Min Naql Ila Ibdac Nass
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٢) النص: الترجمة – المصطلح – التعليق
Genres
الإهداء
الفصل الأول: الترجمة
أولا: الترجمة والمترجمون
ثانيا: الترجمة وثيقة تاريخية أم عمل حضاري؟
ثالثا: الترجمة عمل جماعي
رابعا: الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية
خامسا: دوائر الترجمات
سادسا: الترجمة وثيقة شرعية
سابعا: الترجمة نقل حضاري
ثامنا: الشراح اليونان
Unknown page
تاسعا: الترجمة وروح الحضارة
عاشرا: من الإيمان الفلسفي إلى الإيمان الديني
حادى عشر: الترجمات اللاطينية والهندية
ثانى عشر: الاحتواء الديني
الفصل الثاني: المصطلح الفلسفي
أولا: الخصوصية اللغوية (العربية واليونانية)
ثانيا: الترجمة والمصطلح
ثالثا: اللغة المتوسطة (السريانية)
رابعا: التعريب والترجمة
خامسا: طرق الترجمة
Unknown page
سادسا: نشأة المصطلح الفلسفي وتطوره
سابعا: الترجمة ومنطق اللغة
ثامنا: المصطلحات الإسلامية
تاسعا: تدوين المصطلحات
الفصل الثالث: التعليق
أولا: من الترجمة إلى التعليق
ثانيا: وسائل التعليق
ثالثا: طرق التعليق
رابعا: مستويات التعليق
خامسا: مادة التعليق
Unknown page
سادسا: التعليق كنوع أدبي مستقل
سابعا: من التعليق إلى الشرح
الإهداء
الفصل الأول: الترجمة
أولا: الترجمة والمترجمون
ثانيا: الترجمة وثيقة تاريخية أم عمل حضاري؟
ثالثا: الترجمة عمل جماعي
رابعا: الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية
خامسا: دوائر الترجمات
سادسا: الترجمة وثيقة شرعية
Unknown page
سابعا: الترجمة نقل حضاري
ثامنا: الشراح اليونان
تاسعا: الترجمة وروح الحضارة
عاشرا: من الإيمان الفلسفي إلى الإيمان الديني
حادى عشر: الترجمات اللاطينية والهندية
ثانى عشر: الاحتواء الديني
الفصل الثاني: المصطلح الفلسفي
أولا: الخصوصية اللغوية (العربية واليونانية)
ثانيا: الترجمة والمصطلح
ثالثا: اللغة المتوسطة (السريانية)
Unknown page
رابعا: التعريب والترجمة
خامسا: طرق الترجمة
سادسا: نشأة المصطلح الفلسفي وتطوره
سابعا: الترجمة ومنطق اللغة
ثامنا: المصطلحات الإسلامية
تاسعا: تدوين المصطلحات
الفصل الثالث: التعليق
أولا: من الترجمة إلى التعليق
ثانيا: وسائل التعليق
ثالثا: طرق التعليق
Unknown page
رابعا: مستويات التعليق
خامسا: مادة التعليق
سادسا: التعليق كنوع أدبي مستقل
سابعا: من التعليق إلى الشرح
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (2) النص
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (2) النص
الترجمة - المصطلح - التعليق
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
Unknown page
إلى حكماء الأمة من جيلنا.
قضاء على التغريب في عصر.
حسن حنفي
الفصل الأول: الترجمة
أولا: الترجمة والمترجمون
(1) من هم المترجمون؟
هناك فرق بين الحديث عن الترجمة كما يفعل المؤرخون وتحليل النصوص المترجمة كما يفعل العلماء. الموقف الأول «حديث عن» والموقف الثاني «حديث في». الأول من الخارج، والثاني من الداخل.
يذكر البيروني أن اللسان مترجم للسامع عما يريده القائل؛ فالترجمة حفاظ على الفكر في الزمان ونقل له جيلا عن جيل.
1
وتعظيم الأسماء في الهند بالتأنيث وعند العرب بالتصغير. كما يعيب المؤرخون القدماء نوعيات الترجمات والحكم عليها بالجودة أو الرداءة.
Unknown page
2
وعند الشهرزوري أن إحدى روايات سبب ظهور الفلسفة عند المسلمين هو النقل، نقل خالد بن يزيد الديوان من الفارسية إلى العربية، ونقل منصور بن سرجون الديوان في الشام من الرومية، ونقل زمان بني العباس بعد رؤية أرسطو في المنام؛ فالنقل بداية الفلسفة.
3
وعند البيهقي كان المترجمون أقرب إلى الموروث منهم إلى الوافد، ومن الإسلام أكثر منهم إلى النصرانية؛ فحنين بن إسحاق مسلم ثقافة؛ لأنه رفض العظات المسيحية التي لا يجوزها الشرع والعقل؛ فالله منزه عن الصدرة والهيئة.
4
والبغدادي بن مانا بن بهنام عرض عليه الإسلام حتى جاوز المائة، وسمع
أحسب الناس أن يتركوا
فوقف وبكى ورأى الرسول في المنام قائلا: «يا أبا الخير، مثلك مع كمال علمه يقبح أن تنكر نبوتي.» فأسلم على يديه، ثم سمي أبقراط الثاني.
وإذا كان فصل «التاريخ» قد تم عن طريق استعراض كتب التاريخ طوليا بعد تصنيفها في أنواع أدبية، فإن فصل الترجمة قد تمت كتابته عرضيا لمعرفة منطق النقل الحضاري، باستثناء النماذج المترجمة وتحليلها لإعطاء الشواهد التفصيلية على المنطق العام.
ويذكر معظم المؤرخين للحضارات أو للعلوم أو للأعلام أسماء المترجمين وترجماتهم، فيتساءل صاعد هل ترجم ابن المقفع كتب أرسطو المنطقية؟ هل كان يعرف اليونانية؟ ويذكر باقي الأعلام لا فرق بين مترجمين وشراح ومؤلفين أو ترجمات عن اليونان أو فارس أو الهند؛ فالمترجمون كانوا أصحاب مواقف ومذاهب، كما يذكر صاعد المترجمين عن البابلية مثل تنكلوش.
