Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr

Muhammad Fuad Shukri d. 1392 AH
164

Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Genres

الفصل الثالث

تخطي العاصفة: حملة «فريزر» وفشلها

تمهيد

لم يكن الغرض من إرسال حملة الميجور جنرال «ماكنزي فريزر»

Machenzie Fraser

إلى مصر احتلال هذه البلاد، بل كانت هذه الحملة - عند التفكير في إرسالها - جزءا من مشروع أساسي يرمي إلى تخويف الباب العالي والضغط عليه للانفصال عن فرنسا، والانضمام إلى عدوتيها إنجلترة وروسيا، فكان القصد من إرسالها احتلال الإسكندرية، وتأييد الأحزاب الصديقة لبريطانيا في مصر (أي جماعة الألفي) وذلك لإنشاء دفاع عن البلاد بمعاونة البكوات يحول دون الفرنسيين إذا جاءوا بحملتهم إليها، فقد سيطر على تفكير الإنجليز من سياسيين وعسكريين أن نابليون لن يتخلى عن محاولة امتلاك مصر مرة ثانية، واستبد بهم الخوف من نزول الفرنسيين في هذه البلاد، حتى إنهم صاروا يرون في صداقة فرنسا لتركيا أو مناصبتها العداء مفضيا في كلا الحالين إلى احتلال الفرنسيين لمصر، سواء بوصفهم أصدقاء الباب العالي أو أعداء له.

وأدخل «مسيت» - كما رأينا - في حسابه هذا الاحتمال على وجهيه، عندما صار يلح على حكومته في ضرورة احتلال جيشها للإسكندرية، تمهيدا ولا شك - كما أراد «مسيت» لاحتلال مصر بأسرها، ولقد تسلطت فكرة احتلال الإسكندرية أو مصر على أذهان غيره من رجال الحرب والسياسة الإنجليز، وفي مقدمة هؤلاء الأميرال «نلسن»، على أنه بالرغم من هذا كله، ومما أخذ به «مسيت» خصوصا، لم يكن غرض حكومة لندن - بحال من الأحوال - احتلال مصر أو حتى امتلاك الإسكندرية ذاتها، بل إن كل ما اهتمت به هذه الحكومة كان أمر مراقبة الحرب في القارة الأوروبية، وتدارك الأخطار التي قد تهدد مواقع الإنجليز في البحر الأبيض لا سيما في مالطة وصقلية، نتيجة لتمكن سيطرة نابليون في إيطاليا ولانتصاراته في أوروبا، زد على ذلك أن إنجلترة كانت تريد التمسك بالإسكندرية ذاتها، بل إذا حدث أن اقتضت الظروف بقاء احتلال جيوشها لها حتى نهاية الحرب، فإنها كانت تنوي عند عقد السلام العام إعادتها إلى تركيا؛ ولذلك فقد ارتهن مصير حملة «فريزر» - من مبدأ الأمر - بتطور الحوادث في الميدانين: السياسي والعسكري في أوروبا.

بيد أن هذه الحملة كانت حلقة من حلقات تلك الصعوبات التي صادفت محمد علي بين عامي 1805، 1807، وكادت تودي بولايته، ولا جدال في أن حملة «فريزر» كانت ذات آثار عظيمة في حياة محمد علي، فقد استطاع قواده إنزال هزيمة ساحقة بجيش «فريزر» في معركة الحماد، وأقام محمد علي الدليل عند مجابهته هذا الخطر - سواء بالإشراف على تحصين القاهرة أو العمل على استتباب الهدوء والسكينة بها، أو معالجة مسألة بكوات الصعيد - على أن في استطاعته الاضطلاع بأعباء الحكم على خير صورة، أضف إلى هذا أن اجتياز هذه الأزمة الأخيرة بسلام بعد انتصاره على البريطانيين رفع ذكره في العالم الإسلامي، كرجل استطاع وحده مقاومة أقوى دول أوروبا وقتئذ، ثم أكسبه نجاحه عطف الباب العالي، وكان لا مناص من جلب رضاء هذا عليه، إذا شاء الاستقرار في حكومته، ثم إن انصراف الديوان العثماني عن الكيد له - مؤقتا - لم يلبث أن أتاح له الفرصة خلال السنوات الثلاث التالية ليعمل على دعم أركان ولايته، ثم إن نجاحه هذا لم يلبث أن زاده ثقة في نفسه وفي قدرته على الاحتفاظ بولايته، فتزايدت من ثم أطماعه، وارتسمت في ذهنه من هذا الوقت المبكر معالم الخطة التي قر رأيه على اتباعها لتحقيق أهدافه، فقد صار لديه الآن من القوة ما يجعله يرفض استبدال أي باشوية أخرى من باشويات الدولة بولاية مصر، بل صارت تنم أحاديثه وفعاله عن رغبته في الظفر من الباب العالي بوضع يميزه عن سائر باشوات الدولة وحكام ولاياتها، ولقد كان لحملة «فريزر» من هذه الناحية أهمية كبرى؛ ذلك لأن الباشا كشف للمرة الأولى أثناء مفاوضاته مع مندوبي هذا القائد الإنجليزي بصدد إخلاء الإسكندرية وإنهاء احتلالها عن حقيقة هذا الوضع الجديد الذي يبغيه، وهو أن ينشئ حكما وراثيا في أسرته في مصر مع التبعية للباب العالي على غرار الوضع القائم في وجاقات الغرب، حيث كانت تحكم وقتئذ أسرة القره مانلية في طرابلس الغرب، والحسينية في تونس، ويستأثر الدايات: (جمع داي) في الجزائر بكل سلطة، والواقع أن حملة «فريزر» قد اختتمت دور التجربة والاختبار الذي مر به محمد علي، وكان دورا عاتيا قاسيا، وبدأ محمد علي يمارس شئون الحكم من الآن فصاعدا كمن صار له السلطان نهائيا، ويظهر في كل أعماله كمن صارت له كل حقوق السيادة.

