ومصب النيل العظيم في دمياط ورأس البر ورشيد وعبر قناة السويس إلى مشروع سرابيوم شرق البحيرات المرة، وفي وادي النطرون بين كنائسه وأديرته وبحيراته ورماله وبعض مشروعات استصلاح زراعية وعمرانية، وفي أماكن كثيرة أخرى من نجوع وقرى البراري الشمالية في بلطيم والرياض والشخلوبة وإدفينا، وإلى بعض قرى غرب الفيوم ووادي الريان، كان ذلك صباحا ومساء طيلة خمسين سنة.
أزور وأكرر الزيارة مرات ومرات كلما سمحت ميزانيتي أو مع زملائي أساتذة وطلبة الجغرافيا في آداب عين شمس في عشرات أسابيع الدراسات الميدانية والتدريب العملي المتعددة في أنحاء مصر، وبخاصة سيناء والصحراء الغربية.
هذا الكتاب هو حصيلة كل هذه التجارب العملية وكثرة المشي خطوة خطوة على أجزاء من أرض مصر الملهمة سواء كانت مزروعة أو ما زالت بكرا رملية أو جبلية، ومن خلال السفر والترحال في نيلها شريان الحياة - أرقب وأدون وأصور وأتابع وأدقق فيما كان وما سيكون - وهو أيضا تجميع لبحوث ومقالات بعضها في محافل علمية وندوات بحثية في مصر وأوروبا وأمريكا، وأغلب ما نشرته في جريدة الأهرام ومجلة روز اليوسف من مقالات موجزة بطول العقد الأخير.
وبعض مما جاء في كتابي مع المرحومة زوجتي «رحلة في زمان النوبة» (1998) وكتابي «القاهرة: نسيج الناس في المكان والزمان» (2001)، الأمل كبير في أن يرى القارئ الكريم بعض ما أراه من أجل خير مصر مع عدم العدوان على التوازن الطبيعي بين الإنسان والموارد المتاحة، وتحري مدى استخدام التكنولوجيا المتقدمة وتوافقها مع الموروث والمورث، ومع اتساع نظام الدولة ليشمل تمثيلا حقيقيا لكل الآراء بالوسائل السلمية، والحرية في الرأي والتعبير، وممارسة حقوق الإنسان في الريف والحضر على السواء مرة أخرى من أجل استعادة التوازنات، والنمو الرشيد في ربوع هذه البقعة الوسط في كل شيء من عالم الكرة الأرضية وحضاراتها، وحتى نرقى على قدر حجمنا للتفاعل الإيجابي كعضو في المجموعة البشرية.
محمد رياض
القاهرة، مارس 2007
الفصل الأول
مصر بين الحضارات القديمة والحديثة
الدوائر الحضارية بين النمو والاضمحلال (1) الحضارة متغير دائم بين التطور والجمود والانفتاح، وكارثة السقوط البشرية المعاصرة
منذ قرنين على الأكثر بدأ الإنسان يدخل دائرة حلزونية متصاعدة متفاقمة بين الطلب والاستجابة للطلب بكثير من الوسائل التقنية الجديدة والمستجدة أو المطورة، لكن ذلك - وإن كان يحل إشكالية الطلب - إلا أنه بعد فترة ما طالت أو قصرت حسب حجم المجتمع وواقع ظروفه الحياتية، يبدأ طلب آخر يستجد من واقع الظروف الجديدة، يروج له بإلحاح جميع وسائل الإعلام، والإعلان المكتوب والمرئي والمسموع بحيث لا فكاك! هكذا تستمر الأمور في دوائر متصاعدة لكنها متزايدة الحجم والنوع، مثل القمع واقف على فتحته الضيقة ويتسع كلما ارتفع المنظور (الطلب/الاستجابة) إلى أعلى؛ فهل يطفح القمع إلى هباء؟
Unknown page