Mashahid Mamalik

Idwar Ilyas d. 1341 AH
121

Mashahid Mamalik

مشاهد الممالك

Genres

والظاهر أن سوء التدبير في القسطنطينية عجل بزوال ملك الروم؛ لأنه لما علم الإمبراطور بموت صالومون عين سرجيوس واليا عاما مكانه، مع أن سرجيوس هو أصل هذه الفتنة وسببها، وزاد الرجل عتوا وصلفا حين أتاه الأمر بتعيينه للولاية، فاشتد ظلمه على الأهالي، وقاموا لمحاربته تحت رئاسة زعيم من زعماء قبائلهم اسمه أنتالاس، وكان هذا الزعيم قد كتب إلى الإمبراطور يرجوه أن يعين غير سرجيوس للولاية إذا شاء أن يبقي بلاد أفريقيا له، فلم يسمع الإمبراطور له قولا وظل على رأي الملكة تيودورة، فزاد سرجيوس ظلما وبغيا حتى عم الاضطراب، وعقد مجلس في القسطنطينية تقرر فيه أن يعين مستشار للوالي سرجيوس، فكان ذلك إرضاء للملكة فعينوا سريا من الكبراء اسمه آريونيدس، وهو زوج بنت أخت الإمبراطور، وذهب هذا المستشار مع بعض القوات والأعوان إلى قرطاجة، فلما بلغها رأى أن الحالة عسيرة، وأن الهياج عام والثورة كبرى، فقام في الحال لرد الأعداء الذين كانوا قد قربوا من المدينة، ودعا سرجيوس للذهاب معه، فأبى الوالي أن يذهب وبقي مع حظياته في القصر مع دنو الخطر واشتداد الخطب.

ووقع القتال بين جيش الحكومة والثائرين، فكان النصر للعصاة، وارتدت الجنود إلى المدينة، ولجأ المستشار إلى كنيسة عند البحر على أمل أن ينجو منها بنفسه ويعود إلى القسطنطينية، ولكن هياج البحر أوقفه عن المسير، ولما علم أنتالاس رئيس العصاة أن المستشار الرومي في الكنيسة، سأل الأسقف أن يدعوه لمقابلته، وتعهد بألا يؤذيه، فذهب آريونيدس برداء الأسير لمقابلة هذا الزعيم، وركع أمامه، ولكن الرجل رفعه عن الأرض وأكرمه ودعاه إلى مائدته، ثم بعد الطعام أمر بقتله، فانتقم بذلك من الروم لإخوانه الذين قتلهم سرجيوس . وكان هذا المصاب في سنة 592، ولما علم الإمبراطور بهذه الأمور أصدر أمرا بعزل سرجيوس، وكان هو قد هرب وذهب إلى القسطنطينية، وبقيت ولايات أفريقيا في اختلال واضطراب حتى قيل في تاريخ بروكوبوس أحد مؤرخي الروم، إن عدد الناس في تلك الولايات نقص 5 ملايين نفس في عشرين سنة على عهد الدولة الرومية من الحروب المتواصلة التي لم تبطل يوما واحدا، ومن المهاجرة الدائمة إلى الجزر وغيرها، وانتشرت الفوضى بعد هذه المدة حتى إن الولاة أو بعضهم خرجوا عن طاعة السلطنة، وفي جملتهم قائد اسمه غريغوريوس استقل بولاية طرابلس، وكان طماعا فرض الرسوم الرابية على الأشخاص والأراضي حتى إنه جعل رسما على استنشاق الهواء؛ لكي يجمع لنفسه الأموال. وما برحت حكومة الروم في اختلال وضعف على هذه الحالة حتى ظهر أنه لا بد من تغيير الحالة، وكان زمانهم زمان ظهور الإسلام وانتشاره السريع، فانتقلت أفريقيا من قبضة الروم إلى قبضة العرب، كما ترى في الفصل التالي.

السلطنة العربية

لما نهض العرب نهضتهم العجيبة في بدء الإسلام تطلعوا إلى كل ما يلي بلادهم من الأقطار، وفي جملتها ولايات أفريقيا الشمالية التابعة لسلطنة الروم، فكان أول عمل لهم في فتحها على عهد عمر بن الخطاب وعامله عمرو بن العاص والي مصر، فإنه تقدم من هذا القطر إلى برقة سنة 22 هجرية، فصالحه أهلها على الجزية. ثم سار منها إلى طرابلس وحاصرها ففتحها عنوة، وولى عليها وعلى برقة حكاما من العرب ورجع إلى مصر، وعزل عمرو بن العاص من ولاية مصر على عهد الخليفة عثمان بن عفان، فخلفه عبد الله بن سعيد بن أبي سرح العامري الذي زحف بأمر الخليفة لفتح بقية الأقطار الأفريقية بأربعين ألف محارب سنة 29 هجرية/647، وكان صاحب تلك البلاد يومئذ غريغوريوس الذي سبق ذكره، واسمه عند العرب جرجير، فاستعد لمقاتلة القادمين بجيش من الروم والرومانيين والبربر وبقية السكان، وبلغ عدد جيشه فيما يقال مائة ألف مقاتل، وأرسل عبد الله بن سرح قبل القتال وفدا إلى جرجير يعرض عليه أن يعتنق الإسلام أو يدفع الجزية، ولكن الرجل نفر وأبى وأقسم أن يزوج بنته للذي يأتيه برأس القائد العربي. فلما رجع الوفد إلى عبد الله بدأ الهجوم وشدد القتال حتى هزم جرجير وجيشه وشد عبد الله بن الزبير على جرجير فقتله وتزوج بنته بعد أن ملك العرب مدينة سبيطلة عاصمة تلك البلاد، ونهبوها وسبوا ألوفا من أهلها. وتقدم المسلمون بعد ذلك في البسائط والضواحي، ووقع بينهم وبين البربر والروم عدة حروب، ثم رأى القائد عبد الله أن جنوده قلت، وأن الحروب متواصلة مع أهل البلاد، فرضي بما جمع من الغنم وعاد إلى مصر.

