1 - المنطق وعلم النفس
2 - المنطق
3 - الروح العلمية
4 - تصنيف العلوم
5 - موضوع العلوم الرياضية
6 - منهج العلوم الرياضية
7 - العلوم الطبيعية
8 - علوم الحياة
9 - العلوم الإنسانية
10 - النظريات الحالية في الفيزياء الرياضية النسبية الخاصة والعامة1
11 - النظريات الحالية في العلوم الفيزيائية
12 - العمليات العامة للتفكير الاستنباط والاستقراء
13 - العمليات العامة للفكر «تكملة»
خاتمة
1 - المنطق وعلم النفس
2 - المنطق
3 - الروح العلمية
4 - تصنيف العلوم
5 - موضوع العلوم الرياضية
6 - منهج العلوم الرياضية
7 - العلوم الطبيعية
8 - علوم الحياة
9 - العلوم الإنسانية
10 - النظريات الحالية في الفيزياء الرياضية النسبية الخاصة والعامة1
11 - النظريات الحالية في العلوم الفيزيائية
12 - العمليات العامة للتفكير الاستنباط والاستقراء
13 - العمليات العامة للفكر «تكملة»
خاتمة
المنطق وفلسفة العلوم
المنطق وفلسفة العلوم
تأليف
بول موي
ترجمة
فؤاد زكريا
الفصل الأول
المنطق وعلم النفس
علم النفس هو العلم الوصفي للظواهر النفسية، وهو يفحصها من جهة تضامنها وتنوعها.
في المنطق انتقاء وتقدير؛ فهو يتعلق بدراسة الفهم وحده، أعني بدراسة النفس بقدر ما تعرف وتتصور، وهو يحكم على اتجاهات الفهم وعملياته بناء على فكرتي الصواب والخطأ.
والنزعة النفسية تنكر وجود المنطق بوصفه علما قائما بذاته، وهذه النزعة - كما تتمثل لدى بروتاجوراس، ولدى «مونتني»، ولدى هيوم، وفي النزعتين الإنسانية والبرجماتية الحديثتين - تفسر التفكير البشري، والفهم البشري، عن طريق الطبيعة البشرية، ولكن من البين أن هذه النزعة النفسية تنتهي إلى الشك، وتقضي على كل قيمة للحقيقة؛ بل تقضي في النهاية على نفسها.
إذن فهناك علم للمنطق، وهو العلم المعياري للصواب، مثلما أن علم الجمال والأخلاق هما العلمان المعياريان للجمال والخير. والمقصود بالعلم المعياري ذلك العلم الذي يبرهن على أحكام تقويمية وينقدها.
علم النفس، وصف الظواهر الذهنية من حيث تضامنها وتنوعها
إن علم النفس هو دراسة الظواهر الذهنية، وهو يتناولها في «تيار الشعور» الذي تندمج فيه، وفي ذلك التيار ترتبط هذه الظواهر بعضها ببعض، بحيث يكون «السياق» الذي تندمج فيه كل منها هو مجموع الظواهر الأخرى، وبحيث يضفي عليها هذا المجموع دلالتها ولونها الخاص؛ فالإيمان الديني عند العالم غيره عند الجاهل، وهو عند الرزين غيره عند المتحمس. وفضلا عن ذلك، فإن الحالة الشعورية الخاصة ترتبط «بالقصد » الذي يوجه التيار بأسره؛ فالفكرة الواحدة، والكلام الواحد، قد يكون هازلا أو جادا وقد يفيد الاستفهام أو الشك أو التأكيد. وأخيرا فإن الحالة الشعورية تتباين في الشدة، تبعا للمستوى الذي تحتله في ذلك التيار؛ فتكون مثلا شاردة أو منتبهة. (1) اختلاف أحوال الحكم والاستدلال
من الأحكام ما لا يعدو أن يكون استجابة انفعالية: كالتشجيع، أو السباب، أو مجرد التعجب؛ بل إنه قد تنحصر في مجرد حركة؛ فالمبارز الذي يدفع بحسامه إلى جزء تركه دفاع خصمه مكشوفا، يعمل وفقا لنوع من الحكم غير الكلامي يتحقق عن طريق العضلات. وفي مستوى آخر، يصبح الحكم تقديرا تعبر عنه كلمات جادة: كالنصيحة أو الأمر أو الحكمة، ومن هذا يتضح لنا أن الحكم فعل ذهني، يرتبط بالشخص بأكمله، ويستطيع أن يعبر عنه تعبيرا يتفاوت عمقا ووفقا لمقاصد متباينة.
والاستدلال تختلف مقاصده؛ فقد يكون مغالطة تعمل عمدا على خداع من توجه إليه، وقد يكون هدفه هو دعم اعتقاد سابق في نظر نفس الشخص الذي يصوغ هذا الاستدلال، وقد يكون القصد منه بث اعتقاد معين في نفوس الآخرين؛ بل إنه في هذه الحالة الأخيرة قد يختلف اختلافا بينا إن كان القصد منه هو «الإقناع»، عنه إذا كان هدفه هو «الحض»: فالإقناع معناه منع كل استنتاج مغاير لذلك الذي ينتهي إليه الاستدلال، بينما يعني الحض توجيه الآخر كلية في اتجاه نعتقد أنه هو أصدق الاتجاهات أو أنفعها.
وبالإجمال، فأهم الخصائص المميزة لعلم النفس هي أنه يكشف عما في الأحوال والأفعال النفسية من تضامن وتباين.
وجهة النظر المنطقية انتقائية وتقديرية
أما المنطلق، فإنه ينظر إلى المحتوى النفسي نظرة انتقائية وتقديرية، أما أنه ينظر إلى ذلك المحتوى نظرة انتقائية، فذلك لأنه لا يستبقي من الفعل الذهني إلا ما يسمو منه إلى أعلى مستويات العقل، وما كان القصد منه بلوغ الحقيقة وهكذا كان المنطق لا يتخذ له موضوعا إلا من الأحكام الجادة الواعية، التي تهدف إلى مطابقة الواقع. والاستدلال ينبغي أن يخلو من كل نية للخداع، وألا يكون له هدف سوى الإقناع ؛ فالحض ذاته عملية لا تخلو من الشوائب، إذ تهدف كما يقول باسكال إلى «الاستبداد» بشخص الآخرين.
وأما أنه ينظر إليه نظرة تقديرية؛ فذلك لأنه يضفي على الفعل الذهني «قدرا» أو «قيمة» كما يقولون، وبينما يكتفي علم النفس بالوصف والربط، فإن المنطق يقوم ويميز الحكم أو الاستدلال الصحيح أو الصائب من الباطل أو المخطئ.
تجربة الخطأ هي أصل المنطق
في مبدأ الحياة النفسية يكون الحكم تلقائيا على غرار الحياة نفسها، فالحياة إنما هي عملية تأكيد، إذ هي أن يقوم المرء باستجابة تحفظ له كيانه وتنميه، وكل استجابة تعادل الحكم: فمد الذراع نحو شيء، يعني تأكيد حقيقة ذلك الشيء، والجزم بشيء عن خصائصه وعن شكله وبعده، ومن جهة أخرى يقحم المجتمع نفسه في الوجود الذهني للفرد؛ فهو إذ يلقن الفرد اللغة، «والخلال الطيبة»، والعادات المستحبة، والدين، والفنون العملية، يملي عليه أحكاما جاهزة، ليس على الفرد إلا أن يرددها، ثم يتفهمها رويدا رويدا، ويحيلها إلى أحكام صادرة عنه، وهكذا يكون للفرد عالم ذهني كامل هو الانعكاس النفسي لحياته الحيوانية ولحياته الاجتماعية، وهو يرتضي هذا العالم في البداية دون اعتراض.
لكنه يصادف دون ذلك عقبات، فالطبيعة تتبدى له أكثر تعقيدا وغموضا مما ظنه في البداية، والإنسان يخدعه، واللغة تحيره، وهو يصطدم بأشياء متناقضة وأشخاص يناقضونه، ويفطن إلى أنه قد «خدع» فتجربة الخطأ خصبة، بمعنى أنها تؤدي به إلى التساؤل عن سببها، والبحث عن الطرق التي تمكنه من أن يتجنب في المستقبل ما تجلبه عليه مواجهتها من أضرار، وإذا أدرك أنه قد أساء الحكم، انتهى إلى أن يتساءل: كيف يحكم؟ وعندئذ، يبدأ المنطق.
ومن المشاهد، في تاريخ الإنسانية الغربية، أن المنطق قد ظهر في اللحظة التي كان الفلاسفة فيها قد ملوا تلك المذاهب التي يواجه كل منها الآخر ويناقضه مثلما يتقابل، بصفة رمزية، وجه هرقليطس الباكي ووجه ديمقريطس الضاحك. وملوا كذلك تلك الألاعيب الخفية التي يلجأ إليها السفسطائيون في لغتهم، فشرعوا في دراسة العقل، ليعلموا كيف يحسن المرء التفكير.
الفهم، وهو الوظيفة المثالية للحقيقة
يقول الفيلسوف اليوناني أنكساجوراس
1 «في البدء كان كل شيء مختلطا، ثم أتى العقل
Nous
فميز كل الأشياء ليعيد تنظيمها» ونحن لا ننكر أن مذهب هذا الفيلسوف اليوناني كان يشوبه شيء من الروح الأسطورية، غير أن هذه العبارة تتضمن وصفا بارعا للعمل الذي يباشره العقل على نفسه بغية القضاء على الاضطراب الذهني، والتخلص من الخطأ الذي هو في حقيقته خلط، ولذا لما نقل إلينا أرسطو هذه الفكرة التي كشفها أنكساجوراس، أضاف إليها هذا المديح الرائع للفيلسوف: «لقد كان يبدو، وسط السابقين عليه، كرجل صائم وسط أناس سكارى يتحدثون كيفما اتفق.»
وهكذا عرف أنكساجوراس النوس
Nous
وأطلق عليه اسم العقل.
فعلى أي شيء يطلق هذا الاسم؟ إن العقل ليس، على وجه الدقة، وظيفة نفسية كسائر الوظائف، أعني وظيفة تفي بمقتضيات مرحلة محدودة من مراحل النشاط العصبي؛ فهو، على وجه الدقة، ليس قبولا سلبيا ولا استجابة، وهو لا يشبه الإحساس أو الانفعال من جهة، ولا الرغبة من جهة أخرى، وذلك لأنه يسمو على مرتبة الإحساس ويجعل منه مجرد علامة تدل على الواقع، وهو يتحرر من الانفعال المشوب، الذي يثيره البدن، والذي يعكر صفو الحكم الواضح، ومن الرغبة التي لا تستهدف بلوغ الحقيقة.
إن العقل هو كشف الذات للحقيقة، وهو الذات نفسها، بالقدر الذي تعلو به على أفعالها الذهنية التلقائية، وتحاول الوصول إلى الحقيقة، برغم ما يعترضها من عقبات خارجية وداخلية، وهو يفترض التطهر والتحرر من المنافع ومن الميول والأهواء. وأخيرا، يفترض منهجا في المعرفة يتسامى بالذات على نفسها، ويمكنها من الوصول إلى الحقيقة. «أنا أفكر، إذن أنا موجود.»
كلنا نعلم أن هذه العبارة تلخص الكشف العظيم الذي توصل إليه «ديكارت»
2
وعلينا ألا ننظر إلى هذه الجملة على أنها استدلال؛ بل على أنها فعل شعوري رفيع، دعانا «ديكارت» به إلى إدراك ما نكونه حقيقة، أي إدراك أننا عقول. فقد يتوهم المرء أنه يوجد على نحو ما توجد الأجسام، أعني أنه لا يعدو أنه يكون شيئا يشغل حيزا في المكان، أو يظن أنه يوجد على نحو ما توجد الحيوانات، أعني أنه يمثل الغذاء، ويكتسب مكانة تحت الشمس عن طريق نشاطه. غير أن هذا كله لا يساوي شيئا إن لم نشعر به عن وعي، وإن لم «نعلمه» بحيث أنه لا وجود للمرء إذا لم «يعلم» أنه موجود على أن «علم» المرء هذا ليس مجرد «إحساسه» بوجوده، بل هو، كما يقول أنكساجوراس «تنظيم» إحساساته، أعني بناء إدراكه الحسي عن طريق نشاط ذهني يعلو على الإدراك الحسي، وهو بناء المرء لذاته وشخصه عن طريق نشاط ذهني أسمى من الانفعالات والرغبات.
المنطق، علم العقل
فالمنطق هو ذاته دراسة هذا النشاط الذهني، وهو الشعور بهذا الشعور، فهو بمعنى ما شعور من الدرجة الثانية. وهنا قد يتساءل المرء: ألن يكون المنطق في هذه الحالة نوعا من علم النفس؟ ونجيب نحن عن هذا السؤال بالنفي، فنذكر القارئ بما قلناه عن المنطق في الفقرة (2) من أنه انتقائي وتقديري، وسوف نرى فيما بعد أن هذا يوجب على المنطق أن يتبع منهجا مخالفا كل المخالفة لمنهج علم النفس، ولكن الحقيقة أن المنطق يأتي في أعقاب علم النفس، وهو امتداد له، كما توجد بين المنطق وعلم النفس ارتباطات وثيقة عديدة.
