56

Mawcizat Muminin

موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

Investigator

مأمون بن محيي الدين الجنان

Publisher

دار الكتب العلمية

كِتَابُ أَسْرَارِ الصَّوْمِ
أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمِنَّةَ بِمَا دَفَعَ عَنْهُمْ كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَخَيَّبَ ظَنَّهُ، إِذْ جَعَلَ الصَّوْمَ حِصْنًا لِأَوْلِيَائِهِ وَجُنَّةً، وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ ﷺ: " الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ " قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزُّمَرِ: ١٠] فَقَدْ جَازَ ثَوَابُ الصَّوْمِ قَانُونَ التَّقْدِيرِ وَالْحِسَابِ، وَنَاهِيكَ فِي مَعْرِفَةِ فَضْلِهِ قَوْلُهُ ﷺ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِخُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَقُولُ اللَّهُ ﷿: " إِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ لِأَجْلِي فَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا الَّذِي أَجْزِي بِهِ " وَهُوَ مَوْعُودٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ صَوْمِهِ، قَالَ ﷺ: " لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ إِفْطَارِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ ". وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السَّجْدَةِ: ١٧] كَانَ عَمَلُهُمُ الصِّيَامَ لِأَنَّهُ قَالَ: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزُّمَرِ: ١٠] فَيُفْرَغُ لِلصَّائِمِ جَزَاؤُهُ إِفْرَاغًا وَيُجَازَفُ جُزَافًا، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وَهْمٍ وَتَقْدِيرٍ، وَجَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ وَمُشَرِّفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا لَهُ، لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّوْمَ كَفٌّ وَتَرْكٌ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ سِرٌّ لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ يُشَاهَدُ، وَجَمِيعُ الطَّاعَاتِ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ وَمَرْأًى، وَالصَّوْمُ لَا يَرَاهُ إِلَّا اللَّهُ ﷿ فَإِنَّهُ عَمَلٌ فِي الْبَاطِنِ بِالصَّبْرِ الْمُجَرَّدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَهْرٌ لِعَدُوِّ اللَّهِ ﷿ فَإِنَّ وَسِيلَةَ الشَّيْطَانِ الشَّهَوَاتُ وَإِنَّمَا تَقْوَى بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَفِي قَمْعِ عَدُوِّ اللَّهِ نُصْرَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَنَاصِرُ اللَّهِ تَعَالَى مَوْقُوفٌ عَلَى النُّصْرَةِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [مُحَمَّدٍ: ٧] فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ الصَّوْمُ بَابَ الْعِبَادَةِ وَصَارَ جُنَّةً ; وَإِذَا عَظُمَتْ فَضِيلَتُهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ شُرُوطِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِذِكْرِ أَرْكَانِهِ وَسُنَنِهِ وَشُرُوطِهِ الْبَاطِنَةِ.

1 / 59