Min Naql Ila Ibdac Nass
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٢) النص: الترجمة – المصطلح – التعليق
Genres
5
وقد لاحظ المؤرخون هذه المراحل المختلفة في التحول من النقل إلى الإبداع، ابتداء من الترجمة حتى الشرح والتأليف. ويصف طاش كبرى زادة هذه المراحل، ابتداء من رغبة الخليفة المأمون ترجمة علوم الأوائل وإلا فالحرب إذا امتنع، وقبول ملك الروم إرسالها إليه لتفتيت المسلمين والشك في دينهم، ثم أتى الفارابي ولخصها وهذبها؛ ونظرا لأنه كان كثير الأسفار تركها غير مجمعة، ثم ألف ابن سينا بينها وجمعها وعرضها.
6
والمترجمون هم نصارى الشام، عرب مزدوجو اللغة والثقافة، تنصروا لقربهم من ديار النصرانية، وعرفوا لغة الأناجيل وهي اليونانية، بالإضافة إلى لغتهم الدينية، لغة الأديرة وهي السريانية، واللغة العربية وهي لغتهم الوطنية. قاموا بنقل الكتب المقدسة والتراث المسيحي من اليونانية، لغة الإنجيل، إلى السريانية، لغتهم الوطنية، وكما قام لوثر بنقل الكتاب المقدس إبان الإصلاح إلى الألمانية لغته القومية، وكما قام المشايخ السبعون بنقل العهد القديم في الإسكندرية إلى لغتهم الوطنية، من العبرية إلى اليونانية في «السبعينية»، وكما قام القديس جيروم بنقله إلى لغته الوطنية، لغة الشعب اللاتينية في «الفولجات». ولاؤهم للثقافة المحلية الموروثة وهي الثقافة العربية، نقلوا إليها الثقافة الوافدة وهي اليونانية عبر السريانية لشئون العبادة، فلما جاء الفتح، وأصبح للعرب دولة وسيادة، واستقلوا عن الفرس شرقا والروم غربا، عبر الدين الجديد الذي مكنهم في الأرض واستعمرهم فيها، خرج نصارى الشام من عزلتهم وانضموا إلى مجموعة عرب الشام، وخرج الرهبان عن صمتهم انتماء لمجموع العرب، بعد أن حرر العرب القادمون من الجنوب عرب الشمال من اضطهاد الرومان، ورغبة من العرب الفاتحين في التعرف على ثقافة عرب الشمال، خاصة وأن الدين الجديد يدعو إلى العلم والتعرف على ثقافات الشعوب، ورغبة من نصارى الشام بتقديم أنفس ما لديهم من ثقافة لإخوتهم الفاتحين من الجنوب المحررين للشمال. لم يكن نصارى الشام من اليونان أو الروم، بل كانوا عربا آمنوا بدين نشأ في بلاد العرب، وعرفوا لغة هذا الدين، اليونانية، ونقلوا الإنجيل إلى لغتهم السريانية إحدى اللهجات العربية، كما أن الآرامية إحدى اللهجات العبرية. وبعد نمو الروح الوطني بعد الفتح وانضمام عرب الجنوب إلى عرب الشمال، ظهر ولاء الشام للعروبة لغة وثقافة، كما بلور الإسلام عروبة الجنوب في دولة عربية موحدة، بلغة عربية موحدة. التقى الجنوب مع الشمال على العروبة لغة وثقافة، فقدم نصارى الشام ما لديهم من لغة وثقافة لخدمة عرب الجنوب لغة وثقافة، فنشأت حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية عبر السريانية أولا بواسطة نصارى الشام، الذين كانوا قد ترجموا من قبل بعض تراثهم الديني إلى السريانية ثم من اليونانية إلى العربية مباشرة تفاديا لأخطاء النقل المزدوج. وكان ولاء نصارى الشام للعروبة لغة وثقافة وليس لليونان أو الرومان لغة وثقافة. ولم ينشأ لديهم صراع ديني؛ فالإسلام ينهل من نفس النبع الذي خرجت منه النصرانية، دين إبراهيم، مؤسس الحنيفية السمحة، الدين الطبيعي الذي تلتقي عليه كل ديانات الوحي. والإسلام تأكيد للرسالات السماوية السابقة، اليهودية والمسيحية اللتين عرفهما العرب وآمن البعض بهما. اليهودية والمسيحية والإسلام مراحل متتالية لوحي واحد، وقد دعا الأنبياء جميعا منذ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى حتى محمد إلى رسالة واحدة، رسالة التوحيد، بالإيمان والعمل الصالح؛ ومن ثم قدموا ما لديهم من إمكانيات لغوية وثقافية للإخوة الجدد، تحديثا لهم ومساعدة لهم على فهم الدين الجديد، والتعرف على ثقافات الأمم المجاورة وفلسفة العصر. كان ولاؤهم للداخل وليس للخارج، أعطوا ما لديهم كعلوم وسائل وليس كعلوم غايات، وأبقوا على علوم العرب الجديدة كعلوم غايات لا كعلوم وسائل.