النزعة النفسية، التي تنكر استقلال المنطق
ونستطيع أن نتبين مدى وثوق هذه الارتباطات، إذا أدركنا أن هناك تيارا فلسفيا تقليديا كاملا يؤكد أصحابه أن المنطق لا يوجد مستقلا عن علم النفس. (1) الطبيعة الإنسانية والعقل الإنساني
يرى ممثلو هذا التيار الفكري التقليدي أن العقل الإنساني، والذهن الإنساني، والنشاط العقلي الذي به يفكر الإنسان، (
Cogitat
على حد تعبير ديكارت) هو مجرد نتاج، ومجرد تعبير عن «الطبيعة البشرية»، أي عن مجموع الوظائف الذهنية الناتجة عن الطبيعة الحيوانية للإنسان، وعن التأثيرات الاجتماعية التي يخضع لها؛ فالإنسان كما يقول علماء الحيوان، هو مخلوق عارف
Homosapiens ، أي هو حالة خالصة من حالات «جس الأناسي»
Genre hominien
ونوع من القردة يحيا في مجتمع وينتج، عن طريق استعداد خاص في جسمه، تلك الحقيقة التي يطلق عليها في اللغة اللاتينية اسم
Sapientia ، أي الوعي والعلم، وذلك الجو أو العالم غير المحسوس من الأفكار والنظم التي تضيف طبيعة مصطنعة إلى الطبيعة الأصيلة.
فالنزعة النفسية تنحصر في رفض التفرقة بين المعارف
sapiens
وبين المخلوق البشري
homo ، وأقدم ممثلي هذا الاتجاه هم بعض سفسطائيي اليونان، فبروتاجوراس، من أبديرا (حوالي 440ق.م.) يقول: «إن الإنسان مقياس جمعي» وهذا معناه أنه ليس ثمة حقيقية مستقلة عن الإنسان وعن طبيعته وميوله، ومن ثم فالعالم الذي يشيده الإنسان في العلم، ليس إلا انعكاسا للطبيعة البشرية.
مونتني
Montaigne :
ليس من هدفنا أن نقص تاريخ النزعة النفسية كاملا متصلا، لكن علينا مع ذلك أن ننبه إلى أن «مونتني» ينتمي إلى هذا النمط الفكري نفسه، فعندما أراد مونتني، في الفصل المشهور من الرسائل
Essais
المسمى «دفاع عن ريمون سيبو
Raymond Sebond »
3
أن «يدخل الإنسان ويضمه» إلى السجن، وأن يقهره ويحصره داخل حاجز الشرطة هذا، فإنه كان يريد التعبير بذلك عن رفضه أن يعترف للإنسان بفضل يميزه عن الحيوان، أو أن يجعل لعقله نوعا من المكانة الإلهية الخارقة الطبيعة.
ديفيد هيوم
David Hume :
وتعود الفكرة ذاتها إلى الظهور في مدرسة فلسفية هي المدرسة الإنجليزية في القرن الثامن عشر، وهي المدرسة التي نعتقد أن ديفيد هيوم خير ممثليها، والرسالة الفلسفية الضخمة التي ألفها هيوم تسمى «رسالة الطبيعة البشرية».
وهي تسمية لها دلالتها، فهي تعني أن العقل البشري لا ينفصل في نظر المؤلف عن الطبيعة البشرية؛ بل إن العقل هو، على نحو ما، معبر عن الطبيعة وثمرة لها، وأن الإنسان يفكر بطبيعته كلها ويكشف عنها في تفكيره، إن جاز هذا التعبير، وفي ذلك يقول هيوم «من البديهي أن كل العلوم ترتبط بالطبيعة البشرية ارتباطا يتفاوت وثوقا، وأنه مهما بدا أن بعض هذه العلوم تبعد عن هذه الطبيعة فإنها تعود دائما إليها بطريق أو بآخر.» تلك هي النقطة الأساسية في النزعة النفسية، وهي في اعتقادنا نقطة ضعفها في الوقت نفسه: «فحتى الرياضيات، والفلسفة الطبيعية (علم الطبيعة) والدين الطبيعي، تتوقف جميعها إلى حد معين على علم الإنسان، ما دامت مرتبطة بالمعرفة البشرية، وما دامت قوى الإنسان وملكاته هي التي تحكم عليها.»
4
ونقول إن هذه نقطة ضعف ذلك المذهب - وتلك فكرة سنعود إليها فيما بعد - لأنه إذا كان العلم والميتافيزيقا يرتبطان بالطبيعة البشرية ارتباطا وثيقا، فإنهما لن يكونا سوى أمور إنسانية، وإنسانية فحسب ولن تكون لهما قيمة شاملة، أعني لن يكونا «صحيحين». فمذهب الشك هو النتيجة الطبيعية للنزعة النفسية، وفيه - فضلا عن ذلك - حتفها، إذ إن علم النفس لن يعود عندئذ «أصح» من الرياضة.
النزعة الإنسانية الإنجليزية:
يطلق اسم «النزعة الإنسانية» على مذهب إنجليزي حديث، دعا إليه الأستاذ شيلر
F. C. S. Schiller
من أكسفورد
5 (والتسمية معقولة إلى حد ما).
وهو يقول عنها: «إن النزعة الإنسانية تفسر ببساطة الفكرة القائلة إن المشكلة الفلسفية تتعلق بالكائنات الإنسانية التي تحاول فهم عالم التجربة الإنسانية مستعينة في ذلك بموارد العقل الإنساني.» وبعبارة أخرى ينبغي أن نفحص كل المشكلات الفلسفية واضعين نصب أعيننا أنها مشكلات إنسانية، ومحاولين بوجه خاص أن نحلها مكتفين بما لدى الطبيعة البشرية من وسائل. ويزعم «شيلر» أن الوسائل التي يستخدمها الإنسان للوصول إلى الحقيقة لا يمكن أن تنفصل عن سياقها النفسي، وعن كل ما تحتويه نفس من يستخدمها. «فالمفهومات المنطقية الأساسية، مثل معنى الضرورة، واليقين، والبداهة، والحقيقة، هي في الأصل أوصاف لعمليات، وهذه العمليات ظواهر نفسية، فهذه المفهومات ترتبط أوثق الارتباط بمشاعر نفسية خاصة.» وهو يقول: «إن العمليات المنطقية الأساسية، كعملية التصور أو التمييز، أو التعرف على هوية الشيء، أو الحكم، أو الاستنباط، تنطوي جميعها على مظاهر نفسية، ولا يمكن أن تتم عن طريق التفكير المجرد وحده.»
6
البرجماتية عند بيرس ووليم جيمس:
علينا، قبل أن نوجه النقد إلى هذا المذهب، أن نعرض نظرية أنجلو أمريكية عظيمة الشبه به، وكان لها دوي كبير في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين.
لقد صيغت كلمة «البرجماتية» المرة الأولى على يد «وليم جيمس» خلال عرضه لمذهب بيرس (
Ch. S. pierce ) في سنة 1898م، وهو المذهب الذي كان جيمس يؤمن بقضاياه الأساسية، وهو يعرف البرجماتية بناء على ما أسماه «مبدأ بيرس» وهاك ترجمته:
7
لنفحص موضوع إحدى أفكارنا، ولنتصور كل النتائج التي يمكن تخيلها، والتي ننسبها إلى هذا الشيء ، ويمكن أن تكون لها أهمية عملية ما: ففي رأيي أن فكرتنا عن الشيء لا تعدو أن تكون مجموع الأفكار الخاصة بجميع هذه النتائج. وبعبارة أخرى، ليس التصور العقلي لشيء إلا مجموع الاستعمالات التي نتنبأ بها له ونتوقعها منه.
فالإدراك الحسي لشيء، مثلا، هو تهيئة الحركات التي يؤثر بها المرء فيه، فيمسك به مثلا، أو ينقله، أو يكتفي باستطلاعه عن طريق اللمس أو الإبصار، والتذكر هو التهيؤ لإعادة تكوين الحركات التي تتلاءم والشيء المتذكر. والتخيل هو أن يسلك المرء أو يتكلم كما لو كان الشيء ماثلا أمامه.
وعلى مستوى أرفع من هذا، نجد أن المعرفة العلمية هي الاستعداد للانتفاع بالشيء علميا؛ فالقوانين العلمية هي إرشادات عملية عظيمة التركيز، أو هي إرشادات يمكن استغلالها عمليا، مثال ذلك أن قانون «ماريوت
Mariotte » يحدد مقدار الضغط الذي يجب أن نباشره لكي نجعل لكتلة من الغاز ذات حجم معين، تحت ضغط معين، حجما آخر.
وكذلك الحال تماما في المذاهب الميتافيزيقية أو الدينية، فالعقيدة الدينية أو المذهب الميتافيزيقي هو فكرة خاصة عن الله، وعن الأمور الخارقة للطبيعة. هذه الفكرة توضح، على نحو ما، ما يمكننا أن نفعله تجاه هذه الأمور، أعني المسلك الذي ينبغي، أو يمكن، أن يتخذه المرء إزاءها، ولقد قال وليم جيمس،
8
بشيء من السذاجة، أن الله «شيء يستخدمه المرء.» إذ إن الابتهال إليه أو الاكتفاء بحبه أو تبجيله أو خشيته، كل هذه طرق للسلوك تجاهه، ومن ثم كانت، بمعنى ما، طرقا يلجأ إليها الناس لاستخدامه من أجل تحسين أحوالهم. (2) الحقيقة تعرف عن طريق المنفعة
ففي رأي البرجماتيين، إذن أن الحقيقي يرد إلى النافع، والحقيقي هو الذي ينطوي على أكبر قدر من إمكانات الاستخدام؛ فالإدراك الحسي مثلا يكون صحيحا إذا مكننا من استخدام الشيء ويكون باطلا إذا أدى، أو أمكن أن يؤدي، إلى إخفاق في الانتفاع به. فمثلا إدراك المجداف منكسرا في الماء هو إدراك حسي باطل؛ لأنه يؤدي إلى إخفاق في اللمس إذا تتبعنا المجداف بيدنا تحت الماء متوقعين أن نراه منحنيا، والهلوسة البصرية باطلة لأنها تدعو المرء إلى أن يتوقع أن يمس شيئا لا وجود له حسب الواقع.
وكذلك الحال بالضبط في الحقيقة العلمية، ولقد تحدث «هنري بوانكاريه
Henri Poincaré » بطريقة برجماتية (وقد كان ذلك تهورا منه، إذ إن حديثه لا يطابق فكرته الحقيقية) حين قال في مواضع عدة من كتابه الأول «العلم والفرض» إن العلم لا يهدف إلى الحقيقة - بالمعنى الشائع لهذه الكلمة - وإنما إلى اليسر في العمل. فمثلا «لا يمكن أن تكون إحدى الهندسات أصح من غيرها؛ بل يمكن فقط أن تكون أكثر يسرا منها لأنها .. أبسط .. ولأنها تتمشى إلى خصائص الأجسام الصلبة الطبيعية ... إلخ.» وبالمثل «كان كبرنك .. يقول: إنه لأكثر يسرا أن نفترض دوران الأرض، لأننا نعبر بهذه الطريقة عن قوانين الفلك بلغة أقل تعقيدا.» وبالمثل تكون الفروض العامة للعلم - كالنظرية الذرية - «نافعة»، وعلى هذا النحو يقال إنها صحيحة ... إلخ.
9
هاك إذن ما أراد «بوانكاريه» أن يقول: إن نظريات الهندسة، ونظريات علم الفلك وعلم الطبيعة، ليس لها أن تطمح إلى التعبير عن الحقيقة الواقعة، وعن كنه الأشياء، إذ من الممكن أن تعبر عن ذلك أيضا نظريات أخرى مختلفة عنها كل الاختلاف، وستكون هذه النظريات الأخرى على الدوام متفقة مع التجربة، ولكن على نحو أقل يسرا، أي بطريقة أشد تعقيدا، وأقل إرضاء للعقل. (3) نزعة رومانتيكية نفعية
وقد كتب معاصر للفلسفة، هو رينيه برتلو
Rene Berthelot ، تاريخ المذهب البرجماتي، تحت عنوان: نزعة رومانتيكية نفعية
Un romantisme utilitaire ،
10
والحق أن المذهب البرجماتي هو بالفعل نزعة رومانتيكية، بمعنى أنه يهدف إلى رد اعتبار الحساسية، والعاطفة، والشعور الجمالي والديني، في مقابل الاتجاه العقلي الجاف في العلم والمنطق، ذلك لأن المشاعر تعبر عن حاجات، فتكون المذاهب النظرية والوسائل العملية التي تفي بها «نافعة» بهذا المعنى، فالمذهب الديني مثلا يكون «نافعا» لأنه يفي بمقتضيات الحاجة إلى الإيمان، ويرضي أمنية نصبو إليها.
أما عن استخدام الصفة «نفعي» فتتضح صحته إذا سلمنا بأن لدى الإنسان عديدا من الحاجات الأخرى خلاف الحاجة إلى الشرب والأكل وسلامة البدن، فيجب علينا أن نطلق كلمة «النافع» على كل ما يفي بهذه الحاجات المتباينة إلى حد كبير، ولنذكر أن «رينان» كان يعرف الدين مقتبسا كلمة الإنجيل «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.»
لهذا السبب نرى أن جيمس وهو الداعية الأكبر للمذهب البرجماتي، قد أهدى كتابه في «المذهب البرجماتي» إلى «ذكرى جون ستيوارت مل، الذي كان أول من أرشدني إلى اتساع أفق البرجماتية، والذي أميل إلى الاعتقاد أنه لو كان اليوم بيننا، لكان على رأس دعاة هذا المذهب.» ومن المعروف عن مل أنه صاحب الأخلاق النفعية. فالبرجماتية إذن من مذاهب المنفعة العامة، منقولة من المجال الأخلاقي إلى المجال الميتافيزيقي.
