشبه الطبق محاط بحواف مرتفعة نسبيا تنمو عليها بعض أشجار الخشب كالزان وأشجار ثمرية أخرى، بينما قاع المنخفض مليء بالعشب ونباتات المستنقعات.
عمر التكوينات في المنخفض نحو خمسين مليون سنة، وأهميته الاقتصادية كانت تكمن في وجود التكوينات الحجرية الإردوازية المحتوية على زيوت بترولية تصلح لاستخدامها كمصدر طاقة. وفعلا استغلت تلك التكوينات منذ 1875 حتى أوقفت عام 1971 - لارتفاع تكلفة المنتج بالمقارنة بالبترول المستورد أو بترول بحر الشمال - ورأت حكومة الولاية تحويل المنخفض إلى مكان توضع فيه نفايات - زبالة - مدن فرانكفورت ودارمشتاد وأوفنباخ. ولكن المناهضين لهذا القرار من المواطنين والعلماء والمعاهد العلمية الدولية وأحزاب البيئة لم يملوا معارضة الإجراء الحكومي لمدة 17 سنة، أمام هيئات ومحاكم مختلفة إلى أن استصدروا في عام 1988 قرارا من المحكمة يوقف قرار حكومة الولاية، وتحويل منطقة «ميسل» إلى محمية.
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت منطقة «ميسل» كنزا يغترف منه العلماء، وفرق البحث العلمي أدلة ومعارف عن نشأة المنخفض وأشكال الحياة وتطورها منذ تلك الحقبة البعيدة. لقد نشأ المنخفض كبحيرة في فوهة بركان خمد منذ 47 مليون سنة في ظل ظروف مناخية حارة شبه مدارية، مما جعل المنطقة وسفوحها موطنا للغابات البدائية، وموطنا لحيوانات البيئات المدارية كالكائنات من عائلات السعالي - ربما أنصاف قردة - والخفافيش والثعابين وبدايات تكوين الطيور. وعلى القاع تنمو أعشاب المستنقعات والكثير من الألجا المستنقعية. ومن حين لآخر في الماضي كانت تنبعث غازات سامة تختلط بالمياه فأهلكت الأسماك والنباتات المستنقعية، وكثير من أشكال الحياة الأخرى التي حفظت في الطين، والذي تحول على مر الزمن إلى التراكيب الحجرية المحتوية على الزيوت.
كثير من الأشجار تحولت إلى حفريات بكاملها، وبعض الحيوانات حفظت بشكل مثير بجلودها وشعرها. ومما عثر عليه جنين حصان بدائي كامل، وسلحفاة لم تضع بيضها بعد، وثعبان مات بعد العشاء الأخير، وتمساح صغير بأسنانه كاملة، وحيوانات أخرى كالتابير وآكل النمل.
والخلاصة: أن ما عثر عليه البحث حتى الآن كان عبارة عن حفريات نباتية لمائة من العائلات النباتية و43 من حفريات الطيور، و31 من الزواحف وثمانية حفريات من الأسماك وخمسة من الحيوانات البرمائية. ومعظمها معروض في متحف حفريات «ميسل»، وبعضها في متحفي دارمشتاد وفرانكفورت. وليس هذا كل شيء. فالعلماء لا يكلون عن استخلاص ميزانيات بحثية من كل الجهات للمزيد من المتابعة البحثية في هذا الكنز الزاخر بمعلومات باليونتولوجية، عن أشكال الأرض والمناخ والحياة في عصور سالفة.
وفي النهاية يجب أن أقول: إن الغرض ليس دعاية علمية؛ لأن العلم لا يحتاج إلى دعاية فهو ليس منتجا للبيع، وليس له مكان في بورصة أسعار الأراضي والعقارات والسلع. لكن بورصة العلم الوحيدة هي المعرفة والمزيد منها حتى نفهم حساسية البيئة ودورنا في الحفاظ عليها، بدلا من التصرف السلطوي من أجل مشروع اقتصادي - ناجح أو فاشل - سواء أدى هذا إلى فقدان لقى أثرية تراثية وضياع فرصة جديدة من فرص المعرفة التي لا تقدر بثمن. وقد قيل: إن مثل ذلك قد حدث عند حفر نفقي الأزهر، فإذا صحت هذه المقولة نكون قد أضعنا للأبد فرصة التعرف على حقائق تاريخية كانت مدفونة تحت القاهرة الفاطمية المملوكية.
إن النموذج الألماني في المحافظة على التراث يعطينا مثالا قويا كيف يكون الحفاظ وعدم الملل في التمسك بالقضية 17 سنة، والنجاح آخر الأمر بتحويل المنطقة إلى محمية يحترم الجميع حدودها بقوة القانون.
