فعلى أي شيء يطلق هذا الاسم؟ إن العقل ليس، على وجه الدقة، وظيفة نفسية كسائر الوظائف، أعني وظيفة تفي بمقتضيات مرحلة محدودة من مراحل النشاط العصبي؛ فهو، على وجه الدقة، ليس قبولا سلبيا ولا استجابة، وهو لا يشبه الإحساس أو الانفعال من جهة، ولا الرغبة من جهة أخرى، وذلك لأنه يسمو على مرتبة الإحساس ويجعل منه مجرد علامة تدل على الواقع، وهو يتحرر من الانفعال المشوب، الذي يثيره البدن، والذي يعكر صفو الحكم الواضح، ومن الرغبة التي لا تستهدف بلوغ الحقيقة.
إن العقل هو كشف الذات للحقيقة، وهو الذات نفسها، بالقدر الذي تعلو به على أفعالها الذهنية التلقائية، وتحاول الوصول إلى الحقيقة، برغم ما يعترضها من عقبات خارجية وداخلية، وهو يفترض التطهر والتحرر من المنافع ومن الميول والأهواء. وأخيرا، يفترض منهجا في المعرفة يتسامى بالذات على نفسها، ويمكنها من الوصول إلى الحقيقة. «أنا أفكر، إذن أنا موجود.»
كلنا نعلم أن هذه العبارة تلخص الكشف العظيم الذي توصل إليه «ديكارت»
2
وعلينا ألا ننظر إلى هذه الجملة على أنها استدلال؛ بل على أنها فعل شعوري رفيع، دعانا «ديكارت» به إلى إدراك ما نكونه حقيقة، أي إدراك أننا عقول. فقد يتوهم المرء أنه يوجد على نحو ما توجد الأجسام، أعني أنه لا يعدو أنه يكون شيئا يشغل حيزا في المكان، أو يظن أنه يوجد على نحو ما توجد الحيوانات، أعني أنه يمثل الغذاء، ويكتسب مكانة تحت الشمس عن طريق نشاطه. غير أن هذا كله لا يساوي شيئا إن لم نشعر به عن وعي، وإن لم «نعلمه» بحيث أنه لا وجود للمرء إذا لم «يعلم» أنه موجود على أن «علم» المرء هذا ليس مجرد «إحساسه» بوجوده، بل هو، كما يقول أنكساجوراس «تنظيم» إحساساته، أعني بناء إدراكه الحسي عن طريق نشاط ذهني يعلو على الإدراك الحسي، وهو بناء المرء لذاته وشخصه عن طريق نشاط ذهني أسمى من الانفعالات والرغبات.
المنطق، علم العقل
فالمنطق هو ذاته دراسة هذا النشاط الذهني، وهو الشعور بهذا الشعور، فهو بمعنى ما شعور من الدرجة الثانية. وهنا قد يتساءل المرء: ألن يكون المنطق في هذه الحالة نوعا من علم النفس؟ ونجيب نحن عن هذا السؤال بالنفي، فنذكر القارئ بما قلناه عن المنطق في الفقرة (2) من أنه انتقائي وتقديري، وسوف نرى فيما بعد أن هذا يوجب على المنطق أن يتبع منهجا مخالفا كل المخالفة لمنهج علم النفس، ولكن الحقيقة أن المنطق يأتي في أعقاب علم النفس، وهو امتداد له، كما توجد بين المنطق وعلم النفس ارتباطات وثيقة عديدة.
النزعة النفسية، التي تنكر استقلال المنطق
ونستطيع أن نتبين مدى وثوق هذه الارتباطات، إذا أدركنا أن هناك تيارا فلسفيا تقليديا كاملا يؤكد أصحابه أن المنطق لا يوجد مستقلا عن علم النفس. (1) الطبيعة الإنسانية والعقل الإنساني
يرى ممثلو هذا التيار الفكري التقليدي أن العقل الإنساني، والذهن الإنساني، والنشاط العقلي الذي به يفكر الإنسان، (
Unknown page