Unknown page
5
وقد لاحظ المؤرخون هذه المراحل المختلفة في التحول من النقل إلى الإبداع، ابتداء من الترجمة حتى الشرح والتأليف. ويصف طاش كبرى زادة هذه المراحل، ابتداء من رغبة الخليفة المأمون ترجمة علوم الأوائل وإلا فالحرب إذا امتنع، وقبول ملك الروم إرسالها إليه لتفتيت المسلمين والشك في دينهم، ثم أتى الفارابي ولخصها وهذبها؛ ونظرا لأنه كان كثير الأسفار تركها غير مجمعة، ثم ألف ابن سينا بينها وجمعها وعرضها.
6
والمترجمون هم نصارى الشام، عرب مزدوجو اللغة والثقافة، تنصروا لقربهم من ديار النصرانية، وعرفوا لغة الأناجيل وهي اليونانية، بالإضافة إلى لغتهم الدينية، لغة الأديرة وهي السريانية، واللغة العربية وهي لغتهم الوطنية. قاموا بنقل الكتب المقدسة والتراث المسيحي من اليونانية، لغة الإنجيل، إلى السريانية، لغتهم الوطنية، وكما قام لوثر بنقل الكتاب المقدس إبان الإصلاح إلى الألمانية لغته القومية، وكما قام المشايخ السبعون بنقل العهد القديم في الإسكندرية إلى لغتهم الوطنية، من العبرية إلى اليونانية في «السبعينية»، وكما قام القديس جيروم بنقله إلى لغته الوطنية، لغة الشعب اللاتينية في «الفولجات». ولاؤهم للثقافة المحلية الموروثة وهي الثقافة العربية، نقلوا إليها الثقافة الوافدة وهي اليونانية عبر السريانية لشئون العبادة، فلما جاء الفتح، وأصبح للعرب دولة وسيادة، واستقلوا عن الفرس شرقا والروم غربا، عبر الدين الجديد الذي مكنهم في الأرض واستعمرهم فيها، خرج نصارى الشام من عزلتهم وانضموا إلى مجموعة عرب الشام، وخرج الرهبان عن صمتهم انتماء لمجموع العرب، بعد أن حرر العرب القادمون من الجنوب عرب الشمال من اضطهاد الرومان، ورغبة من العرب الفاتحين في التعرف على ثقافة عرب الشمال، خاصة وأن الدين الجديد يدعو إلى العلم والتعرف على ثقافات الشعوب، ورغبة من نصارى الشام بتقديم أنفس ما لديهم من ثقافة لإخوتهم الفاتحين من الجنوب المحررين للشمال. لم يكن نصارى الشام من اليونان أو الروم، بل كانوا عربا آمنوا بدين نشأ في بلاد العرب، وعرفوا لغة هذا الدين، اليونانية، ونقلوا الإنجيل إلى لغتهم السريانية إحدى اللهجات العربية، كما أن الآرامية إحدى اللهجات العبرية. وبعد نمو الروح الوطني بعد الفتح وانضمام عرب الجنوب إلى عرب الشمال، ظهر ولاء الشام للعروبة لغة وثقافة، كما بلور الإسلام عروبة الجنوب في دولة عربية موحدة، بلغة عربية موحدة. التقى الجنوب مع الشمال على العروبة لغة وثقافة، فقدم نصارى الشام ما لديهم من لغة وثقافة لخدمة عرب الجنوب لغة وثقافة، فنشأت حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية عبر السريانية أولا بواسطة نصارى الشام، الذين كانوا قد ترجموا من قبل بعض تراثهم الديني إلى السريانية ثم من اليونانية إلى العربية مباشرة تفاديا لأخطاء النقل المزدوج. وكان ولاء نصارى الشام للعروبة لغة وثقافة وليس لليونان أو الرومان لغة وثقافة. ولم ينشأ لديهم صراع ديني؛ فالإسلام ينهل من نفس النبع الذي خرجت منه النصرانية، دين إبراهيم، مؤسس الحنيفية السمحة، الدين الطبيعي الذي تلتقي عليه كل ديانات الوحي. والإسلام تأكيد للرسالات السماوية السابقة، اليهودية والمسيحية اللتين عرفهما العرب وآمن البعض بهما. اليهودية والمسيحية والإسلام مراحل متتالية لوحي واحد، وقد دعا الأنبياء جميعا منذ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى حتى محمد إلى رسالة واحدة، رسالة التوحيد، بالإيمان والعمل الصالح؛ ومن ثم قدموا ما لديهم من إمكانيات لغوية وثقافية للإخوة الجدد، تحديثا لهم ومساعدة لهم على فهم الدين الجديد، والتعرف على ثقافات الأمم المجاورة وفلسفة العصر. كان ولاؤهم للداخل وليس للخارج، أعطوا ما لديهم كعلوم وسائل وليس كعلوم غايات، وأبقوا على علوم العرب الجديدة كعلوم غايات لا كعلوم وسائل.
المترجمون في النهاية عرب نصارى، سريان الشام عرب وليسوا أجانب، نصارى من أهل الكتاب الذين بينهم وبين المسلمين مودة ورحمة. عاشوا في الأراضي المفتوحة في كنف الحكم الإسلامي، وفي حضارة تعترف بقيمة العلم وحرية الفكر. وجدوا كل رعاية من الخلفاء، وكل احترام لعقيدتهم؛ فالذين قاموا بالترجمة من الداخل وليسوا من الخارج، وطنيون وليسوا أجانب. كانوا عربا ذوي ثقافتين، يدينون بالولاء لنصرانيتهم كدين ولعروبتهم كلغة، وهنا تأتي أهمية أصحاب الثقافتين في إثراء الحضارة وإغناء الأمة. نقلوا ثقافات الأمم المجاورة إلى داخل العالم الإسلامي، الذي يعيشون فيه مع إخوتهم العرب المسلمين، ولم يذهبوا إلى روما أو إلى القسطنطينية، كما يفعل نصارى العرب اليوم في العيش في عواصم الغرب، وعملوا كفريق، يؤدي كل منهم دوره في النص؛ إحساسا بالمسئولية، وتحقيقا للرسالة الثقافية.