ومنطقة الغابة المتحجرة التي أثارت هذا الكلام ليست في حاجة إلى حكم قضائي، فهي محمية معلنة منذ 1989، أي منذ 17 سنة، والمطلوب أن تفك اللجنة التي تشكلت الاشتباك بين مساعي وزارة الإسكان في اختراق المحمية، وبين وزارة البيئة في الحفاظ على تكامل المحمية.
والأمل قوي والرجاء أقوى في أن يكون قرار اللجنة لصالح العلم والمعرفة القومية والعالمية. (ملاحظة: الأغلب أن التعقل لصالح المحمية قد حدث وبعدت جرافات وزارة الإسكان عن الموقع.) (7) قضايا الرموز (7-1) أزمة ممارسة الديموقراطية
هل الديموقراطية أمل والاستبدادية أمر واقع؟
الديموقراطية مصطلح إغريقي قديم يصف «نظام حكم الشعب» في أثينا في بعض الفترات، وخاصة بين القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد. لكن أثينا مارست أيضا نظام الحكم الاستبدادي
Tyranny
أو الأوتوقراطي والحكم الملكي معظم تاريخها وتاريخ المدن الإغريقية.
ولكن قبل الإغريق وإلى الوقت الحالي كانت هناك أنظمة حكم في الحضارات القديمة والحديثة، معظمها متغيرات بين الأنظمة الملكية والاستبدادية وأقلها الديموقراطية. كان الملوك في الماضي يحكمون بتفويض إلهي - ما لم يكونوا أبناء الآلهة - يساندهم في ذلك سدنة المعابد ورجال الدين. وحينما تحدث متغيرات اقتصادية اجتماعية يتغير النظام الملكي بالثورة والقوة تنتهي بانفصال الدولة إلى حكومات محلية صغيرة، كما حدث في مصر الفرعونية مرتين على الأقل، أو من أجل حكم الشعب بالشعب كما حدث في فرنسا. لكن شهوة السلطة تدفع الثوار إلى العودة إلى الاستبدادية والنظام الملكي، كما حدث في الثورة الفرنسية حين تحول القنصل نابليون إلى إمبراطور، ثم تذبذب نظام الحكم الفرنسي بعد سقوط نابليون بين الملكية والجمهورية والملكية مرة ثالثة، إلى أن استقرت الجمهورية الانتخابية بعد معاناة وتضحيات طويلة من قبل الشعب الفرنسي.
وكذلك الحال مع الثورة الماركسية اللينينية في الاتحاد السوفيتي التي تحولت إلى جمود حكم الأوليجارشية - كبار السن من زعماء الحزب - بحيث صاروا كأنهم سدنة النظرية الشيوعية إلى أن تفككت بشكل درامي عند أول ممارسة للمصارحة والتجديد في عهد جورباتشوف الأصغر سنا من الزعماء السابقين. فكأن دعوة جورباتشوف للمصارحة والمشاركة قد فتحت «قمقم» مارد الشعب من أجل الإصلاح، استغله الأشرار في عهد يلتسن لضرب البرلمان بالمدفعية للقضاء على الدعوة للديموقراطية. ولا يعفي خبراء السياسة الحرب الغربية المستترة في عالم الاستخبارات المضادة للشيوعية من دور هام في إسقاط الاتحاد السوفيتي، وإضعاف روسيا من أجل زعامة أمريكية مطلقة للعالم دون منافس.
وفي أوقات البأس والشدة تبحث الشعوب عن البطل الذي يتحول إلى الزعيم الملهم. لكنه بدوره يتحول إلى الحكم بحزب واحد يضم الناس جميعا - طوعا أو كرها - كما حدث فترة النازية في ألمانيا، وما حدث أيضا في أنظمة شبيهة تعتمد التاريخ المجيد منطلقا، والحزب المتزمت وسيلة حكم بوليسي ينتهي بالشعب إلى مصير مأسوي، كما حدث مؤخرا في عالمنا العربي.
الصهيونية نموذج لاستخدام الدين
وفي معترك التخلف والتقدم تنعزل فئة ترى في العودة إلى الماضي حصنا آمنا. وأكثر أدوات الماضي قوة في إثارة التجمع استخدام الأديان بتفسيرات ضيقة الأفق قليلة المرونة قليلة التأهيل للمعاصرة العالمية، كما هو حادث الآن بين بعض أصحاب الديانات السماوية. فالصهاينة يستخدمون اليهودية بضراوة من أجل السيطرة ليس فقط على أرض فلسطين، بل أيضا منابع القوة المالية والإعلامية في العالم وفي الغرب بصفة خاصة، ويروجون لأنفسهم أنهم دولة الديموقراطية والانتخابات الحرة - بعد غسل الأدمغة في الداخل والخارج - التي تتناقض تماما مع ممارساتها التعسفية واللامبالاة بحصد أرواح الفلسطينيين.