المترجمون في النهاية عرب نصارى، سريان الشام عرب وليسوا أجانب، نصارى من أهل الكتاب الذين بينهم وبين المسلمين مودة ورحمة. عاشوا في الأراضي المفتوحة في كنف الحكم الإسلامي، وفي حضارة تعترف بقيمة العلم وحرية الفكر. وجدوا كل رعاية من الخلفاء، وكل احترام لعقيدتهم؛ فالذين قاموا بالترجمة من الداخل وليسوا من الخارج، وطنيون وليسوا أجانب. كانوا عربا ذوي ثقافتين، يدينون بالولاء لنصرانيتهم كدين ولعروبتهم كلغة، وهنا تأتي أهمية أصحاب الثقافتين في إثراء الحضارة وإغناء الأمة. نقلوا ثقافات الأمم المجاورة إلى داخل العالم الإسلامي، الذي يعيشون فيه مع إخوتهم العرب المسلمين، ولم يذهبوا إلى روما أو إلى القسطنطينية، كما يفعل نصارى العرب اليوم في العيش في عواصم الغرب، وعملوا كفريق، يؤدي كل منهم دوره في النص؛ إحساسا بالمسئولية، وتحقيقا للرسالة الثقافية.
أصبح السريان بعد الفتح الإسلامي جزءا من الأمة، فنقلوا ثقافتهم السريانية بما
ثقافة الغير اليونانية بل تطوير ثقافة الأنا الحضاري العربي العام، عبر الثقافات السريانية المحلية المتوسطة؛ لم يكن الهدف نشر ثقافة الغير في ثقافة الأنا، وتغريب ثقافة الأنا في ثقافة الغير، في بيئة تسمح بالحرية الثقافية وتحترم ثقافات الشعوب. ولم تذب الثقافة السريانية في الثقافة العربية بعد الفتح، كما ذابت ثقافة الفرس الذين اندمجوا على طريق الدين. ظل السريان محتفظين بنظمهم التعليمية بعد الإسلام، ولم يتصلوا بالثقافة العربية باستثناء حنين بن إسحاق، الذي تلقى العربية على يد الخليل بن أحمد. بالرغم من أن الشراح كانوا نصارى دينا وعربا لغة، إلا أنهم كانوا مسلمين حضارة وثقافة، كما كانوا مسلمين بواقع نصرانيتهم؛ فكل الرسالات السماوية قبل الإسلام، إنما كانت تبليغا لرسالة الإسلام في صور مختلفة، فكان الأنبياء جميعا مسلمين.
كان مدار السريان تاريخ الثقافة السريانية المختلف عن تاريخ الثقافة العربية؛ فقد اعتنى الأدب السرياني في جميع عصوره بالترجمة عن اليونانية منذ العصر الوثني. واستمرت الترجمة في العصر المسيحي في بلاد ما بين النهرين لنشر الدين الجديد، فترجمت الأناجيل الأربعة في النصف الأخير من القرن الثاني الميلادي. وعند البعض الآخر تمت ترجمة العهد الجديد منذ أواخر القرن الأول؛ فالنظريات المتحررة تأخذ بالتاريخ المتأخر، والنظريات المحافظة تأخذ بالتاريخ المبكر، كما هو الحال في تاريخ كتابة الأناجيل. وكان السريان حتى القرن السابع يستكملون ترجمة الكتاب المقدس ويراجعونه؛ توخيا لمزيد من الدقة، وأضافوا إليه كثيرا من شروح آباء الكنيسة اليونانية وشيئا من خطبهم ومواعظهم. وكانت الفرقة المسيحية منهم قد استعانت بالفلسفة اليونانية من قبل وبخاصة منطق أرسطو، فنقلوا هذه الكتب إلى لغتهم، وألفوا لها الشروح والمسائل.
7
كان التعليم الديني إذن هو العامل الأول في ارتقاء اللغة، ونشأة المصطلحات، وتحسين الأسلوب، وإبداع التراكيب. كان لكل مترجم ثقافة، فكانت الثقافة السريانية ثقافة المترجم السرياني، وكان الأدب السرياني قد تفرع عن الأدب الفلسطيني الديني ومطعما باليونانية، قد تنقصه الأصالة؛ لأن السريان لم يكونوا أمة ذات مشروع حضاري كاليونان أو العرب أو الفرس. كان الشعر السرياني كنسيا خالصا، نماذج من الشعر البيزنطي، أبدع ملحمة واحدة، وتنقصه القصة، باستثناء قصة مترجمة عن الهندية في ثوب مسيحي، لم يجد العرب إلا نماذج سلامان وأبسال في حي بن يقظان. كما غاب عنه الشعر التمثيلي؛ فالتمثيل لا يتفق مع الدين، ويستوجب حنق الله والروح القدس عند صنع وجه الإنسان. أما شعر الملاحم فلم يتم تقديره حق قدره؛ فهوميروس هو أحد شعراء العرب يمدح ويهجو. الشعر جزء من المنطق، أما الفلسفة فكانت لها غاية خاصة لامتزاجها بالدين. وكان الطب محط تقدير خاص لنفعه في الدنيا، وهو ما تبناه الموقف الحضاري الإسلامي بعد ذلك.
Unknown page