أصبح السريان بعد الفتح الإسلامي جزءا من الأمة، فنقلوا ثقافتهم السريانية بما
ثقافة الغير اليونانية بل تطوير ثقافة الأنا الحضاري العربي العام، عبر الثقافات السريانية المحلية المتوسطة؛ لم يكن الهدف نشر ثقافة الغير في ثقافة الأنا، وتغريب ثقافة الأنا في ثقافة الغير، في بيئة تسمح بالحرية الثقافية وتحترم ثقافات الشعوب. ولم تذب الثقافة السريانية في الثقافة العربية بعد الفتح، كما ذابت ثقافة الفرس الذين اندمجوا على طريق الدين. ظل السريان محتفظين بنظمهم التعليمية بعد الإسلام، ولم يتصلوا بالثقافة العربية باستثناء حنين بن إسحاق، الذي تلقى العربية على يد الخليل بن أحمد. بالرغم من أن الشراح كانوا نصارى دينا وعربا لغة، إلا أنهم كانوا مسلمين حضارة وثقافة، كما كانوا مسلمين بواقع نصرانيتهم؛ فكل الرسالات السماوية قبل الإسلام، إنما كانت تبليغا لرسالة الإسلام في صور مختلفة، فكان الأنبياء جميعا مسلمين.
كان مدار السريان تاريخ الثقافة السريانية المختلف عن تاريخ الثقافة العربية؛ فقد اعتنى الأدب السرياني في جميع عصوره بالترجمة عن اليونانية منذ العصر الوثني. واستمرت الترجمة في العصر المسيحي في بلاد ما بين النهرين لنشر الدين الجديد، فترجمت الأناجيل الأربعة في النصف الأخير من القرن الثاني الميلادي. وعند البعض الآخر تمت ترجمة العهد الجديد منذ أواخر القرن الأول؛ فالنظريات المتحررة تأخذ بالتاريخ المتأخر، والنظريات المحافظة تأخذ بالتاريخ المبكر، كما هو الحال في تاريخ كتابة الأناجيل. وكان السريان حتى القرن السابع يستكملون ترجمة الكتاب المقدس ويراجعونه؛ توخيا لمزيد من الدقة، وأضافوا إليه كثيرا من شروح آباء الكنيسة اليونانية وشيئا من خطبهم ومواعظهم. وكانت الفرقة المسيحية منهم قد استعانت بالفلسفة اليونانية من قبل وبخاصة منطق أرسطو، فنقلوا هذه الكتب إلى لغتهم، وألفوا لها الشروح والمسائل.
7
كان التعليم الديني إذن هو العامل الأول في ارتقاء اللغة، ونشأة المصطلحات، وتحسين الأسلوب، وإبداع التراكيب. كان لكل مترجم ثقافة، فكانت الثقافة السريانية ثقافة المترجم السرياني، وكان الأدب السرياني قد تفرع عن الأدب الفلسطيني الديني ومطعما باليونانية، قد تنقصه الأصالة؛ لأن السريان لم يكونوا أمة ذات مشروع حضاري كاليونان أو العرب أو الفرس. كان الشعر السرياني كنسيا خالصا، نماذج من الشعر البيزنطي، أبدع ملحمة واحدة، وتنقصه القصة، باستثناء قصة مترجمة عن الهندية في ثوب مسيحي، لم يجد العرب إلا نماذج سلامان وأبسال في حي بن يقظان. كما غاب عنه الشعر التمثيلي؛ فالتمثيل لا يتفق مع الدين، ويستوجب حنق الله والروح القدس عند صنع وجه الإنسان. أما شعر الملاحم فلم يتم تقديره حق قدره؛ فهوميروس هو أحد شعراء العرب يمدح ويهجو. الشعر جزء من المنطق، أما الفلسفة فكانت لها غاية خاصة لامتزاجها بالدين. وكان الطب محط تقدير خاص لنفعه في الدنيا، وهو ما تبناه الموقف الحضاري الإسلامي بعد ذلك.
Unknown page
ولقد وصف الاستشراق المترجمين بأنهم عرب غير مسلمين؛ لأنهم قوميون طائفيون، دون الإشارة إلى انتسابهم إلى العروبة لغة، وإلى النصرانية دينا، وإلى الإسلام ثقافة، دون أن يكون هناك تعارض بين اللغة والدين والثقافة، ثلاث دوائر متداخلة في الوعي العربي.
وكان للمترجمين أسماء يونانية نقلت من السرياني إلى اليوناني، اعتزازا بالمسيحية مثل أتانس، ثاوفيل، باسيل. وكانت لهم أيضا أسماء عربية نقلت من السريانية إلى العربية، مثل يحيى بن عدي، حنين بن إسحاق، إسحاق بن حنين؛ فكلما كانوا مزدوجي الثقافة، يونانية وعربية، كانوا مزدوجي الأسماء، اليونانية حفاظا على الدين، والعربية حفاظا على العروبة؛ ومن ثم التقوا مع إخوتهم عرب الجنوب على العروبة وإن لم يلتقوا على الدين.
لم تكن اليونان جزيرة منعزلة عن الحضارات القديمة، بل كانت في علاقات متبادلة، بابل وكنعان شرقا وفارس والهند ومصر جنوبا؛ لذلك تظهر ألفاظ الهند وفارس ومصر في نصوص أرسطو. لم يدع اليونان أنفسهم معجزة يونانية، بل هي من خلق الغرب الحديث، النموذج الآري في مقابل النموذج السامي.
