الفصل الثامن عشر
الصهيونية بين الحربين العالميتين وبعدهما
بدأت الصهيونية بذلك الخطاب الذي نشره يهودي مجهول في سنة 1798م - أي قبل سنة من نزول نابليون بونابرت بأرض مصر - ووجهه إلى يهود فرنسا مقترحا إنشاء مجلس يهودي يبحث مع الحكومة الفرنسية في إعادة فلسطين إلى «شعبها التقليدي».
1
جاء في هذا الخطاب أن «البلد الذي نقترح تملكه يشتمل على مصر السفلى مضافة إلى منطقة من الأرض يحدها خط يمتد من عكا إلى البحر الميت، ومن الضفة الجنوبية لهذا البحر إلى البحر الأحمر، على أن يكون هذا متفقا مع وجهة نظر فرنسا.»
ثم ختم الكاتب خطابه بشرح المزايا الاقتصادية لهذا المشروع، ولئن لم يجد هذا النداء صدى ظاهرا سواء في الصحف الفرنسية أو في الدوائر الحكومية. غير أنه في 22 مايو 1799م نشرت جريدة «المونيتور» لسان حال الحكومة الفرنسية يومئذ رسالة من الآستانة جاء فيها: «أن بونابرت أصدر منشورا ينادي فيه يهود آسيا وأفريقيا بالانضواء تحت أعلامه لإعادة بناء بيت المقدس القديمة. ولقد سلح بالفعل عددا كبيرا منهم، وتهدد الآن كتائبهم مدينة حلب.»
على أن هذا ليس دليلا على أنه كانت لنابليون يد فعلية في أي مشروع يقضي بإحلال اليهود في فلسطين، وخاصة أن الجريدة نفسها عادت بعد أسابيع من نشر الرسالة الأولى تقول: «لم يفتح بونابرت سوريا لإعادة بيت المقدس إلى اليهود فحسب. بل إن مطامعه أوسع من ذلك بكثير، فهو يأمل في الزحف من هناك إلى الآستانة وإلقاء الرعب في قلوب أهالي فينا وسان بطرسبورج «موسكو»، كذلك ليس في سجلات الحملة الفرنسية في مصر أي أثر لمثل المنشور الذي جاء ذكره في رسالة «المونيتور» الأولى أو أي أثر يؤيد أو ينفي صدور هذا المنشور. كما أن الكتائب اليهودية لم تهدد حلب، ونابليون نفسه لم يفعل ذلك، ولم يقترب من المدينة السورية.
هذا، ويقول مستر لينارد شتاين: «قد يعيش اليهود قرونا طويلة في بولونيا أو روسيا، وفي إيطاليا أو إسبانيا أو أرض الريف، ولكن فلسطين ستظل بالنسبة لهم أرض إسرائيل. وفي الأيام الطيبة أو الأيام العصيبة على السواء تظل فلسطين الرغبة التي تتوق إليها قلوبهم، يضمنونها أغانيهم، ويصلون من أجلها، ويبكون ملكها المندثر، وينتظرون في صبر ساعة العودة إليها.» ويمضي مستر شتاين فيقول: «وفلسطين التي يحلمون بها لم تعد بالنسبة لمعظمهم في عالم الحقيقة الملموسة، فهم لا يعلمون إلا قليلا عن موقعها الجغرافي أو طبيعة شكلها، ولا تربطهم بها روابط من العاطفة الشخصية أو تطوف بخيالهم ذكريات عن مناظرها وخيالاتها. على أنها ليست حلما بعيد الاحتمال، فإن عودة المنفيين ستكون ولا شك عودة بمعنى الكلمة، ولكنها لن تتحقق نتيجة لأي مجهود بشري، بل ستأتي في اللحظة الطيبة التي يختارها الله عند ظهور المسيح المخلص (بفتح الخاء وتشديد اللام وكسرها).
فالصهيونية الدينية هي الاعتقاد الأولي بأن الله هو الذي سيعمل عندما يحين الحين على عودة آل إسرائيل إلى أرضهم وملكهم كما كانوا قبل نفيهم. على أن ما نشر في الجرائد الفرنسية في سنتي 1798 و1799م ليست له أهمية في الواقع؛ لأنه لم يؤد إلى حركة جدية من جانب اليهود أو غيرهم.
بعدئذ وقف مستر فيليب جيد الله في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو سنة 1925م ليلقي محاضرة على أعضاء الجمعية اليهودية التاريخية من طلبة «اليونيفرسيتي كوليدج» في لندن ليقص عليهم هذه الحادثة، ويخرج منها بأن نابليون بونابرت كان «صهيونيا وقتيا»؛ أي إنه أيد حركتها لفترة من الزمن. وكان بين المستمعين للمحاضر المرحوم مستر لويد جورج الذي كان واقفا واقترح شكر المحاضر، ثم ألقى كلمة قصيرة شرح بها السبب الذي من أجله اتبعت حكومته سياسة الاعتراف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين على حساب العرب.
Unknown page