134

Mashāhid al-mamālik

مشاهد الممالك

Genres

هي مدينة رومانية قديمة تعرف باسم بونا، ويكتبها الفرنسويون بون، ولكن العرب يسمونها عنابة؛ لكثرة ما فيها من شجر العناب، يبلغ سكانها الآن 34498 نفسا، منهم 12011 فرنسويون و8705 مسلمون و1311 يهود و12471 من الطليانية والإسبان والمالطية وسواهم. وموقعها جميل جدا على شاطئ البحر، ولها مينا مستدير بنته الحكومة الفرنسوية للبواخر، وهي لا تخلو المدينة من بعضها، تقوم من مرسيليا وتمر على المدن البحرية، مثل عاصمة الجزائر وجيجلي وبوجي وفيليب فيل وعنابة هذه، وبزرت وتونس لحد طرابلس، ثم تعود إلى مرسيليا. والبحر محيط بعنابة من ثلاث جهات، وشكلها منظم على الطريقة الفرنسوية، حتى إن الزائر ليظن نفسه في إحدى مدن فرنسا، من ذلك الميدان الأهلي، يمتد من تل في شمال البلد إلى رصيف المينا في الجنوب، يقرب من منشية الإسكندرية في طوله وعرضه، وقد غرست فيه أشجار الدلب أربعة صفوف، وأقيمت من حوله الأبنية العظيمة، مثل بناء المجلس البلدي، بني على أعمدة من الرخام الأسود اللماع، والتياترو يسع 800 شخص، وبنك الجزائر وشركات البواخر ومنازل الموسرين، وكل هذه الأبنية قائمة على قناطر تحتها الحوانيت والحانات والقهاوي. والحركة في هذا الميدان دائمة، ولكن الذين يخطرون فيه أبدا هم الفرنسويون من الرجال والنساء، فلا تسمع هنالك غير لغتهم، وتصدح الموسيقى العسكرية في هذا الميدان مرة في النهار ومرة في الليل، وفيه تمثال تييرس أول رؤساء الجمهورية الحالية، نصب في آخر الميدان من جهة الرصيف. والرصيف من المتنزهات الجميلة في هذا البلد، يختلف الناس إليه لاستنشاق هواء البحر وسماع الموسيقى في الليالي. ويتفرع من هذا الميدان عدة شوارع ممتدة من الشرق إلى الغرب، وكلها نظيفة زرعت في جوانبها الأشجار، ولكل منها اسم كبير من مشاهير فرنسا. وحي المغاربة هنا أنظف من كل أحياء المغاربة، يكنس ويرش بالماء كل يوم، ومنازله مبنية على النسق الأوروبي. دخلت المحكمة الشرعية في هذا الحي فرأيت القاضي بالملابس البيضاء والبرنس الحريري، وعلى صدره وسام لجيون دونور من حكومة فرنسا. وذهبت إلى المحكمة الأهلية أيضا، ورأيت بين أعضائها أفرادا من المغاربة درسوا الحقوق في فرنسا، ولها ترجمان مغربي ينقل أقوال الشهود والمتهمين بالفرنسوية للقضاة.

ولهذه المدينة ضواح جميلة، منها الكرنويل (الضفادع) واقعة على شاطئ البحر، وتتصل بها ضاحية أخرى اسمها الكورنيش على اسم متنزه في مرسيليا، وقد قمت في الأمنبوس وهو يذهب إلى هذه الضواحي من الميدان الأهلي كل نصف ساعة، ويسير إلى يمين البحر، وإلى الشمال المزارع والحدائق والهضبات البهية حتى يبلغ محل الضفادع، وفيه الحمامات للرجال والنساء والقهاوي والمطاعم، وكنت كثير التردد على هذا المتنزه أتفرج على البحر، وهو هنا على شكل جون، وفيه جزر من الصخور وجداول من الماء تصب في البحر بعد أن تمر في تلك الحدائق الحسناء.

ورافقني في هذا اليوم الموسيو ميرسينيه - وهو صاحب الفندق الذي كنت فيه وشقيق الموسير ميرسينيه التاجر في دمنهور، ووكيل قنصلاتو فرنسا فيها - فذهبنا إلى الضواحي الشرقية، وفي جملتها هيبو، وهي من المدن الرومانية القديمة، وقد ذكرتها في المقدمة. فحالما خرجنا من المدينة رأينا نهر بوجيمة، وهو يخرج من جبل أدوغ ويصب في البحر، وعليه قنطرة تمر فوقها العربات والناس، وله خزانات وأقنية من أعمال الرومانيين، والأرض هنا شديدة الخصب، ولكن الحر شديد مثله في كل ثغور أفريقيا الشمالية، فجميع العربات في هذا البلد من نوع اللاندو، لها نافذتان بقصد الوقاية من الحر. ووقفت بنا العربة عند بيت جميل لأحد الفرنسويين، له حديقة غناء، فاستقبلنا الرجل بالترحاب، وأرانا بعض الآثار الرومانية في حديقة كائنة في الحفر، فهو يقول إن مكانه كان معبدا قديما للرومانيين، وقد عرضت عليه إدارات المتاحف أن تشتري منه البيت والحديقة بأضعاف ثمنهما، والظاهر من التاريخ أن القديس أوغسطينوس كان مطران هذه المدينة، وهو توفي سنة 431، وأن الفندال هجموا في تلك السنة على دير للراهبات فأحرقته القديسة بارب بمن فيه تخلصا منهم. وقد بنيت كنيسة في هذه الجهة على أكمة بناها الكردينال لافجري المشهور (توفي سنة 1892) وجعلها لاسم القديس أوغسطينوس، فهي أجمل من كل كنائس اللاتين في القطر المصري، وبنى أيضا ديرا للراهبات باسم القديسة بارب ودارا للعجزة. وكل هذه الأبنية تحيط بها الحدائق الحسناء، وقد أنفق الكردينال عليها أموالا طائلة جمعها من الفرنسويين.