وفي أغلب التاريخ اليهودي كان ساسة وزعماء اليهود دائما ضد الاندماج مع الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيهم. وتاريخهم مليء بذلك التكتيك من أجل استراتيجية البقاء كنواة صلبة لها قوتها الاقتصادية، ومن ثم السيطرة المالية المتشابكة بين يهود العالم. فكلما أصبحت الأمور يسيرة واضطهاد اليهود أقل عنفا؛ أصبح الميل إلى الاندماج كبيرا بين الأقلية اليهودية وبقية الشعب الذي يعيشون وسطه. حينئذ يفتعل زعماء الصهاينة وغلاة اليهود الحوادث التي تجلب عليهم غضب الشعوب من أجل أن يظل اليهود أقلية مضطهدة، ومن ثم تتوقف عملية الاندماج السلمي. وقد حدث هذا تكرارا في أوروبا الغربية وروسيا القيصرية. حتى الاتحاد السوفيتي وقع تحت ضغوط هائلة إسرائيلية أمريكية من أجل السماح لليهود السوفيت بالهجرة - برغم عدم اضطهادهم - ولكن تحت دعاوى كثيرة على رأسها حقوق الإنسان، وحرية انتقال اليهود إلى إسرائيل - لكن الكثير منهم توجه إلى أمريكا وأوروبا الغربية بدلا من إسرائيل.
وكمثال حي فإن يهود النمسا يفتعلون اليوم مطالب - تلاعب بقانون التعويضات - لمزيد من الدعم والتميز في إنشاء المدارس اليهودية، وقضايا تعويضات الإسكان التي ترفضها الحكومة النمساوية بحكم عدم التمييز، وبحكم أن قضية التعويضات قد تمت منذ فترة طويلة. والمعروف أن النمسا من الدول الأوروبية التي تستهدفها الحملات الدعائية والإعلامية الصهيونية منذ فترة رئاسة كورت فالدهايم للنمسا، والتي انقضت منذ بضع سنوات، ومنذ نجاح حزب «يورج هايدر» في الانتخابات النمساوية المعروف بميوله اليمينية والعرقية؛ بل إن برونو كرايسكي مستشار النمسا الأسبق يقع تحت مطرقة الدعاية الصهيونية برغم أنه يهودي؛ لأنه كان يتصرف على الأغلب كمواطن نمساوي اشتراكي المذهب قبل أن يكون يهوديا. ومعروف أن مطالب اليهود في النمسا تجلب تدخل إسرائيل في شئون تعتبرها النمسا أمورا داخلية. وبعبارة أخرى هم نمساويون ولكنهم عمليا يطلبون البقاء كجالية دينية لها كل حقوق المواطنة، ولكن مع ولاء أكبر لإسرائيل. فماذا سيكون عليه الأمر لو طالب المسلمون النمساويون بموضوعات مشابهة؟ وماذا لو طالب يهود أمريكا بمثل ذلك التميز عن بقية الشعب الأمريكي؟
أطر الديموقراطية في العالم المتقدم
قد لا توجد معايير متشابهة للمارسة الديموقراطية لدى كل الشعوب، ولكن هناك إطار أساسي، يتلخص في تداول السلطة بواسطة الانتخابات بين الأحزاب المختلفة وفقا للدستور. وتطبيق النظم الديموقراطية في فرنسا مختلف في خصوصياته عن بريطانيا أو إيطاليا، أو دول أخرى في أوروبا والولايات المتحدة ... إلخ، من معسكر الدول المتقدمة. وبغض النظر عن الخصوصيات فإن تداول السلطة بين الأحزاب اليمينية والليبرالية أو الاشتراكية الديموقراطية واليسارية، وتجمعات أخرى كالخضر وأنصار البيئة، هو ما يعطي الدول المتقدمة نوعا من الحيوية كل عدد من السنين تمارس خلالها سياسات اقتصادية اجتماعية متغيرة بين حين وآخر، مما يعطي دينامية لفئات متعددة. وبالرغم من أن أحزاب اليمين أميل إلى سياسات تحابي كبار الشركات وأصحاب الأعمال، وأن أحزاب الاشتراكية والعمال أميل إلى إيجاد توازن الدخول بين العمال والطبقات العليا، إلا أن الفوارق في سياسات اليمين واليسار ليست كبيرة فيما يخص الكثير من احتياجات التعليم والصحة والتأمينات الاجتماعية وتأمينات البطالة لمعظم فئات الناس.
