Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr

Muhammad Fuad Shukri d. 1392 AH
163

Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Genres

أما الحاجة إلى المال فقد سبق الكلام عنها وعن الآثار التي ترتبت عليها، وقد كان من بين هذه على وجه الخصوص تذمر القاهريين من الإتاوات والمغارم التي فرضت عليهم، ولكن الباشا استطاع بسط الهدوء والسكينة في القاهرة بفضل اعتماده على مؤازرة المشايخ له لا سيما السيد عمر مكرم، بل ويذكر الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية عن المدة بين أول وعشرين أكتوبر 1806 أن عمر مكرم قد كشف للباشا عن مكايد شيخين كانا يحرضان القاهريين على الثورة، وقد تأثر هذان الشيخان بمساعي الوكلاء الإنجليز والقبطان باشا فألقى القبض عليهما في 5 أكتوبر، وأظهر عمر مكرم ولاء عظيما للباشا، وعاونه معاونة صادقة على استتباب الأمن والنظام في القاهرة، وكان بعد حوالي عشرة أيام أن أطلق الباشا سراح الشيخين بناء على توسط الشيخ سليمان الفيومي في أمرهما على شريطة مغادرتهما القاهرة إلى الريف.

وأما مشكلة الحاميات المتمردة فقد تزايدت خطورتها عندما أوفد الباشا في 20 أكتوبر أحد كبار ضباطه إلى حامية المنيا، ولم يلبث هذا أن عاد من مهمته فاشلا في 12 نوفمبر، ثم انضم إلى البكوات كاشفه الذي حكم الفيوم باسمه، وأظهر جند حسن باشا رغبتهم في تمضية أيام العيد الصغير بالقاهرة، ورفض جند رشيد الذهاب إلى الرحمانية للاشتباك مع الألفي (نوفمبر 1806) وإرغامه على رفع الحصار عن دمنهور، وتعالت صيحات جنود الباشا في كل مكان مطالبة بالنقود، النقود، وتعرض الرحالة الفرنسي «شاتوبريان» لإطلاق الرصاص عليه بكثرة عند عودته إلى القاهرة، وكان بسبب مشكلة الجند هذه أن كتب الوكلاء الفرنسيون في تقريرهم عن الموقف في مصر بين 14، 27 ديسمبر 1806: «إنه لمن المؤسي حقا أن يجد هذا الرجل محمد علي صاحب الآراء والمشاريع الضخمة نفسه على رأس طبقة عسكرية شيمتها الشره وحب المال والجبن ونبذ كل نظام»، ولكن محمد علي الذي استمر يطلب الفرض والسلف من القاهريين، وفتح الميري عن السنة القابلة، وصادر قافلة سنار، استطاع أن يدفع قسما كبيرا من مرتبات الجند، ثم إنه منع حسن باشا وجنده من الحضور إلى القاهرة، وبدا كأنما في وسعه أخيرا التغلب على كل الصعوبات التي تصادفه عندما جاءت الأنباء معلنة عن وفاة البرديسي، ثم عن وفاة الألفي بعد ذلك، ثم شغل الجند بالاستعداد للخروج في تجريدة كبيرة يترأسها الباشا نفسه ضد البكوات المماليك.

وكانت مسألة البكوات من المسائل التي وجب على الباشا إيجاد حل سريع لها حتى يأمن جانب هؤلاء إذا تعرضت البلاد للغزو نتيجة لتأزم العلاقات بين تركيا وروسيا وإنجلترة، وليس من شك في أن محمد علي كان يتوقع هذا الغزو عندما كانت الاستعدادات قائمة بالإسكندرية لتحصينها وراجت الأخبار عن حدوث مثل ذلك في رودس وكريت، فقد كتب «مسيت» إلى «أربثنوت» في آخر ديسمبر 1806 أن هناك استعدادات عسكرية وتحصينات تجري بالإسكندرية يعزو أمين أغا سببها إلى وجود حشود الأرنئود في رشيد والرحمانية وخوفه من المفاجأة إذا قرر هؤلاء الهجوم على الإسكندرية، ولكن «مسيت» - كما كتب - يعتقد أن سبب هذه الاستعدادات والتحصينات إنما هو وصول ططر من القسطنطينية بدأت الاستعدادات بعد مجيئهم مباشرة، مما يدل دون شك على أن أوامر قد بلغت هذا الحاكم من الباب العالي بشأنها، لا سيما وأن «مسيت» قد ترامي إليه أن نفس الشيء يحدث كذلك في كل من رودس وكريت؛ وعلى ذلك، فإن صح هذا فإن ما يجري هنا من استعدادات للدفاع إنما الغرض منها التهيؤ لدفع غزو أجنبي وليس لصد الأرنئود، ثم تساءل «مسيت»: ولكن من يكون هذا العدو الأجنبي الذي يستطيع غزو مصر في هذه اللحظة؟ لا شك في أن «أربثنوت» يعرف هذا العدو من معرفته لسياسة تركيا.

وقد كتب «دروفتي» بعد ذلك إلى «تاليران» في 2 مارس 1807: «إن مغادرة السفير الإنجليزي للقسطنطينية أحيت آمال أعدائنا هنا في وقوع غزوة بريطانية (على مصر) ويذيع وكلاؤهم هذا الرأي، ويبغي محمد علي الاستفادة من الاضطراب الذي وقع في صفوف المماليك بسبب وفاة البرديسي والألفي، فخرج على رأس جيشه إلى الصعيد لإرغام بكواته على التسليم، وغرضه أن يحطم أعداءه الداخليين حتى يمكنه التفرغ لمراقبة الشاطئ.»

