اختلف كتاب العرب وأهل الجزائر في تسمية هذه المدينة، وذكرها ابن خلدون على مثل ما كتبناها هنا، وخالفه بعض الفرنجة وياقوت الشهير، فقالوا قسطنطينة، وهي مدينة جميلة أطلق الروم عليها هذا الاسم؛ لأنهم ملكوها في أيام إمبراطورهم قسطنطين، وقد بنيت على جبل صخري يطل على ما دونه من السهول المزروعة ومنظرها بديع. ولأهل هذه المدينة شهرة عظيمة في بلاد الجزائر؛ لأن أهلها دافعوا دفاع الأبطال عن مدينتهم حين حصرها الفرنسويون، وقد ذكرت ذلك في الخلاصة التاريخية، وعدد أهلها نحو 53 ألفا، منهم حوالي 28 ألفا من المسلمين، ونحو 18 ألفا من الفرنسويين، و5000 من اليهود والبقية من أجناس أخرى. وهي قاعدة إقليم يعرف باسمها، فيها جنرال فرنسوي وإدارات أميرية. وقد سرت في المدينة مع دليل الفندق، فرأيت أن المدينة لم تضع تقاليدها القديمة، ولم تنتقل تجارتها من يد الأهالي إلى يد الأجانب، وعندهم مناسج كثيرة للأقمشة الوطنية يعول أكثرهم عليها في اللباس، وقد حذقوا فن الدباغة واتسعت تجارة الجلود عندهم، وعندهم معاصر للزيت جاءوا بآلاتها من فرنسا، ولهم عملاء من أبناء أمتهم في مرسيليا ومنشستر؛ لبيع الصوف وإرسال الأبضعة المنسوجة. قصدت في أول الأمر قصر أحمد بك - وهو الحاكم الوطني الذي فر من وجه الفرنسويين كما ورد في المقدمة - فدخلته من زقاق ضيق وباب صغير، فإذا أنا في رحبة واسعة وحديقة كبيرة في وسطها، فيها الأشجار والأزهار كالورد والفل والياسمين، تتضوع منها الروائح الطيبة، وفيها بركة حولها الأغراس والأزهار، ويحيط بالحديقة رواق قام على عمد من الرخام، وتحت هذا الرواق قاعات وغرف، وفوقه الدور الثاني من البناء، وللقصر على الجملة منظر يشرح الصدر؛ لأن مساحته مع الحديقة 5600 متر مربع، وفي جدران القصر نقوش ليست بذات أهمية، قيل إن أسيرا نقشها على عهد البكوات فكوفئ بإخلاء سبيله، وهنالك المصطبة التي كان أحمد بك يجلس فوقها بعد أن تفرش بالبسط والمراتب، وأمامه الراقصات والمغنيات والعازفات بآلات الطرب على عادة أمراء العرب.
وعلى مقربة من القصر كنيسة كبرى أصلها جامع بناه أحمد بك المذكور بناء فخيما وله نقوش فخيمة، وقد قام هذا البناء على أربعة صفوف من الأعمدة الضخمة العظيمة، ربما كان أصلها من الهياكل الرومانية، ومثلها غير قليل في هياكل المصريين. وهنا المنبر والمحراب كلاهما من الرخام الأبيض، وفي الجدران آيات عربية، مثل «بسم الله الرحمن الرحيم. وبسم الله الحي»، فهم لم يغيروا شكل الجامع إلا قليلا حتى صيروه كنيسة وأضافوا الهيكل في الجهة الغربية، وأن الجوامع التي صارت كنائس في إسبانيا وغيرها، والكنائس التي صارت جوامع في الشرق كله كثيرة معروفة في كل مكان. وفي هذه المدينة عدة جوامع عظيمة، منها جامع صالح بك، بني سنة 1190 هجرية/1776، دخلته مع أحد المعارف المسلمين ورأيت جدرانه بعضها رخام أبيض، والبعض رخام أسود، ومنها أحمر سماقي وأبيض، والمحراب قطع من الرخام متعددة الألوان. ومنها الجامع الأخضر بناه حسن بك للمذهب الحنفي. والجامع الكبير وهو قديم جدا، يظهر أنه كان هيكلا للرومانيين؛ لأن فيه كتابات لاتينية إلى الآن، والجامع المذكور في دور أعلى صعدنا إليه فوق سلم، وهو نادر في شكل الجوامع، وقد كتبوا على أبوابه نقشا في الحجر عبارات، مثل:
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
و«علو الهمة من الإيمان»، وقد التقيت بجنازة للمسلمين ساعة خروجي من هذا الجامع، فإذا بالمغاربة ينادون بالشهادة بصوت عال، ويركضون ركضا وراء الميت بدل أن يسيروا الهوينا. ورأيت عرس القوم يسير أمامهم الطبل والمزمار، وعرسا لليهود ظهرت فيه النساء بكل وسائل الزخرف والبهرجة، مثل الطرطير والقصب والعزيزية الطويلة المقصبة على الرأس، وهن يكشفن السواعد والأذرع إلى حد الكتف حسب عادة هذه البلاد، وكانت العروس تحت ظلة مبرقعة الوجه.
