وليس بديهيا أن الذي يلاحظ وهو مرتبط بالأرض يستطيع أن يجري نفس الأقيسة الفلكية التي يجريها ملاحظ يرتبط بكوكب آخر، إذ إن هذين الملاحظين تدفعهما حركتان مختلفتان، فالواجب إذن أن ندرس عن كثب كيف تؤثر حركتهما النسبية في ملاحظاتهما.
ولقد قلنا إن تطبيق الرياضيات على علم الطبيعة قد سمح بالتعبير عن هذا الارتباط، وكان ذلك بصور عديدة: ففي حالات معينة. الملاحظة ذاتها، ولكن في حالات أخرى - وهي التي تهمنا في هذا المقام - لم يسمح هذا التطبيق إلا بالتنبؤ بالطريقة التي تبدو بها الظاهرة الملاحظة لو تأملناها من مكان آخر للملاحظة. ويبدو هذا النوع من التحديد في الإدراك الحسي ذاته. فعندما نرى مكعبا موضوعا على منضدة، يمكننا أن نتكهن، بناء على مناهج هندسية خاصة، كيف سيراه جار يوجد في وضع بعيد، أو في مكان يرسم زاوية قائمة مع مكاننا. وفي الفلك، تسمح الرياضيات بتصور السماء كما يشاهدها أحد سكان المريخ أو عطارد. وبالاختصار، فإن فرض «كبرنك» ينحصر في أنه يستند إلى الرياضيات لكي يؤكد أنه لو وجد في الشمس ساكن لرأي الكواكب، ومنها الأرض تدور حول ذلك النجم في مدارات مغلقة بسيطة تماما، هي دوائر كما يصفها «كبرنك» وبيضاويات كما يؤكد «كبلر» على نحو أدق.
فمن الذي يكون على صواب، ويرى الحقيقة خيرا من الآخر، ساكن الأرض أم ساكن الشمس؟ لقد تطور موقف العلم في هذه المسألة. ففي وقت كبرنك وكبلر، كان العلماء من أتباع كبرنك يقولون: إنه ساكن الشمس. على أن السبب الوحيد لقولهم هذا هو أن رؤيته أبسط وأكثر إرضاء للذهن، ولم يكن لديهم أي برهان آخر على هذا الرأي؛ بل لقد اضطروا في واقع الأمر إلى وضع مبدأ يعبر عن استحالة إيجاد أي برهان آخر، هو مبدأ «القصور الذاتي
interite ». والتعبير الشائع عن هذا المبدأ هو: الجسم الذي لا تعترضه أية قوة أخرى، فالتعبير الصحيح عن مبدأ القصور الذاتي هو: الملاحظ الذي يتخذ له موقعا داخل نسق معين، لا سبيل له إلى معرفة ما إذا كان النسق ساكنا أو متحركا حركة مستقيمة مطردة، ويترتب على ذلك أن الملاحظ الذي يسكن الأرض ليس ملزما بإدراك أن الأرض متحركة،
10
فهو إذن على حق حين يعدها ساكنة. ولكن جميع الملاحظين الآخرين الذين ينتمون إلى الكواكب الأخرى، الشمسية منها والتابعة، محقون بدورهم إذ يعدون أنفسهم ساكنين، ويؤكدون أن الأرض متحركة. فينبغي أن نبحث في الرياضيات عن وسائل تحويل الوصف الذي يقدمه أحد الملاحظين إلى لغة تعبر عما يمكن أن يراه ملاحظ آخر، وذلك مثلما نحول التوقيت المحلي لمدينة باريس إلى التوقيت المحلي لمدينة نيويورك.
فإذا ما سلمنا بهذا، كان لزاما علينا، وفقا لمبدأ القصور الذاتي، أن نقول عندئذ إنه ليس هناك ملاحظ مميز، وليس هناك مكان مطلق للملاحظة، أعني مكانا يرى فيه المرء المظاهر الحقيقية للسماء. فجميع المظاهر لها أساس على الأقل، إن لم تكن كلها صحيحة، وذلك وفقا لمبدأ القصور الذاتي نفسه. ذلك هو «مبدأ النسبية عند نيوتن».
ولم يتيسر وضع هذا المبدأ إلا بعد تقدم ملحوظ في الرياضيات ساعد على الترجمة المتبادلة للمظاهر التي تبدو لملاحظين مختلفين؛ وهي الترجمة التي تبلغ حدا عظيما من الصعوبة.
غير أن جميع مفاهيم الحركة النسبية والمطردة، ومبدأ القصور الذاتي، قد بنيت على تصور مكان مطلق وزمان مطلق. وهذه المفاهيم هي التي ينبغي إعادة النظر فيها؛ لأنها لا تسمح بتفسير تجربة فيزيائية تثير الدهشة، وهي تجربة ميكلسون ومورلي، التي لعبت دورا حاسما في تطور العلم، وإنه لمن الغريب حقا أن يصبح لهذه التجربة التي أجريت في علم الطبيعة، مثل هذا الأثر الهائل في أفكارنا عن المكان والزمان. وفي نظرياتنا الفلكية والكونية. (1) تجربة ميكلسون ومورلي
انتهى الأمر بنظريات الضوء إلى الاستقرار على النظرية التموجية، التي تؤكد أن الضوء «موجة»، أي أنه اهتزاز ينتشر في دوائر ذات مركز واحد هو مصدر الضوء. ولكن، كما قال عالم إنجليزي بتعبير ساخر: لا بد من فاعل لفعل «التموج»، أي من الضروري أن يحدد الفرض «ما الذي» يتموج. وهكذا سلم الباحثون بأن الموجة هي اهتزاز ينتقل في وسط سيال إلى أبعد حد، وغير مادي تقريبا، يسمى «بالأثير» وهنا يعرض لنا سؤال: إذا ما صدرت إشارة ضوئية من نقطة متحركة، فما مركز الكرة الذي ينبعث منه الضوء؟ أهو النقطة المتحركة؟ أم هو مكان معين في الأثير كانت هذه النقطة فيه عندما أطلقت الإشارة؟ يبدو أن الحكم السليم يدفع إلى الجواب بأنه مكان معين في الأثير، ولكن هذه الإجابة تؤدي إلى النتيجة التالية: عندئذ يمكن معرفة الحركة «المطلقة» للنقطة وقياسها؛ لأن سرعة الضوء تزداد أو تنقص، بالنسبة إلى الملاحظ المرتبط بالنقطة تبعا لمدى اقتراب الملاحظ من نقطة الأثير التي انبعثت منها الإشارة، أو ابتعاده عنها.
Unknown page