8
وكان المترجمون خارج اليونان في الشام مثل ديسقوريدس، وفي مصر مثل الإسكندرانيين.
وتكشف مقدمة كتاب ديسقوريدس عن تطور العلم والانتقال من القدماء إلى المحدثين، وضرورة جمع السمع بالعيان، والنقل بالتجربة. وهي نفس السنة التي سار عليها الأطباء العرب يونانا وسريانا ومسلمين ويهودا ونصارى.
9
ترجم مهران بن منصور كتاب الحشائش لديسقوريدس من السريانية إلى العربية. ويذكر المترجم في المقدمة جالينوس فاضل الأطباء، وحنين الفاضل الربان الذي نقل كتاب الحشائش لديسقوريدس من اليونانية إلى السريانية لرئيس الأطباء بختيشوع بن جبريل، ثم نقله المترجم من السريانية إلى العربية، وكان أحد أقرباء الأمير قد طلب نقل الكتاب. وكانت ترجمة ابن سالم الملطي قليلة الفصاحة، ولا وضوح للألفاظ العربية حتى لا تفيد أضدادها؛ لأن نقل اللغات يقتضي تغير العبارات والحركات، والتقديم والتأخير، والإضافة والحذف، فقام مهران بن منصور بترجمته من جديد.
10 (2) دوافع الترجمة
ليست القضية إذن نقل التراث اليوناني إلى العالم الإسلامي؛ فهذا تصور غير مطابق لطبيعة العمليات الحضارية التي تحدث عندما تلتقي حضارتان: حضارة ناشئة مثل الحضارة الإسلامية، وحضارة وافدة مثل الحضارة اليونانية؛ هذا التصور يجعل الحضارة اليونانية هي الأصل، والحضارة الإسلامية هي التابع، مثل علاقة المركز بالمحيط، وهو تصور غير صحيح؛ فالحضارة الإسلامية هي الأصل، هي المتلقي، والحضارة الوافدة هي الفرع، الموروث هو المركز والوافد هو المحيط. كما أنه يجعل الغاية من نقل الأصل هو المحافظة عليه بلا تغيير أو تبديل، وكأنه جوهر لا تاريخي، لا يتبدل أو يتغير، لم ينشأ في الأصل كتاريخ، ولم ينقل بعد ذلك كتاريخ، ولم يحدث تفاعل بينه وبين البيئة الجديدة التي نقل إليها إلا كما يأتي الرجل الأبيض في مناطق مكتشفة، لا سكان فيه ولا أصحاب، لا ثقافة ولا دور، لا موروث فيها ولا فكر، وإن دورها يقتصر على مجرد النقل دون الإبداع، التلقي دون العطاء، الاستهلاك دون الإنتاج، ثم تقوم بدورها بنقله للآخرين كجوهرة ثمينة تم حفظها بلا ضياع، وكل تغيير أو تبديل فيها ضد مهمة النقل الأمين، والحفظ المصون، سوء فهم وتفسير وخلط. وهذا ما تم عندما بدأ نقل آخر من الحضارة الإسلامية إلى الحضارة الأوروبية في نهاية العصر الوسيط، من العربية إلى اللاتينية، مباشرة أو عبر العبرية، فاكتشفوا أن الناقل، وهو الحضارة الإسلامية، لم يكن أمينا، أضاف وحذف، أول وفسر، استخدم لصالحه، خلط بين أفلاطون وأرسطو، ونسب إلى أرسطو جزءا من تاسوعات أفلوطين، واعتمد على المنحول، فلما جاءت العصور الحديثة في الغرب، اكتشفت ذلك كله وقامت بالتصحيح، ورفضت هذا النقل، وعادت إلى الأصل اليوناني تعيد نشره وتحقيقه كي تنهل منه من جديد، وكأن الحضارة الأوروبية الحديثة في الفلسفة والفن والأدب لم تتمثل ولم تفسر ولم تؤول كما فعلت الحضارة الإسلامية، وكأن النقل عن المسلمين لم يكن له أدنى دور في نشأة التيارات العقلانية العلمية في العصر الوسيط المتأخر وبداية النهضة الأوروبية الحديثة.
Unknown page
البحث إذن عن «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية» خطأ في الوعي بالموقف الحضاري؛ فليس المطلوب هو معرفة انتقال التراث اليوناني إلى العالم الإسلامي، انتقالا للمركز إلى الطرف، ومن الأصل إلى الفرع، كما يفعل المستشرقون وأتباعهم من الباحثين العرب، بل تمثل الحضارة الإسلامية للتراث اليوناني، تمثل المركز الإسلامي للطرف اليوناني.
11
وبالتالي كانت العناوين مثل «أرسطو عند العرب»، «أفلوطين عند العرب»، «الأفلاطونية المحدثة عند العرب» توحي بأن الأصل هو الوافد والفرع هو الموروث، والأصل هو الذي يجب المحافظة عليه في الفرع، وهو وضع مغلوط؛ فالأصل هو الموروث والفرع هو الوافد. ليس العرب أي المسلمون مجرد نقلة مستقبلين، بل النقل لديهم نقل الأطراف إلى المركز، الطرف اليوناني إلى القلب الإسلامي وليس إشعاع المركز اليوناني في الأطراف الإسلامية. أرسطو وأفلاطون وأفلوطين هم أقرب إلى المنبه، والترجمة والتمثيل والاحتواء ثم التأليف والإبداع هي الاستجابة.