فماذا يكون موقفنا من النزعة النفسية؟ في رأينا أنها مذهب مفلس، وأنها مدفوعة إلى إنكار فكرة الحقيقة، وأنها تنتهي إلى الشك.
النزعة النفسية، مذهب شك
سوف ينصب نقدنا أساسا على مسألتين: (1)
الامتداد غير المشروع لفكرة المنفعة. (2)
العلاقة المعكوسة بين الحقيقي والنافع. (1) نقد المذهب البرجماتي (1)
كان «جيمس» والبرجماتيون يفخرون «باتساع أفقهم». ولكن الحق أن هذه الروح الفضفاضة تبلغ حدا يؤدي إلى القضاء على كل معنى لكلمة «النافع» عندما كانوا يعرفون الحقيقة عن طريق المنفعة. فالنافع في اللغة المتداولة هو ما يفي بحاجة «حيوية» غير أن البرجماتيين قد أضفوا على كلمة «الحاجة» معاني بلغت من الكثرة حدا لم تعد معه تدل على شيء، حتى ولا كلمة «النافع» ذاتها. فهناك حاجات ترمي إلى حفظ الحياة والعمل على استمرارها. ولكن من الممكن أن نطلق اسم «الحاجة» على ما يعبر عن أكثر الميول الوجدانية تنوعا. فالمرء في حاجة إلى أن يكون محترما، محبوبا، كما أنه في حاجة إلى أن يحب، وإلى أن يرى من يحبهم سعداء، والغيورون والحقودون في حاجة إلى أن يروا الآخرين تعساء وأقل سعادة منهم، والمرء في حاجة إلى الإيمان بوجود الله وخلود النفس وهلم جرا ... وينبغي أن نضيف إلى الحاجات العاطفية الحاجات العقلية: كالحاجة إلى المعرفة وإلى الفهم، أو بمعنى أدق، إلى التعبير عن الظواهر مجتمعة بصيغة بسيطة، ولا شك أن «بوانكاريه» إنما كان يشير إلى ضرورة بساطة الصيغة العقلية عندما كان يتحدث عن «اليسر » باعتبار أنه خليفة الحقيقة أو بديل عنها.
إن «حاجات» الإنسان و«المنافع» التي تناظرها تبلغ من التنوع حدا يجعل كل تعريف للحقيقة بالمنفعة ينتهي آخر الأمر إلى ألا يوضح من طبيعتها أي شيء.
لقد آمن «كبرنك» بحركة الأرض لأنه من الأكثر يسرا أن نفترض أن الأرض تتحرك، ولكن إذا لم يعرف معنى كلمة اليسر على نحو أدق، فعلا يسوغ للمرء أن يقول بمعنى آخر أنه كان «أكثر يسرا له» أن يعترف بأنها لا تتحرك تجنبا لكل عناء؟ (2)
لا جدال في أن الحقيقي نافع على نحو ما، ولكن هذا لا يستتبع القول بأن المنفعة هي أساس لتعريف الحقيقة؛ فالحقيقي نافع لأنه حقيقي، قبل أي اعتبار للمنفعة، ولقد قال تشترتن
Chesterton
ما يشبه الكلمات الآتية تقريبا: «إن المذهب البرجماتي يعرف الحقيقة بأنها ما يفي غير أن أول ما نحتاج إليه عندما نبحث عن الحقيقة هو ألا نكون برجماتيين.» وكان يعني بذلك أن القاعدة الأساسية التي نضعها عندما نشغل أنفسنا بالكشف عن الحقيقة، هي أن نصرف عن كل اعتبار للمنفعة، ولو تطرق الشك إلى نفوسنا، وآمنا بشيء لأننا في حاجة إلى هذا الإيمان، لفقد الإيمان إذن كل قيمة له، ومرة ثانية نقول إن الحقيقي نافع لأنه حقيقي، وليس حقيقيا لأنه نافع.
ولنتصور الحالة العقلية لمريض يقول لطبيبه «لا تقل لي سوى ما أحتاج إلى تصديقه.» ألن يكون قوله هذا توسلا إليه أن يكذب؟ وهكذا ينتهي الأمر بالمذهب البرجماتي إلى أن يكون «نظرية الأكذوبة الحيوية، التي تقوم على أساس من نزعة الشك.»
نقد النزعة الإنسانية:
تزهو النزعة الإنسانية بأنها تأتي بسيكولوجية للعقل، غير أن هذه السيكولوجية باطلة، حقا إنها تجيد وصف «العمليات» التي نكون بها أحكامنا، وتقول بحق إن الأحكام لا يمكن فصلها عن السياق العقلي وعن الجو الداخلي، وعن المقاصد التي توجهها، ولكن عندما يحكم المرء بحق، ألا يكون ثمة قصد يسيطر على كل شيء، ويوجه النفس بأسرها، وأعني به قصد إجادة الحكم، والتفكير طبقا للحقيقة؟ هذا القصد هو الذي تتجاهله النزعة الإنسانية، لأنها تخلط بينه وبين قصد آخر أيا كان، كقصد اللهو أو الكذب، أو الإيذاء.
إن سيكولوجية العقل تدرس قصدا واحدا بالذات وهو «قصد الموضوعية» فإن أبى مذهب أن يميز هذا القصد عن كل ما عداه، كان معنى ذلك أنه يأبى أن يضفي على الحقيقة قيمة فريدة كبرى، وعندئذ فلا وجود للحقيقة ولا وجود لشيء ما، بل لا وجود لعلم النفس، ما دام علم النفس الصحيح لا ينطوي عندئذ على شيء أكثر مما ينطوي عليه علم النفس الباطل.
بروتاجوراس:
ومن الطبيعي أن نقع في هذه الحالة مرة أخرى فيما وقع فيه بروتاجوراس حين قال «إن الإنسان مقياس الأشياء جميعا.» ولذا كتب شيلر يقول: «ينبغي لنا أن نعود مرة أخرى إلى ما فعله بروتاجوراس، فتتخذ الأحكام الفردية لأشخاص مفردين نقطة بدء لنا.»
11
لكن ليس لنا أن ننسى أن «بروتاجوراس» هو أحد زعماء ومؤسسي تلك النزعة السفسطائية التي حاولت، في عصر أفلاطون، أن تخلط الحق بالباطل لكي تتصيد في الماء العكر ما هو زائف ومريح، وتشيد صرح الخطابة على أنقاض الفلسفة.
ولقد لاحظ أفلاطون في «تيتاتوس»
Théétete
12
أننا إذا سلمنا بمبدأ «بروتاجوراس»، لكان معنى ذلك التسليم بأن حجج المجنون تعادل في صدقها حجج العاقل، وأن أحط الحيوانات شأنا له رأي عن الكون لا يقل حصافة عن رأي الإنسان الحكيم.
الذاتية والداخلية:
كل مظاهر الخلط هذه ترجع إلى خطأ أساسي، ينحصر في الخلط بين الذاتية والداخلية؛ فالحكم حقيقة داخلية، وهو نتاج للنشاط المستقل للكائن المفكر، وحين نقول «المستقل»، فنحن لا نعني بهذه الكلمة حقيقة لا ترتبط بشيء، بل نعنى حقيقة لها قوانينها الخاصة، فقوانين الفكر لا تمليها عليه المادة، وإلا لما كان الفكر سوى تعبير عن البدن، كما لا تمليها عليه الجماعة، إذ إن تفكير المرء على النحو الذي يفكر به الجميع لا يوصل إلى الحقيقة. ومع ذلك، فالفكر يخضع لقوانين، وسوف نرى كنه هذه القوانين فيما بعد.
غير أن الحكم إذا كان داخليا فليس معنى ذلك أنه يصبح ذاتيا لهذا السبب، فالذاتية هي الارتباط الوثيق للحكم بفردية الذات، و «بالأنا» حقا أن الذات تقول: أنا أفكر، ولكن هل المقصود هنا هو فرديتها، وأناها، لقد لاحظ بعضهم - بحق - أن ديكارت عندما قال «أنا أفكر إذن أنا موجود.» “Cogito, ergo sum”
لم يكن يعني «إذن فأنا موجود بوصفي ديكارت.» “ergo Sum Cartesius”
إذ لو كان الأمر كذلك، لأمكنه أن يستخلص من هذا الاستدلال ذاته الصفات: رجل ... إلخ، بل لأمكنه أن يستخلص منه: مولود في 1596م في لاهاي بمقاطعة التورين ... إلخ، وربما استخلص منه: مصيره أن يموت في استوكهولم. غير أن هذا كله محال. فما كان في وسعه أن يستخلص منه إلا: «أنا شيء مفكر
sum res cogitans » فلا يتبقى منه الذاتية في الوعي العقلي شيء.
وإذن، فالحكم قد يكون فعلا داخليا دون أن يكون فعلا ذاتيا.
المنطق، وقد رد إليه اعتباره ضد النزعة النفسية
إذن، فعلى الرغم مما يعتقده دعاة النزعة النفسية، يوجد علم خاص بحقيقة عمليات العقل، وهذا العلم هو المنطق، وقد بدأ الناس يميزونه من علم النفس الذي هو علم الأفعال العقلية، أيا كانت، منظورا إليها من حيث واقعيتها (أعني من حيث أنها توجد بالفعل) لا من حيث قيمتها (أي من حيث أن لها قيمة).
حجج الرياضة:
تضرب لنا الأحكام الرياضية مثلا رائعا، فلنتأمل حكما غاية في البساطة، مثل 2 + 2 تساوي 4. فإذا نحن تأملناه من وجهة النظر النفسية وجدنا فيه جوا فرديا كاملا: فربما كان صادرا عن فعل جرت به العادة، أو عن تذكر، يسترجع فيه المرء ذكرى كشفه لتلك الحقيقة عندما عد على أصابعه حين كان طفلا، وما يحيط بهذا الكشف من حنين وجداني تبعثه هذه الذكرى التي ترجع إلى الماضي، أو عودة انفعال مؤلم (غضب المدرس عندئذ نظرا للبطء المفرط في القيام بعملية هينة كهذه) ثم انفعال السرور الطفيف، الذي تبعثة الأداء الحالي لفعل عقلي اعتيادي هين يرضي المرء كل الرضا، إلخ، فإذا انتقينا عملية أصعب من هذه بكثير، كاستخراج الجذر التربيعي، أو حساب التكامل، فإن التحليل النفساني يكشف لنا بلا شك عن شعور بالجهد، وبتكرار التعود، والأخطاء التي صححت، أو التي تثبط الهمة إذا لم يفلح المرء في التغلب عليها، إلخ.
ذلك ما يقدمه إلينا التحليل النفساني، غير أن في الأمر شيئا آخر: هو حقيقة القضية، فهذه القضية يمكن البرهنة عليها فما الذي نفعله كي نبرهن عليها؟ وما البرهنة؟ وكيف يبرر ذلك النوع من الضمان، ومن الطمأنينة الظافرة التي يبعثها البرهان؟ إن لهذه الأسئلة علما خاصا يجيب عنها.
على أن هذا العلم ليس هو الحساب، إذ إن الحساب يبرهن، ولكنه لا يعبأ بتبيان ماهية البرهنة، كما أنه لا يعبأ بأن يبين السبب في تأكد المرء من النتيجة عندما يبرهن عليها. (1) اليقين والانتباه
ذلك لأن المنطق هو، على نحو آخر، «علم اليقين»، واليقين حالة نفسية، ولكن مضمونها يتجاوز نطاق علم النفس فيقين المرء معناه أنه يشعر بأنه قد وصل إلى الحقيقة، وإلى الشيء كما يوجد في ذاته. أي أنه، كما يقول مالبرانش، شعور المرء بأنه «يفكر كما يفكر الله»، والواقع أن العقل بعملياته الأساسية يتجاوز مجال علم النفس. ولقد أبدى مالبرانش ملاحظة عميقة حين قال عن «الانتباه» إنه «صلاة طبيعية»: وكان يعني بذلك أنه مجهود يبذله المرء ليخرج عن ذاته، وليتجاوز حدود شخصه، ولكن لا بأن يسمو، بل على العكس من ذلك، بأن يتضع ويدل، وينصرف عن ذاته، وينتظر العون والحل من مصدر أعلى منه، كما يفعل عندما يصلي، وبالمثل يمكننا القول بأن اليقين هو الشعور «الطبيعي» بمثول الله (في النفس)، أو هو ذلك الشعور بالأزلية الذي حدثنا عنه سبينوزا.
13
ولكن إذا كان ثمة أفعال للذهن هي هي من جهة ذاتية، ومن جهة أخرى تدل على قصد موضوعي، وهو القصد الذي ينبغي أن يتحقق من حين لآخر (وإن لم يكن في وسعنا أبدا أن نقول إنه قد تحقق في حالة معينة) فثمة علم للذهن يتجاوز نطاق علم النفس. هذا العلم، كما قلت من قبل، هو المنطق، ولنقل مرة أخرى، وعلى نحو آخر، أنه الوعي الذهني.
المنطق «علم معياري» للحقيقة
بينما كان علم النفس ينظر إلى الظواهر النفسية، كما قلنا، في وجودها المحض، ودون أن يكون له من هدف سوى بيان مدى ترابطها أو تنوعها، فإن المنطق ينظر إلى العقل باعتبار قيمته فالتصورات العقلية تسمو في مرتبتها على الوجود المحض وتمتاز عنه بأن لها «قيمة».
