Misr Khadiwi Ismacil
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Genres
وإنما توسلوا إلى إلزام الأهالي بذلك بوسيلتين اتخذوهما من سوء استعمالهم ما منحتهم الامتيازات من حق حضور التنفيذ بأنفسهم وحق حضور تراجمتهم محاكمة الأجانب أمام محاكم السلطة المحلية، فإن أولئك التراجمة - ولم يكونوا يتقاضون من القنصليات سوى ثلاثين أو ستين فرنكا، كمرتب شهري - كانوا، لأسباب شخصية لا تغيب عن فطنة اللبيب، يهملون الذهاب إلى المحاكم المحلية في القضايا المرفوعة على رعايا قنصلياتهم، فلا تستطيع هذه المحاكم إصدار أحكامها وهم غائبون، أو في حال غياب المدعى عليهم - المتخلفين عن الحضور، لتأكدهم من غياب التراجمة - فتتأجل القضايا أياما وأشهرا ، حتى يضجر المدعون من الأهالي، ويلجأوا إلى قناصل خصومهم في أمل نيل حمايتهم؛ والقناصل، بدلا من إرسال الجميع مصحوبين بتراجمتهم إلى منصة القضاء الأهلي، طفقوا يجلسون هم أنفسهم، قضاة بين الفريقين، ولما كان معظمهم، إلا قناصل الدول الكبرى، تجارا، فإنهم ارتاحوا إلى الأمر جدا، لأنهم رأوا فيه إمكان قيامهم قضاة في دعاوى قد ترفع عليهم أو منهم بصفتهم تجارا. كذلك كان القناصل يتخلفون عن حضور تنفيذ الأحكام الصادرة ضد رعايا دولهم من المحاكم المحلية، فيعطل التنفيذ أياما وأشهرا، بالمثل، حتى يضطر من حكم لمصلحتهم من الأهالي أن يخضعوا للقضاء القنصلي، وهم يؤملون - وكثيرا ما كانت آمالهم تذهب أدراج الرياح - أن يستطيعوا تنفيذ حكم يصدره القنصل نفسه في مصلحتهم.
وليت القناصل وقفوا عند هذا التجاوز الأخير؛ ولكنهم تعدوه التعدي النهائي، أيضا؛ وبلغ من تطرفهم في الغطرسة والخيلاء أنهم استدعوا ذات حكومة البلاد أمام منصة محاكمهم، وحاكموها وحكموا في أغلب الأحيان عليها، لمصلحة رعاياهم، بتعويضات باهظة، كثيرا ما كانت تثقل كاهلها، وبلغت في أربع سنين فقط؛ أي: ما بين سنة 1864 وسنة 1868 ما يقرب من ثلاثة ملايين من الجنيهات، وذلك بحجة إقدامها على فسخ عقود أبرمتها مع أولئك الأجانب أو على أعمال أوجبت فسخ تلك العقود!
على أن جميع تعديات القناصل هذه لو كانت تجاوزات ونزعات غطرسة فقط، لهان الخطب وقلت فداحته، ولكنها أوجبت اضطراب مجاري العدالة اضطرابا لم يعد يمكن معه إقامة معالم للعدل مطلقا، وأضاع الحقوق كلها، وذلك لثلاثة أسباب أساسية:
الأول:
أن تلك المحاكم القنصلية لم تكن متضامنة في تشريعها وأحكامها، بل ولا مرتبطة ولو مجرد ارتباط ذوقي بعضها ببعض: فكل منها كانت، من جهة، تطبق قوانين دولتها؛ ولا تعترف، من جهة أخرى، بالأحكام التي تصدرها زميلاتها.
ونتيجة ذلك أن المدعي كان يضطر، متى تعدد المدعى عليهم، إلى رفع قضيته الواحدة أمام كل محكمة من محاكم خصومه المتعددي القنصلية، وإلى اتباع إجراءات قانونية مختلفة، ربما أدى جهله بأحدها إلى بطلان دعواه شكلا؛ فإذا صحت إجراءاته كلها، وأصدرت تلك المحاكم المتعددة أحكامها، فإنه كثيرا ما كان يحدث أن بعضا من تلك الأحكام كان يناقض البعض الآخر مناقضة كلية: فيكسب المدعي هنا، ويخسر هناك - وأمر الوكالة ذات الزوايا السبع بالإسكندرية، وتضارب الأحكام في كل من زواياها، لا يزال حاضرا ذهن الشيوخ منا.
ولما كان من السهل على المدعى عليه الذي خسر أن يلبس رداءه القضائي لغيره من جنسية المدعى عليه الذي كسب، وذلك بواسطة تحويل بسيط؛ فإن المدعي الذي كسب كان يضطر، في مثل هذه الحال، إما إلى إعادة دعواه ضد خصمه الجديد أمام المحكمة القنصلية التي حكمت لغير مصلحته، والتي كان لا بد لها، إذا، من أن تحكم ضده مرة أخرى؛ إما أن يكل أمر التعويض عليه إلى الله ويحتمل خسارته صابرا؛ وإما أن يلجأ إلى الاستئناف بعد الفراغ من كل تقاض ابتدائي.
على أن مجرد تصور الراغب في التقاضي مجموعة العقبات القائمة أمامه في مثل تلك الأحوال، ومبلغ المصاريف والنفقات التي سيضطر إلى بذلها لكي يبلغ النهاية؛ ثم تخيله أنه قد لا تكون هناك نهاية لتقاضيه، حتى بعد الاستئناف، إزاء سهولة تحويل الحقوق، وعدم تقيد المحاكم بالأحكام التي تصدرها الواحدة منها، كانا كافيين لتثبيط عزيمته وعدوله عن كل مقاضاة، والرضا بضياع حقوقه.
هكذا حدث لشركة قناة السويس، فإنها أجرت بيتا لها في بورسعيد إلى أجنبي هناك؛ فتأخر عن دفع ما عليه؛ فأعلنته أمام محكمته القنصلية؛ فتنازل عن الإيجار لأجنبي آخر من غير جنسيته؛ فأهملت الشركة القضية الأولى، ورفعت قضية أخرى أمام محكمة الأجنبي الجديد؛ فتنازل هذا عن الإيجار إلى أجنبي آخر من جنسية خلاف جنسيته؛ فاضطرت الشركة إلى إهمال القضية الثانية، ورفع قضية ثالثة؛ ففعل الثالث ما فعل الثاني؛ فيئست الشركة من إمكان حصولها على حقوقها؛ فأهملتها، ولم تعد إلى المطالبة بها إلا بعد تأسيس المحاكم المختلطة.
الثاني:
Unknown page