هذا الاستطراد عن مخاطر السيول ضروري للتحذير من المخاطر التي تتعرض لها الطرق الجيدة التي شقتها مصر في النطاق الجبلي من سيناء والبحر الأحمر. فقد كان أمرا سهلا أن تبنى الطرق في مسارات الأودية؛ لأنها تشكل فعلا طرق اختراق كونتها عناصر الطبيعة. لكن مخططي وخبراء هندسة الطرق لم يستفيدوا بالقدر الكافي من التجارب المعرفية للسكان، ولا بالقدر المناسب من الدراسات الجيولوجية والجغرافية والهيدرولوجية في المناطق الجافة. وقد آن الأوان للاستفادة من تلك المعارف بالإضافة إلى الصور الفضائية لعمل نماذج كمبيوترية لهيدروليكا مياه السيول في الوديان التي تمر فيها الطرق الرئيسية. وقد تتضح أهمية مثل هذا التمازج بين المخططين والعلوم الأخرى من ذكر بعض الأحداث المؤسفة للسيول. نحن نعرف السيول المدمرة للقرى الزراعية على طول الصعيد؛ لأنها قريبة منا وتحدث أضرار مادية وفي الأرواح، وتعلن وسائل الإعلام عنها وعن زيارات كبار المسئولين للمناطق المنكوبة، أما أن تحدث هذه السيول بعيدا عن العمران فلا تحظى بمثل هذه التغطية الإعلامية - إذ كل ما هنالك أضرار مادية بالطرق لا تؤخذ كثيرا في حسابات الإعلام. لكن الواقع شيء آخر. فمثلا حينما حاصرت السيول مطار الغردقة، كم ضاع من الوقت بالنسبة للمسافرين سواء كانوا من المصريين أو الأجانب. حسابات الوقت على جانب كبير من الأهمية لحالات معينة كالمريض أو الموظف أو التاجر ورجل الأعمال.
بعد كل سيل متوسط إلى جارف تحدث خسائر متمثلة في انهيار أجزاء من الطريق، أو تغطيتها بفروش كبيرة من الطين والرمال والمفتتات الصخرية. ويحتاج الأمر إلى إعادة بناء الجزء المنهار من الطريق. ويجب أن تكون هناك بدائل للطرق كي تستخدم إلى وقت إصلاح العطب في الطريق الذي أصابته السيول بالتدمير. مثلا حينما دمرت السيول المتوسطة في أكتوبر 2002 نحو 18 كيلومترا من طريق وادي وتير، إلى جانب دمار أخف لأجزاء كثيرة من هذا الطريق، فقد كان البديل هو طريق نويبع طابا رأس النقب نخل . وهذا الطريق البديل هو الآخر يتعرض للسيول في أجزاء كثيرة منه بحكم مساره في منطقة صعبة وبخاصة في منطقة رأس النقب، وفي بعض الأحيان لا توجد طرق بديلة صالحة لاستخدام أوتوبيسات النقل العام والسياحي، مما يؤدي إلى إغلاق أماكن سياحية إلى أن يتم الإصلاح، كما حدث في طريق سانت كاترين الذي خسر نحو 50كم في وادي الشيخ ووادي فيران نتيجة سيول أكتوبر 2002 أيضا. وفي هذا أبلغ الضرر بالمصالح والسمعة السياحية.
القصد هو حماية الطرق من أخطار قد لا تتكرر كل سنة ولكنها حينما تحدث فإن آثارها بالغة على معظم الطرق في سيناء والبحر الأحمر، حتى تلك المناطق الموغلة في الجنوب كطريق مرسى علم أو الشلاتين التي يظن أنها بعيدة عن السيول إلا كل عشر سنوات أو أكثر، فإنها أيضا لا تنجو، ذلك أن الأمطار السيلية هي أمطار طارئة تتسبب فيها أعاصير جامحة خرجت عن مسارها الأساسي، فهي تنتقل في أماكن يصعب التنبؤ بها وتطال أي منطقة في أي وقت. والذي يجعل سيلا أقوى من آخر أن الأمطار التي تتجمع في حيز وادي تسير بقوة مع انحدار الوادي فتجرف معها كل شيء، بينما الأمطار السيلية التي تسقط على مناطق متسعة سهلية فإنها لا تكون سيولا جارفة، وإنما مساحات كبيرة من الماء في شكل برك سرعان ما تجف. هذا فضلا عن أن الأمطار الساقطة على صخور قليلة المسام كالجرانيتية تساعد على تكوين سيول قوية، بينما تكون مخاطر السيول أقل إذا سقط المطر على الصخور المسامية كالجيرية وتكوينات الحجر الرملي. (10-2) كيف نقلل من أثر السيول؟
وبناء على ذلك فإنه بدلا من الإنفاقات على إصلاح الطرق المهمة بعد كل سيل، فالمطلوب تكوين لجان متعددة التخصصات من أجل إجراء دراسات جيولوجية ومورفولوجية وهيدرولوجية للوديان التي تشكل مسارات طرق مهمة وحيوية في أودية مثل وتير وفيران وقنا-سفاجا وإدفو-مرسى علم، وكذلك الوديان التي تنتهي عند مدن سياحية كدهب وشرم الشيخ والغردقة ومرسى علم والقصير ... إلخ. وربما نقترح إعادة النظر في أجزاء من الطرق التي تتكرر فيها آثار السيول، بإقامة الطريق على ارتفاع بضعة أمتار على أحد جانبي الوادي، مع عمل كباري ذات عيون عريضة عند التقاء الوادي الرئيسي بالأودية الفرعية، وعمل شبكات صلب على الواجهات الصخرية شبه العمودية لتقليل اندفاع الصخور على عرض الطريق، ووسائل أخرى معروفة وممارسة. كما أقترح أن تساهم الهيئات الصناعية والفندقية في تحمل بعض أعباء مثل هذه الأعمال؛ لأنها تعود عليهم في النهاية بمردود محسوب.
