245

Misr Khadiwi Ismacil

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Genres

فأهمل (إسماعيل) الجواب على ذلك التلغراف، فأيده الباب العالي بتلغراف آخر كان حظه حظ سابقه، ولكي يظهر الخديو مقدار اهتمامه بإشارات الصدارة البرقية، فيكيد عالي باشا خصمه الشخصي، أقدم - بالرغم من استدعاء أعياد الفطر القريبة وجوده في العاصمة - على سياحة نزهية على النيل، صحبة عقيلة أمريكية من جميلات الغرب، ورفقة ضيوف كان الحظ والتفنن في وسائل الملذات خير ما يعيشون لأجله في هذه الحياة الدنيا، ولم يعد من نزهته تلك إلا في الأسبوع الثاني من العام الجديد سنة 1870.‏

27

فأبرق، حينئذ، إلى الصدر الأعظم قائلا، عما يختص بالبنادق، إنه لم يشتر منها سوى أربعين ألفا فرقها على جنوده، وأنه لم يعد يبقى منها إلا ما لا سبيل إلى الاستغناء عنه للاحتياج إليه احتياطيا؛ وعما يختص بالمدرعات، إن صانعيها لم يقدموا له حساب نفقاتها بعد؛ وإنه، متى قدموه، وسدد له الباب العالي ما سبق إنفاقه منه، وأخلى سبيله من كل مسئولية تالية، يسرع بتسليمها إليه.

وبعد مضي خمسة عشر يوما ورد الحساب المقول عنه؛ فأرسله (إسماعيل) إلى الأستانة متباطئا، فلما اطلعت عليه وجدت أن الثمن المطلوب عن تلك المدرعات ثمانمائة ألف جنيه إنجليزي، فما وسعها، بعد محاولة إدخال بعض التعديل عليه، إلا قبوله على فقر خزينتها، ودفعته وهي ممتعضة امتعاضا كبيرا.

فاغتنم (إسماعيل) حالتها النفسية، وأرسل نوبار باشا إليها بما يزيل امتعاضها - وكان (إسماعيل) يقول: «إن نوبار خير من تعهد إليه مهمة لدى رجال الأستانة، لتفوقه في الصلف والتنكيت؛ كما أن «شريفا» خير من يوفد إلى بلاد الإنجليز، لمهارته في الصيد والقنص».

واتفق أن عادت إلى الأستانة من مصر، في ذلك الوقت، غادة بديعة الجمال، كان السلطان عبد العزيز قد أعجب بحسنها لدى زيارته (لإسماعيل) في مدة إقامة هذا الأخيرة على ضفاف البسفور.

فلما أزالت النقود، التي بذلها نوبار باشا، كل أسباب الخلاف القائم بين تركيا ومصر، اتخذ همازور الأستانة ولمازوها ما اتفق من رجوع تلك الغادة إليها مع وجود نوبار باشا فيها، وتردد أقدامها الحورية على سراي «ضلمه بغچه» ذريعة للتأكيد بأن تسوية الخلاف التركي المصري إنما يجب نسبتها، في الحقيقة، إلى عمل تلك السفيرة الجميلة، وحسن وقع زيارتها للسراي السلطانية في قلب السلطان عبد العزيز، لا إلى نقود نوبار أو تنازل الخديو عن مدرعاته. ألا:

ويل لكل همزة لمزة !

غير أن تسوية الخلاف لم تجعل (إسماعيل) يقلع عن تغذية أمنية الاستقلال التام في صميم فؤاده، والنظر، بالتالي، إلى مستقبل علاقاته مع تركيا بعين الريب والحذر. لذلك ما انفك دائبا على إتمام استعداداته الحربية، وجمع الجنود جمعا حثيثا، وحشدها على شواطئ البلاد، وفي ثغورها، لا سيما بالإسكندرية، حيث اكتظ ميدان (محمد علي) بها وبمعداتها، وحيث أخذت المدافع تدوي، بين حين وحين، منذرة بالتجهز للدفاع، بل وللهجوم أيضا.

وقد كتب أحد مراسلي الصحف إلى جريدته، في أوائل تلك السنة، ما يأتي: «قد نظرنا، بالأمس، عدة آلاف من الفعلة يؤمرون بالاشتغال في إقامة المعاقل والحصون؛ وبتنا، وكل مظهر من مظاهر الحياة حولنا يحملنا على الاعتقاد بأن الترك منتظر مجيئهم هنا، وأن سمو الخديو يعد لهم استقبالا حاميا، والناس بالإسكندرية يتهامسون بأنه سيجد مساعدة في ذلك من اليونان والكريتيين، ومن يوسف بك كرم زعيم الموازنة الثائرين على الدولة في جبل لبنان، والذي أصبحت علاقاته بسموه في منتهى الود والإخلاص. أم يجد (محمد علي) العظيم عونا فعالا، وحليفا صدوقا في شخص الأمير بشير الشهابي الكبير؟ فلم لا تتردد صورة هذا اللبناني الخطير على مخيلة (إسماعيل) كلما يطرق اسم يوسف بك كرم أذنيه؟ ولم لا ينتظر، فيما لو هاجم تركيا في عقر دارها، أن يجد من هذا الزعيم نفس المساعدة والمعاونة اللتين وجدهما (محمد علي) من ذلك الأمير؟

Unknown page