12
والدوافع على الترجمة ليست نقل النص المترجم، بل إثراء الثقافة المترجم إليها نظرا للاتفاق النسبي بين الرؤيتين؛ فقد أقام أرسطو طبيعته على مبدأين: الأول أن الطبيعة لا تصنع شيئا عبثا، بل دائما تفعل من أجل غاية، وهو ما يتفق مع وصف الطبيعيات في القرآن
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ، والثاني أن الوظيفة تخلق العضو وليس العكس، والنظرة الوظيفية أيضا تعبر عن روح القرآن في عدة آيات
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ،
13
الطبيعة واسعة الحيلة، محدثة النظام ، صانعة فاعلة، لها قصد وغاية تريدها وتنظر إليها، وهي غاية باطنة، وتعني الأجزاء الأعضاء، وتقوم علاقاتها على التشابه وعدم التشابه، والوصف من أعلى إلى أدنى، من الأكثر كمالا إلى الأقل كمالا، ومن الأقل نقصا إلى الأكثر نقصا طبقا للتطور الرأسي للعالم، الفيض الطبيعي، فإذا ما اصطدم هذا التصور بالنص المترجم، تم تعديل الترجمة وتصبح تأليفا غير مباشر، فإذا قال أرسطو بامتياز الإنسان على سائر الحيوانات بالرغم الشركة بينهما فيما هو إلهي تصرف المترجم؛ فالإنسان لا يشارك الحيوان فيما هو إلهي، وأسقط الشركة مع الله لاعتبارات الوحيد.
لم يكن الدافع على النقل دافعا نظريا خالصا، مجرد حب الاستطلاع والتعرف على ثقافات الشعوب المغلوبة، بل كان أولا دافعا عمليا لنقل علوم الطب لمداواة الجند في مجتمع الفتح، وعلوم الكيمياء لصناعة السلاح في مجتمع الشريعة الجديدة. ولقد استطاع الشراح المسلمون فهم هذا الفكر، وهم أصحاب الدين والعقيدة، وهم أميون مسبقا وليس لهم رصيد سابق، كشفوا عن ولع بالحضارة واحترام لفكر الآخرين، بالرغم من خطورة الغزو الثقافي الطبيعي أثناء انتشار الحضارات. (3) المترجمون مؤلفون
Unknown page
وقد بدأت الترجمة في النصف الثاني من القرن الهجري، وبلغت الذروة في القرن الثالث، عصر كبار المترجمين، واستمرت حتى القرن الرابع ولم تتوقف حتى السادس والسابع، ثم تحولت حركة الترجمة إلى حركة شرح وتلخيص في القرنين الخامس والسادس، بل وحتى السابع. كانت الترجمة إذن مواكبة لحركة التأليف، تمدها بالوافد الجديد، وبالمادة الخصبة حتى يزدهر التأليف بدم جديد.
14
ولم يكن المترجمون مجرد نقلة بل كانوا معلقين وشراحا وملخصين. وكانوا مؤلفين لهم إبداعاتهم الخاصة، وكانوا يتتلمذون على الفلاسفة، ينقلون عنهم ولا يتتلمذ الفلاسفة عليهم ينقلون منهم؛ كانت لهم مذاهبهم التي ينتسبون إليها.
15
وكان الشرح أحيانا يسبق الترجمة، وكان الشارح أستاذا للمترجم، والمترجم يتعلم من الشارح؛ فالمعنى يسبق اللفظ، والفكر يسبق النقل؛ هذه كانت صورتهم داخل الحضارة الإسلامية، بدليل الرد عليهم وتفنيد آرائهم. كان السريان مؤلفين كما كانوا مترجمين، وكما حدث لأبي نصر وباقي الفلاسفة المسلمين.
16
لم يكن النقل منذ البداية مستقلا عن الإبداع ، بل كان كلاهما حركتين متوازيتين، لم يبدأ النقل أولا ثم الإبداع ثانيا كمرحلتين آليتين، تتلو إحداهما الأخرى، بل كان النقل منذ البداية إبداع عن طريق نشأة المصطلح الفلسفي والتعليق والشرح والتلخيص الذي يقوم به المترجمون، كما كان النقلة يتعاملون مع المبدعين،
17
وكانوا هم أنفسهم مبدعين، لهم مؤلفاتهم الإبداعية بالإضافة إلى ترجماتهم، ثم استمر النقل حتى تتلمذ النقلة على أيدي المبدعين، بعد أن فاق الإبداع النقل وتجاوزه؛
18
Unknown page
ومن ثم يمكن التمييز بين ثلاث مراحل متداخلة: الأولى أولوية النقل على الإبداع، عندما كان النقل هو الأساس، وكان نقل المصطلح الفلسفي والتعليق والشرح والتلخيص هي نواحي الإبداع القائمة على النقل (حنين). والثانية توازي النقل والإبداع عندما كان المترجمون يؤلفون تأليفا مستقلا، ويبدءون حركة التأليف قبل ظهور المؤلفين الخلص (الكندي). والثالثة أولوية الإبداع على النقل، عندما كثر التأليف على يد مؤلفين غير ناقلين، وكان النقل ملحقا بالإبداع وأحد روافده، فكان التأليف هو الأصل والنقل هو الفرع (ابن سينا).
لم يكن المترجمون مترجمين وشراحا فحسب، بل كانوا أيضا مؤلفين؛ فلا يوجد فصل بين الترجمة والشرح والتأليف، بل هو عمل حضاري واحد متصل،
19
بل كان بعض المترجمين مؤلفين أكثر منهم مترجمين، وكانوا علماء أكثر منهم نقلة، كما هو الحال عند قسطا بن لوقا البعلبكي (220-300ه).
20
ولا يعرض اليونان إلا في رسالتين من ثلاث وعشرين رسالة؛
21
لذلك دخلت مؤلفات المترجمين كأول محاولة في التأليف لتمثل الوافد.
22
وكما كان للمترجمين أعمالهم الإبداعية الخالصة، كان للحكماء المبدعين ترجماتهم؛ فالفصل بين المترجم وبين المؤلف وبين الناقل والمبدع فصل لا وجود له؛ فكما أن يحيى بن عدي وثابت بن قرة وأبو بشر متى بن يونس لهم مؤلفاتهم الإبداعية بالإضافة إلى ترجماتهم، كذلك الكندي له ترجماته المنسوبة إليه، والفارابي له مساهمته في الترجمة بقدر ما له من إبداع؛ فقد شارك في أعمال النسخ والترجمة.