ومما يعيب الممارسة الديموقراطية هذا الإنفاق من طائل المال في الحملات الانتخابية، وعقد الاتفاقات بين المرشحين وغير ذلك من مستتر الأمور. إلا أن هذا لا ينفي أن هناك كتلا من الناخبين لها انتماءات وأفكار وحرية تعبير لصالح حزب أو آخر، وهو ما يمكن أن نحسبه لصالح حرية الانتقاء والتعبير، ومن ثم تبادل السلطة التي هي البديل الصحيح لبقاء حزب في الحكم سنوات طوال، مما يؤدي بالضرورة إلى ثقة زائدة وتعفن بعض قياداته، ومن ثم يؤدي إلى هزيمة الحزب عند تراكم متغيرات كمية غير محسوسة على مر السنوات، وقد حدث ذلك لكثير من الأحزاب المسيحية الديموقراطية في أوروبا التي استأثرت بالحكم مددا طويلة، ثم سقطت بظهور متغيرات عدة أهمها: استقلالية السياسة الأوروبية عن الأمريكية، والتقدم الاقتصادي مع نمو السوق الأوروبية كمقدمة للاتحاد الأوروبي، فلم تعد مبادئ الأحزاب المسيحية الديموقراطية تنتمي إلى الجيل الجديد ولا تخاطب وجدانه.
كما أن الممارسة الديموقراطية الحقيقية في الانتخابات غالبا ما تظهر نتائج شبه متوازنة بين الأحزاب، فلا نجد حزبا يفوز بأغلبية ساحقة (+80٪) كالتي نشهدها في انتخابات الدول النامية. ويكفي للتدليل على ذلك فوز بوش على أل جور بحفنة من الأصوات، أو فوز الأحزاب في أوروبا بنسب ضئيلة لكي تصل إلى الحكم، غالبا بواسطة ائتلاف عدة أحزاب، ومثل هذه النتائج توضح انقسام الناخبين بناء على تأييدهم برامج حزبية ملزمة.
الديموقراطية في العالم النامي
مفاهيم الغرب من طلب تطبيق الديموقراطية في بلاد العالم النامي تختلف بشدة زمانا ومكانا وحسب مقومات استراتيجية غريبة متغيرة. توجد الآن في العالم النامي حكومات تمارس الديموقراطية شكلا وليس موضوعا، أو حكومات تمارس جزءا وتتحفظ على الباقي من النظام الديموقراطي. وتتعرض بعض أنظمة في العالم النامي إلى انقلابات غالبها عسكري تمسك بتلابيب السلطة أزمانا، إلى أن تحدث متغيرات سياسية دولية في إقليم ما تتطلب التدخل أو المساعدة على التغيير، كأن الديموقراطيات الكبرى كانت غافلة عن هذا أو ذاك من تلك النظم الاستبدادية، ثم اكتشفتها فجأة! مع العلم بأن بعض هذه الانقلابات تجد من بعض القوى الغربية تشجيعا أو عونا سافرا أو مستترا.
المثال الكلاسيكي هو تأييد الولايات المتحدة الانقلاب الدموي الذي قام به الجنرال بينوشيه
1
على حكومة اللندي المنتخبة ديموقراطيا في شيلي منذ بضعة عقود. ومثل ذلك استمرار الحكم العسكري في ميانمار - بورما - أو ليبيريا أو كثير من جمهوريات أمريكا اللاتينية كبوليفيا
2
أو كولومبيا، وقد تعرضت إندونيسيا لضغوط لإزالة حكم سوهارتو ربيب الغرب لفترة طويلة، بعد أن انتهى دوره وأصبح يمثل عقبة أمام القوى الاقتصادية السياسية الغربية. ومثل ذلك حدث مكررا في الفلبين وباكستان، وربما يأتي الدور على زيمبابوي في القريب العاجل. وحدث أيضا في إيران عندما فقد الشاه فاعليته، ويحدث الآن للتخلص من نظام الجمهورية الإسلامية، كما حدث من قبل بالقضاء على حكم «الملالي» الطالبان في أفغانستان، وحكم البعث في العراق بعد أن فقد فاعليته في القضاء على النظام الإيراني لصالح الغرب. والنموذج الحالي في العراق يمثل نوعا فريدا في التدخل العسكري، بحجج كثيرة آخرها تطبيق الديموقراطية بالمفهوم الأمريكي، وتغيير خريطة الأنظمة في الشرق الأوسط وفي مصر.