ولقد كان لحملة «فريزر» أهمية أخرى من حيث تشكيل علاقات باشا مصر مع الدولتين اللتين تنازعتا على النفوذ في مصر نزاعا عنيفا منذ أن جلا الفرنسيون في 1801 ثم البريطانيون في 1803 عن هذه البلاد، وهو نزاع أثر على مجرى الحوادث بها بصورة ساعدت محمد علي نفسه على الاستفادة منها وتأسيس حكمه في مصر، فقد أقبل «دروفتي» أثناء الأزمة التي أوجدتها هذه الحملة على تعضيد حكومة محمد علي بكل ما وسعه من جهد وحيلة، وتبين للباشا أن في وسعه - من الآن فصاعدا - الاعتماد على صداقة فرنسا، فكانت هذه التجربة التي مرت بمحمد علي و«دروفتي» معا منشأ ذلك الوفاق الذي ظل يسود العلاقات بين مصر وفرنسا في عهد محمد علي سنوات طويلة، ومن ناحية أخرى دل فشل حملة «فريزر» والظروف التي لابست هذا الفشل، على أن إنجلترة في معركة التنازع على النفوذ في مصر مع فرنسا قد أخطأت التقدير، فقامرت على حصان خاسر منذ أن بنت كل آمالها على إمكان طوائف المماليك الذين فرقهم التباغض والتحاسد، وسيطرت الأطماع والأنانية على أعمالهم، أن يؤسسوا حكما في مصر ينهي منها الفوضى، ويكفل لها الاستقرار الذي يدفع الغزو الأجنبي عنها.

وقد نبتت هذه الفكرة الخاطئة في ظروف كان يبدو فيها بعد جلاء الفرنسيين أن البكوات هم وحدهم القادرون على منع نزول حملة فرنسية أخرى في البلاد، وقد كان لهذه الفكرة مبرراتها وقتئذ للأسباب التي ذكرناها في موضعها، ولكن العسكريين والسياسيين الإنجليز أعوزتهم المرونة، فأصروا على التمسك بفكرتهم بعناد، على الرغم من تطور الحوادث، وقد أوضحنا كيف أنهم لم يدخلوا في حسابهم المناداة بولاية محمد علي كعامل قد يدعوهم إلى تعديل خطتهم، لا سيما عندما ظهر تخاذل البكوات، واتساع شقة الخلاف بسبب المنافسة والغيرة الشديدتين بين صنيعتهم الألفي وعثمان البرديسي، وتقع المسئولية على «مسيت» خصوصا في ترويج أن محمد علي قد اشتراه الوكلاء الفرنسيون، وأنه طالما بقي في الحكم تظل البلاد معرضة لغزو الفرنسيين واحتلالهم لها، وراح «مسيت» يطلب مرارا وتكرارا تدخل حكومته للحصول من الباب العالي على أمر بعزله أو نقله وطرد الأرنئود، فزاد «مسيت» - بفعله هذا - من تمكين الفزع في نفوس المسئولين في حكومته من ناحية الغزو الفرنسي المنتظر، ولقيت بسببه مخاوف «نلسن» الذي ظل هو الآخر ينادي بوجوب القيام بعمل عسكري بريطاني في مصر؛ لمنع هذا الغزو ما يعززها ويقويها.

Unknown page