252

Misr Khadiwi Ismacil

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Genres

المتنبي

إن نظام الامتيازات الأجنبية، الممنوح من الدولة العثمانية إلى الدول الغربية، والمقرر في مصر بسبب تبعيتها للباب العالي، ولأنها جزء من الممالك الشاهانية، كان يقضي بأن يكون مرجع رعايا تلك الدول في شئونهم التجارية، والمدنية، والشخصية، إلى قناصلهم؛ وأن لا يفرض عليهم ولا يؤخذ منهم ضرائب، إلا بعد مصادقة دولهم عليها؛ وأن لا يحاكموا أمام محاكم السلطة المحلية، فيما يتهمون به من جنايات وجنح ومخالفات، وفي قضاياهم التجارية والمدنية مع رعايا الدولة، إلا بحضور قناصلهم أو تراجمتهم، لينالوا، من ذلك الحضور، حماية من كل ظالم، ومساعدة في كل شأن.

فأما في تركيا، فإن نظام تلك الامتيازات لم يخرج، مطلقا، عن الدائرة التي وضع، أصلا، فيها؛ ولم يرو، أبدا، أن قنصلا تعدى حدودها، وافتات على ما حفظ للسلطة المحلية من حقوق، وربما كان السبب، في ذلك، قلة عدد الأجانب في البلاد - بالنسبة لاتساعها - وقلة احتكاكهم بأهلها.

فمع ما كان في نظام الامتيازات، والحالة كذلك، من خرق لمبدأ سيادة الحكومة المحلية المطلقة في دائرة أملاكها، فإن مضاره العملية لم تكن محسوسة، لغض الحكومة المحلية نظرها عن الاهتمام بشئون الأجانب المحضة التي لا مساس لها بأنظمتها أو بحقوق رعاياها؛ ولاعتبارها أولئك الأجانب هملا؛ لهم ما للهمل، الدائرين في الأسواق والشوارع والأزقة، من استقلال في الحياة؛ وعليهم ما على أولئك الهمل، فيما لو تعرضوا للأهالي بسوء أو تعدوا على أشيائهم.

وأما في مصر - لا سيما بعد أن أزال (محمد علي) كل الحواجز التي كانت بين حياة الأجانب وحياة الهيئة الاجتماعية المصرية، وفتح أبواب المهاجرة إلى وادي النيل، واسعة، أمام الغربيين، وعلى الأخص بعد وفاته، وتواري قوة يده المتينة الثابتة؛ وبعد أن لفظت حوادث أوروبا السياسية في سنة 1848 عددا كبيرا من المهاجرين إلى القطر المصري؛ وضاعفت، بل جعلت حرية التجارة وحرب القرم، وعلى الأخص، الأمن المخيم على البلاد، عدد الجاليات الغربية ثلاثة أضعاف ما كان - فإن نظام تلك الامتيازات خرج عن حدود دائرته بالمرة؛ وما فتئ قناصل الدول، اعتمادا على ما لحكوماتهم من قوة ، واغتناما لضعف خليفتي (محمد علي) و(إبراهيم) السياسي، يفتاتون على حقوق السلطة المحلية التشريعية والقضائية، حتى هدموا كل أركانها، وأصبحوا منها في مركز العزيز من الذليل، والحاكم من المحكوم.

فلم يعودوا يكتفون بالنظر في شئون رعاياهم المدنية والتجارية المحضة، المنفصلة عن الشئون المحلية عينها، ولا بحماية رعاياهم من جور الحكام المحليين الاحتمالي، أو إبعاد الحيف والضيم عنهم؛ بل تعدوا ذلك:

أولا:

إلى انتزاع كل سلطة جزائية على أولئك الأجانب من أيدي الحكومة، وجعلها من اختصاصهم، دونها، وبدون تداخلها في النظر في المخالفات والجنح والجنايات المرتكبة عن رعايا دولهم، حتى في التي تحدث أضرارا بالرعايا الوطنيين.

ثانيا:

إلى إلزام هؤلاء الأهالي ذاتهم بالمثول أمام محاكمهم القنصلية، في دعاويهم المرفوعة على رعايا حكومات أولئك القناصل، تطبيقا للمبدأ القانوني الروماني الناص بأن «المدعي إنما يقاضي المدعى عليه أمام محكمة المدعى عليه عينه»؛ ثم وصلوا، في تعدياتهم الجائرة على حقوق الحكومة المحلية، إلى حد داسوا معه - فيما يختص برعاياهم، متى كانوا مدعين، والوطنيون مدعى عليهم - على ذات المبدأ الروماني الذي قرروه؛ زعما منهم أن حقوق الأجانب لا يؤمن عليها في المحاكم الأهلية، وأنهم لا يجدون في أخلاق القضاة الوطنيين ما يقيمون عليه ثقتهم في قضائه، فأجبروا نفس المقاضي من أهل البلاد على المثول أمام محكمة مقاضيه القنصلية، وحاكموه؛ ثم ألزموا الحكومة المصرية، عن طريق المخابرات والتهديدات السياسية، بتنفيذ أحكامهم على رعاياها، رغم أنفها، ولو كان حكمهم جائرا.

Unknown page