منذ نحو أكثر من ربع قرن تشكلت أحزاب عديدة على رأسها الحزب الوطني الحاكم، ومجموعة أحزاب أخرى كالوفد والتجمع ... إلخ، يطلق عليها «أحزاب المعارضة» التي هي معارضة على استحياء؛ لأنها لم تفز في أي من الانتخابات التي جرت سوى بنسب جد ضئيلة، وهو ما يعزى إلى أشياء كثيرة منها: السطوة التي يمارسها الحزب الوطني، والفوائد المرجوة من الانضمام إليه سواء في الانتخابات أو بعدها. كما أن الأحزاب الأخرى أضعف من أن تجاري الوطني في شبكة مراكزه في الدوائر المختلفة. وربما ليست للأحزاب برامج تفصيلية، وإنما أطر عامة تشترك فيها كل الأحزاب. وكل هذا دعا بعض المحللين إلى القول بأن الأحزاب شبه منعزلة عن إيقاع الناس. وكذلك إلى القول بأن عدم تحقق شعارات المرشحين سواء من الحزب الوطني أو أحزاب المعارضة قد أدى إلى حالة من العزوف عن الاشتراك في الانتخابات بين نسبة لا بأس بها من الناخبين. ويزيد البعض توصيف هذه الحالة إلى أنها حالة لا مبالاة سياسية.
وقد يكون في ذلك جانب كبير من الواقع ولكن لماذا؟ في الماضي قبل الثورة كانت هناك محافل سياسية حزبية وغير حزبية لها جذور بين العمال والطلبة وبعض الفلاحين وكبار الملاك والصناعيين والتجار. وكان هناك تفاعل مستمر بين القيادات والقواعد المختلفة، بحيث إنه كان هناك تأثير على اتجاهات حزب كبير كالوفد في المواقف المختلفة. وهذه الفئات موجودة بيننا، فهناك العمال والفلاحون والطلبة والتوجهات الدينية والرأسمالية الجديدة، بعضها وطني والآخر معبر عن مصالح استثمارية خارجية. ولكي نحاول الخلاص من اللامبالاة والعزوف؛ يجب تفعيل أشكال عديدة من المشاركة السياسية بين غالبية فئات الناخبين بإشراكهم الفعلي بدلا من جمعهم في منابر لا يتحدثون فيها إلا بالكاد. وألا تقتصر هذه الندوات على التوجهات العامة والتبرير، بل تمتد إلى قضايا سياسية عربية وأخرى محلية، وأن تصعد الآراء إلى أعلى دون خوف من نبض الشارع ومنطق الأحداث. مثل هذه هي التربة الصالحة للمشاركة السياسية الفعالة من المجالس المحلية إلى مجلس الشعب. وفي الاعتقاد أن المجالس المحلية والشعبية المنتخبة هي المدرسة الأولى، لتفعيل روح المشاركة والقدرة على المساءلة في كل الموضوعات العامة التي تمس سكان المحليات في الريف والمدينة: مناقشة مشكلات مزمنة كالتزايد السكاني والبطالة، وإشكاليات تسويق المنتجات وأسعارها، وسياسة الإسكان والحد من العشوائيات، وسياسة التعليم وإخراجه من المضمون الحالي ذي التوجه الأحادي من الابتدائي إلى الجامعة إلى تشعيبات تتوازى مع متطلبات عصر المعلوماتية، وغير ذلك من الموضوعات التي تمس كل الناس، من خلال مثل هذه المناقشات الصريحة في المحليات تتكون المشاركة السياسية الفعالة في مستقبل الديموقراطية في مصر، وتتشكل أحزاب أو برامج حزبية جديدة تنظر كثيرا إلى الأمام وقليلا إلى أمجاد الماضي ... (7-2) مفهوم الديموقراطية وتجريح تاريخنا المجيد
بعض الكتاب والشعراء يرسمون صورا قائمة من الظلم وأشكال الحكم الاستبدادي لأحداث الماضي قياسا على مفاهيم عصرنا الحالي، عصر ذيوع مفهوم الديموقراطية الراهن الذي ما هو إلا أحد المراحل التاريخية التي تمر بها البشرية. ذلك أنه لم تكن هناك مراحل ثابتة في تاريخ الفكر السياسي العالمي، ولم تكن هناك دائما مفاهيم عن الوطن والوطنية ونظم الدولة التي تغيرت كثيرا من الوحدة الأرضية للقبيلة والعشيرة إلى وحدات إقليمية، أكبر صاحبتها القوة العسكرية ونظم الحكم الملكية الوراثية. وشهدت تلك الفترة حروبا توسعية كثيرة من جانب الممالك المتجاورة كانت تتسم بالكثير من القتل واستعباد الشعوب المغلوبة، وهجرات كثيرة من الغالبين إلى أرض المغلوبين الذين يفر بعضهم إلى مهاجر جديدة لتكوين أوطان جديدة.