ويرى من الميدان الأهلي جبل أدوغ السابق ذكره، وقد ذكرت في المقدمة التاريخية أن ملك الفندال جلمر هرب من وجه القائد البيزانتي بلزاروس إلى هذا الجبل، وهو قائم إلى جهة الشرق علوه نحو 600 متر، وفيه حراج الصنوبر، فهو مصيف الأوروبيين من أهل المدينة، قصدته بالعربة فإذا هو مثل برمانا من قرى جبل لبنان، ويمكن الذهاب إليه من عنابة والرجوع إليها في نهار واحد.

من عنابة إلى تونس:

برحت هذه المدينة في القطار، وطريقه كالتي وصفتها من قبل، تكثر فيها غابات الزيتون، فوصلت بعد 4 ساعات محطة غار الماء، وفي اصطلاح الفرنسويين غارديما، وهي الحد الفاصل بين إمارة تونس وبلاد الجزائر، وفيها جمركان، أحدهما تابع لحكومة تونس والآخر لحكومة الجزائر، فدخلنا جمرك تونس حتى تفتش أمتعتنا فيه؛ لأننا كنا ذاهبين إليها، وأما القادمون من تونس إلى الجزائر فيذهبون للتفتيش في الجمرك الآخر. ثم قام القطار في أرض تونس، وهي منبسطة، غرس الفرنسويون في طرقها شجر الحور إلى جانبي خط القطار، فمنظر الطريق هنا جميل، وقد غرس أصحاب الأراضي حول أرضهم هذه الأشجار أيضا فزادت البلاد رونقا وجمالا. وبعد سفر ساعتين أو ما يقرب من ذلك بلغنا محطة تونس، فذهبنا منها توا إلى فندق جران أوتل في ميدان فرنسا.

السفر من تونس إلى طرابلس

لما بلغت هذا الفندق تعرفت بألماني من وكلاء البيوت التجارية كان ينوي الذهاب إلى طرابلس، فلما علم أني ذاهب إلى طرابلس ومنها إلى مالطة بعد أن أقيم في تونس زمانا، قال لي إن السفر من طرابلس إلى مالطة غير مضمون، وأما من تونس إلى مالطة فإن سير البواخر منتظم والمسافة قريبة، فعملت برأيه وذهبت معه في الغد إلى طرابلس على أن أعود منها إلى تونس، والمسافة بين الموضعين 543 ميلا أو 45 ساعة أو أقل حسب سير البواخر؛ لأن بعضها يقف في الجهات الواقعة بين المدينتين والبعض لا يقف، وقد وقفت باخرتنا في سوسة، وهي مدينة عدد سكانها 20 ألفا منهم 4000 أوروبي في جملتهم 1300 يهودي، هم أصحاب التجارة والصرافة. ولهذه المدينة تجارة غير قليلة ، أهمها تجارة الزيت والزيتون والجلد، وفيها حصون قديمة وقلعة أقامت فيها الحامية الفرنسوية.

قامت الباخرة بنا من سوسة إلى صفاقس، وهي بلد مهم عند الفرنسويين بعد بيزرت، عدد سكانها 34000 منهم 5000 أوروبيون، وقد قسمت قسمين، حي الإفرنج وحي العرب، وهو القسم الذي أطلقت عليه المدافع من بوارج فرنسا سنة 1881 واحتلته جنودها قبل غيره من بلاد تونس. وسارت الباخرة بعد ذلك إلى مدينة قابس في آخر حدود الولاية التونسية، بلغناها في الليل، وفي الصباح ظهرت لنا مدينة طرابلس والأهالي، يسمونها طارابلس، والكلمة يونانية (تريبولس)، ومعناها المدن الثلاث، مثل طرابلس الشام المدن الثلاث؛ أي أنفة وطرابلس والبترون، كلها كائنة إلى اليوم شمالي بيروت، وجاء في قاموس لاروس الفرنسوي أن المدن الثلاث المكونة لطرابلس الغرب في الزمان القديم كانت أيتا وسابراتا ولبتس. وقد دخلت هذه المدينة في حيازة الدولة العلية سنة 1714، وعدد سكانها نحو 40000 منهم حوالي 8000 يهود و4500 من أهل مالطة وإيطاليا. ولهذه المدينة تجارة مهمة؛ فإن القوافل تقوم فيها إلى داخلية السودان، وقد بنت الدولة فيها حصونا وضعت فيها حامية قوية ومدافع جديدة الطراز. وما كادت الباخرة ترسو حتى ازدحم فيها التراجمة وباعة الآثار القديمة، وهي كثيرة فيها؛ نظرا إلى ما تغلب عليها من الدول، وفيها إلى اليوم قوس نصر من الرخام بنيت على عهد القيصر ماركوس أوريليوس الروماني سنة 164 بعد المسيح. وقد سرت مع الدليل في أسواق المدينة، وهي لكل حرفة أو بضاعة سوق، ورأيت دار الوالي فيها مهيبة، ودور القناصل عظيمة أيضا. وأقمت يومين في طرابلس ثم عدت منها في هذا الطريق إلى تونس، وهو الطريق الذي جاء منه العرب وفتحوا الجزائر، كما فصلنا في فصل مر من فصول هذا الكتاب.

تونس

Unknown page