ثم إنه في سنة 1827م زار سير موسى مونيتيفور - أول يهودي يعين عمدة لمدينة لندن - فلسطين، وشعر كما يقول بضرورة إسكان «ألوف من إخواننا في أرض إسرائيل»، مسارعا إلى تأليف شركة تعمل على تنفيذ الفكرة، ولكنه أخفق في تحقيقها. وتبع هذه المحاولة محاولات أخرى عديدة من كتاب بعضهم من اليهود والبعض الآخر من غير اليهود، ولكنها لم تؤد إلى نتيجة عملية حتى سنة 1881م حين اغتيل القيصر إسكندر الثاني، وطغت على روسيا موجة من الإرهاب والبطش تعرض فيها اليهود لكثير من ضروب الاضطهاد، حتى اضطر عدد كبير منهم إلى الفرار من البلاد، وتوجه معظمهم إلى الولايات المتحدة، وجعلوا من نيويورك أكبر مركز لليهود في العالم. أما الباقون فاتجهوا إلى فلسطين.
ويقول لينارد شتاين في كتاب «الصهيونية»: إن «ثلاثة آلاف يهودي هبطوا يافا» خلال اثني عشر شهرا من البدء في تطبيق قوانين «شهر مايو سنة 1881م» الروسية بعد هذه الحادثة، وحدث في 1891م أن أرسلت جريدة «نوي فراي برس»، التي تصدر في فيينا عاصمة النمسا صحفيا يهوديا شابا يدعى تيودور هرزل ليراسلها من باريس، فلم تمض ثلاث سنوات حتى كان اليهودي الشاب يشهد محاكمة الكابتن دريفوس اليهودي ونفيه إلى غيانا الفرنسية. وشهد كذلك بعينيه وسمع بأذنيه كل ما جرى أمامه من شعور المقت والكراهية لليهود أيا كانت جنسيتهم؛ فأدرك منذ يومئذ أنه ليس رعية نمساوية مجرية ولكنه يهودي أولا وآخرا. وكما هاجر إخوانه من روسيا بأشخاصهم هاجر هو بعقله وتفكيره من النمسا. وقد خلص من تفكيره بأن الحل الوحيد لمشكلة اليهود هو أن تكون لهم «دولة» خاصة بهم، ولكنه لم يقصد بذلك دولة يهاجر إليها كل اليهود في العالم، بل قصد أن تنشأ دولة يهودية تؤوي كل من يصبح مقامهم في دولة أخرى غير محتمل كهؤلاء الذين هاجروا من الروسيا فتفرق معظمهم إلى أمريكا وأقلهم إلى فلسطين.
وفي 1896م أخرج نظريته هذه في كتاب دعاه «الدولة اليهودية»، وترجم من الألمانية إلى لغات عديدة.
ولم يكن هرزل من القائلين بوجوب إنشاء هذه الدولة اليهودية في فلسطين، ولكنه طالب بدولة أينما تكون ما دامت تؤوي من لا يجدون لهم مأوى من بني إسرائيل. والواقع أنه أوشك أن يقبل عرض الحكومة البريطانية في سنة 1903م بإقامة دولة اليهود في رقعة من الأرض تبلغ مساحتها ستة آلاف ميل مربع في شرق أفريقيا لولا أن الكثيرين من شخصيات اليهود البارزة المنضمة إلى الحركة الصهيونية رفضوا العرض البريطاني «بكل أدب وامتنان»، مفضلين عليه «فلسطين»، وكان أن وافقهم هرزل رغم إدراكه الصعوبات التي تكتنف مثل هذا الطلب.
ولقد مات هرزل، قبل أن تتقدم به السن، في سنة 1904م، ولكن كتاباته ونداءاته وحدت صفوف اليهود؛ فاجتمع مندوبون عنهم في بال سويسرا سنة 1897م، وعقدوا أول مؤتمر يهودي عام خطب فيه هرزل خطبة الافتتاح قائلا:
إن هدف الصهيونية أن ينشأ في فلسطين وطن قومي يعترف به لليهود تحت ضمانات قانونية.
وكان في قوله هذا يعتمد على مفاوضات كانت تدور بين الصهيونيين والسلطان عبد الحميد في صدد إعطاء اليهود امتيازات خارجية في فلسطين تمكنهم من إنشاء «شركة قانونية احتكارية» مثل شركة الهند الشرقية تستعمر فلسطين وتمكن اليهود من أرضها.
على أن هذا المشروع لم ينجح فيما بعد، ويقال: إن السلطان طلب في مقابل موافقته عليه عشرة ملايين جنيه نقدا، وهو مبلغ استحال على الهيئة الصهيونية أن تدفعه له، كما أن السلطان ما لبث أن أدرك، حين نشر نبأ المشروع في أنحاء الإمبراطورية التركية أن الشعور الإسلامي ضده كان أقوى مما قدره من قبل، وهكذا ضعفت رغبته في الاستجابة لليهود. بل زاد على ذلك أن وعد أهل فلسطين بأن يحد من هجرة اليهود إليها ولو أنه لم يفعل في هذا الشأن إلا قليلا. ولما سقط عبد الحميد عن عرشه وضع الصهيونيون آمالهم في جماعة «تركيا الفتاة»، ولكنهم ما لبثوا أن تخلوا عن هذا الأمل عندما أفهمهم الأتراك المنضمون تحت لواء «تركيا الفتاة» أن حركتهم تتعارض والحركة الصهيونية ككل نقيضين مختلفين.
وفي خطبة افتتاح مؤتمر 1897م الذي كان فاتحة أحد عشر مؤتمرا من نوعه عقد في خلال ست عشرة سنة قبل الحرب العالمية الأولى ختمت بالمؤتمر الصهيوني الحادي عشر في السنة السابقة على بدء هذه الحرب. قال هرزل: «إن هدف الصهيونية هو أن ينشأ في فلسطين وطن قومي معترف به لليهود تحت ضمانات قانونية.» وهناك صهيوني آخر سبق هرزل هو الدكتور بتستر كتب في 1881م يقول: «يجب أن يدمج اليهود كأمة بين الأمم، وذلك بحصولهم على وطن خاص بهم.» وهذه الألفاظ تدل على أن لفظتي «الوطن القومي» اللتين تضمنهما تصريح بلفور فيما بعد كانتا من وضع زعماء الصهيونية قبل وضع التصريح بحول أربعين عاما كما أوضحنا قبلا. •••
ولقد تتابعت الأحداث وتعاقبت الحوادث منذ يومئذ على النحو الذي شرحناه في الفصول السابقة إلى أن عقد في شهري يولية وأغسطس سنة 1945م، المؤتمر الصهيوني العالمي في العاصمة البريطانية، مصدرا قراراته التالية: (1) مطالب المؤتمر الصهيوني العالمي
Unknown page