أما النقد العام، فينحصر في التنبيه إلى أن أوجست كونت، وإن كان قد أوضح الطبيعة الخاصة للعلوم المختلفة، لم يكشف عن وحدتها بما فيه الكفاية. فقد كان شديد الحذر من المذهب المادي، إلى درجة أنه كان يخشى أن يشجع مذهب «الواحدية» إذا ما أكد وحدة العلم، غير أن هذه الوحدة يمكن أن تتصور بطريقتين مختلفتين كل الاختلاف؛ تقوم أولاهما على الموضوع، والأخرى على الذات أو العقل، ويأبى «كونت» الاعتراف بالوحدة القائمة على الموضوع، والتي ترجع جميع الحقائق إلى حقيقة واحدة هي أدنى هذه الحقائق. غير أن ثمة وحدة أخرى، مضادة تماما لهذه، تؤكد وحدة العقل خلال مناهجه العديدة. ولنستمع إلى ديكارت وهو يقول: «إن كل العلوم مجتمعة ما هي إلا العقل البشري الذي يظل واحدا على الدوام، ويظل دائما على ما هو عليه مهما تغيرت الموضوعات التي ينصرف إلى بحثها، والذي لا يطرأ عليه من التغير أكثر مما يطرأ على ضوء الشمس نتيجة لاختلاف الأشياء التي تضيئها.»
11
وليس لنا أن نخشى أن يؤدي بنا هذا النوع من الأصل المشترك إلى المذهب المادي؛ بل هو يقرر فورا حقيقة العقل. ومع ذلك، فلن نطلق عليه اسم «المذهب الروحي» رغم ارتباطه الاشتقاقي بمضمون هذا المذهب؛ إذ قد شاع إطلاق اسم النزعة الروحية على المذهب الذي يهتدي إلى الروح في الأشياء.
فالمذهب الوضعي روحي باعتبار مقصده ؛ لأنه يعترف بأن الحقيقة الواقعية تنطوي على قيم متدرجة تتجه في أعلاها إلى الروحية، ولنقل بدلا من ذلك، إن تأكيد ديكارت «مثالي». فالمثالية تسعى وراء الروح، لا في الأشياء، ولكن في معرفة الأشياء.
العلم المعاصر وتصنيف كونت
لقد أحرز العلم منذ عهد أوجست كونت تقدما كبيرا، فكان من الطبيعي أن يتجاوز هذا التقدم تصنيفه. ومما يؤيد ذلك أن العلم المعاصر يستلهم روحا مخالفة لروح «أوجست كونت» إلى حد ما، وهي أقرب إلى روح ديكارت، الذي اتجه إلى الوحدة - وليس المقصود هنا الوحدة عن طريق وضع قانون شامل؛ بل عن طريق تطبيق منهج واحد بقدر الإمكان، وهذا المنهج الرياضي - فالمثل الأعلى المشترك لكل العلوم هو علم الطبيعة الرياضي، الذي ينطوي على علم الفلك، وعلى علم الطبيعة والكيمياء، ويضم هذه العلوم كلها في وحدة وثيقة الارتباط، يكاد يكون من المستحيل تمييز كل علم فيها عن العلوم الأخرى، ويستحيل بالفعل فصلها بعضها عن بعض. ولقد أدى هذا النشاط الموحد إلى ظهور علمين جديدين كل الجدة، سبقا العلوم الأخرى، وأصبحا رمزا لهذا العلم الموحد، الذي يناظر ما كان يحلم به ديكارت من وحدة العقل. وهذان العلمان هما: (1)
علم الطبيعة الفلكي
astrophysique
أعني تطبيق علم الطبيعة، ومن خلالها الكيمياء، على النجوم، لتحديد تركيبها وحرارتها وكتلتها ومقاديرها وأبعادها وعمرها أيضا، وذلك عن طريق عمليات غير مباشرة تتضافر كلها لتحقيق هذا الهدف، وتقتضي براعة لا حد لها. (2)
علم الطبيعة الذري
Unknown page