وهذه ثورة على تفسير موعد إبراهيم بأسلوب العصبية والأنانية، تلفت النظر فيما نحن بصدده، وتومئ إلى ما يأتي بعدها في الزمن المتطاول. ثم سرى الإصلاح المسيحي مسراه، فمضى معه من اليهود من صلح له، وبقى الجامدون على شر مما كانوا عليه قبل الدعوة المسيحية، وجنى العناد والإصرار على الباطل جنايته المعهودة، فذهبت ريح الكهانة والمراسم الهيكلية، وتفرقت مراجع الديانة مع كل مجمع، وكل معبد، وكل طائفة ذات مذهب في التوراة أو التلمود، أو تقاليد الأحبار والربانيين.
وكان من آثار هدم الهيكل سنة سبعين للميلاد أن أشياعه فقدوا وحدة المراسم بعد أن فقدوا وحدة العقيدة والروح، فلم يأت عصر البعثة المحمدية حتى استفحل الخطب بينهم من جراء تفسيراتهم الكثيرة، فنهضت بينهم طلائع الطائفة التي عرفت بعد ذلك بطائفة القرائين، وأنكرت كل رأي غير النصوص والحروف في الكتب المنسوبة إلى موسى الكليم، فكان خوف التفرق سبيل النكسة إلى أيام العصبية والأنانية القومية، ولم يكن سبيلا إلى الحرية والتجديد.
ومما يلفت النظر مرة أخرى أن إصلاح هذا الجمود الجديد إنما أتى من قبل البلاد الإسلامية على يد سعديا المصري وابن ميمون الأندلسي، وأن حكماء اليهود في القرن الثالث للهجرة لم يكن لهم مذهب في تنزيه الإله غير مذهب علماء الكلام من المسلمين.
وكذلك كان يهود العالم في عصر البعثة المحمدية بين أشتات يذهب كل منها مذهبه على حسب المجمع أو المعبد الذي ينتمي إليه، وبين شراذم متعنتين في الجمود على الحروف والنصوص، يرجعون بهذه النكسة إلى الداء الذي قامت المسيحية لإصلاحه قبل بضعة قرون.
فتلك حاجة جديدة إلى إصلاح جديد.
محنة المسيحية
وقد جاء الإسلام والمسيحية منتشرة في بلاد الدولة الرومانية شرقا وغربا، يدين بها ملوكها ورؤساؤها ومعظم رعاياها، وكان هؤلاء الملوك والرؤساء - قبل تنصرهم - يضطهدون المسيحيين ويعذبونهم، ولا يتورعون عن لون من ألوان العذاب يصبونه عليهم، فكانت محنة عظيمة صبر لها المسيحيون الأولون صبر المؤمنين الصادقين، ولكن هؤلاء الملوك والرؤساء كانت محنتهم للمسيحية - بعد تنصرهم - أشد عليهم من محنة الاضطهاد والتعذيب؛ لأنهم لم يكفوا عن الظلم، وزادوا عليه عبث السياسة بالعقائد والآراء، فدسوا مطامعهم بين المختلفين على تفسير المسيحية الأولى، وفرقوهم شيعا متباغضة متنافرة، يرمي بعضها بعضا بالكفر والضلالة، وينشب بينها الجدل فلا تتفق على قول حتى تتفتح أمامها مذاهب الخلاف على أقوال.
ولم يكن خلاف المذاهب يومئذ كخلاف المذاهب في العصر الحاضر يسمح بوجهات النظر، ولا يستلزم طرد المخالفين جميعا من حظيرة الدين، بل كان بحث الآباء الأولين في سبيل الوصول إلى أركان العقيدة، وتقرير ما يسمى بالمسيحية وما لا يحسب منها، وإنما يحسب من الكفر والضلالة؛ فلم تبق نحلة من النحل الكثيرة إلا حكمت على مناقضيها بالمروق والهرطقة.
وتعددت هذه النحل بين الأريوسية والنسطورية واليعقوبية والملكية على تباعد الأقوال في الطبيعة الإلهية ومنزلة الأقانيم الثلاثة منها، ويأتي النزاع بين الكنيستين الشرقية والغربية فيقضي على البقية الباقية من الثقة والطمأنينة، ولا يدع ركنا من أركان العقيدة بمبعدة من الجدل والاتهام، فلا جرم يتردد على الألسنة ويدون في كتب التاريخ يومئذ أن القوم جميعا قد استحقوا العقاب الإلهي، وأن أبناء إسماعيل قد جاءوا من الصحراء بأمر الله عقابا للظالمين والمارقين.
ويستطيع القارئ أن يترجم هذه البلبلة بحوادث السياسة ومنازعات العروش، فلا يرى من حوادثها يومئذ إلا زعازع من هذا القبيل على عروش الدول والإمارات، وأولها عرش الأكاسرة وعرش القياصرة رؤساء أكبر الدول في ذلك الحين، فلم يكن بين الملوك الخمسة أو الستة الذين تعاقبوا على عرش فارس أو عرش بيزنطية من مات حتف أنفه، أو مات مستقرا على عرشه، ولم يكن منهم أحد كان له حق واضح في السلطان حين وثب عليه، ويتقلب العرش بين الغاصبين، فيفزع من كان آمنا، ويأمن من كان مهددا أو مشردا في البلاد مع اختلاف الحظوة والنقمة بين الأنصار والخصوم، فلما تمادى الأمر على ذلك عاما بعد عام، لم يبق من يأمن على نفسه وماله في زمن أنصار ولا زمن خصوم، وعم الخوف أقرب الناس إلى السلطان وأبعدهم منه على حد سواء.
Unknown page