ولما صارت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان استأنف العرب هجومهم على أفريقيا، وعين ابن خديج الشكوني من مصر لفتح أفريقيا سنة 45 هجرية/653، وكان في جيشه عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان، وكثير غيرهم من سراة العرب وأمرائهم، ففرقهم خديج وأرسل مع كل منهم جيشا لفتح الجهات، ففتحوا جزيرة صقلية ومدينة جربة وغيرهما، ثم قفل خديج راجعا إلى مصر، وعين مكانه عقبة بن نافع سنة 47ه، وكان رجلا باسلا هماما، زحف بجنوده واستولى على قسم كبير من بلاد المغرب، وهو الذي اختط مدينة القيروان وجعلها مقام جيشه، وبنى فيها القصور والثكنات وأحاطها بسور منيع، وبنى الجامع المشهور باسمه، فيه 500 عمود من الرخام.

ولما علم إمبراطور القسطنطينية بما أصاب ولاية أفريقيا أرسل إليها أسطولا، وفيه جيش كبير، وحدثت معركة ما بين الروم والعرب عند القيروان، دارت الدائرة فيها على العرب، فقتل القائد العربي ونحو 300 من كبار الصحابة وجمع غفير من التابعين، فيهم أبو المهاجر، وهو من أشهر قواد العرب يومئذ، فتقهقرت بقية العرب إلى برقة، وصدر أمر الخليفة معاوية بتعيين زهير بن قيس بدل عقبة، وبقيامه لمحاربة الأعداء والأخذ بثأر عقبة، فزحف بجيش صغير من العرب سنة 67ه، فانتصر في أول الأمر، ولكنه بينا كان راجعا إلى مصر لقيه أسطول الروم فقاتله وانتصر عليه وقتله مع جملة من أكابر جيشه، فسكت العرب بعد هذه الكسرات زمانا عن فتح أفريقيا إلى أن كانت خلافة عبد الملك بن مروان في دمشق، فبعث إلى حسان بن النعمان - وهو يومئذ والي مصر - أن يخرج إلى أفريقيا، وأرسل إليه المدد فزحف إليها سنة 79ه، وتقدم منتصرا حتى بلغ مدينة قرطاجة ففتحها وأمر بتدميرها فخربت عن آخرها، وكان في ذلك بدء السلطنة العربية وآخر دولة الروم في أفريقيا.