Unknown page
23
كان يحيى النحوي معاصرا للفارابي ودخلا معا في حوار وردود، ولحنين بن إسحاق في موضوع «السماء والعالم» لأرسطو المسائل الست عشرة؛ فالمترجمون شراح، ولا يوجد فصل بين الترجمة والشرح ، ولا فرق بين المترجم والشارح؛ لا فرق بين الشارح المترجم، والشارح المؤلف. وكان المترجمون يشرحون بطريقة ابن رشد في التفسير الكبير، النص أولا ثم التفسير ثانيا، وذكر أرسطو جزئيا في ثنايا الشرح.
24
هذه الترجمات لا تمثل فلسفة كاملة، بل بداية الفكر الفلسفي، نشوء التفلسف وبزوغه، تفكير الذات على تفكير الآخر، هدفها التعرف على إنتاج الآخر، والتعلم منه، مادة للعلم، كراسة فصل. أما العلم فإنه ما تبدعه الذات بعد ذلك في مرحلة الخلق المستقل على مستوى الآخر، وتعبيرا عن منظور أشمل يعبر عن الموروث بلغة الوافد.
ثانيا: الترجمة وثيقة تاريخية أم عمل حضاري؟
(1) هل الترجمة نظرية في المطابقة؟
ليس النص وثيقة تاريخية يتم الحفاظ عليها طبق الأصل بلا زيادة أو نقصان فهذا نص القرآن. أما النص الحضاري فهو عمل مشترك بين المؤلف والناقل والقارئ والمعلق والشارح، حتى يتم الاستغناء عنه كليا بعد استنفاذ أغراضه، قضمه ومضغه وابتلاعه وهضمه وتمثله وإخراجه. لا يهم النص المنقول كوثيقة تاريخية، بل الذي يهم هو كل تعليق زيادة أو نقصانا، سواء بالنسبة للنص اليوناني أو النص السرياني، سواء كان من المترجم الثاني أو الثالث أو الرابع أو حتى من الناسخ الأول أو الثاني، أو كان من صاحب المخطوط أو قارئه. النص سجل يكشف عن الموقف الحضاري الشامل، الذي يكون النص مجرد حامل له، والزيادة التي يعطيها الناشر الحديث على النص العربي القديم الذي حذفها، إنما هو تشويه للنص القديم كعمل حضاري وليس دقة علمية. تاريخيا النص اليوناني هو الأصل والنص العربي هو الفرع، وحضاريا النص العربي هو الأصل والنص اليوناني أو السرياني هو الفرع.
1
لا يهم في الترجمة ونشرها دقة معرفة العرب بالتراث اليوناني والعناية التي أحاطوا بها هذه النصوص؛ بحيث تكون لديهم أدق صورة عن الأصل. ليس نقل الأصل هو الغاية بل تمثله واحتواؤه، وتحويله إلى حامل حضاري لعمليات إبداعية تالية.
2
Unknown page
ليس الهدف من نشر الترجمات العربية القديمة هو إظهار إمكانيات الناشر اللغوية كما يفعل الاستشراق، بل بناء الموقف الحضاري كما يفعل الباحث الوطني . وإن ترقيم صفحات النص العربي القديم طبقا لنشرة بيكر الحديثة للنص اليوناني، هو جعل النص اليوناني هو الأصل، حتى ولو كان النص والترقيم المعتمدين؛
3
فليست الغاية إعادة نص أرسطو كتاريخ، بل إبراز النص العربي كحضارة. كما أن الترجمات الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية الحديثة لنص أرسطو هي مجرد ترجمات تاريخية طبق الأصل، وليست عمليات حضارية لنقل النص، وتمثله من أجل إبداع لاحق.
4
وإذا كان الأمر مباراة في المعرفة بالترجمات الحديثة، فأين الترجمات الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والروسية والهندية والصينية واليابانية والعبرية، ومدى مطابقتها للأصل اليوناني؟ هذا هو تصور الاستشراق لصلة الأصل اليوناني بالفرع البربري، صلة المركز بالأطراف. وإن تقسيم النص إلى فصول وعناوين طبقا للعناوين الحديثة المقترحة، هو تبعية للنص اليوناني الحديث وللعناوين الحديثة، في حين أن العناوين العربية القديمة أكثر دلالة من حيث تعبير العنوان عن المعنى؛
5
لذلك لم ندخل في دقيقات الاستشراق العلمية، بالرغم من الاستفادة منها، لا ندعي علما فوق علمهم، بل فهما للموقف الحضاري الذي لا يعيشونه.
6
كان نشر الترجمات العربية القديمة يمثل بداية مشروع فلسفي معاصر، وذلك لمعرفة كيفية الانتقال من النقل إلى الإبداع ووصف العمليات الحضارية التي وراء هذا الانتقال، ولكن تم حصر هذه الترجمة كما يفعل المستشرقون، وكأنها غاية في ذاتها، مادة خام في دراسة أو تعليق، إلا على الترجمات القديمة كوثائق تاريخية.
7
Unknown page
ليس الباحث الوطني مستشرقا، بل هو محلل لإحدى تجاربه الماضية في النقل من التراث اليوناني؛ من أجل قراءة تجربته الحالية من التراث الغربي. وعندما يجعل الناشر العربي من نفسه مستشرقا، فإما أن لديه إحساسا بالنقص ورغبة في المساواة بينه وبينهم، وإما أنه ينظر نظرة دونية للتراث الإسلامي باعتباره خليطا من النصوص المترجمة تحتاج إلى فحص وتمحيص؛ وبالتالي يكون نشر العنوان العربي من باحث عربي لنص عربي باللاتينية تقليدا أعمى للمستشرقين أو زهوا، خاصة إذا كان اسم الناشر بالبنط الثقيل والكبير، أكثر من اسم أرسطو ومن عنوان النص.