وتاريخنا في مصر والشرق الأوسط وأوروبا وآسيا مليء بمثل هذه الأحداث من عصور الفراعنة إلى البابليين والأشوريين، والحيثيين والفرس، وإمبراطوريات الصين والهند، والمقدونيين والرومان، وفتوحات الدول الإسلامية والحروب الدينية، وغزوات المغول، والاستعمار الأوروبي ... إلخ، كم من البشر راحوا ضحية هذه الحروب المدمرة؟ كم من الأمم غابت عن التاريخ؟ وكم من المدن والحضارات زهقت أرواحها؟ وكم وكم ما شاء لنا السؤال سواء عن أنظمة الدول، أو أنظمة القبائل في أعماق أفريقيا وأمريكا قبل وبعد الغزوات الأوروبية والاستعمار الاستيطاني الأوروبي؟
هل كان الناس في تلك العصور غائبين عن الوعي بآفات الحكام الذين يحكمونهم ويقودونهم إلى حروب لا ناقة لهم فيها، كما يقول المثل القبلي البدوي؟ أم أن غالب الناس كانت تحدوهم الرغبة نفسها التي تتولد لدى الحكام من أجل الحرب والتوسع؟ صحيح أنه ربما ظهرت أفكار عن شكل من الحكم خلاف الأمر الواقع الاستبدادي - كما نصفه الآن - لكن مصير هذه الأفكار كانت غالبا إلى زوال نتيجة سيادة الأمر الواقع - الاستبدادي - وقبول غالب الناس به؛ لأنه كان النسيج الذي من خلاله يجد الناس قوام حياتهم اليومية من نشاط اقتصادي وملبس وغذاء ومأوى ومكانة اجتماعية منخفضة أو مرتفعة. تماما كما يجد الناس أنفسهم في ظل الأنظمة الحالية: اعتياد على سلوكيات وقيم ودساتير، وطرق مألوفة وغير مألوفة لتأمين الحياة بأشكالها الفقيرة وفاحشة الغنى.
من هنا نعود مرة أخرى إلى التأكيد أنه من نافلة القول قياس الماضي على الحاضر، ووصف الماضي بالاستبداد والهمجية والظلم. فهذه مراحل تتطور من خلال ظروفها الحياتية الخاصة أفكار السيادة والحكم الملائم في كل عصر وزمان. صحيح أن تجارب الماضي لم تكن كلها منسقة منسجمة أو متشابهة. فهناك تجربة حكم ديموقراطي محدودة زمنيا ومكانا بمدينة أثينا مقابل الحكم الاستبدادي في فترات أخرى في نفس المدينة، ومقابل نظام تسيطر عليه القوة العسكرية في إسبرطة المجاورة أو مقدونيا إلى الشمال من اليونان الأصلية، ويرى بعض علماء المصريات أن مصر مرت بمرحلة تفككت فيها قوة الملوك الآلهة بعد الأسرة السادسة (نحو 2200ق.م)، وأصبحت الأقاليم أكثر استقلالا في إدارة شئونها، وأكثر مراعاة لمصالح الناس من أوتوقراطية نظام الحكم السابق.
ويغالي البعض في أن هذا التفكك حدث بصورة مفاجئة - ربما في شكل ثورة عارمة تضمنت أفكارا عن أسلوب حكم أميل إلى الشعب منه إلى الملكية الوراثية. لكن زعماء الأقاليم ركبوا الموجة الفكرية الجديدة وطوعوها تدريجيا لإقامة حكم فراعين صغار. ثم عاد الحكم الملكي الموحد مرة أخرى ابتداء من الأسرة الثانية عشر (نحو 1960ق.م)، بمجموعة قضايا كانت كالدستور - مكتوب وغير مكتوب - على رأسها تنظيم اقتصادي جديد معتمد على ضبط مياه النيل باستخدام منخفض الفيوم كخزان طبيعي للأخذ منه وقت الحاجة، مع استصلاح أراض حول البحيرة العذبة - تماما كما نفعل الآن تحت مسمى الخروج من الوادي واستزراع الصحاري ومشروع توشكى! وهناك أدلة يسوقها مارتن برنال في كتابه «أثينا السوداء» (الترجمة العربية): أن المصريين في تلك الفترة أو ما بعدها قد استوطنوا منطقة تثيبس - طيبة - إلى الشمال قليلا من أثينا، وجففوا البحيرة التي كانت قائمة، وكونوا أسس اقتصاد زراعي متين في تلك المدينة ناقلين معهم تكنولوجية تجفيف البحيرات واستزراع شواطئها. فهل كانت تلك الفترة تشير إلى هجرات مصرية إلى منطقة بحر إيجة؟ العلاقات الثقافية قوية ومعروفة بين مصر واليونان القديمة خلال الألف الثانية قبل الميلاد. ولكن لو صح ما ذكره برنال فإن ذلك يعني تعرجا جديدا في تاريخ البحوث المصرية. فالمتعارف عليه حتى الآن هو أن مصر كانت تجتذب الهجرات إليها من آسيا الغربية (القبائل السامية وبعض الشعوب الهندو-أوروبية اللغة)، وبلاد اليونان، فضلا عن بلاد شمال أفريقيا - تجمعات البربر - وشمال السودان - الزنوج والزنجانيون.