والقيمة تطلق، بصفة خاصة، على الصفة التي تجعل أشياء معينة تستحق التقدير، وحكم القيمة هو الحكم الذي يعترف للأشياء بهذه الصفة. ومن أمثلته، الحكم الذي يعلن جمال عمل فني، أو الطابع الأخلاقي لفعل ما. ولنلاحظ أن أحكام القيم قد تكون سلبية، فتنفي عن الشيء القيمة التي كان ينبغي أن تكون له، والتي كان المرء يتوقع أن يجدها فيه. (1) العلوم المعيارية: الأخلاق وعلم الجمال والمنطق
والقيم تنتمي إلى ثلاثة أنواع رئيسية: قيم الأخلاق، والجمال، والحقيقة، وهي التي ترتبط بمعان ثلاثة هي: الخير والجمال والحق، وهذه المعاني الثلاثة موضوعات لثلاثة علوم يطلق عليها اسم «العلوم المعيارية»، وذلك من أجل التعبير عن طابعها الخاص وعلاقتها بالقيمة، وهي: الأخلاق التي تتخذ لها موضوعا، وعلم الجمال، وموضوعه الجمال، والمنطق، وموضوعه الحقيقة.
ويتميز العلم المعياري عن العلم المألوف بأنه يتكون من أحكام قيم، وبأنه يضع أسس هذه الأحكام بأن يستخلص ما يسمى بمعيارها (الخير، الجميل، الحق). ومثل هذا العلم لا يكتفي بوصف موضوعه وبيان القوانين التي تحدد طبيعته، بل يميز في موضوعه بين الأشكال الصالحة والأشكال غير الصالحة، ويقرر نوعا من التدرج بين هذه الأشكال.
ومن المهم أن نلاحظ أن العلم المعياري يصل إلى هدفه دون أن يستمد أسباب تفضيلاته من شيء آخر سوى الموضوع ذاته. فقد يحدث بالفعل أن تقوم علوم غير معيارية بعملية ترتيب الموضوعات التي تعنى ببحثها ترتيبا تدريجيا. غير أن ذلك يحدث دائما بناء على غاية خارجية، فعلم الطبيعة مثلا يميز بين الأشكال العليا والأشكال الدنيا للطاقة، ما دام يتحدث عن «تدهور» للطاقة، ولكن ذلك لا يكون إلا بالنسبة إلى حصيلة هذه الطاقة في عمليات التحول، وهذه الحصيلة لا قيمة لها إلا بالنسبة إلى غايات الصناعة. فالأحكام المعيارية في علم الطبيعة لا تحدد على أساس اعتبارات فيزيقية؛ بل على أساس اعتبارات لها صلة بالوسائل العملية، أعني خارجة عن مجال علم الطبيعة بمعناه الصحيح. أما في الأخلاق، فإن الحكم على الظواهر الأخلاقية مستمد من أسس جوهرية في الأخلاق ذاتها، لأن الأخلاق تنطوي في ذاتها على غايتها، وبالمثل لا يحقق الشيء الجميل في علم الجمال، غاية صناعية خارجة عن نطاق هذا العلم، وفي المنطق يكون الحق غاية في ذاته ولذاته، ففي العلوم المعيارية تبنى أحكام القيم على أسس داخلية، هي جزء لا يتجزأ من مجال العلم ذاته؛ فالمعيار شيء أصيل في العلم المعياري، وهو الذي يكون موضوعه الخاص. (2) التوازي الشكلي بين العلوم المعيارية
لوحظت بين العلوم المعيارية الثلاثة أوجه شبه تلفت النظر،
14
وتعين على فهم طبيعتها، فمثلا قبل أن يصبح كل منها علما حقيقيا دراسة وتفكيرا، كان له طابع اجتماعي تلقائي، وكان يتسم بسمة القاعدة الآمرة الشائعة بين الناس. فالأخلاق كانت في مبدأ الأمر، تراثا خارجيا، هو «أخلاق آبائنا» بما فيها من طابع شبه ديني، وبالمثل كان علم الجمال ينحصر في قواعد تقليدية، توقيعية وموسيقية، ترتبط هي الأخرى بالطقوس الدينية، وكذلك كان المنطق، الذي كان مرتبطا بالنحو في بدء الأمر، وكان يفرض نفسه بوصفه مجموعة من القواعد التي هي أشبه بالشعائر الموروثة، ومن الإجراءات اللفظية التنظيمية، وقد اتخذت هذه الأوامر الجماعية في الوعي الفردي صورة الحدس، وصورة الذوق الشخصي؛ فالحاسة الخلقية، والضمير الأخلاقي التلقائي الذي يظن نفسه معصوما من الخطأ، يناظره الذوق في الفن، والبداهة في المنطق، إذ إن البداهة نوع من تذوق الحقيقة. ومن الناس من يبدو عليهم أنهم قد فقدوا كل حاسة أخلاقية، كذلك يتمثل لدى بعضهم - في الظاهر على الأقل - فقدان الذوق الجمالي، كما أن هناك، من وجهة النظر المنطقية «عقولا زائفة»؛ بل هناك من هم أدنى من ذلك، أعني المعتوهين والمجانين.
وستتيح لنا هذه الاعتبارات تحديد منهج ذلك العلم المعياري الذي نحن بصدده ها هنا، أعني المنطق، وتمكننا بوجه خاص من أن ندرك أن المنطق ينبغي له أن يتجه من الطابع التلقائي إلى الطابع القائم على التفكير.
المنطق علم وفن في آن واحد
هل هذا الانتقال من الطابع التلقائي إلى الطابع القائم على التفكير غاية في ذاته، أم أنه يمكن العقل من تحسين العمليات التي يقوم بها، قبل كل علم، من أجل بلوغ الحقيقة؟
كان من المسائل التي أثارت الجدل بين المناطقة الأقدمين ومناطقة العصور الوسطى معرفة ما إذا كان المنطق علما أم فنا: أعني هل هو علم بمعنى أنه معرفة نظرية بحتة للتفكير الصحيح، دون أي تطبيق عملي، أم هو فن بمعنى أنه وسيلة عملية لإجادة التفكير؟ فلنقل إن المنطق علم وفن في آن واحد، إذ إنه يصف عمليات العقل ويحكم عليها، ويضفي عليها قيمة تتفاوت في مكانتها، مما يؤدي به ضرورة إلى إصلاح هذه العمليات وتقويمها.
ولقد كان الاسم الحقيقي الذي أطلق على كتاب المنطق المعروف باسم منطق «بور رويال» المنشور في عام 1662م هو «المنطق أو فن التفكير» وهذا الكتاب يتصدره مقال عرض فيه مؤلفاه أرنو ونيكول
Arnauld et Nicole «الهدف من هذا المنطق الجديد»، ويبدأ المقال بهذه الكلمات «ليس ثمة شيء أجدر بالتقدير من الحكم الفطري الصادق، ومن صواب نظرة العقل في إدراكه للحقيقة وللبطلان.» فهما إذن يحكمان بأن المنطق نافع في اكتساب هذه الصفات، وبالمثل نشر ديكارت في 1637م «المقال في المنهج، من أجل إرشاد العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم».
ومن المؤكد أنه لا ينبغي الغلو في تقدير القيمة العملية للمنطق، فلنلاحظ أولا أن المنطق، لما كان يلي سيكولوجية الذهن في مرتبته، فإنه يفترض ثقافة سابقة واسعة، كما يفترض معلومات عديدة، وفضلا عن ذلك، فمن الجائز أن يكون الأعداء الحقيقيون للحقيقة في العقل الإنساني، هم الخمول والأهواء، لا الافتقار إلى التجربة أو إلى البراعة المنطقية.
ورغم ذلك، فليس لنا أن نظن أن المنطق غير مجد في الناحية العملية، وإنما ينبغي أن نقول إن فائدته سلبية على الخصوص. فهو يكشف النقاب عن الاستدلالات الباطلة، بل إنه يحذرنا من عدم كفاية الاستدلالات التي تبدو في ظاهرها غير يقينية فحسب، وهو لا يفيد في الكشف عن الحقيقة بقدر ما يفيد في توقي الخطأ، وبالتالي في تنمية ما يسمى بروح النقد. فهدف «ديكارت» مثلا كان سلبيا على وجه الخصوص؛ إذ كان يرمي إلى أن يقتلع من نفوس معاصريه تعلقهم بالمنطق الشائع في العصر المدرسي.
الفصل الثاني
المنطق
منهج المنطق هو التحليل النقدي القائم على التفكير، وينصب هذا التحليل أولا على اللغة، فيميز فيها بين: (1)
الحدود التي تدل على معان كلية «مجردة» و«عامة» والتي يكون لها مفهوم وماصدق. (2)
القضايا، التي تثبت (أو تنفي) علاقات بين الحدود، والتي تعبر عن أحكام. (3)
الاستدلالات التي تستخلص نتيجة من عدد معين من المقدمات.
مقولات أرسطو و«كانت» هي الصور العامة للفكر في إعداد المعاني الكلية والأحكام. مبادئ «المنطق العام» (أي مبادئ الهوية والتناقض والثالث أو الوسط المرفوع) تسري على كل فكر وكل لغة تزعم لنفسها الاتساق.
غير أن فلسفة العلوم تقدم إلى المنطق منهجا آخر أكثر خصوبة من هذا المنهج بلا شك، وهو التحليل النظري الذي ينصب على العلم عند نشأته، ثم يتطور إلى بحث في المناهج العلمية، ونقد للمعرفة العلمية (أبستمولوجيا) ونظرية للمعرفة.
1
الحقيقة ليس لها معيار
إذا كان المنطق علما معياريا، كانت الحقيقة «معيارا» أي قاعدة أو أنموذجا للكشف عن الحقائق أو التحقق من صدقها.
ولكن هل هناك «معيار
Critere » للحقيقة، أعني علامة تتسم بها القضايا الصحيحة وتتميز بها من القضايا الباطلة؟ وهل يتميز الصحيح من الباطل كما يتميز الأبيض من الأسود؟ لقد تساءل الإغريق عن ذلك قائلين: هل يحمل الحكم الصحيح طابعا مميزا، مماثلا للعلامة التي تطبع على أجساد العبيد، وتمكن من التعرف عليهم إذا ما لاذوا بالفرار؟
لقد حاول فلاسفة العصر اليوناني القديم أن يعرفوا معيار الحقيقة هذا، غير أنهم عجزوا عن الوصول إليه؛ بل لقد اضطروا إلى التسليم أخيرا بأن الفكرة ذاتها ممتنعة، إذ لو وجد مثل هذا المعيار، لما استطعنا أن نتصور إمكان وقوع الناس في الخطأ، وإمكان اختلاف الآراء حول الموضوع الواحد، في حين أنه لو كان ثمة حقيقة، لكان من الجلي أن رأيا واحدا منها هو الصواب . ومن جهة أخرى، فلا شيء يشبه الصواب ، من الوجهة العملية، ولا شيء يبدو أشبه بالحقيقة بالمعنى الحرفي، لهذا اصطلح (في الفرنسية
vraisemblable
وهي كلمة مشتقة من الحقيقة) أكثر من البطلان، فمثلا: لا شيء أقرب إلى الواقع الفعلي من الحلم، ومن المحال، كما بين ديكارت في «التأمل الأول»، أن يعلم المرء علم اليقين بأنه ليس نائما أو أن يبرهن على ذلك برهانا قاطعا، وفضلا عن ذلك، فمن أين يستمد معيار الحقيقة سلطته؟ أهو يستمدها من معيار آخر؟ وما مصدر هذا المعيار الآخر؟ إن مصدره معيار آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. والحق أن الشكاك اليونانيين قد جمعوا حول هذا الموضوع الدليل تلو الدليل، متحدين بذلك «التوكيديين
dogmantiques » (أي أولئك الذين يقولون بوجود معيار أو مقياس) أن يأتوا بدليل يثبت تأكيداتهم: أي أنهم كانوا يقولون للتوكيدي «برهن على برهانك.» فيقع التوكيدي في حيرة لا مخرج منها، إذ إنه: (1) إما أن يقتصر على أن يؤكد في تعسف أن برهانه يصلح في نظره هو، وذاك ما كان الشكاك يسمونه موقف ال
hypothesis
أعني التأكيد الاعتباطي دون برهان. (2) وإما أن يحاول أن يعلو على هذا الموقف، ولكنه سيظل يعلو في هذه الحالة إلى ما لا نهاية له، وبالتالي لن يصل أبدا إلى البرهان المنشود، وذلك هو التسلسل إلى ما لا نهاية له، وإما أن يضطر إلى البرهنة عن طريق نفس الشيء المراد البرهنة عليه، وتلك هي حالة الدور أو
diallèle (البرهنة على شيئين كل منهما بالآخر) ومن ذلك ننتهي إلى أن الحقيقة ليس لها معيار.
غير أن هذا لا يعني أنه ليس ثمة حقيقة، فمنذ آلاف السنين التي ظل الناس خلالها يستدلون ويبرهنون ويتحققون من صدق آرائهم، كان من المحال ألا تظهر خلال ذلك حقيقة ما. وإن العلم ليتقدم على الدوام، وهو يقدم الدليل على حقيقته بما يحرزه من نجاح في كل الميادين.
والذي ينبغي أن نقوله هو أن «الحقيقة هي معيار ذاتها»، وكما قال سبينوزا
2
بحق «... فالحقيقة ليست في حاجة إلى أية علامة ... ويكفي أن تكون لدينا الماهيات الموضوعية أو ما يعادلها من أفكار عن الأشياء، للقضاء على كل شيء.» إن الحقيقة قد ظهرت رويدا رويدا عن طريق تقريبات متتالية، وخلال المحاولات والجهود والتأملات والتعديلات، ثم حصلنا عليها واكتسبناها: وإذن فلنتخذها معيارا في ذاتها.