وقد تعاقب الولاة والقواد من العرب بعد ذلك على حكومة أفريقيا أو ما ملكوا منها، فلا حاجة إلى ذكرهم، ولكننا نشير إلى أشهرهم، وهو موسى بن نصير، كان والي هذه البلاد من قبل الخليفة الوليد بن عبد الملك الأموي سنة 88ه، وهو الذي دوخ المغرب وأثخن في البربر، وفتحت بلاد الأندلس في أيامه، وقد ذكرنا ذلك في فصل إسبانيا، وحدث كثير من الاضطراب والخلل فيما تلا أيام موسى بن نصير، وكثر العزل والتنصيب بين الولاة والحكام في عهد الخلفاء الأمويين والعباسيين معا، فقد تولى هذه البلاد زمانا في أوائل الفتح العربي بنو عبيد، وهم الذين فتحوا صقلية ودام ملكهم 112 سنة هجرية. ثم قام الإمام المهدي ودام حكمه إلى سنة 322 هجرية. ولما توفي خلفه ابنه المنصور، وخلف هذا ابنه المعز لدين الله الذي أرسل جوهرا إلى مصر حين علم بوفاة كافور الشهير فيها، وكان جوهر آمن عماله وقواده، فجاء جوهر سنة 360ه، ودعا لمولاه بالخلافة في القطر المصري، ثم أرسل إليه الكتب يحثه على المجيء إلى مصر، فجاءها سنة 362ه. ويعلم القراء أن جوهر هذا هو الذي بنى مصر الحديثة في موقعها الحالي والأزهر، وبدأ استحكامات القلعة، وكان مركز المدينة قبل ذلك في موقع مصر العتيقة الآن، ولما جاء الخليفة المعز لدين الله من الغرب إلى مصر أسس فيها الدولة العبيدية، فكان هو أول خلفاء هذه الدولة ولا حاجة إلى الإسهاب عنها هنا؛ لأننا في تاريخ الغرب. وترك الرجل في المغرب عند حضوره إلى مصر قائدا اسمه بلكين الصنهاجي، فانتقلت حكومة المغرب إلى يوسف بلكين بن زيري الصنهاجي السابق الذكر، وهو رأس الدولة الصنهاجية، اشتهرت بكثير من الحروب الداخلية في بلاد أفريقيا، وحدث لبعض أمرائها حروب مع خلفاء مصر العبيديين؛ لإعراض أمراء المغرب عن الدعوة بالخلافة للعبيديين واعترافهم بها لبني العباس. وربما كان أشهر الأمراء الصنهاجيين آخرهم، وهو الأمير حسن الذي طالت مدة محاربته لمملكة صقلية على عهد صاحبها روجير، وقد خلفه على إمارة المغرب المولى أبو محمد عبد الواحد مؤسس الدولة الحفصية، وآخر رجال هذه الدولة الحسن بن كنوت، مات سنة 748، خلفه بعد موته يوسف بن تاشفين، وهو من الذين اشتهروا في أواسط التاريخ الإسلامي، عرف بكرم الخلق وعفة النفس وبالدراية في الحروب، وقد أبلى بلاء حسنا في مقاتلة البلاد التي لم تخضع للوحدة الإسلامية في أفريقيا الشمالية، وردها إلى الطاعة، وبنى مدينة مركوك، واسمها بالفرنسوية ماروك، ولعلها أصل الاسم مراكش المتداول الآن، وخلفه ابنه علي الذي ظهر في أيام عدة من مدعي المهدوية، وبعضهم جمعوا الناس إليهم وحاربوه، فبدأت من ذلك العهد فتن وقلاقل وحروب داخلية بين العرب في بلاد المغرب، يطول شرحها وتقل فائدة سردها، ولكنها لم تنته إلا بنهاية الأحكام العربية في تلك البلاد ودخول البلاد في قبضة الأتراك، كما ترى في الفصل التالي.

السلطنة التركية

في سنة 1510 مسيحية أتت سفينة من جزيرة مدلي (مثلين)، ورست في ثغر جيجل على مقربة من قرية الجزائر، وكان في السفينة أخوان، أحدهما اسمه عروج والثاني خير الدين، وهو قائد البحر المشهور بغزواته والذي اهتزت أوروبا لذكره وفعله، واسمه في تاريخها بارباروسا أو ذو اللحية الحمراء. وكان الأخوان مدربين على الملاحة من صغر، فأقاما يصنعان السفن في الثغر الذي ذكرناه حتى توفر عندهما عدد كبير منها، فجعلا يهاجمان سفن الإفرنج وينهبان ما فيها ويأسران رجالها في عرض البحار، وكان رجال خير الدين يزيدون عددا من حين إلى حين، حتى إن شيخ الجزائر - وهو يومئذ سالم بن تومي - دعا خير الدين لمساعدته على طرد الإسبانيين الذين كانوا قد استولوا على قسم كبير من الجزائر بعد أن طردوا العرب منها، وبنوا قلعة على شاطئ القرية ، فقبل خير الدين هذه الدعوة، واشترك مع حليفه في محاصرة القلعة 20 يوما حتى فتحها، وأخرج الإسبانيين منها في سنة 1516، ولما دخلها رأى أنه لم يبق من رجالها غير عشرين، وزعيمهم شاهر سيفه لا يريد التسليم، وهو ذو مهابة وجمال، فعرض خير الدين عليه الإسلام وأبى، فأمر بضربه وجلده حتى مات معذبا وهو ينادي بالمحافظة على دينه.

وعظم أمر خير الدين في الحال بعد هذه الواقعة، فكبرت آماله وطمعت نفسه، وأمر رجاله الأتراك بقتل سالم بن تومي حليفه، فقتلوه وحل هو محله، وقد غضب العرب لما أصاب شيخهم، فحاولوا الأخذ بثأره، ولكن خناجر الأتراك أرهبتهم وردتهم إلى الطاعة، فاستبد خير الدين بالأمر وجعل عمال حكومته كلهم من الأتراك. ولكن السلام لم يستتب زمانا؛ لأن إسبانيا عزمت على استرجاع قلعتها، فجردت أسطولا عدد سفنه 80، وفيه 8000 جندي تحت قيادة الجنرال دي فيرو، تقدم على قرية الجزائر، ونزل بجنوده إليها بلا مقاومة من العرب والأتراك، ثم قسم جيشه أربعة أقسام، فكان ذلك علة انكساره؛ لأن خير الدين أوجد الحماسة في صدور رجاله، ثم جعل يهاجم العدو فرقة بعد فرقة وهو يفل مواكبها تباعا حتى كسرهم شر كسرة، وألجأ بقيتهم إلى الاعتصام بالسفن البحرية حيث دهمتهم العواصف ولانوا، فكادت تجهز على الأسطول ومن فيه، ونجا بقية قليلة عادت إلى وطنها لتخبر بهذا الانكسار.

Unknown page