الخلاصة: أن الانتقادات التي توجه إلى الماضي هي انتقادات ظالمة بمقياس عصور الماضي. يرى أحد الشعراء المصريين - في حديث إذاعي - أن اسم «راكوتيس» - نسبة إلى قرية راقودة - هو أولى بتسمية مدينة الإسكندرية. يرى الشاعر أن الإسكندر لم ينشئ المدينة، وإنما عدل بعض الشيء في راقودة التي يصفها بأنها كانت مدينة كبيرة قائمة، وهو ما يحتاج إلى تدليل علمي. ويرى أنه من الظلم نسبة المدينة إلى الإسكندر؛ لأنه كان محاربا غازيا قاتلا. ألم يكن كل الفاتحين كذلك؟ وينسى أن الإسكندر خلص مصر من حكم فارسي استمر طويلا، وأن المصريين قابلوا الإسكندر بالترحيب (332ق.م)، كما فعلوا بعد نحو ألف سنة عندما خلصهم عمرو بن العاص من الرومان (641م)؟ وينسى أكثر أنه ترتب على حملة الإسكندر نشأة أسرة البطالمة التي حكمت مصر وفقا لتقاليد مصر وديانتها برغم أصولها المقدونية، وأن الإسكندرية كانت لقرون طويلة منارة العلوم والثقافة والفلسفة في عالم آنذاك، ومذاهب دينية متعددة آخرها كنيسة الإسكندرية (نحو 250م).
فكيف نقضي على هذه الدوحة الحضارية العالمية مقابل مفهوم محلي وطني - إذا جاز ذلك - وبعد فما هو قدر الإسكندرية على شجرة الحضارة العالمية، مقابل اسم راكوتيس - لم يتخلص الشاعر من التسمية اليونانية لراقودة، ومن ثم فضل عليها الاسم اليوناني الذي له رنين حضاري.
ومثل هذا ما يكتب وما يقال عن المظالم التي أحدثتها أسرة محمد علي بالمصريين. وبالمثل يوصف حكم المماليك الطويل، وينسى هؤلاء الناقمين أن أمجاد مصر القاهرة التي تفاخر بها هي فاطمية مملوكية، وأن مصر كانت تعيش رخاء وازدهارا غير مسبوق جعلها مطمح الغزاة من عثمانيين وأوروبيين. خصائص الحكم والمنافسات القاتلة بين زعماء المماليك شيء كان يخص طبقة المماليك وحدهم. أما عامة المصريين من تجار وزراع وملاحين فكانوا يعيشون حياتهم قدما - تماما كما كان عامة الأوروبيين والصينيين والهنود يعيشون بعيدا عن دسائس الحكام وأباطرتهم. صحيح أن الصراعات والحروب كانت تنعكس على الناس في رفع قيمة الضرائب، وقد تصيب بعضهم بالإفلاس - تماما كما نعاصره اليوم تحت مسميات عديدة منها التنمية والمجهود الحربي وضريبة المبيعات، وغير ذلك كثير.
أما أسرة محمد علي فهي - برغم المظالم وبرغم أصولها الأجنبية - بانية مصر الحديثة المستقلة عن الدولة العثمانية فعلا وليس شكلا. الثورة الزراعية في شكل الري الدائم - وبالتالي مضاعفة المساحة المحصولية آنذاك - وإدخال محصول القطن على نطاق تجاري صناعي، هي نتاج أفكار تبناها محمد علي، وأشكال الصناعة الحديثة آنذاك هي الأخرى أفكار كانت تدعم الآلة الحربية المصرية، وأعطت لمصر مقدمات في التحولات الصناعية من الحرفية إلى المشاغل والمعامل والمصانع. وإنشاء الجريدة الرسمية «الوقائع» كانت الأب الحقيقي لمولد الصحافة المصرية - أول أشكال الإعلام وأهمها حتى الآن، لقد كان مقدرا أن تكون مصر واليابان فرسي رهان في التنمية والنمو في أفريقيا وآسيا. لكن تحالف الدول الأوروبية على مصر محمد علي باعتبارها دولة قوية، قد تخلف الدولة العثمانية المتهالكة إلى جوار أوروبا من ناحية وسيطرتها على الشرق الأوسط وطريق التجارة البري-البحري إلى المحيط الهندي من ناحية أخرى قد أوقف التقدم الاقتصادي المصري، بينما اليابان في جزرها البعيدة لم تكن تشكل تهديدا حقيقيا للمصالح الأوروبية، ومن ثم تطورت بأسلوبها الذي فاجأ العالم في مطلع القرن الحالي بالقوة والنماء.