المنطق يتبع منهج التحليل الفكري النقدي
إذن ليس المنطق وتأكيدا لمعيار خارجي لا حقيقة، وإنما هو تحليلي وفكري، ونقدي. (1)
فهو تحليلي بمعنى أنه إذا اتخذ الحقيقة المعطاة نقطة بدء له، فإنه يرتقي منها الشروط التي جعلت هذه الحقيقة ممكنة. (2)
وهو فكري واع بمعنى أنه يصل بهذه الطريقة إلى «معرفة قدرتنا على المعرفة» كما يقول سبينوزا، فالفكر الواعي هو معرفة الفكر لذاته معرفة إيجابية إرادية، ومن هنا ندرك كيف أن كلمة الفكر الواعي
réflexion
تشتق من اللاتينية
reflectere
التي تعني «الرد إلى الوراء» (أعني أن يرتد المرء بفكره إلى الوراء ليعي المرحلة التي قطعها). (3)
وهو نقدي، بمعنى أنه متى انتهى من تحليل المعرفة والتفكير فيها تفكيرا واضحا، ميز بين ما هو صحيح وما هو باطل على نحو أكثر دقة، وبذلك يستطيع أن يحدد المنهج الذي يفضي إلى المعرفة الحقة، ولقد كان «كانت»
3
هو الذي أدخل كلمة «نقدي» واستعملها في الفلسفة بمعنى التفحص والاختبار المنهجي.
فكرة وجود منطق
يطلق اسم «المنطق العام» على دراسة جميع العمليات العقلية التي تتسم بطابع «مقالي»، أعني أنها تتمثل، أو يمكن أن تبدو، في صورة سلسلة ملفوظة من الأسباب المنطقية، والهدف من هذه الدراسة هو تحديد العمليات الصائبة، والتي تنتهي بالكشف عن الحقيقة، من بين سائر العمليات العقلية.
ولكن من أين نأتي بهذه العمليات؟ أول الطرق التي تطرأ على الأذهان، وأوسعها انتشارا، هي أن تستمد مادة المنطق من اللغة.
ولا جدال في أن اللغة في ذاتها لا توصف بالصدق، وإنما هي تفيد الصواب والخطأ على حد سواء، وهي تحتمل الحقيقة والبطلان معا على قدم المساواة، ولكن لا بد أن اللغة قد اكتسبت - منذ أن وضعتها البشرية وتوارثتها وكملتها - قدرة تتيح لنا إيضاح الحقيقة وعرضها لا الكشف عنها. فالقضية التي تذكر على حدة لن تنطوي بحسب صورتها وحدها على شيء ينبئنا إذا كانت صادقة أم كاذبة، فقد يقول المرء في دياجير الظلام «النهار طلع». فاللغة تسمح بوقوع الخطأ، وهي عطية الكذب، ولكن وسائل الربط بين أجزاء اللغة كفيلة بأن تكشف عن العمل الذي يمهد للوصول إلى الحقيقة. فإذا قلت مثلا: «نحن في شهر أبريل، والساعة التاسعة صباحا، إذن فالنهار طالع.» كانت العلاقة بين هذه القضايا، وخاصة بين القضيتين الأوليين اللتين تجمع بينهما واو العطف، وبين الثالثة، التي تستهل بالحرف «إذن»؛ نقول: كانت هذه العلاقة ذات دلالة كبرى. فمجموع القضايا الثلاث يكون ما يسمى بالاستدلال. والاستدلال هو الطريقة المثلى للوصول إلى الحقيقة أو لتوقي الخطأ. فالذي يهمني في مجموعة القضايا التي ضربنا بها هذا المثل، ليس القضايا ذاتها وإنما هو العملية التي تنتج بها الثالثة من الأوليين.
ودراسة هذه العملية لا تكشف لي عن حقيقة القضية، وإنما تكشف لي عن الطريقة التي نقرر بها حقيقة إحدى القضايا.
المنطق العام، فلسفة النحو (التراكيب اللغوية):
ولنقل بعبارة أخرى، إنه من الممكن جدا أن يبدو المنطق كما لو كان تحليلا واعيا للنحو، لا لذلك الجزء من النحو المسمى بدراسة المفردات والأشكال اللغوية (وإن تكن لمعرفة الأشكال بعض الأهمية في دراسة ظاهرة تعدد معاني الألفاظ وعلاقتها بنهاية الكلمات ... إلخ، وهي الدراسة التي تكشف عن علاقات، ومن ثم تحدد على الأقل معالم الطريق الذي نصل به إلى الحقيقة)، بل للجزء الآخر المسمى ب «التركيب اللغوي» فيكون المنطق العام أولا فلسفة للتركيب اللغوي “phil. de la syntaxe”
وبحثا في التركيبات التي تعبر عن عملية التحقق من صحة المعنى، وهو، على الأخص، بحث في الكلمات التي تحدد المراحل الرئيسية لهذه العملية مثل: واو العطف، أو، إذن، لأن، رغم أن ... إلخ، فالمنطق العام هو أولا تحليل واع، يتعلق بأدوات العطف التي تفيد الارتباط والتبعية.
وفضلا عن ذلك، فإن كلمة «لوجوس» التي اشتق منها اسم المنطق في اليونانية، تعبر أصلا عن اللغة، وعن الجزء الإيجابي منها بوجه خاص، أي عن الجزء الذي يقننه التركيب اللغوي على هيئة قواعد ، ومن هنا جاءت المعاني المشتقة من هذا اللفظ القديم: كالاستدلال، والصلة، والحساب، والمنهج، والعلم.
التركيب اللغوي والديالكتيك:
يمكننا أن نصل إلى نتيجة أفضل من هذه، لو درسنا اللغة وهي في غمرة أدائها لوظيفتها وفي أوج مرحلة البحث، أعني إذا صرفنا النظر عن التفكير في النحو الخاص باللغة العلمية المتداولة، التي تهتم بالسلوك العلمي أكثر مما تهتم بالصواب، وبالفعالية العملية أكثر من القيمة العقلية، لكي نفحص لغة البرهان والمحاجة والتفنيد، أي ما كان يطلق اليونانيون عليه اسم الديالكتيك (Dialectique) : وهذه الكلمة تدل على نوع خاص من الحوار (dialogue)
وهو حوار عارف يقظ، يعمل فيه المتحاوران سويا من أجل التمهيد للكشف عن حقيقة يكون اتفاقهما عليها ضمانا لقيمتها، ولقد كان سقراط هو الذي وضع «أسس» المنهج الديالكتيكي في القرن الخامس قبل الميلاد، كما أن المنهج الديالكتيكي كان هو ذاته المنهج المتبع في محاورات تلميذه أفلاطون (القرن الرابع) ثم حاول أرسطو، وهو تلميذ أفلاطون، أن يستخلص قواعده، في نفس الوقت الذي حاول فيه أن يحلل أعم عمليات اللغة المتداولة وأكثرها شيوعا.
تحليل اللغة المتداولة يؤدي إلى الحدود التي تعبر عن تصورات
إذا ما مضينا في تحليل اللغة المتداولة شوطا بعيدا، فإننا لا ننتهي في آخر الأمر، إلى «كلمات» بالمعنى الصحيح، بل إلى ما يسمى بالحدود
termes
أي إلى كلمات لا تعبر عن علاقات، وإنما عن حقائق ذهنية يمكن أن تقوم بينها العلاقات فيما بعد، ومن الممكن أن يقال عنها في ذاتها إنها خالية من التضمن كما قال أرسطو. ففي الجملة «القلم أسود» أو «القلم يكتب» تكون الكلمات «قلم، أسود، ويكتب» حدودا.
والحد العام يعبر عن تصور، وكلمة التصور (أو المفهوم) تطلق على تمثل مجرد عام، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أنه يشتمل على عدد معين من الصفات المستخلصة (أو المجردة) من تمثل (يقال عنه تبعا لذلك إنه أكثر عينية) والمشتركة بين عدة أفراد لفئة واحدة أو جنس واحد (عام) فتصور «القلم» مثلا يشتمل على صفات (كونه مصنوعا من مادة «البلاستيك» مثلا، ومنتهيا بريشة ثابتة. ومشتملا على مستودع للحبر) وهذه الصفات مستخلصة من أقلام الحبر التي رأيتها، ومن جهة أخرى، فهو يمثل فئة من الأشياء تشترك في هذه الصفات، ويطلق اسم «مفهوم التصور
Comprehension ou connotation » على مجموع الصفات التي يجمع (
connote ) بينها التصور. أما «ماصدق التصور (
extension )» فهو مجموع الأفراد الذين «يصدق عليهم». والتصور علاقة بين ماصدق ومفهوم. فهو إذن ينطوي في ذاته على إثبات ضمني، ما دام يثبت أن الماصدق مطابق للمفهوم، أي أن «الأقلام أقلام» وهو حكم يشير الموضوع فيه إلى المفهوم، أي إلى مجموع الصفات: فأفراد فئة القلم تطابقها صفات كونها مصنوعة من مادة «البلاستيك» ولها ريشة ثابتة ... إلخ.
وماصدق الحد ومفهومه لا يستقل كل منهما عن الآخر، فإذا ما توسعنا في الماصدق، أي زدنا الفئة، اضطررنا إلى محو بعض الصفات، ما دامت كل صفة تعد شرطا لدخول فرد في ماصدق التصور. كما أن زيادة المفهوم قد تدفعنا - لهذا السبب نفسه - إلى إنقاص الماصدق. فإذا أردت زيادة ماصدق تصور «الثدييات» حتى يشمل «الفقريات» كان من الضروري أن يفقد صفات: الولادة، وإرضاع الصغار، ووجود جهاز شعر جلدي، وهي الصفات التي لا تنطبق على كل الفقريات. أما إذا أردنا التوسع في صفات تصور الثدييات، كوجود الأسنان مثلا، فإن الثدييات تقتصر عندئذ على أكلة اللحوم، أو أكلة العشب أو الحيوانات القارضة.
أرسطو يطلق اسم المقولات على أجناس الوجود
إذا نظرنا إلى التصور من حيث مفهومه، وجدنا أنه يمكن أن يكون موضوعا لعدد كبير من الأحكام التي تحمل عليه صفات؛ فالقلم أسود والقلم عتيق ... إلخ. وكل حكم من هذه الأحكام يحدد الموضوع من وجهة نظر مختلفة. ولقد كانت وجهات النظر هذه هي التي سماها أرسطو ب «المقولات». وهو يسميها بأجناس الوجود، أي الضروب المختلفة التي يمكن أن يوجد عليها شيء ما، أو بعبارة أخرى، أحوال الحمل المنطقي (
attribution ).
وهو يميز من هذه المقولات عشرا، لا يحتاج المرء إلى تفكير طويل ليدرك أنه استخلصها من النحو المتداول. والمقولة الأولى هي الجوهر أو الماهية (سقراط «إنسان») وهي تناظر الاسم في النحو، والثانية هي الكم (طوله ذراعان ) وهي تناظر النعت العددي، والثالثة هي الكيف (أبيض) التي تناظر النعت الكيفي، والرابعة هي الإضافة (ضعف، نصف، أكبر من) وتناظر أفعل التفضيل، والخامسة هي المكان أو الأين (في المدرسة، أو في الميدان) وتناظر ظرف المكان، والسادسة هي الزمان أو المتى (أمس، فيما مضى)، وتناظر ظرف الزمان، والسابعة هي الوضع (جالس، مضجع) وتناظر الصفة أو اسم المفعول، والثامنة الملك (حذاؤه أو رداؤه) وتناظر المضاف إليه، والتاسعة والعاشرة هما الفعل والانفعال (هو يقطع، ويقطع) وتناظران الفعل المبني للمعلوم والمبني للمجهول.
الحكم يحدد معنى القضية
يؤلف بين الحدود على هيئة قضايا، وتطلق كلمة الحكم على التأكيد، الموجب أو السالب، الذي يثبت أو ينفي علاقة بين حدين، وبالحكم يصبح للقضية معنى.
ويطلق اسم الرابطة
Copule
على الكلمة التي تعبر عن العلاقة بين الحدين، وهذه العلاقة قد تكون على أنواع متباينة، وإن كان المنطق التقليدي قد ردها كلها إلى علاقة التضمن التي هي علاقة الموضوع بالصفة أو بالمحمول
prédicat . وفي هذه الحالة تكون الرابطة هي دائما فعل الكينونة.
4
وعلى ذلك فالحكم في نظر المنطق التقليدي ينحصر في إثبات محمول لموضوع، أو نفي إمكان نسبة هذا المحمول إلى الموضوع. على أن وجهة النظر هذه ضيقة إلى حد بعيد، ولذا عمل المنطق الحديث، الذي امتد فأصبح منطقا رمزيا
logistique
على توسيعها إلى حد غير قليل.
ولكن حتى لو ظل المرء ملتزما حدود المنطق التقليدي، فسيضطر إلى التمييز بين عدد من الطرق المختلفة التي يمكن أن تقرر بها علاقة التضمن. وسوف نسترشد هنا بقائمة الأحكام التي عرضها كانت في «نقد العقل الخالص».
