ثم كانت الطامة الكبرى في عهد قباذ أبي كسرى أنوشروان، الذي حضر بعثة النبي، وتلقى رسالته بالسخط والوعيد ...
ففي عهد قباذ هذا ظهر «مزدك» داعية الإباحة والفوضى في الأموال والأعراض، ولم يتزحزح هذا الداعية خطوة واحدة من الثنوية إلى التوحيد أو ما يشبه التوحيد، وقال كما قال «ماني» من قبله: إن العالم كله في قبضة إله النور وإله الظلام. غير أنه زاد عليه: «إن النور يفعل بالقصد والاختيار، وإن الظلمة تفعل على الخبط والاتفاق، وإن النور عالم حساس، والظلمة جاهلة عمياء، وإن المزاج كان على الاتفاق والخبط لا بالقصد والاختيار، وكذلك الخلاص إنما يقع بالاتفاق دون الاختيار.»
وزعم مزدك هذا أنه جاء ليبطل الخلاف بين العقائد والأمم، وينهاهم عن المباغضة والقتال، وأنه لما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، فقد أحل النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ، ورد القوى الكونية إلى أربع؛ هي: التميز، والفهم، والحفظ، والسرور، وكل منها يعمل بسبعة من الوزراء، يتبع الوزير منهم اثنا عشر روحانيا، وكل إنسان اجتمعت له أسرار الأربعة والسبعة والاثني عشر صار ربانيا في العالم السفلي، وارتفع عنه التكليف، وأن ملك الملوك في العالم العلوي إنما يدبر بالحروف التي مجموعها الاسم الأعظم، ومن تصور من تلك الحروف شيئا انفتح له السر الأكبر، ومن حرم ذلك بقي في عمى الجهل والنسيان والبلادة والغم في مقابلة القوى الأربع الروحانية.
1
ويقال عن مزدك هذا إنه كان عظيم الدهاء، خبيرا بفنون الإقناع والإغراء، وإنه بلغ من سلطانه على قباذ أنه أقنعه ببذل زوجته لمن يشتهيها؛ ليعلم الناس الصدق في إيمانه، ويقتدوا به في ترك التباغض والملاحاة على الأعراض والعروض، فأوشك قباذ أن يفعل ما أوحاه إليه، لولا أن علم ولي عهده كسرى فدخل عليه باكيا متضرعا يتوسل إليه ألا يذله هذا الإذلال، ويبتذل أمه أمام الناس هذا الابتذال، ثم تمالأت عصبة ولي العهد فقتلوه، وتعقبوا شيعته بالقمع والتشريد.
وعلى الرغم من تتابع المصلحين الذين اجتهدوا غاية اجتهادهم في تطهير الديانة المجوسية من الوثنية والمراسم الهيكلية، لم تزل عقيدتهم جميعا في الأرواح والشياطين حائلا بينهم وبين التوحيد، بل حائلا بينهم وبين الثنوية على بساطتها الأولى؛ فإن موالاة الأرواح ومحاذرة الشياطين تسوقانهم إلى ضروب من العبادة والزلفى لطوائف شتى من الأرباب الصغار عدا الإلهين الأقدمين: إله النور وإله الظلام، ولا يزال المجوس إلى اليوم يبدءون صلاتهم بعد منتصف الليل، ويقضون ساعات الصلاة الأولى في تلاوة الأناشيد التي يسترضون بها شياطين الظلام، قبل انبثاق النور الأعظم عند الصباح.
اليهودية والمسيحية
أما اليهودية فقد كان قيام المسيحية في معقلها الأكبر إيذانا حيا بنفادها وانتهائها إلى الغاية من الجمود والضيق؛ إذ كانت المسيحية في الواقع حركة إصلاح واسع في جميع العقائد اليهودية التي جمدت على النصوص والمراسم، وتحولت من الدين إلى نقيض الدين، ولا شيء يناقض الدين كما ناقضته تلك الأنانية القومية التي حسبت الإله المعبود ملكا لها دون سائر عباده، يبيح لها في سائر الأقوام ما لا يباح في شريعة ولا قسطاس مستقيم.
وفي عصر الميلاد نفسه ظهر من حكماء اليهود من أحس الحاجة إلى إصلاح عقائد قومه وشعائرهم، فاختار فيلون الحكيم أسلوب التعبير الرمزي لتفسير مسائل الكتاب التي لا تقبلها الحكمة، وكان مما يلفت النظر في هذا الصدد أنه رجع إلى قصة إبراهيم وسارة وهاجر، فعبرها على أسلوبه تعبير الرموز؛ لأن المسلك الذي نسب فيها إلى إبراهيم لا يعقل من خليل الرحمن؛ فعنده أن سارة هي الحكمة الإلهية، وأن هاجر هي الذربة الدنيوية، وأن زواج الخليل من سارة لم يثمر في أول الأمر لأنه لم ينضج له قبل التمرس بحقائق الحياة.
وقد كان هذا أسلوب الفلسفة الذي أدخله بولس الرسول في أسلوبه الديني، فقال في رسالة غلاطية: «إنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان: واحد من الجارية والآخر من الحرة، لكن الذي من الجارية ولد حسب الجسد، وأما الذي من الحرة فبالموعد، وكل ذلك رمز؛ لأن هاتين هما العهدان؛ أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية، الذي هو هاجر؛ لأن هاجر جبل سيناء في العربية، ولكنه يقابل أورشليم الحاضرة؛ فإنها مستعبدة مع بنيها، وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعا فهي حرة ...»
Unknown page