واعتقد محمد علي أن الفرصة قد صارت مواتية لمعالجة مسألة البكوات من بيت الألفي بعد وفاة كبيرهم، فقد تبدل الحال الآن في معسكر شاهين بك خليفة الألفي، فساءت العلاقات بينه وبين العربان، وكاد هؤلاء ينهبون معسكر شاهين لو أن هذا لم يبادر بالقبض على رؤساء القبائل وحبسهم، وقد ترتب على ذلك أن غادر معسكره بعد ذلك مباشرة أكثر من نصف هؤلاء الفرسان البدو، وقد شجع محمد علي هذه الحركة بفضل ما صار يمنيهم به من وعود طيبة، كما أنه رحب بمن حضر منهم إليه، ثم إنه حتى يزيد من ضعف شاهين، لم يلبث أن سمح لكل من أراد من أهل القاهرة وأعيانها العودة إلى أسراتهم بدخول القاهرة وكان هؤلاء قد انضموا إلى معسكر الألفي، وانفض الآن عدد كبير منهم من حول شاهين، فرأى محمد علي وقد نقصت قوات شاهين وضعف جيشه أنه سوف يؤثر الصلح على الاستمرار في النضال والمقاومة، فأرسل إليه وإلى سائر البكوات في معسكره مكاتبة يستميلهم ويطلبهم للصلح ويدعوهم للانضمام إليه ويعدهم أن يعطيهم فوق مأمولهم ونحو ذلك، وأرسل تلك المكاتبة صحبة قادري أغا الذي كان قد طرده الألفي ونفاه، كما جعل بعض وسطائه السابقين مع البكوات، مصطفى أغا كاشف الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وغيرهما يكتبون إليهم بنفس المعنى، وكان شاهين بك يقيم بالبهنسا منذ وفاة الألفي، ثم قرن الباشا عروضه السخية على شاهين بك وسائر البكوات بمظاهر التهديد والتخويف فأخذ - كما يقول الشيخ الجبرتي - في الاهتمام والركوب واللحوق بهم، وفي كل يوم ينادي على العسكر بالمدينة بالخروج، وقوي نشاطهم ورفعوا رءوسهم وسعوا في قضاء أشغالهم، وخطفوا الجمال والحمير، وحضر الباشا إلى بيته في الأزبكية، وبات به ليلة الأحد أول فبراير 1807 وخرج لسفره يوم الخميس 5 فبراير وخرج إلى العرضى ثانية، ثم إنه أعد عددا عظيما من المراكب المحملة بالمؤن والذخائر والعتاد.

ولكن قادري أغا ما لبث أن عاد في 7 فبراير من مهمته فاشلا، فقد أحضر معه جوابا على رسالة الباشا عليه ختم شاهين بك وباقي خشداشينه الكبار، وآخر لمن كاتبهم يذكرون في جوابهم إن كان سيدهم قد مات وهو شخص واحد فقد خلف رجالا وأمراء وهم على طريقة أستاذهم في الشجاعة والرأي والتدبير، وكان ذلك من ضروب المبالغة في إطراء أنفسهم عن غير جدارة، حتى إن الشيخ الجبرتي لم يلبث أن علق على ذلك بقوله: «وليس كل مدع تسلم له دعواه، ومن أمثال المغاربة: ما كل حمراء لحمة ولا كل بيضاء شحمة.» ثم إنهم ذكروا في جوابهم أيضا أنه «إن اصطلح محمد علي مع كبرائهم الكائنين بقبلي (في أسيوط) وهم إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن وباقي أمرائهما كنا مثلهم، وإن كان يريد صلحنا دونهم فيعطينا ما كان يطلبه أستاذنا من الأقاليم.» وعندئذ لم يجد الباشا مناصا من الخروج لمحاربة البكوات، وقد غادر شاهين الألفي البهنسا، قاصدا إلى المنيا التي يحتلها سليمان بك المرادي يبغي الانضمام بقواته إليه.

ولم يمنع محمد علي من الخروج فورا في تجريدته ضد البكوات سوى إصابته في ليل 6-7 فبراير بمرض خطير مفاجئ حيث نزل به حادر وتحرك عنده خلط وحصل له إسهال وقيء، وأشاع الناس موته يوم 7 فبراير، وكاد العسكر ينهبون العرضى، ثم حصلت له إفاقة، وخرج السيد عمر مكرم والمشايخ للسلام عليه في اليوم التالي (8 فبراير) وليهنوه بالعافية، وقد أشرف على علاجه طبيبه «بوزاري»

Bozari

وفي 9 فبراير ارتحل الباشا بالعرضى إلى ساقية مكي بالجيزة متوجها لقبلي، بعد أن كلف كخياه كتخدا بك «طبوز أوغلي» بالقيام بشئون الحكم في غيابه، وفي 12 فبراير بدأ زحفه صوب الصعيد.

وكان أثناء غياب محمد علي وبعد حوالي أسبوعين من خروجه من القاهرة أن جاء الخبر بقيام الحرب بين تركيا وروسيا وتوقع حدوث غزو على مصر من جانب الإنجليز حلفاء الموسكوب.

Unknown page