5
فمن الممكن أن ينظر إلى الأحكام على أربعة أنحاء مختلفة، وفي داخل كل نحو من هذه الأنحاء يمكننا أن نميز بين ثلاثة أنواع مختلفة، فيكون المجموع اثني عشر نوعا من الحكم، والأنواع الثلاثة المندرجة تحت كل قسم مرتبة فيما بينها بحيث أن الثالث منها يوفق بين تعارض الأول والثاني، ويستبقي شيئا من كل منهما، مما يؤدي إلى تكوين الثلاثي المشهور: القول، ونقيضه، والمركب من القول ونقيضه. (1)
فمن حيث الكم
quantité
تنقسم الأحكام إلى كلية
universels
أو جزئية
paraculier . ففي النوع الأول ينصب الحكم على جميع ماصدقات الموضوع (كل إنسان فان) وفي الثاني على جزء منه فحسب، هو فضلا عن ذلك جزء غير محدد (بعض الناس أذكياء، يوجد أناس أذكياء). والمركب من الكلي والجزئي هو المخصوص
Singulier
ولا يكون فيه للموضوع «ماصدق» وإنما يكون فردا (سقراط إنسان)، بحيث يمكن في هذه الحالة أن نستخدمه في الاستدلال كما لو كان حدا جامعا ينظر إلى جميع ماصدقاته. (2)
ومن حيث الكيف (
qualite ) تنقسم الأحكام إلى موجبة
affirmatifs
وسالبة
negatifs . ولكن (كانت) يضيف نوعا ثالثا، يسميه ب «اللامحدد
indéfini » ويكون مركبا من الموجب والسالب، إذ إن هذا النوع موجب بحكم رابطته، سالب في محموله ومثاله: «النفس لا فانية»، أي أن النفس تندرج تحت ذلك النوع «اللامحدد» من الكائنات التي ليست فانية. (3)
ومن حيث الإضافة
relation
قد تكون الأحكام حملية، أو شرطية، أو انفصالية. فالحكم الحملي هو حكم بسيط تربط فيه العلاقة التي يثبتها (أو ينفيها) بين الموضوع والمحمول، أما الحكم الشرطي فهو حكم مركب يؤكد وجود علاقة بين حكمين يكون أحدهما المبدأ أو الشرط، والثاني نتيجة له، ومثال ذلك «إذا انخفض مقياس الضغط الجوي فسوف يسقط المطر» وأما الأحكام الانفصالية فهي عدة بدائل تثبت بها أن عددا معينا من الأحكام يستبعد كل منها الآخر، ولكنها تؤلف جميعها المجموع الكلي لمعرفة ممكنة، ومثال ذلك «يوجد العالم إما بمحض الصدفة، أو بفضل ضرورة داخلية أو نتيجة لعلة خارجية.» (4)
أما جهة الحكم
modalité
فهي الطريقة التي يرتبط بها الحكم بالذهن في مجموعه، أو إن شئت فقل هي الطريقة التي تربط الحكم بالتفكير، أو درجة اليقين التي يحدد بها الفكر مرتبة الحكم، وتعبر عنها عبارات: بالتأكيد، بلا شك، ربما، بالضرورة.
فالأحكام التي تكتفي بإقرار حقيقة، هي أحكام تقريرية
assertoriques
أما تلك التي تعبر عن إمكان فهي احتمالية
problématique ؛ فالأحكام الشرطية والانفصالية تجمع بين قضايا احتمالية، إذ إن الحكم «إذا انخفض مقياس الضغط الجوي سقط المطر» ينقسم إلى: من الممكن أن ينخفض مقياس الضغط، ومن الممكن تبعا لذلك أن يسقط المطر . كذلك الحال في قولنا: العالم ربما كان يوجد بفعل صدفة عمياء، أو بفعل ضرورة خارجية ... إلخ. والنوع الثالث من أحكام الموجهات يشتمل على الأحكام الضرورية
apodictiques
التي تعبر عن ضرورة، مثل: مجموع زوايا المثلث هو بالضرورة قائمتان، والحكم الضروري هو المركب الذي يجمع بين الحقيقة والإمكان، إذ إنه يؤكد أن الحقيقة التي يقول بها هي الوحيدة «الممكنة» أو أن القضية التي تناقضها باطلة لأنها «غير ممكنة». «كانت» ينظر إلى المقولات على أنها تعبر عن الوظائف الأساسية للتفكير
أراد «كانت» أن يتوج المنطق بقائمة للمقولات على غرار ما فعل أرسطو من قبل. غير أن مقولاته، وإن كان بعضها مماثلا لمقولات أخرى عند أرسطو، ليست لها نفس دلالة المقولات الأرسطوطاليسية. بل إن بين الفلسفتين فارقا أساسيا في وجهة النظر: ذلك لأن الانقلاب الذي أحدثه «كانت»، والذي كان استمرارا لتفكير «ديكارت»، قد أحل المثالية الحديثة محل واقعية الفلسفة القديمة. (1) واقعية أرسطو والمثالية الحديثة
قلنا إن أرسطو قد نظر إلى المقولات على أنها «أجناس الوجود» فواقعيته في إخضاع التمثل الذهني للوجود، والحقيقة للواقع ... وإذا ما ووجه الواقعي بالسؤال «فيم تكون حقيقة هذا الحكم؟» كان جوابه «في مطابقته للواقع». غير أن هذه الإجابة، التي هي التعريف الواقعي للحقيقة، تنطوي على دور منطقي (
diallèle )،
6
إذ كيف يعلم المرء أن هذا الحكم مطابق للواقع، إن لم يكن عن طريق التمثلات الذهنية أيضا؟ إن الفيلسوف الواقعي يحيلنا من التمثل إلى الواقع، ولكن لكي نعرف الواقع، ينبغي له أن يحيلنا من الواقع إلى التمثل، وهنا يظهر الدور بوضوح. هذا إلى أننا متى أردنا أن نعرف إن كان الحكم صادقا أم لا، فإننا لا نرجع أبدا إلى الواقع: فمثل هذا الرجوع خداع، ما دام المرء لن يهتدي على الدوام إلا إلى تمثلات ذهنية، وإنما يبحث المرء عن تمثلات مختلفة عن تلك التي بني الحكم على أساسها أولا، تتقاطع معها، وتؤدي إلى تكوين طائفة من الأدلة. أي أن الذهن يتجه في سعيه إلى الحقيقية، إلى بناء سلسلة من البراهين، ولا يعود مطلقا إلى الواقع، فعندما يقوم المرء بتحقيق قضائي، لكي يهتدي إلى المجرم مثلا، فإنه لا يسعى إلى الوصول إلى الجريمة كما وقعت حقيقة، إذ إن هذا الواقع قد اختفى على أية حال، وإن كان أحد أدركه، فما ذلك إلا عن طريق التمثل الذهني. ذلك لأن عناصر التحقيق «أدلة» مادية أو «أقوال الشهود» فإذا ما اعترف المتهم، لم يكن في ذلك نهاية التحقيق، بل يبدأ ثانية وقد أضيف إليه عنصر جديد، وهو شهادة المتهم، وهي شهادة لها قيمتها الكبرى، غير أنها لا تكفي، إذ إن أحدا لا يعلم السبب الذي دعاه إلى الاعتراف، ولا يعرف إذا كان اعترافه صادقا: فربما لم يكن مذنبا، «واعترف» بدافع اليأس أو الإعياء، وهذا ما يعمل التحقيق على التثبت منه. فالبحث عن الحقيقة لا ينحصر في الاتصال المباشر بالواقع، وإنما في الجمع بين التمثلات والتحقق من صدق كل منها بوساطة التمثلات الأخرى. فالحقيقة هي ثمرة التحقق. (2) المنطق: علم التحقق من الصدق، وعلم البرهان
إذن فليس المنطق علما للوجود، وإنما هو علم للتحقيق والبرهان، وذلك ما سيتبين لنا بمزيد من الوضوح بعد دراستنا لفلسفة العلوم.
لكن في هذه الحالة لا تكون مقولات المنطق «أنماطا للوجود»، وإنما هي أحوال الحمل المنطقي فحسب. فالوجود أمر يقرره الحكم، وما كان يظن «أنماطا للوجود» ليس إلا أنماطا للتفكير الذي ينطوي عليه الحكم، أو هو بعبارة أخرى وظائف التفكير التي تنطوي عليها عملية الحكم.
وتلك هي مقولات «كانت». وسوف يمكننا تصنيف الأحكام من استنباطها، إذ إن كل فئة للحكم تناظرها وظيفة إجرائية للتفكير الذي يحكم.
وعلى ذلك، تكون لدينا اثنتا عشرة مقولة، أربع رئيسية، تنطوي كل منها على ثلاث مقولات فرعية. ولقد عرفنا من قبل الأربع الرئيسية، وهي الكم والكيف والإضافة والجهة. ولنلاحظ أن الثلاث الأولى منها أرسطوطاليسية وهي تقابل الكم والكيف والإضافة، ولكنها تكتسب هنا معنى جديدا، أما الجهة فلم يكن أرسطو يجهلها؛ بل لقد أوضح بجلاء الفارق المنطقي بين القضايا التقريرية والضرورية والاحتمالية.
والمقولات الفرعية للكم هي «الوحدة، والكثرة، والكلية
totalité » ومن الجلي أن الثالثة هي المركب من الأوليين، إذ إن الكلية هي وحدة الكثرة، فالرقم 3 هو وحدة الكثرة 3 × 1، إذ إن 1 × 3 = 3 × 1 (3 مضروبة في 1 هي 1 مضروب في 3).
والمقولات الفرعية للكيف هي الواقعية
realité
والسلبية
négation
والتحديد
limitation
وهنا أيضا تكون الثالثة مركبا من الأوليين؛ فالتحديد هو الواقعية محددة و«محاطة» بالسلب.
والمقولات الفرعية للإضافة هي: الجوهر، والعلية، والمشاركة (التأثير المتبادل بين حقيقتين مقترنتين). ذلك بأن الحكم الحملي الذي يفيد التضمن يؤكد أن صفة ما يجب أن تحمل على موضوع، يكون عندئذ جوهرا لها، والحكم الشرطي يفيد وجود علاقة بين علة ومعلول (في المثال السابق يكون انخفاض مقياس الضغط علامة على حالة جوية تسبب المطر) والحكم الانفصالي يقرر بين عدد معين من الأحكام علاقة تزامن
simultanéité
ومساواة، واستبعاد متبادل.
والإضافة هي أهم المقولات، وهي التي أوحت إلى «كانت» بأكثر المشاكل تعقيدا وخصبا. وسنعود إلى الكلام عنها في موضع آخر.
7
والمشاركة (أو التأثير المتبادل) هي المركب من الجوهر والعلية، لأنها العلية المتبادلة بين جوهرين يؤثر كل منهما في الآخر.
أما المقولات الفرعية للجهة فهي «الإمكان»
possibilité (وضده الاستحالة) والوجود
existence (وضده اللاوجود) والضرورة
nécessité (وضدها العرضية
contingence ) والضرورة هي المركب من الوجود والإمكان، إذ إن ما هو ضروري هو ما لا يحتاج إلا إلى أن يكون ممكنا لكي يوجد، ولقد تحدث ليبنتز عن الله بهذه العبارة الرائعة المستوحاة من فكرة الجهة فقال: «إن الموجود الضروري يوجد إذا كان ممكنا.»
بعد كانت، أكمل هاملان قائمة المقولات
كانت قائمة المقولات عند «كانت» نقطة بداية قوائم أخرى، نسبتها إلى قائمة كانت هي نفس هذه القائمة إلى قائمة أرسطو. فلنعط فكرة موجزة عن قائمة هاملان،
8
التي كانت موضوعا لبحثه في كتاب «دراسة العناصر الرئيسية في التمثل».
Essai sur les élémenls principaux de la représentation.