8
وبالرغم من نشر معظم الترجمات العربية القديمة من قبل في المجلات العربية والأجنبية المتخصصة ، إلا أن مجرد تجميعها وإعادة نشرها وجعلها ميسورة للقارئ العربي خدمة جليلة، ولولاه لما أمكن قراءتها من جيل ثان لمعرفة دلالتها الحضارية.
9
بل إن الاختلافات بين النساخ في الخطوط وأنواعها، قد تساعد في الكشف على قيمة المخطوط، ولكنها تدل على حرفية النسخ وممارسته كعبادة؛
10
وبالتالي فإن نقل النص من التاريخ إلى الحضارة، ومن النقل إلى الإبداع لا يعني التخلي عن الدقلة العلمية، بل يعني رفض تصور أن النقل هو مطابقة الأصل للترجمة؛ فهذا مستحيل ذهنيا وحضاريا، فرديا واجتماعيا. ومع ذلك يظهر التعليق في الهامش بعض الأخطاء التاريخية، مثل نسبة الأقوال إلى أصحابها، سواء كانوا حقيقيين تاريخيا أم حضاريا.
11
ولا يهم خطأ الترجمة العربية أو صوابها أو عدم إلفها؛ فلا يوجد مقياس موضوعي لذلك، هناك فقط الدلالات الحضارية للنص الجديد؛ فالنقل يحتوي في داخله على إبداع.
12
Unknown page
هل يجوز إذن إصلاح الاضطراب في المخطوط؟ ولم لا يكون هذا الاضطراب مقصودا نتيجة للعمل الحضاري في النص؟
13
لا توجد أخطاء في الترجمة بل نقل حضاري لها،
14
وقد يكون الخطأ أكثر دلالة على العمل الحضاري من الصواب. الترجمة الحرفية حتى ولو كانت خاطئة إلا أنها تدل على الحرص على الحفظ؛ فمثلا لفظ
«محب التفاح» حرفيا، وغناء البلبل معنويا. الأول صحيح لغويا غير دال معنويا، والثاني خطأ لغويا ودال معنويا.
15
ولا يوجد أي اضطراب في الترجمة العربية القديمة، بل توجد محاولة للتحرر من اللفظ لرؤية المعنى؛ لا توجد ترجمة عربية مضطربة، بل هناك بحث عن المعاني لتجاوز اللفظ.
16
لا يوجد فهم مألوف للنص؛ أي فهم حرفي موضوعي له بل تأويل حضاري له؛ لا يوجد فهم للنص صواب أم خطأ بل تأكيد قراءة له، دفاعا عن الأنا في مواجهة الآخر؛ لا يوجد معنى موضوعي للنص بل معنى مقروء فيه من الحاضر إلى الماضي، رؤية الأنا للآخر. لا يهم معنى النص الخاص فذاك لا يعلمه أحد ولا حتى مؤلفه، بل النص كحامل حضاري أعم وأشمل، وكدلالة على موقف حضاري يبين قراءة الأنا للآخر، وإعادة إنتاج نصه، ولا يقدر ذلك إلا من لديه تجربة مماثلة لقراءة الأنا لنصوص الآخر.
Unknown page
17
لا يهم معاني القواميس للألفاظ والمصطلحات؛ أي المعاني اللفظية والتاريخية، بل ما يهم هي المعاني الحضارية التي قد لا تكون في اللغة المترجم فيها، بل في اللغة المترجم إليها؛ فالمعنى للاستعمال الحالي، ولا يوجد في القاموس إلا المعاني الحرفية والتاريخية.
إن أهمية نشر الترجمات العربية القديمة للنصوص اليونانية، خاصة أعمال أرسطو، ورصد الاختلافات بينها، ليس فقط تحري الدقة العلمية، بل جعل النص تاريخا للحضارة وحاملا لمواقفها؛ من أجل إعطاء القارئ امكانية بناء المعنى من الترجمات المختلفة؛
18
فلا توجد ترجمة مثالية واحدة صحيحة يمكن استنباطها وجمعها واستقراؤها من عدة ترجمات؛ هذه الترجمة مجرد افتراض لا وجود له، الهدف منه إيجاد ترجمة مطابقة للأصل اليوناني، وتصحيح خلط الأطراف إلى بالعودة الأصل في المركز. إن كل ترجمة على حدة لها وجود مستقل بذاته تعبر عن رؤية المترجم، ونشأة المصطلح الفلسفي وبداية التفلسف والبحث عن المعنى؛ كل ترجمة كائن حي، شخص معنوي، ولا يمكن من مجموع الأشخاص الحية استنباط شخص مجرد عام لا وجود له. إنها عمليات حضارية تكشف عن إبداعات مستقلة للمترجمين كبدايات للإبداعات الفلسفية الخالصة، لا يمكن إسقاطها أو تجريدها من أجل البحث عن النقل الأصلي، الذي لم يعد له وجود نصي في ذهن المترجمين باعتبارهم مبدعين.
ويرد مرجليوث الخلاف بين الترجمة العربية القديمة لكتاب الشعر والنص اليوناني إلى خطأ المترجم العربي أو السرياني، وأحيانا يرده إلى فساد النص اليوناني الذي نقلت منه الترجمة السريانية؛ فالترجمة لديه نسخة طبق الأصل في النص المترجم،
19
والحقيقة أن السبب لا هذا ولا ذاك، بل طبيعة الموقف الحضاري للمترجم. ويقف مرجليوث أمام كل كلمة عربية ليلاحظ انحرافها عن النص اليوناني. والانحراف حكم قيمة يقوم على أن النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هي الفرع، وهو قلب للموقف الحضاري، وقد يخلط مترجم آخر، ويضع كتاب الشعر ضمن العلوم النقلية عند المسلمين.
