وانظر كذلك في عناية إلى النقد الآتي؛ لأنه - في رأينا - أخطر أساسا من النقدين السابقين:
إن الرأي الذي يأخذ به أنصار المدرسة التحليلية الحديثة، ينتهي بهم - كما سيأتي في موضع آخر من الكتاب بالتفصيل - إلى أن المعرفة العلمية نوعان لا ثالث لهما: وهما الرياضة والعلوم الطبيعية؛ وهم في ذلك أتباع لأب أصيل من آباء المذهب الوضعي، وأعني به «هيوم»، وله العبارة المشهورة التي نصها بالترجمة هو ما يأتي: «إذا تناولت أيدينا كتابا - كائنا ما كان - في اللاهوت أو في الميتافيزيقا الاسكولائية مثلا، فلنسأل: هل يحتوي هذا الكتاب على أي تدليل مجرد يدور حول الكمية والعدد؟ لا، هل يحتوي على أي تدليل تجريبي يدور حول الحقائق الواقعة القائمة في الوجود؟ لا، إذن فاقذف به في النار؛ لأنه يستحيل أن يكون مشتملا على شيء غير سفسطة ووهم.»
28
فيقول الناقدون تعليقا على هذا الموقف؛ لكن هذه العبارة نفسها التي قالها هيوم لا هي تدليل رياضي يدور حول الكمية والعدد، ولا هي تدليل تجريبي يدور حول وقائع الوجود، فماذا هي إذن؟
وجوابنا هو أنها منطق؛ أي تحليل؛ أي فلسفة بالمعنى الذي نريد أن نحدد الفلسفة به.
فأمامنا عبارات يقولها المتكلمون والكاتبون، يقولونها لمن؟ يقولونها لمن يسمعونهم أو يقرءونهم، يقولونها لنا، أفلا يكون من حقنا أن نستوثق أولا من أن ما يقولونه وما يكتبونه يمكن مراجعته لتصديقه على أساس سليم؟ فإذا سألت العالم الرياضي عن حقيقة ما يقوله، أجاب في اختصار: إنني أقدم لك معادلات، كل معادلة منها تقول الشيء الواحد بصيغتين، وإنما أعتبر الصيغتين متساويتين على أساس كذا وكذا من الفروض، فعلي أنا بعد ذلك - إذا أردت التحقق من صدق زعمه - أن أراجع تلك الفروض لأتأكد أن كل معادلة من معادلاته متساوية الشطرين حقا على أساس الفروض المزعومة المشار إليها.
وإذا سألت العالم الطبيعي عن حقيقة ما يقوله؛ أجاب في اختصار: إنني أقدم لك قوانين تلخص بعبارة موجزة جملة مشاهداتي وتجاربي، فعلي أنا بعد ذلك - إذا أردت التحقق من صدق زعمه - أن أراجع العالم الواقع لأتأكد أنه قد شاهده مشاهدة دقيقة وسجل مشاهداته تسجيلا صحيحا.
وليس أمامي إلا هذان الطريقان في التحقق من صدق ما يقال: طريق مراجعة الاستدلال الاستنباطي في حالة العلوم الرياضية، وطريق مراجعة المشاهدات للعالم الواقع في حالة العلوم الطبيعية، ومن أجل ذلك قبلت ما يقوله الرياضيون وعلماء الطبيعة، ولم أكن في قبولي هذا عالما من علماء الرياضة ولا عالما من علماء الطبيعة، إنما كنت رجلا من رجال التحليل، تناول ما يقوله هؤلاء وأولئك للتأكد من أنها أقوال ذوات معنى مفهوم؛ فأين التناقض في مثل هذا الموقف؟
أإذا وقفت أمام كومة من أشياء مختلفة، بينها برتقال وكمثرى وأصناف أخرى، ثم جعلت غايتي جمع البرتقال والكمثرى وحدهما والقذف ببقية الأشياء، يقال لي: لكنك لست برتقالا ولا كمثرى، فماذا أنت؟ هذا هو بعينه موقفي حين أقف أمام كومة من أقوال العلماء، ثم أجعل غايتي هي جمع الأقوال ذوات المعنى المفهوم وحدها، والقذف ببقية الأقوال، فإذا حصلت في النهاية على مجموعة من أقوال مفهومة، ثم حللتها فوجدتها صنفين: أقوال رياضية وأقوال في العلوم الطبيعية، فانتهيت إلى الحكم الآتي: الأقوال المقبولة هي قضايا الرياضة والعلوم الطبيعية وحدها، فهل يجوز أن يعترض على ذلك بقولهم: لكن هذا القول نفسه لا هو رياضة ولا هو من العلوم الطبيعية. فماذا هو؟ لو قيل ذلك لأجبت بالجواب الذي أسلفته وهو: أنه منطق، وقد اعترفنا بالفلسفة إذا جعلت بحثها تحليلا منطقيا، ولم ننكر هذا المعنى من معانيها، وما كان لنا أن ننكره؛ لأن المنطقي لا يقول شيئا من عنده، إنما يحلل ما يقوله الآخرون وكفى.
ولزيادة التوضيح نسوق التشبيه الآتي: هبني قلت: «إن أعضاء النواب وأعضاء الشيوخ وحدهم هم المسموح لهم بدخول القاعة، وأما الزائرون فينبغي إخراجهم.» أفلا يكون لهذه العبارة معنى ما دامت هي نفسها ليست عضوا في النواب ولا عضوا في الشيوخ ولا واحدا من الزائرين؟ كذلك الحال فيما نحن بصدده: أمامنا أكداس من عبارات لغوية يقولها الناس في مناسبات شتى، فنقول: «إن العبارات المقبولة من هذه الحكومة كلها في القضايا الرياضية وقضايا العلوم الطبيعية؛ لأن هاتين الطائفتين هما وحدهما العبارات ذوات المعنى، أما العبارات التي لا هي من هذه ولا من تلك فينبغي حذفها؛ لأنها بغير معنى» ... لماذا يعترض على هذا بقولهم: لكن هذه العبارة نفسها لا هي من قضايا الرياضة ولا من قضايا العلوم الطبيعية فينبغي حذفها؟ وحتى لو فرضنا جدلا أننا حذفناها، فإن الموقف لا يتغير، إذ ستظل العبارات ذوات المعنى هي قضايا الرياضة والعلوم الطبيعية وحدها.
Unknown page