والفرق واضح بين الكلام الخاطئ والكلام الفارغ، فالأول يرسم لنا صورة إلا أنها لا تصور الحق، والثاني لا يصور شيئا؛ فإذا قلت لك: إن المصريين عددهم خمسون مليونا من الأنفس، فقد قلت لك خبرا مكذوبا، بمعنى أني قد صورت لك به صورة لا تطابق حقيقية الواقع، فأنت تستطيع أن تتصور حالة يكون عدد المصريين فيها خمسين مليونا، لكنك إذا أردت أن تراجع الحالة الواقعة فعلا بالصورة التي رسمتها لنفسك ؛ ألفيت بين الصورتين اختلافا، وفي هذا يكون المعنى الخطأ، إذ نقول عن الخبر: إنه خاطئ؛ أما إذا قلت لك: «إن المصريين عددهم أرباع مجسمة.» فقد قلت لك كلاما فارغا خاليا من المعنى، على الرغم من أن كل كلمة على حدة لها معناها الخاص المعلوم إذا ما وضعت في سياقها الصحيح، فمثل هذا الكلام الفارغ لا يقال عنه إنه خطأ؛ لأننا قد اصطلحنا على أن يكون معنى الخطأ اختلافا بين الصورة التي يرسمها الكلام وبين الحالة الواقعة فعلا، فماذا لو كان القول لا يرسم صورة كائنة ما كانت؟ عندئذ لا تكون موازنة بين الحالة الواقعة وبين صورة ما؛ وبالتالي لا يكون حكم بخطأ، دع عنك أن يكون الحكم بصواب.
وقد يجوز للقول الخاطئ - في حقيقة أمره - أن يعتقد في صوابه أحد الناس فيدافع عنه، وفي مثل هذه الحالة يحق - طبعا - لمن شاء أن يرد هذا المخطئ عن خطئه. أقول: إن ذلك جائز الحدوث؛ لأن هنالك حالة واقعة فعلا، لا تعتمد في واقعيتها على عقيدة المتكلم الأول ولا على عقيدة المتكلم الثاني، وسبيل المناقشة بين الخصمين هو أن يحاول كل منهما أن يفتح عين زميله على تلك الحالة الواقعة؛ لكي يبصره بحقيقة تفصيلاتها، فمن وجد منهما أن كلامه عنها لم يكن صورة صادقة مطابقة لتلك التفصيلات؛ عرف أنه أخطأ، ثم ارتد إلى الصواب. فافرض مثلا أن هنالك حالة واقعة فعلا، هي أن الطمي الذي يحمله النيل في فيضانه أثناء الصيف، آت من هضبة الحبشة، ثم افرض إلى جانب ذلك رجلين: أحدهما «يعتقد» في صدق العبارة الآتية: «النيل ينقل الطمي أيام الفيضان من أوغندة»، والثاني يعلم أن ذلك قول خاطئ، ويريد أن يرد صاحبه إلى الصواب؛ ها هنا يكون مدار المناقشة بين الرجلين هو الحالة الواقعة فعلا، والتي لا تعتمد واقعيتها على عقيدة أي منهما، وقد يستطيع الثاني أن يفتح عين الأول على تلك الحالة الواقعة، فيعلم أن الصورة التي كان رسمها بقوله: إن النيل ينقل الطمي من أوغندة، لا تطابق الواقع فيرتد عنها إذا أراد لنفسه صوابا.
من ذلك ترى أن المناقشة جائزة حين يكون القول خاطئا، لكنها ليست بذات موضوع إذا كان كلام المتكلم فارغا؛ لأنه لن يكون هنالك «صورة» مرسومة بالكلام، حتى نستطيع أن نوازن بين الأصل وصورته، لنرى إن كان بينهما تطابق أو لم يكن؛ هبني زعمت لك «أن المصريين أرباع مجسدة» فماذا أنت قائل إزاء هذا الزعم تأييدا أو تفنيدا؟ لا شيء؛ لأن الكلام لم يرسم صورة يمكن مقارنتها بأصل هناك، فلا تأييد ولا تفنيد. أعني أن المناقشة تنتفي من أساسها.
والغاية التي يهدف إليها هذا الكتاب، هي أن يبين أن «الميتافيزيقا»
1
كلامها كله فارغ من هذا القبيل، لا يرسم صورة، ولا يحمل معنى؛ وبالتالي لا يجوز فيها البحث واختلاف الرأي، فلو أردنا أن نقصر كلامنا على ما يكون له معنى؛ وجب اطراح الفلسفة التأملية - وهو اسم آخر نطلقه على الأبحاث الميتافيزيقية - وما يدور مدارها من صنوف التفكير، بحيث لا يبقى بين أيدينا في دائرة العلم إلا العلوم الطبيعية والرياضة.
2
إنني لأرجو أن يتبين القارئ في وضوح خلال قراءته لهذا الكتاب، أن «المشكلات الفلسفية» المزعومة إنما نشأت من طريقة استعمال «الفلاسفة» للألفاظ والعبارات؛ إذ تراهم يستخدمون الألفاظ والعبارات على نحو يختلف عن الطريقة التي اتفق الناس فيما بينهم - اتفاقا مفهوما بالعرف - على أن يستخدموا بها تلك الرموز اللغوية، وبذلك تنشأ عبارات ليست بذات معنى مفهوم، وقد لا يظهر فيها هذا الجانب إلا بعد تحليل، فتؤخذ عند فلاسفة الميتافيزيقا على أنها «مشكلات» تستدعي التفكير والتأمل، وتنتظر الحل والجواب؛ والحق أنها أخلاط من رموز لا تدل على شيء ألبتة، فإذا استوجبت منا شيئا فهو حذفها حذفا من قائمة الكلام المقبول؛ يقول «وتجنشتين»: «معظم ما كتب من قضايا وما سئل من أسئلة عن الموضوعات الفلسفية، ليس باطلا فحسب، بل خاليا من المعنى؛ فلسنا نستطيع لذلك أن نجيب عن هذه الأسئلة إطلاقا، وكل ما نستطيعه حيالها هو أن نقرر خلوها من المعنى. إن معظم أسئلة الفلاسفة وقضاياهم ناتجة عن عدم فهمنا لمنطق لغتنا ... فلا عجب إذن أن تكون أعمق مشكلاتهم ليست بمشكلات.»
2
إن الكلمات والعبارات التي تتألف منها اللغة: رموز اصطلح الناس على استخدامها بطريقة معينة ليتم التفاهم، فإذا وجدنا عبارة لا تؤدي هذا الذي خلقت من أجله، أعني لو وجدنا عبارة قالها قائلها ليفهم عنه السامع، ثم تبين أنها بحكم تركيبها يستحيل أن تنقل إلى السامع شيئا، كان حتما علينا أن نرفض قبولها جزءا من لغة التفاهم، وكان لا مندوحة لنا عن حذفها من جملة الكلام المفهوم.
Unknown page