20
وقد يقصد بالنقلية الوافد وليس العلوم النقلية بالمعنى الاصطلاحي وهي القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. يظن المستشرق وغيره من التابعين العرب أن الترجمات العربية القديمة هي ترجمات مطابقة للأصل اليوناني، وأن قيمتها كلما كانت مطابقة له؛ فالترجمة وثيقة تاريخية. وهي نظرة استشراقية تاريخية تكشف عن لا وعي حضاري. العكس هو الصحيح؛ كلما كانت الترجمة العربية مختلفة عن النص اليوناني كان العمل الحضاري فيها أوضح. ليس المقياس هو النقل طبق الأصل، وهو مستحيل في النقل، بل الإبداع أي القراءة؛ فكل ترجمة قراءة. (2) ما الأصل وما الفرع؟
Unknown page
لا تبدأ دراسة الترجمة من النص اليوناني إلى الترجمة العربية، ومن أرسطو إلى العرب في تصور شعوري أو لا شعوري لعلاقة الأصل بالفرع، وعلاقة الآخر بالأنا. هذا هو الظاهر أما الواقع فالعكس تماما هو الصحيح، الترجمة العربية هي الأصل والنص اليوناني هو الفرع، العرب هم الأول وأرسطو هو الثاني. الأنا تبدأ والآخر يأتي فيما بعد؛
21
فالترجمة العربية حامل لموقف حضاري نواته الأولى النص اليوناني، ولكنه ليس نسخة مطابقة له، يمكن نشر الترجمة العربية القديمة ومقارنته بالنص اليوناني القديم ليس بهدف المقارنة، مقارنة الفرع العربي بالأصل اليوناني بمنطق المطابقة، بل لوصف طبيعة العمليات الحضارية التي تتم من خلال الترجمة، زيادة ونقصا أو فهما وتأويلا أو كيفية نشأة المصطلحات.
ليس الاتفاق والاختلاف مع النص اليوناني بدال على الترجمة، مطابقة الفرع بالأصل، وإكمال الفرع بما نقص فيه من الأصل، وحذف من الفرع ما زاد عليه بالنسبة إلى الأصل؛ فليس النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هو الفرع بل العكس، النص اليوناني هو الفرع والترجمة العربية هو الأصل. التصور الأول يجعل الترجمة بالضرورة نسخة طبق الأصل من النص الأصلي، في حين أن التصور الثاني يجعل الترجمة تعليقا وشرحا وتأليفا غير مباشر. النص اليوناني هو نقطة البداية فقط وليس نقطة النهاية، في حين أن النص العربي هو نقطة النهاية، الأصل اليوناني وسيلة والترجمة العربية غاية. إذن لا يجوز إكمال الترجمة العربية إذا كانت ناقصة من الأصل اليوناني، ولا يجوز حذف نص من الترجمة العربية إن لم يكن موجودا في الأصل اليوناني؛ فالنص المحذوف أو المضاف له دلالة حضارية؛ الحذف تلخيص، والإضافة شرح. ليس النص اليوناني أو النص العربي وثيقة تاريخية طبق الأصل؛ فهذا تصور وضعي تاريخي للنص. النص اليوناني مجرد حامل لدلالة حضارية والنص العربي هو المحمول، بل كلما كان النصان متفقين غابت الدلالة الحضارية، وكلما اختلف النص العربي عن النص اليوناني حضرت الدلالة. ليست الدلالة في حالة الاتفاق مع النص اليوناني بل في حالة الاختلاف معه، في حالة الاتفاق يغيب الإشكال الحضاري، وفي حالة الاختلاف تظهر الدلالة، وكلما كان الخلاف أعظم كانت الدلالة أوضح. ليست مهمتنا تقويم النص اليوناني بالرجوع إلى مخطوط يوناني قديم أقدم من الذي لدينا الآن، الذي يرجع إلى القرن الحادي عشر أو العاشر بينما ترجع الحديثة إلى القرون الرابع عشر والسادس عشر، ومملوءة بانحرافات عن المخطوط الأولي؛ فتلك مهمة المستشرق الذي يجعل النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هو الفرع. كما أن إنقاذ فقرة طويلة ضاعت من المخطوطات اليونانية القديمة أيضا مهمة المستشرق. كان الهدف من نشر المستشرقين للترجمة العربية القديمة لكتاب الشعر، هو التعرف على النص اليوناني وليس النص العربي؛
22
فاليونان هم الأصل والعرب هم الفرع. وكان الهدف أيضا تعريف الغرب بصورة كتاب الشعر عند الشرقيين وأثره في شعرهم أو عدم فهمهم له. وكلا الفرضين أوروبيان: إفادة الأنا الأوروبي وإبداعه، الأنا اليوناني وإنكار قدرة الآخر على الفهم ثم على الإبداع.
لا يهم ابتعاد الترجمات العربية القديمة عن الأصل اليوناني أو قربها منه؛ فهي بداية الشرح والتلخيص.
23
الترجمة تفسير وتأويل، مراحل متعاقبة لا فصل بينها، هذا تصور المحدثين للترجمة من اليونانية إلى الإنجليزية دون موقف حضاري وتحت تأثير الوضعية اللغوية العربية في القرن التاسع عشر، لم تخطئ الترجمة السريانية لأنها قامت بنفس المهمة في النقل الحضاري من الوافد اليوناني إلى الموروث السرياني كما قام بها الناقل العربي، ولا عيب في أن تختلف الترجمات، فالمصطلحات ما زالت تتخلق، ولها دلالة على الفهم، فالبرهان تعليم، والخطابة امتحان، والسفسطة مرائية وهو لفظ قرآني، ولا يوجد خطأ وصواب بين المترجمين بل درجات مختلفة في فهم النص ، وإحساسات متفاوتة بدرجات عمقه، وطبقا لثقافة المترجم الفلسفية ومعرفته بالمصطلحات وقدراته اللغوية، وكلها تدور حول بؤرة واحدة «مجانبة الرأي المشهور». لا يوجد خطأ وصواب في الترجمة؛ لأن كل ترجمة نقل حضاري. ليست الترجمة فرعا على الأصل اليوناني، بل الأصل اليوناني فرع على الترجمة. والمهم في الترجمة المعنى وليس اللفظ. والترجمة الحديثة خارج الموقف الحضاري القديم.
24
Unknown page