ولا شك أننا مدينون إلى عصر إسماعيل بالانفتاح الثقافي: أصول الكثير من المعاهد العلمية والمدارس بمراحلها المتعددة وبداية تعليم البنات، وتخطيط القاهرة الجديدة (الإسماعيلية = وسط القاهرة الآن)، وامتداد السكة الحديدية إلى الصعيد والتطوير الزراعي الصناعي، وفتح قناة السويس ونشأة مدن القناة - عدا السويس - كلها من بين أشياء أخرى تعود إلى أفكار بعض المصريين - على رأسهم علي باشا مبارك - والأجانب.
فكرة أن الأسر الحاكمة في مصر من أصول أجنبية تنطبق على أسرة محمد علي كما تنطبق على المماليك والأيوبيين والفاطميين والولاة في العصر العباسي والأموي والراشدي والبطالمة. فهل نبغض كل هؤلاء الحكام؟ الواقع أن هؤلاء قد تمصروا حقيقة، وأصبحت مصر هي بلدهم ووطنهم، مثل ذلك الكثير من الأسر الحاكمة في أوروبا. وعلى سبيل المثال فإن الأسرة المالكة الحالية في بريطانيا تعود إلى أصول ألمانية - ساكس كوبورج - وفي روسيا كان القياصرة خليط روسي ألماني. لكن كل هؤلاء كانوا مواطنين أوفياء لبلدهم. هكذا كان الحال في الماضي. وما حدث في الماضي ليس عليه قياس من الحاضر. الحكام الأجانب هم الذين يتبعون دول أجنبية تحكم، مثل الحكام الفرس أو الرومان في مصر. ومن ثم لا تجب المغالاة في الطعن في أنظمة الماضي على ضوء الأنظمة المعاصرة.
الديموقراطية كفكر سياسي سائد الآن في العالم ليس جامدا غير متحرك. فالديموقراطية الأمريكية أو الأوروبية الآن غير الديموقراطية في القرن الماضي، وستتطور نتيجة الاتصالات العالمية سريعة الإيقاع. ولو جمدت الممارسة الديموقراطية على شكل معين ستصبح نظاما راكدا بالنسبة لمتغيرات العصر القادم. قيل: إن النظام العالمي تغير بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وأصبحت أمريكا هي القطب الأوحد. ولكن تجربة سنوات قليلة أثبتت غير ذلك بدرجة محسوسة. فروسيا على قدر من النفوذ يمنع الغرب من التدخل بصورة قاطعة في جرائم وحشية ارتكبها الصرب في البوسنة، ويرتكبونها الآن في كوسوفا، وقوة الاتحاد الأوروبي تتنامى، وإن كانت تختفي في الأزمات الحقيقية تحت تراكمات محاولة إيجاد الصيغة الملائمة. والأزمات المالية المدمرة تكتسح مراكز قوة في الشرق الأقصى. وحكومة الولايات المتحدة في حالة مائعة فهي أقل تحددا في خضم أحداث عالمية كثيرة بعد أن فقدت البعد الأساسي الرائد في تشكيلها، ألا وهو عدم وجود كتلة مناهضة. وهناك الكثير من المشكلات التي تواجه سياسة الولايات المتحدة تقف منها مواقف غير ثابتة، مثل حركة انفصال الشيشان عن روسيا، وكوسوفا عن يوجسلافيا، ونزاع تركيا واليونان، ومشكلة قبرص وقضية العراق وموقفها إزاء إيران وليبيا ونظام الحكم الرجعي في أفغانستان، الذي نتج عن تأييد أمريكا للحركات الدينية المتطرفة في العالم الإسلامي. لكن أكبر المشكلات الأمريكية هي اتخاذ صيغة ملائمة تساهم في حل أزمة السلام في فلسطين والأراضي التي تحتلها إسرائيل في غزة والضفة والجولان السوري والجنوب اللبناني. هل يعني هذا أن شكل ومحتوى الديموقراطية في الولايات المتحدة تتغير إلى شكل آخر غير الذي كان ممارسا أيام روزفلت وأيزنهاور وكنيدي على سبيل المثال؟
مرة أخرى نقول: إنه لا داعي لتجريح رموز الماضي فهي جزء من التاريخ رضينا أم أبينا ... فلنكن واقعيين ومنصفين فنحن لسنا جزيرة منعزلة، وإنما نتفاعل مع العالم ومرة نعطي ومرة نأخذ - هكذا حال الدنيا والله المستعان ...
ملحق الصور
الدلتا من الفضاء.
Unknown page