في هذا الكتاب تطلع هاملان إلى بناء سلسلة المقولات كلها عن طريق العملية الثلاثية التي سار عليها كانت، وهي: الوضع، ونقيضه، والمركب من الوضع ونقيضه. (1) الإضافة، والعدد، والزمان
إن نقطة البداية هي مقولة الإضافة، إذ إن كل تفكير إنما ينحصر في تقرير صلة أو علاقة بين حدود متفرقة، والتفكير ربط؛ فالعالم في نظر الفكر «سلسلة متدرجة من العلاقات» ولا شيء منعزل فيه على الإطلاق، بل إن الأضداد إنما هي متضايفات، إذ إن كلا منها يستبعد الآخر، وذلك، في الحق، نوع من التبعية المتبادلة. فالإضافة إذن هي المقولة الأولى، ونقيض الإضافة هو العدد؛ فالعدد مكون من وحدات، على أن الوحدات لا يمكن تقريرها، بوصفها وحدات، إلا إذا تصورناها متفرقة على نحو ما. فعندما يقال عن أشياء إنها «اثنان» مثلا، يكون معنى ذلك أن لكل منها وجودا مستقلا يكون على نحو ما، عالما لا سبيل للثاني إليه. وهكذا تكون لدينا مقولتان متضادتان: الإضافة والعدد، فماذا يكون المركب منهما؟ لا بد أن يكون مقولة تستبقي من العدد قانون التشتت، والاستبعاد المتبادل الذي يفرق بين الوحدات، ومع ذلك تبقي على علاقة بينها. وذلك هو الزمان، إذ إن لحظات الزمان تفر كل منها من الأخرى، إلى حد أن كل لحظة تلقي - في حينها - بالأخريات في هوة العدم، التي يمثلها الماضي. ومع ذلك فإن لحظات الزمان تظل مرتبطة. ذلك لأن الماضي، وإن لم يعد له وجود، فهو على الرغم من ذلك يتحكم في الحاضر، الذي يحتفظ منه بأثر في الذاكرة. تلك إذن هي المجموعة الثلاثية الأولى: الإضافة والعدد والزمان وهي المجموعة التي تكونت بناء على طريقة «كانت». (2) الزمان والمكان والحركة
المقولة المقابلة للزمان هي - بطبيعة الحال - المكان. هذا إلى أن اللغة ذاتها تؤكد ثنائية الزمان والمكان، وليس من الصعب أن ندرك فيم يتضادان؛ فالزمان ينصرم والمكان باق، ويحفظ أجزاءه المختلفة معا كما لو كانت «متزامنة»، والزمان يكون سلسلة وحيدة، وليس له - كما قيل عنه - سوى بعد واحد، بحيث أنه إذا لم تتعاقب الحادثتان في الزمان، أعني إذا لم تكن إحداهما سابقة على الأخرى ولا لاحقة بها، كانتا مقترنتين في الزمن، وتنطبق إحداهما على الأخرى من الوجهة الزمانية. أما في المكان فمن الممكن ألا تتطابق الأشياء وذلك بصور مختلفة (أي بثلاث طرق، ما دام للمكان ثلاثة «أبعاد») وإذن فهناك تضاد بين المكان والزمان، ولكن يوجد بينهما، رغم ذلك، خصائص مشتركة تسمح بتكوين مركب بينهما؛ فهما متجانسان ومتصلان، والمركب منهما هو الحركة؛ فالحركة هي تغيير الموقع في المكان خلال الزمان، وهي بدورها متجانسة ومتصلة، شأنها في ذلك شأن المقولتين اللتين تكونت منهما. فالمجموعة الثلاثية الثانية هي إذن: الزمان، والمكان، والحركة. (3) الحركة، والكيف، والاستحالة
9
تستبقي الحركة من الفكرتين اللتين ولدتاها، صفة كونها «مركبة» أعني أن أجزاءها لا يمكن أن تتحد إلا مع تجاورها وبقائها متميزة، ولذا كان هناك علم رياضي خاص للحركة، كما أن هناك علما رياضيا خاصا للمكان وللزمان. فسرعة الحركة يمكن أن يقال عنها أنها مجموع سرعات متعددة أصغر منها، تدرك فيها بوضوح؛ فالجسم المتحرك الذي يتنقل بمعدل 10 أمتار في الثانية، يصبح في نهاية هذه الثانية عند طرف خط يمكن أن يميز فيه خطان كل منهما 5 أمتار مثلا، ويمثل كل منهما سرعة حركتين تبلغ كل منهما هذه الحركة في البطء، تلك إذن هي صفة «التركيب» في الحركة، ومقابل المركب هو «البسيط»، والبسيط هو ما لا يتركب من أجزاء يمكن تمييزها، ومن ثم كان بأسره في كل من أجزائه، فالشيء الأبيض يكون بياضه في المليمتر المربع منه معادلا لبياضه في المتر المربع، وذلك ما يعبر عنه القول إن الأبيض «كيف» فنقيض الحركة هو «الكيف»، والمركب منهما هو تحرك الكيف أو تغيره، الذي يطلق عليه «هاملان» اسما أرسطوطاليا هو الاستحالة (كالابيضاض والاحمرار والاستدفاء والتصلب). تلك هي إذن المجموعة الثلاثية الثالثة: الحركة، الكيف، الاستحالة. (4) الاستحالة، النوعية، العلية
نستطيع أن نهتدي إلى نقيض الاستحالة إذا تصورنا عالما تسوده استحالة دائمة لا يقابلها شيء، مثل هذا العالم تتغير كيفياته بلا انقطاع، دون أن يتمكن المرء من أن يميز فيها شيئا ثابتا، وفي مقابل ذلك، يتمثل الثبات في عالم ترتبط كيفياته بعضها ببعض على نحو تكون معه إحداها شرطا في كيفيات أخرى تندرج تحتها، وذلك هو اندراج الأنواع تحت الجنس، وهذا ما سماه «هاملان» بالنوعية، وهو النقيض الثابت للاستحالة الدائمة التغير، وهو أيضا أساس التصنيف، أما المركب من الاستحالة والنوعية، فهو العلية: والواقع أن العلاقة بين العلة والمعلول هي في آن واحد علاقة تغير وثبات، إذ إن سلسلة العلل والمعولات هي تيار لا ينقطع، ومع ذلك فإن هذا التيار تنظمه قوانين لا تتبدل. فالمجموعة الثلاثية الرابعة إذن هي الاستحالة، والنوعية، والعلية. (5) العلية، والغائية، والشخصية:
وطبيعي أن نقيض العلة هو الغائية. ففهم ظاهرة عن طريق علتها، هو تفسير لها من خلال الظاهرة التي تسبقها، والتي هي سببها. أما فهمها عن طريق غايتها وهدفها، فهو البحث عن سببها في النتيجة التي ستتلوها، والتي تتجه هي إليها. وعلى ذلك ففي وسعنا أن نقول، في نفس الآن، إن البلورية تظهر في العين نتيجة لنمو نسيج معين فيها - وذلك هو التفسير بالعلة - أو أنها تظهر للتمكين من الرؤية، وذلك هو التفسير بالغاية.
والمركب من العلية والغائية هو الشخصية، إذ إن الشخص علة تعمل على تحقيق غاية، وتضع لنفسها غايات معينة. والمجموعة الثلاثية الرابعة، وهي: العلية والغائية والشخصية، هي الأخيرة، إذ إنها تنتهي إلى القيمة العليا، أي إلى قيمة الكائن الذي هو غاية لذاته وللآخرين، دون أن يجوز له أن يكون وسيلة على الإطلاق، وفضلا عن ذلك فالشخصية هي الشعور الذي يقرر العلاقات ويتفهمها وبهذا تقفل الدائرة.
الاستدلال، أي تنظيم القضايا بحيث تؤدي إلى إيجاد نتيجة
تنظم القضايا في اللغة على صورة «جمل»، وكثيرا ما يتفق للجمل أن تعبر عن أحكام معقدة، فمن الممكن مثلا أن تعبر جملة في مجموعها عن حكم شرطي أو حكم انفصالي، وفي أحوال أخرى تعدل القضايا التابعة معنى القضية الرئيسية بفروق طفيفة، بحيث تعبر الجملة كلها عن معنى حلمي واحد، وعلى خلاف ذلك قد يحدث أن تبين القضية الرئيسية أن التابعة هي محض إمكان، أو أنها بعكس ذلك ضرورة، بحيث يكون المجموع حكما احتماليا أو ضروريا.
غير أن تنظيم الجملة يكون في أحوال أخرى مختلفا تمام الاختلاف. ويمكن أن يقال بوجه عام أن الجملة إذا كانت تبدأ بكلمة «بما أن» أو بغيرها من الكلمات التي تنبئ بأننا سوف نقدم أسبابا، فإن القضايا التابعة تولد القضية الرئيسية ، وتكون هي المكونات التي تنتج عنها هذه القضية الرئيسية. وعندئذ لن تعبر الجملة عن حكم مركب بل عن استدلال.
والاستدلال اسم يطلق على تنظيم منطقي يتألف من أحكام مكونة تولد حكما ناتجا، ويسمى هذا الحكم الأخير «بالنتيجة» والمكونات «بالمقدمات» فإذا قلت مثلا: «بما أن سقراط إنسان فهو فان» تكون القضية الأولى هي المقدمة، والثانية نتيجة، غير أن اللغة فيها معنى التقدير والحذف في معظم الأحوال، وهي تنطوي على قدر غير قليل من المعاني الضمنية، فهنا توجد مقدمة أخرى ضمنية هي: وكل إنسان فان.
المبادئ العامة للمنطق الاستدلالي
لن نتحدث هنا عن المنطق الاستدلالي، إذ يبدو من المستحسن في رأينا أن نستخلصه من المناهج العلمية، وإنما سنقتصر على بيان مبادئه العامة، أعني القواعد التي ينبغي أن يلتزمها التفكير في استدلاله حتى يتجنب كل خطأ.
هذه المبادئ ثلاثة: أولها يضع القاعدة العامة التي يلتزمها الإثبات والآخران يضعان قواعد النفي وتلك هي: مبدأ الهوية، ومبدأ التناقض ومبدأ الثالث أو الوسط المرفوع. (1)
مبدأ الهوية، وصيغته: أ هي أ أو أ تكون أ. ولكن لكي نفهم هذه الصيغة المقتضبة، ينبغي علينا أن نفسر الرمز أ وكلمة «هي» أو «فعل الكينونة» تفسيرا صحيحا، إذ إن المبدأ قد أثار عددا لا نهاية له من التفسيرات الباطلة، وأقدم هذه التفسيرات ينحصر في اعتقاد أن أ تشير إلى «شيء» وأن فعل الكون يفيد وجوده، لكن نظرا لأن طبيعة الزمان ليست موضحة في هذه الصيغة، فإن ذلك يوحي بتفسير المبدأ على أنه «كل ما يوجد أزلي». مما يستتبع أن يكون القلم والمنضدة أزليين - وهو محال - أو يكون القلم والمنضدة غير موجودين ما داما ليسا بأزليين.
ولكن ما قيمة كل ما ليس بأزلي؟
ومع ذلك، فعلى هذا النحو فهم الإيليون (مدرسة للفلسفة اليونانية في القرن الخامس ق.م.) مبدأ الهوية، وانتهوا من ذلك إلى أن الوجود أزلي ثابت، وأن المتغير، والذي يخضع للزمان هو «لا وجود» - وذلك في الحق موقف فلسفي لا يمكن التمسك به.
وإذن فالرمز أ لا يعني «شيئا ». أ يدل على فكرتنا على شيء، عندئذ يكون معنى المبدأ هو «أن فكرة الشيء هي فكرة ذلك الشيء» وفي هذه الحالة لا يكون للمبدأ معنى؛ بل قد يكون عائقا للفكر، إذ إنه يبدو معبرا عن نهي؛ فهو ينهانا عن أن نقول عن فكرة الشيء سوى فكرة هذا الشيء فينهانا مثلا عن أن نقول عن القلم إنه أسود. وبعبارة أخرى، فهو ينهى عن إصدار أي حكم يكون المحمول فيه مخالفا للموضوع، ولنلاحظ أن هذا هو تفسير مدرسة يونانية أخرى، هي المدرسة الميغارية، تلامذة سقراط، الذين كانوا يمثلون نوعا من الشكاك ويدعون إلى الامتناع عن الحكم.
ولكي نتخلص من هذا التفسير الباطل بدوره، علينا أن نفهم أ بمعنى قضية، أو إثبات كامل، مثل «أكتب هذه السطور في 25 أبريل سنة 1942م في الساعة التاسعة صباحا». فيكون معنى فعل الكينونة في «أ هي (تكون) أ» هو أن القضية، بكل ما ورد فيها من شروط، صحيحة على مر الزمان. فسوف يكون من الصحيح دائما أني كنت أكتب هذه السطور في ... إلخ، وبعبارة أخرى فالقضية الصحيحة تكون صحيحة أبدا، وهذا يستتبع القول بأن كل القضايا التي سوف أصرح بها فيما بعد يجب أن تتفق معها، أو تنتج عنها. فمبدأ الهوية إذن يفرض على العقل الاتفاق المطلق مع ذاته، وهو كفيل بأن يجعلنا نقول (عند الحاجة) إن القضية تستتبع نتائجها، إذ لن تكون هذه النتائج سوى القضية ذاتها وقد حددت بصيغ مختلفة.
وعلينا أن نلح في تأكيد الشطر الثاني من هذا القول: فنتيجة القضية هي القضية ذاتها، ولكن في صورة أخرى، أي في صورة جزئية مثلا. فإذا قلت: كل إنسان فان، فينبغي لي أن أستنتج منها أن «كل واحد من أفراد الإنسان» فان (وهذا ما يسمى باستدلال التداخل)، وذلك عن طريق تفكيك الحد «كل إنسان» إلى أجزائه «جميع أفراد الإنسان».
وقد يقال إن هذا أمر ليست له سوى أهمية ضئيلة، وإن مثل هذا الاستدلال لا يكون، في نهاية الأمر، سوى ذلك الشيء نفسه مرتين (أي ما يسمى بتحصيل الحاصل)
10
وهذا صحيح، غير أنه قد يكون من المهم أن نزيد إيضاح جزء من القضية كان قبل ذلك كامنا، وغير شعوري - وغالبا ما تكون عملية الاستدلال عملية إيضاح.
وفضلا عن ذلك، فمن المفيد أن نستخلص النتائج إن كانت تترتب على «عدة» قضايا متشابكة، كما هي الحال في الرياضيات، فعندما يكون المثلث قائم الزاوية، فإن القضايا المتعلقة به تترتب على صفاته باعتبار أنه مثلث، وأنه قائم الزاوية. (2)
مبدأ التناقض «أ ليست لا أ». والملاحظة التي قلناها في المبدأ السابق بشأن معنى أ تسري على هذا المبدأ أيضا: أما «لا أ» فتعني نفي القضية أ أو، كما يقال «نقيض» أ، مثل «ليس من الصحيح أنني أكتب ... إلخ.» ويميز المناطقة بين المتنافسين والضدين، فبينما يكون النقيض نفيا للقضية، يكون الضد مقابلها. فإذا قلت «كل إنسان فان» كان نقيضها هو «ليس صحيحا أن كل إنسان فان» ومن هذا ينتج أنه «ليس بعض الناس فانين» بينما الضد هو «لا إنسان فان».
فمبدأ التناقض يعني أن النقيضين لا يصدقان معا، وبعبارة أخرى، إذا أثبتنا قضية لا يمكننا أن ننفيها في الوقت نفسه. (3)
مبدأ الثالث أو الوسط المرفوع: ليس ثمة وسط (أو ثالث) بين «أ ولا أ» أي أن النقيضين لا يكذبان معا.
