Min Naql Ila Ibdac Tanzir
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
Genres
19
ودليل العناية ودليل الاختراع نموذجان للأدلة القرآنية على وجود الله. وهي أدلة في الفطرة منصوص عليها في الشرع. فالشرع منبه على الفطرة، والفطرة تأكيد على الشرع. والفطرة عند ابن رشد هو عهد الذر الأول الذي أخذ الله فيه على بني آدم عهد التوحيد، وأشهدهم على أنفسهم بوحدانية كما يقول الصوفية. هو دليل عملي يتطلب الطاعة والامتثال، تشارك في كل مظاهر الكون بالتسبيح كل بلغته. ومن سلك هذه الطريق يكون من العلماء الذين يشهدون لله بربوبيته مع شهادة الله لنفسه مع الملائكة ومثل تسبيح الموجودات له. والتعليم الشرعي نافع للأكثر ضار للأقل الذين في قلوبهم مرض وزيغ ويتبعون المتشابه ابتغاء التأويل والفتنة.
20
ومع ذلك يقوم كل من دليل العناية ودليل الاختراع على مقدمات ونتائج كما هو الحال في الدليل المنطقي. فمثلا يقوم دليل الاختراع على مقدمتين. الأولى أن الموجودات مخترعة. وهي مقدمة معروفة بنفسها من ملاحظة النبات والحيوان. والثانية أن كل مخترع له مخترع لأن من لم يعرف حقيقة الشيء، لم يعرف حقيقة الاختراع. وهناك بعض الآيات تتضمن دليل العناية وحده، وآيات أخرى تتضمن دليل الاختراع وحده، وآيات ثالثة تجمع بين الدليلين وهي الأكثر. والدليلان في النصوص بمعنى الحكمة والتدبير تحولا إلى دليل دافع به المسلمون عن العناية ضد اليونان. وفي كلتا الحالتين حكمة الطبيعة عند المسلمين من الله وعند اليونان من الطبيعة. فقد خلقت الطبيعة لمنفعة الإنسان، الجبال لسكون الأرض، وموافقة الليل والنهار لدورة النوم واليقظة عند الحيوان والنبات، وموافقة كل شيء على الأرض في حياة الإنسان، السماء والشمس والقمر والكواكب والنجوم والماء والنبات والزرع والهواء. ويثبت القرآن العناية ضد الجواز، جواز أن يكون الشيء على غير ما هو عليه أو الاتفاق وهو الأقل ضرورة. والجواز لا يسمح بالإتقان . فالجائز ليس أولى بالشيء من ضده.
21
ويستعمل ابن رشد لفظ دلالة وليس «دليل»، أي إنها مجرد إشارة أو علامة وإن لم تكن دليلا في صياغة منطقية، مقدمات ونتائج. ويلاحظ كثرة النصوص كما هو الحال عند الأشعري في «الإبانة» أو الرازي في «أساس التقديس». والعذر في ذلك أنه يريد أن يكون أشعريا مع الأشاعرة كما أراد الغزالي أن يكون متكلما مع المتكلمين، فليسوفا مع الفلاسفة، أصوليا مع الأصوليين، صوفيا مع الصوفية.
22
ويثبت ابن رشد وحدانية الله بعديد من الآيات ونفيها عمن سواه بنص الشرع بنفس الآيات التي صاغ بها الأشعري دليل الممانعة، استحالة وجود إلهين في وقت واحد. ويعلم العلماء هذا الدليل من إيجاد العالم وكون أجزاء بعضها من أجل بعض بمنزلة الجسد الواحد أكثر مما يعلم الجمهور. ويبرهن ابن رشد على كل مقدمة من مقدمات الدليل بالنص فأصبح تأويل النص هو تحليل للعقل وتحقيق الطبيعة. وينتهي من مجموع الآيات إلى استحالة وجود إلهين متفقين أو مختلفين في الأفعال. وأحيانا يعرض صفة القيام بالنفس مع الإنسانية. فالله لا يقوم بالعرش بل العرش الذي يقوم به.
23
ثم تثبت صفة العلم بالأشياء الحادثة دون أن يكون العلم قديما. العلم بالمحدثات حين حدوثها. لا يعلم حادث بعلم قديم. فهذه بدعة. وهو حكم شرعي من ابن رشد الفقيه. وتثبت صفة الإرادة بأن الله يريد كل شيء وقت كونه، وغير مريد لكونه في غير وقت كونه. وتثبت صفة الكلام بالطرق الثلاث التي تحدث عنها القرآن. الأولى الوحي بغير واسطة لفظ بل بانكشاف المعنى، والثاني من وراء حجاب بواسطة ألفاظ مثل موسى. والثالث يرسل رسولا بواسطة ملك مثل محمد. وبهذه الجهة صح أن القرآن كلام الله. وقد يكون من كلام العلماء ما يلقيه الله لهم. فهم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين. وهنا يبدو ابن رشد صوفيا مغرقا، لا فرق بين كلام العلماء وكلام الأولياء. وتثبت صفتا السمع والبصر. فمن العبث عبادة الإنسان من لا يدرك. هذا هو الحد الشرعي لمعرفة التوحيد وكأن ابن رشد ينظر إلى علم الكلام من منظور شرعي. ابن رشد الفقيه يحكم على ابن رشد المتكلم.
Unknown page