وكان الرواقيون يقولون بأنهم وجدوا المبادئ العالمية في الأساطير، وذهب الإسكندريون هذا المذهب فأرجعوا أصل الفلسفة إلى تعليم الأسرار الأولى في مصر، وقال أفلاطون في «غورجياس»: إن الأساطير القديمة تتضمن عوامل الحقائق الكبرى، وهو في «الجمهورية» يؤثر أن يبدأ بها قبل غيرها في تعليم الأحداث، على أن مغزاها حقيقي.
والأحداث من غريزتهم يميلون إلى هذا النوع من القصص الوهمي؛ لأنه يغذي مخيلتهم، ويستثير شواعرهم الدقيقة، بيد أن أفلاطون لم يسمح بأن يلقنوا جميع أنواع الأساطير كخرافات هوميروس وهزيود، فإن هذين الشاعرين شوها جمال الأرباب والأبطال بما أضافا إليهم من صفات مذمومة كالمكر والخيانة، والاستهتار بالشهوات، فمثل هذه الأساطير يسيء إلى عقيدة الأحداث في الآلهة وأعاظم الرجال، بخلاف تصور الألوهية خيرا وسعادة للبشر، وتظهر البطولة بأسمى معانيها.
وكأن صاحب «من أعماق الجبل» وقعت في قلبه تعاليم أفلاطون، فجاءت أساطيره، على الجملة، مشبعة بفكرة الخير والجمال، تزهر منها أنوار لبنان حاملة إلى العالم القديم رسالة الحضارة والروح والحب والسلام، ف «النغم التائه» يرمز إلى الحب الشامل يفيض به قلب لبنان فيزرع الخصب، وينبت العمران، وتنبعث الإنسانية من تلك النفس المنفتحة، على حد ما يسميها «برغسن» ويعبر عنها إبدع تعبير.
فإذا تاه النغم، وتكاثفت المادة على الروح، ذهب الخير من الناس، وساد الشر والتحاسد والخراب، ولكن النغم يتيه ولا يبيد فلا بد له من عودة يتجدد فيها الصراع بين المادة والروح ؛ لأن المادة لا تنتقل من القوة إلى الفعل، من النقص إلى الكمال؛ إلا بمحرك من الروح، فهي لا غنية لها عنه وإن تمردت عليه.
وفي أسطورة «الشاعر والشيطان» نلمس حاجة المادة إلى الروح، حاجة الظلام إلى النور، فقد عاد النغم التائه من غربته وحط قراره في قلب شاعر من لبنان، يغني أغنية النور، ويعرض عن زخارف الشيطان: «فيهن الشكل والتراب وليس فيهن الروح»، ويجد الرمزية والتأثرية والتصوير المكعب من عمل الشيطان، فاجتنبوه! فالمدنية التي تقوم على المادة وحدها هي مدنية جوفاء: «لا زاوية فيها للروح وللحب المتصلين بينبوع النور الأزلي.»
أليس المسيح روحا محييا، وحبا شاملا، ونورا أزليا؟ فبالروح يحيا الإنسان لا بالجسم، وبالحب لا بالمادة تخف آلام البشر، وبالنور يهتدي الحائر لا بالظلام، فرسالة لبنان روح وحب ونور.
وإذا كانت المادة ضرورية لتخطيط الجسم وتشكيله، فإن الروح التي تتحد بالجسد وتحييه لا تدعه يربي عليها بجسمانيته، فيقودها إلى الشر ويستخدمها في شهواته، بل تغالب نزعات المادة مستبسلة حتى تنتصر عليها فتسير بها إلى الخير والفضيلة، كما انتصرت لبنانة في «بعل مرقد» فقمعت ثورة ماديتها بعد جهاد أليم يذكرنا جهاد القديسين حين تساورهم التجارب، وقامت ترقص وبعل مرقد يعزف ويغني لها «أغنية الحب الخالد»، فارتفع بها الرقص عن ظلمة المادة الكثيفة، فإذا هي «خصلة من نور تتعالى إلى ما وراء النجوم»، وكثير من الشعوب القديمة كانوا يؤمنون بقداسة الرقص، وأنه يدب الحياة في الأرض فينمو الزرع ويطيب الحصاد، وكان الهنود خصوصا يرون فيه فألا حسنا لإخصاب العروسين.
فعلى هذا النمط الخير تجري أساطير «من أعماق الجبل» متغنية بحضارة لبنان وجمال أرضه وسمائه، متصلة بقصص الماضين وعقائدهم دون أن تفقد خاصة الاختراع، فقد أعطى صلاح لبكي لنفسه الحرية في إخراجها وتوجيهها، فجاءت صنعا جديدا تطفو عليه روعة القديم وجلاله.
وربما حوت الأسطورة أصول أخبار وخرافات مختلفة المجاري، لبنانية ومهاجرة، فيجمع بعضها إلى بعض، ثم يشق لها طريقا غير طريقها القديم. فأسطورة «بعل مرقد» تذكرنا أوائلها بأسطورة بغماليون، فقد نحت بعل لبنانة بأزميله، ونفخ فيها الروح، وأحبها وتزوجها، كما نحت بغماليون بأزميله تمثال فتاة جميلة، فتعشقها ثم تزوجها بعد أن بعثت فينيس فيها الحياة.
على أن أسطورة صلاح لبكي لا تلبث أن تفارق الأسطورة اليونانية لتنتحي وجهة لبنانية، مسيحية لا وثنية، وكذلك أسطورة «النغم التائه»، فإنها تشتمل على خرافة أدونيس وعشتروت، وعلى خبر قاين وهابيل، كلاهما مرتبط بالآخر، وكلاهما يسير في طريق جديد، فنحن نعلم من التوراة أن الرب قبل تقدمة هابيل، وإلى تقدمة قاين لم ينظر، فشق على هذا إعراض الرب عن قربانه، فوثب على أخيه فاغتاله في الصحراء.
Unknown page