كانت وجهة النظر التي فحصنا الغائية تبعا لها حتى الآن قائمة على التشبيه بالإنسان
Anthropomorphique
بدرجات متفاوتة. ولكننا نصادف في علم الحياة معنى لمصطلح الغائية
Finalisme
يمكن فحصه هذه المرة من وجهة النظر العلمية، ذلك لأن الكائن الحي يبدو بمظهر الحقيقة الكلية، إن كل وظيفة للكائن العضوي تتضامن مع الوظائف الأخرى، وهذه الوظائف تتضافر «وتتجه» نحو كل. وإن ظواهر تجدد الأنسجة
régénération (انظر القسم الثاني) والظواهر التي تستطيع أجزاء معينة من الكائن العضوي أن تحل فيها محل أجزاء أخرى مصابة في الكائن العضوي، لتشهد بحقيقة هذا الاتجاه نحو الوحدة في الكائن العضوي. فإذا ما نزعنا البلورية من الكائن المسمى «سلمندرا ماكولاتا» مع إبقائنا على القزحية، فإن الجزء الأعلى من القزحية يمكنه أن يعيد تجديد أنسجة الحدقة (وقد أورد برجسون هذه التجربة في كتاب التطور الخالق ص76). فإذا أطلقنا اسم التفسير الغائي على إدراك حقيقة اتجاه الوظائف نحو الوحدة الكلية التي يكونها الكائن العضوي، وعلى دراسة هذا الاتجاه، دون إشارة إلى أي هدف مقصود، فعندئذ يمكننا القول بأن لمثل هذا التفسير الغائي ما يبرره في علم الحياة. (4) منهج الفسيولوجيا: الحتمية ونظرية البيئة الداخلية
كان أول من وضع أسس الفسيولوجيا على النحو الذي تبحث غايته اليوم في المعامل، هو هارفي
Harvey ، وهو طبيب إنجليزي كان هو أول من تقدم في 1628م بنظرية محددة في الدورة الدموية، وهي ظاهرة فسيولوجية أساسية، وفي القرن الثامن عشر، توصل لافوازييه ولابلاس إلى تفسير يعلل - على الأقل - أهم ما في ظاهرة الحرارة الحيوانية، وهي تلك الصفة الفريدة التي تتمثل لدى الكائنات العضوية العليا، والتي تجعل هذه الكائنات تحتفظ بدرجة حرارة ثابتة، رغم التغيرات الحرارية في البيئة المحيطة، ما دامت تعيش في حالة طبيعية. وأخيرا، حدد كلودبرنار الفسيولوجيا في شكلها النهائي عندما بين كيف يمكن تطبيق مبدأ الحتمية على الحياة. وإنه ليبدو بالفعل، للوهلة الأولى، أن الكائنات العضوية لا تخضع للقانون الذي يقضي بأن تكون النتائج متفقة مع الأسباب؛ إذ يبدو أن البيئة لا تؤثر فيها إلا تأثيرا وقتيا محدودا، فمثلا لا تستطيع البيئة أن تحدد حرارتها وتركيبها الكيميائي تحديدا تاما ولكن ينبغي أن نميز بين «البيئة الخارجية» أي الوسط الذي يحيط بالحدود المرئية للكائن العضوي (الجلد)، وبين البيئة الداخلية، أي مجموع السوائل العضوية «والأمزجة» كما كان يقال قديما، كالدم والسائل الليمفاوي.
10
والواقع أن الكائن العضوي منعزل عن البيئة الخارجية بنوع من القشرة العازلة المتماسكة إلى حد ما، ولذا كانت البيئة الخارجية لا تؤثر فيه مطلقا، أو لا تتحكم فيه على الأقل إلا جزئيا، ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البيئة الداخلية، فالخلايا التي تتكون منها الأحياء العليا مغمورة تماما في الدم والسائل الليمفاوي، اللذين يعدان بيئتهما الحقيقية، واللذين يحددان حالة الخلايا بدقة مطلقة. فحرارة الجسم البشري مثلا تظل ثابتة في الأحوال العادية رغم تغيرات الحرارة الخارجية، ذلك لأنها تتوقف على ظواهر كيميائية تستقر في البيئة الداخلية، حيث تتحكم عملية عظيمة الدقة في حفظ توازنها. فإذا ما طرأ على هذه العملية تغير طفيف ارتفعت درجة الحرارة مثلا، وأدى ذلك إلى الإصابة بالحمى، دون تأثير مباشر بالبيئة الخارجية، فعلينا إذن أن نتصور الكائن العضوي في الأحياء العليا على أنه كتلة منتظمة من الخلايا، بيئتها الحقيقية المحددة بها هي الدم والسائل الليمفاوي. وينحصر منهج علم وظائف الأعضاء في البحث عن الحتمية العضوية في العلاقات بين الخلايا وبين الدم أو السائل الليمفاوي، وإنا لنعلم بوجه خاص تلك الكشوف التي لا زالت فجة، ولكنها تبشر بمستقبل باهر، والتي أتاح ذلك المنهج الاهتداء إليها في مجال الغدد «الصماء». هذه الغدد، - كما نعلم - تصب إفرازاتها في البيئة الداخلية التي تحدث فيها عن بعد تغيرات هامة كانت لا تخطر لنا على بال. (أ) المنهج الطبيعي الكيميائي في الفسيولوجيا
Unknown page