إن بناء السدود على بعض الأودية أمر وارد ومجرب، لكن السدود تتعرض للانهيار في حالة السيول القوية، كما حدث في قناطر «لحفن» جنوب العريش بنحو عشرين كيلومترا التي هدمها سيل 1979، وسد «خزام» في محافظة قنا الذي هدمه السيل بعد أيام قليلة من بنائه عام 1985، وقد يتعرض السد للإطماء بالطين والمفتتات الصخرية التي تجلبها سيول متوسطة على مدى سنوات، مما يؤدي إلى ضرورة تعليته كما حدث في سد «الروافعة» في وادي العريش الذي بني عام 1946، وأجري تعليته 1982، بعد أن فقد نصف حجم حوض التخزين.
ولكن ربما يكمن الحل في إقامة مجموعات من السدود الغاطسة بحيث تقلل من حدة تيار السيل ولا تهدم السد الغاطس وتحجز في النهاية، بعد ذروة السيل، بعض الماء في صورة بركة وبحيرات صغيرة في بطن الوادي. وتتسرب مياه هذه البرك تدريجيا إلى الطبقات الصخرية حاملة المياه الجوفية، فتساعد على إعادة تغذية للمياه الجوفية التي تظهر في صورة عيون وينابيع في الأجزاء الدنيا من الوادي. ومثل هذه السدود الغاطسة أقل تكلفة بكثير من السدود التقليدية، وغالبا ما تبنى بركامات حجرية ذات قواعد عريضة فلا تتعرض للانهيار، ولا نخسر كثيرا لو انهارت.
وعلى أية حال فالأمر متروك لبحوث قابلة للتنفيذ من جانب المتخصصين في هندسة الطرق وميكانيكية التربة والاقتصاديين والبيئيين وعلماء آخرين في التطبيقات البشرية، من أجل إحكام القدرة على تجنب المخاطر بنسبة أعلى مما هو قائم حاليا. أما تجنب السيول تماما فأمر غير ممكن؛ لأننا لم نلم بكل المعرفة المرتبطة بموازين طبيعة الغلاف الجوي، وإلى أي مدى يتأثر بعوامل أرضية أو فضائية. (10-3) لماذا الاهتمام بالطرق؟
هذه الاطالة في هذا الموضوع هي على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للطرق التي تخترق الصحاري والمناطق الجبلية الجافة. وتعود أهميتها إلى أن الطرق هنا في سيناء ككل وفي البحر الأحمر هي شرايين الحياة الأساسية لحياة المدن التي تميزها، والتي يسكنها عاملون في مجالين هما من أهم قاطرات الاقتصاد المصري: البترول والسياحة. وقد ضخت مصر مليارات الأموال في إنشاء حقول النفط على طول خليج السويس الذي هو بحق خليج النفط المصري. عوائد البترول أكثر ثباتا من عوائد السياحة، وإن كان سعر البترول يعتريه التغير حسب الظروف الدولية. وكذلك ضخت مصر مليارات أخرى لبناء المدن والقرى السياحية التي ترصع شواطئ البحر الأحمر وخليج العقبة. حبذا لو كف المستثمرون عن بناء فنادق وقرى الدرجة العالية (+4 نجوم)، واتجهوا إلى فنادق أقل درجة (نجمتين) وبنسيونات أكثر، فهما مقصد أكثر جذبا للسياحة المحلية وأكثر ضمانا للحركة والعمالة من النجوم الخمسة حتى في الحالات التي تهتز فيها السياحة وتتناقص نتيجة الأحوال السياسية المضطربة في الشرق الأوسط، أو أحوال الأمن المصرية ضد غوائل المتشددين والمتطرفين، ولكن بغض النظر عن هذا وذاك فإن البنية الأساسية لاستمرار نجاح السياحة والثروة النفطية هي وسائل النقل على طرق ممتازة آمنة من غضب السيول الفجائية.
صحيح أن الطرق البرية ليست هي كل البنية الأساسية لحياة الناس في سيناء والبحر الأحمر والسويس. فالبترول ينقل بالبحر أو أنابيب إلى القاهرة وأسيوط فضلا عن خط أنابيب سوميد - السويس البحر المتوسط - الضخمة الذي يخترق أقصى شمال الصحراء الشرقية، كما أن المدن تتلقى مياه عذبة من النيل عبر خطوط أنابيب من الكريمات إلى البحر الأحمر وإلى جنوب سيناء، لكن هذه الأنابيب قد تتعرض للسيول القوية مثلها مثل الطرق البرية. وصحيح أيضا أن هناك عدة مطارات في طابا وشرم الشيخ والغردقة ومرسى علم، إلا أنها تصل إلى نقاط محدودة يحتاج المسافر بعدها إلى الطرق البرية ليكمل رحلته إلى عمله أو مصيفه ومشتاه.
فالخلاصة إذن: أن الطريق البري هو الترس الأساسي في ضمان نجاح أشكال الاقتصاد في المحافظتين ، ومن ثم وجب الحفاظ عليها بإلقاء نظرة علمية تجريبية من أجل إقامة التوافق الحسن بين النشاط الإنساني وموازين الطبيعة. (11) مصر العليا وجنوب الوادي
Unknown page