246

Misr Khadiwi Ismacil

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Genres

إن الناظر إلى الإسكندرية الآن يخالها مدينة في حال حصار، لا مركزا هادئا للتجارة والإتجار؛ ولا يمكنه إلا أن يتوقع شرا من الحرب، من أية جهة هبت، فمحطات البوليس ونقطه العادية قد عززت بجند نظامي؛ وسلحت البطاريات بأثقل المدافع وأقواها؛ والجنود، بالبنادق ذات الإبر الجديدة، ولا ينفك العمل جاريا في الترسانة ليلا نهارا، لتجهيز المعدات والآلات والذخائر الحربية على أنواعها.

وقد غيرت كلمات النظام العسكري والأوامر العسكرية، وجعلت عربية بدلا من التركية؛ وطردت التركية أيضا من جميع مصالح الحكومة، وأحلت العربية محلها؛ وأصبح كل شيء، في الواقع، يدل على عزم الخديو على قطع علاقاته بالباب العالي، وفصم عرى كل وثاق يربط مصر بالسلطنة العثمانية، وينذر بقرب حدوث ذلك!»

28

ومما ساعد على رسوخ هذه التوقعات في النفوس أن الكولونيل كورونئس، زعيم الثورة الكريتية التي أخمدت حديثا، أتى إلى مصر وانتظم في جنديتها، وكذلك (موط) الجنرال الأمريكاني الاتحادي.

وما أقام هذا الأخير بمصر مدة، وأتم بعض أشغال مالية فيها، إلا وكلفه الخديو بالذهاب إلى نيويرك، ليحمل أي عدد كان من المحاربين، أمثاله، على التطوع في الجندية المصرية، ففعل، ولكنه هو، والذين أحضرهم معه لم يكونوا ممن يفتخر بأمثالهم، فما وسع (إسماعيل) إلا صرفهم، بجيوب مملوءة، وإحضار ضباط أمريكيين غيرهم جديرين بثقته، وأكفاء للمهمة التي كان يريد أن ينوطها بهم؛ فحضروا تحت قيادة الجنرال (ستون)؛ وقاموا بأعباء ما عهد إليهم من الأعمال خير قيام: إما كمدربين عسكريين، وإما كمهندسين، ومراقبين ملحقين بعدة حملات جنوبية، سيأتي الكلام عنها في حينه.

على أن (إسماعيل) - وإن يكن قد اتخذ عدته لمقابلة الطوارئ من الوجهة العسكرية - لم يكن بالرجل الذي يميل إلى التطوح في مجاهل الحروب، متى أمكنه تحقيق أماني نفسه بطرق سلمية، وبواسطة ما يبذله من مال.

فلعلمه - من جهة - أن الأستانة مدينة تشترى أكثر مما كانت روما، لما خرج «چوجرتا» ملك نوميديا منها هاتفا: «لا يعوزك، أيتها المدينة المبتاعة، إلا من يستطيع شراءك»؛ وأن السلطان عبد العزيز لا يضن عليه بإجابة أي طلب يرفعه إليه، حتى لو كان الاستقلال الكلي بمصر، إذا شفعه بما يوازي أهمية الإيجاب من الأصفر الرنان؛ ولشعوره - من جهة أخرى - بأنه يستطيع شراء الأستانة، مهما تغالت في المساومة عن نفسها، ويستطيع إعطاء سلطانها ما يحب من الذهب، مهما كان كبيرا، رأى - ريثما تحسن الأيام الأحوال - أن يقصد عاصمة بني عثمان، فيقدم فيها مساعيه، ويجمل مركزه بنفسه، وبما يطمع فيه من نقوده.

لذلك، لما غمر خزينته القرض الذي عقده له، بالرغم من حظر الفرمان الأخير، محل بيشو فشهيم وجولد شمدث، أرسل يستدعي ابنه الأمير (محمد توفيق) من سياحته التي كان قد أقام إليها، منذ زمن قليل، في البلاد الأوروبية، وبلغ فيها مدينة ڨيينا - وهي سفرته الأولى والوحيدة إلى خارج القطر - فأقامه مقامه على دفة إدارة البلاد؛ ثم استقل «المحروسة» يخته الخاص، وسار بآماله وأمواله إلى الأستانة، بالرغم من أن منذرات الحرب المقبلة بين فرنسا وبروسيا كانت تدوي في الفضاء، وأن بعض المقربين منه أشاروا عليه بتأجيل سفره، لذلك السبب، وريثما تزول، من النفوس، القرحة التي أوجدها خلافه الأخير مع دار الخلافة، ولكن (إسماعيل) أبى؛ لأنه كان يعرف من هم رجال تلك الدار؛ ولأنه، ربما كان يتوقع تلك الحرب؛ ويعتقد، كجميع أهل الشرق ومعظم أهل الدنيا، في تلك الأيام، أن النصر مضمون لفرنسا فيها؛ وأنه يحسن به، إذا، أن يتخذ أهبته، ويمهد طريقه في عقر دار خصمه، ليتمكن من الاستفادة من النصر الفرنساوي العتيد، الاستفادة كلها، وهو غير متعرض إلا إلى أقل ما يمكن التعرض إليه من الأخطار.

غير أن الحرب باغتته، كما باغتت الجميع:

أولا:

Unknown page