ولعل هذا هو نفسه الذي حدا بوتجنشتين أن يقول في آخر كتابه ،
29
إن ما أورده في الكتاب ليهدى به القارئ إلى ما يترك وما يأخذ من الأقوال، هو نفسه مما يترك، فكأنه للقارئ الدارس بمثابة السلم الخشبي، يستعين به على الصعود إلى السطح، ثم يقذفه بقدمه بعيدا؛ لأنه لم يعد بحاجة إليه، وهذا هو نص عبارته مترجم: «إن ما قد أوردته [في الكتاب] من قضايا يدل على أن من يفهمني سيرى في النهاية أن تلك القضايا ليست بذات معنى، وذلك بعد أن يكون قد صعد على سلمها، وخطا على درجاتها، وأصبح فوقها، فيجب أن يقذف بالسلم - إن صح هذا التعبير - بعد أن يفرغ من استخدامه لصعوده.»
30
فاحذف إن شئت ما يقوله لك المذهب الوضعي المنطقي، احذفه باعتباره كلاما هو في ذاته لا يدل على شيء من رياضة أو علوم طبيعية، لكنك إذ تحذفه ستكون قد بلغت ما أردنا لك بلوغه، وهو ألا تبقي بين يديك من العبارات إلا قضايا الرياضة وقضايا العلوم الطبيعية، وقذفت بالبقية الباقية كلها في المهملات؛ لأنها كلام فارغ بغير معنى.
5
الفكرة التي نعرضها في هذا الفصل وندافع عنها، هي أن «الفلسفة» لا ينبغي أن تجعل غايتها شيئا غير التحليل المنطقي لما يقوله سواها؛ إنها لا تتكلم بذاتها، بل تدع غيرها يتكلم بما قد كشف عنه من حقائق العالم، ثم تتقدم هي لتحليل هذا الذي نطق به غيرها في تصويره للعالم؛ كي تستوثق بأن الكلام الذي قيل قد كان كلاما له معنى، وليس من شأنها بعد ذلك أن تقول إن كان الكلام الذي قيل، والذي وجدته كلاما ذا معنى، ليس من شأنها أن تقول إن كان ذلك الكلام صادق التصوير لحقائق العالم أو غير صادق؛ لأن مراجعة الصورة الكلامية على الأصل الطبيعي من صميم عمل العلماء بما لديهم من أدوات المشاهدة والتجربة.
وأعيد هنا ما قلته في موضع آخر:
31
الفلسفة طريقة في البحث بغير موضوع، فليست غايتها أن تبحث «مسائل» لتصل فيها إلى «نتائج»؛ لأنه ليس هناك «مسائل فلسفية»، ولا ينبغي أن يطلب من الفلسفة أن تصل إلى «نتائج » عن حقائق الكون؛ كل مسألة في الدنيا يراد فيها الوصول إلى نتائج يجب أن تترك للعلم والعلماء، إذ هي والله أضحوكة الأضاحيك أن يجلس المتفلسف على كرسيه في برجه معزولا عن العالم، حتى إذا ما سئل: ماذا تصنع ها هنا في عزلتك هذه؟ أجاب: أريد الوصول إلى حقيقة العالم! وسأسوق لك مثلا كلام فيلسوف مسلم - هو الكندي
Unknown page