وذهبت عند الغروب إلى حي المغاربة، فكنت أصعد وأنزل في أنحائه حسب شكل الأرض، ورأيت أن شوارعه ضيقة، ومنازله دور واحد تخطر فيها الجنود الوطنية لحفظ النظام، وتباع في دكاكينها المغربية «كوسكسو»، وهو الطعام الوطني عندهم.
نهر الرمل:
هو أهم الأنهار في قسنطينة، يتدفق ماؤه في الشتاء من المطر، ويدخل في البلد مسافة 3000 متر طولا بين صخور حمراء يبلغ ارتفاعها 500 متر، وهي قائمة كالجدار فوقه، وعرض مجراه 20 مترا فقط ، يعدونه من عجائب الكائنات، لما زار الملك إدورد السابع هذا القطر حضر إلى قسنطينة ليراه. وكان النزول إلى ضفته من أعلى هذه الصخور محالا، ولكن المجلس البلدي كلف أحد المهندسين فبنى ممرا من أعلى الصخور إلى ضفة الماء، وممرا آخر على طول المجرى مسافة 600 متر، وعرض هذا الممر نحو مترين، ورسم المسير في هذا الطريق فرنكان، ونزلت إليه مع الليل في سلم لولبية تحكي ما في المآذن حتى بلغته، وهو الخشب محكم الصنع، يسير المرء فيه والصخور فوقه ولها تأثير عجيب. وفي آخر هذا الطريق بركة من الماء الحديدي، رأيت بعض المغاربة يستحمون فيها حتى إذا انتهوا من الاستحمام تمددوا على حصر فوق مجرى الماء الخارج من بين الصخور، والتقيت هنا بأميركي جاء مع عروسه لقضاء شهر العسل، وأذكر أن السيدة ذكرت لي إعجابها بمناظر المغاربة، ولا سيما عيونهم السوداء وحواجبهم العريضة. وللنساء يومان من الأسبوع يأتين فيهما للاستحمام بهذه المياه الشافية، والظاهر أن هذا الحمام المعدني قديم؛ لأن في الصخور القريبة منه كتابات رومانية تدل أنهم كانوا يعرفون نفعه، وكتابات أخرى تدل أن الشهيدين يعقوب وماريوس قتلا في هذه المدينة أيام اضطهاد المسيحيين. وكان الرومانيون يعرفون هذا الإقليم باسم نوميديا، وكان أحد حكامهم المدعو سالوستوس يقيم في قسنطينة، وهو الذي بنى فيها القصور والهياكل تخربت بمرور الأعوام، وعني المجلس البلدي في هذه السنين بجمع آثارها، فعنده منها 500 قطعة وضعت في محل خارج المدينة يدخله المتفرجون برسم قليل. وضواحي هذه المدينة زاهرة زاهية لكثرة الماء فيها، يتفجر من عيون في الأرض، وقد أتوا لها بالأشجار المثمرة من فرنسا على أشكالها، فلها شهرة بالفواكه. ويحيط بالمدينة طريق عريض أنشأه الفرنسويون وغرسوا الأشجار إلى جانبيه، وكان المتنزهون في هذا الطريق يوم قصدناه بالعربة كثيرين، بعضهم على الخيل والبعض في العربات والدراجات، يمتعون الأنظار بمشاهدة الحقول والمزروعات المحدقة بالمدينة فيما يليها من الأودية والسهول. وقد اهتم المجلس البلدي بإنشاء متنزه على روابي علي، وهي من الضواحي التي سيكون لها شأن عظيم، وقد ذكرت في المقدمة ذكر المعارك التي جرت في هذه الآكام بين المغاربة والفرنسويين، وذهبت في اليوم التالي إلى ضاحية المنصورة، وقد ذكرتها أيضا في المقدمة، وهي طيبة التربة والهواء، رأيت بعض الفرنسويين يحرثون فيها ويفلحون، وفيها غاب من شجر الصنوبر جميل. وتوجهت بعد ذلك لرؤية القناطر التي بناها الإمبراطور جوستنيانوس البيزانتي، وهي تشبه القناطر التي بناها الملك الظاهر بيبرس في مصر في أواسط القرن السابع للهجرة والثالث عشر للميلاد المسيحي.
من قسنطينة إلى عنابة:
أقمت خمسة أيام في قسنطينة، ثم برحتها إلى عنابة، والمسافة بينهما بسكة الحديد 8 ساعات (وكان في نفس هذه الطريق ذهاب العساكر الفرنسوية لفتح قسنطينة كما ذكرت في المقدمة)، اجتازها القطار مخترقا عدة قرى ومشاهد، ووقف في محطة كالمة، وهي بلدة فيها نحو 7400 نفس، منها 1500 فرنسويون. وبدأنا نشعر بهواء البحر منها، وقد سار القطار بعد كالمة في كروم للعنب أرضها حمراء هي أحسن أراضي الجزائر، وطريقتهم في الكروم تختلف عن نظائرها في مصر والشام؛ فإنهم يقطعون رأس الأغراس كل سنة؛ حتى ينمو الساق ويتسع فتصبح كل دالية مثل الشجرة تتدلى منها العناقيد بيضاء وحمراء وسوداء، ثم وصل القطار محطة عنابة.
عنابة:
Unknown page