ويسمى هذا المبدأ أيضا بمبدأ البدائل
L’alternative
والبدائل يصدر عنها حكم انفصالي.
11
فإذا ما كونت قضيتان بديلين، فلا يمكن أن تكذبا معا، ولكن لابد أن تصدق إحداهما. وعلى ذلك فإذا أثبتنا بطلان قضية من هاتين القضيتين، كانت الثانية صحيحة بالضرورة.
وهذا المبدأ يستخدم في ذلك النوع من الاستدلال الذي يسميه علماء الرياضة باسم «الاستدلال الامتناع».
raisonnement par l’absurde.
أخصب أجزاء المنطق هو فلسفة العلوم
يكتسب المنطق أهمية جديدة إذا ما طبق على العلم بدلا من اللغة، والحق أنه يوجد اختلاف مزدوج بين منطق اللغة ومنطق العلم. (1)
فاللغة تفتقر إلى الدقة، وكثير من ألفاظها - ومن بينها ألفاظ غاية في الأهمية - تحمل أكثر من معنى. ولقد ذكرنا من قبل أن المنطق يدرس بوجه خاص معنى الكلمات التي تدل على روابط منطقية، وبخاصة روابط العطف
conjonction . ولكننا نجد حرف العطف أو
ou
ينطوي في اللغة الفرنسية على معنى مزدوج؛ فهو يشير في الغالب إلى بدائل، أو إلى انفصال حقيقي، مثل: النصر أو الموت، ولكنه يكتفي في أحوال أخرى بالإشارة إلى مجرد الاختيار دون اكتراث؛ الساعة الثانية أو الثالثة. ولقد ميزت اللغة اللاتينية ما تركته اللغة الفرنسية غير محدد؛ ففي الحالة الأولى يستعمل في اللاتينية الحرف
aut ، وفي الثانية الحرف
vel
أو
sive ، ويعني «إذا شئت
si tu veux » ومن الواضح أن هذين الاستعمالين ليسا متساويين إطلاقا في نظر المنطق.
أما العلم فيستخدم لغة بلغت من الدقة حدا هائلا، هي لغة الرياضة التي أدى إعدادها منذ أكثر من ألفي سنة إلى استبعاد كثير من ضروب اللبس، وحسبنا دليلا على ذلك تلك التفرقة التي يستطيع الرياضيون تقريرها بين القضايا «المتبادلة
les reciproques
وبين القضايا العكسية
les inverses » وهي التفرقة التي لا تلحظها اللغة المتداولة. (2)
ليست اللغة «صحيحة» في ذاتها؛ بل تقتصر على أن تأتي بأداة يمكن كشف الحقيقة عن طريقها، في حين أن العلم يشتمل على عدد هائل من القضايا التي تتحقق يوميا، وتكون نبعا من الحقائق المادية ما علينا إلا أن ننهل منه.
ومن ثم فإذا كان الأمر متعلقا بالعلم فليس للمرء أن يتساءل أهو صحيح؟ إذ إن السؤال ذاته لا يمكن أن يوجه، وحسب المرء أن يتساءل: كيف أصبح العلم صحيحا؟ أو كما يقول «كانت» في كتابه «المقدمات
» كيف تكون الرياضة ممكنة؟ وكيف يكون علم الطبيعة المحض ممكنا؟
12
وهذا السؤال المزدوج هو الذي يلخص «فلسفة العلوم».
ويطلق اسم فلسفة العلوم على شكل من أشكال المنطق، يطبق التحليل النقدي الواعي على العلم، وتمر فلسفة العلوم بالمراحل الآتية: (1)
تاريخ العلوم: وهذا الشكل الخاص من أشكال التاريخ يتميز بأنه على قدر من الصعوبة، إذ يقتضي أن يجمع الشخص الواحد بين ثلاثة شخصيات مختلفة كل الاختلاف: شخصية المؤرخ، وشخصية العالم بطبيعة الحال، وشخصية الفيلسوف أيضا؛ لأن الجدير بالاهتمام في تاريخ العلوم، ليس هو تقدم نتائجها؛ بل هو تطبيق المناهج، أو بعبارة أصح، إعداد العقل لمناهج حلال مواجهته الواقع على أن العالم يميل إلى أن يقصر اهتمامه على النتائج، وعلى الحالات المتعاقبة التي تمر بها مسألة ما، بل ربما ازداد تخصصا، فاكتفى بالحالة الأخيرة لهذه المسألة، أما الفيلسوف فيؤثر أن يفحص الصراع الأبدي بين العقل والأشياء، والدروس الدائمة التي لا يمحى تأثيرها، والتي تستخلص من كتابات عالم عبقري قديم، مثل «رسالة في المنهج» لأرشميدس (القرن الثالث ق.م.) أو «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» لنيوتن (1687م). ونقول بعبارة أخرى: إن تاريخ العلوم هو في نظر الفيلسوف، عرض للعلم في حالة نشأته. (2)
مناهج البحث العلمي: وهي الدراسة الفكرية الواعية للمناهج المختلفة التي تطبقها مختلف العلوم تبعا لاختلاف موضوعات هذه العلوم.
وسوف نخصص الجزء الأكبر من هذا الكتاب للبحث في المناهج، وسنستخلص الأمثلة التي سنوردها من تاريخ العلوم، وسوف تتاح للقارئ فرص عديدة للإلمام بهذا التاريخ. (3)
الإبستمولوجيا (النقد العلمي للمعرفة): وتدرس المنهج «العام» للعلوم والعمليات العامة التي يطبقها العقل البشري على العلم. (4)
كان من الممكن أن نتوج هذه الدراسة «بنظرية في المعرفة»
13
وهذا الاسم يطلق على التقدير النقدي الذي يحدد قيمة المعرفة البشرية وحدودها، ولا جدال في أننا لن نمتنع، خلال هذا الكتاب، عن إصدار أحكام تقويمية على الطرق الخاصة التي تستخدمها العلوم المختلفة، أو على الطرق العامة التي يتبعها العقل البشري. ذلك لأننا قد ذكرنا أن المنطق معياري، فله الحق إذن في أن يقدر الاتجاهات التلقائية للعقل ويصلحها، وفضلا عن ذلك كله، فإن إدراك منهج ما عن وعي، وتقديره في تفاصيله، وإصلاحه، ثلاث عمليات مرتبطة، أو هي على الأصح، عملية واحدة متصلة. غير أن للتقدير الشامل طابعا ميتافيزيقيا، لا تعود له بالمنطق صلة، لأنه لا يعود ينصب على العقل وحده، وإنما هو خاص بالصلة بين هذا العقل والواقع منظورا إليه في مجموعه، وفي صفاته الخاصة.
الفصل الثالث
الروح العلمية
إن الروح العلمية وليدة حب الاستطلاع الذي يدفع العالم إلى جمع الظواهر التي تثير اهتمامه، ويجب أن تجمع هذه الظواهر بصبر ودقة، وفي كثير من الأحيان يقتضي البحث عنها شجاعة ، إذ ينطوي على مخاطرات، وفضلا عن ذلك فإن المضي في هذا البحث يقتضي نزاهة هي ألزم لوازم روح النقد.
ولكن ينبغي أن يكمل الخيال الروح العلمية، إذ ليس ثمة علم لا تتدخل فيه فروضنا وتفسيراتنا لما يقع تحت الملاحظة، غير أن هذا الخيال يختلف في نوعه عن خيال الفنان، وإن لم يكن أقل اتساعا لدى العالم منه لدى الفنان. وإذن فبعض الصفات التي تعد قواما للروح العملية «خارجة عن المجال العقلي» وهي تنتمي إلى مجال الأخلاق بوجه خاص. ومع ذلك فمن الخطأ أن نعتقد أن العالم لا يعدو أن يكون إنسانا أمينا يتميز بقدر كبير من الدقة. فالعلم ينطوي على تحصيل غير قليل، يكتسبه العالم عن طريق الثقافة العلمية؛ بل عن طريق الثقافة الفلسفية والجمالية أيضا.
وفضلا عن ذلك، فالروح العلمية تفترض التسليم بمعتقدات خاصة تعبر عنها بعض المبادئ، مثل مبدأ الحتمية (
déterminisme ) الذي يستبعد فكرة الجبر المحض
fatalisme
ويستبعد، على نحو ما، القول بالصدفة
Hasard (إذ إن حساب الاحتمالات ليس حسابا للصدفة؛ بل هو حساب لما تتضمنه الصدفة الظاهرية من حتمية معروفة). وللعلم مبدأ آخر هو مبدأ النسبية، الذي أدى إلى كشوف هامة والذي أصبحت له، في أيامنا هذه، أهمية خاصة.
العلم يبدأ بالدهشة وحب الاستطلاع
يقول أفلاطون: إن إيريس
iris
هي ابنة تاوماس
Thaumas
والمعنى الذي يرمز إليه هذا القول عنده هو أن العلم وليد الدهشة، ولكن الدهشة تترك الناظر مذهولا، عاجزا عن الفهم، لو لم يشعر بعد دهشته الأولى برغبة في تأمل الأشياء بأعين جديدة، ولو لم يستشعر، بوجه خاص، الرغبة الشديدة في أن يرى الأشياء ابتداء من تلك اللحظة، في هذا الضوء الجديد، التي يجعلها تبدو على ما هي عليه حقيقة، وتتهيأ للكشف عما تخفيه من أسرار، وإذن فالدهشة ينبغي أن يعقبها حب الاستطلاع.
على أن حب الاستطلاع انفعال عظيم التعقيد، ينتهي إلى أفعال وعادات تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا، وتتفاوت قيمتها تفاوتا عظيما. فقد يرغب المرء في معرفة كثير من الأمور، فقد يرغب، من ناحية أخرى، في محاولة إجادة معرفتها والتعمق فيها. والأهم من ذلك، أن بواعث حب الاستطلاع تتفاوت إلى حد بعيد، وعلينا أن نميز فيها، بوجه خاص، بين حب الاستطلاع الشرير، الوقح، الفضولي، الذي يستهدف إشباع غرائز دنيئة، أو يرمي في الأغلب، إلى مجرد زيادة القوة الاجتماعية لمن يضطرب وجدانه بمثل هذا الانفعال،
1
وبين حب الاستطلاع السليم النبيل. فهدف هذا النوع الأخير هو القوة أيضا، غير أنها في هذه الحالة قوة عملية أو قوة عقلية. فقد يعلم المرء لكي يؤثر في الأشياء، ولكنه قد يعلم أيضا لمجرد العلم. وهدفنا هو الحديث عن هذا النوع الأخير من المعرفة وحب الاستطلاع، فهو أنقى الأنواع وأرفعها، وهو الروح الكامنة في بقية الأنواع جميعها، والدافع المبرر لها.
ولكن كيف تفسر الرغبة الشديدة في المعرفة من أجل المعرفة؟ إنها تفسر عن طريق ذلك الإحساس النشوان الذي ثمل به الإنسان عندما امتد نطاق شعوره، ودفعه الحماس إلى الارتفاع بوجوده الباطن إلى قمم الكون، أو على الأقل إلى قمم يمكنه أن يتأمل منها آفاقا بلغت من الاتساع حدا يدعو إلى الدهشة. فازدياد معرفة المرء يعني بالنسبة إليه مزيدا من الوجود، دون أن يكون ذلك على حساب الآخرين؛ إذ إن المعرفة تتداول دون أن يطرأ عليها نقصان؛ بل قد تتوافر لها كل فرص الازدياد عن طريق النقد المتبادل والتعاون.
حب الاستطلاع يدفع العالم إلى جمع عدد لا يحصى من الملاحظات عن الظواهر
إن العملية الأولى التي يتجه إليها العالم مدفوعا بحب الاستطلاع العلمي، هي أن يجمع أكبر عدد ممكن من الظواهر التي لوحظت بدقة؛ فالعلم يكون قوائم للظواهر. مثال ذلك أن الملاحظات الفلكية ترسم خريطة للسماء تزداد تعقدا على الدوام. ومعامل الطبيعة والكيمياء تضع جداول تسجل فيها خصائص الأجسام المعروفة، التي تمتد قائمتها باستمرار. ومعامل التشريح تجري تشريحات تحفظ نتائجها على هيئة رسوم، أو صور شمسية، أو قطع محفوظة. فهي تزيد عدد مجموعاتها المحفوظة ونماذجها ومتاحفها، وتمكن الرحلات الاستكشافية والبعثات التي تجوب كل مكان على سطح الأرض من زيادة ذخائرها.
ولقد حبذ الوزير الإنجليزي فرانسيس بيكن (1561-1626م)، وهو أحد رواد العلم الحديث، هذا البحث الدائب عن الظواهر، الذي أطلق عليه، بأسلوبه التشبيهي الشاعري، اسم صيد «بان» (
).
2
الملاحظة تقتضي خضوعا تاما للواقع، وبالتالي نزاهة وصبرا
في هذا الصيد تتكشف براعة القائم بالملاحظة، ومهارته وإخلاصه، غير أنه يقتضي، على الأخص، دقة وأمانة، وهما صفتان أخلاقيتان لا غنى عنهما.
فينبغي أولا أن تلاحظ الظاهرة في ظروف تستبعد كل احتمال وتقضي على كل مظنة للشك؛ فقد حدث أن خدع المزيفون بعض العلماء، فأوهموهم أنهم كشفوا آثارا من عصر ما قبل التاريخ أعدت ببراعة، أو عرضوا عليهم قطعا مصنوعة، أو وثائق لسجلات ملفقة، وتلك بلا شك حالات استثنائية، وقع فيها العلماء عن طوية سليمة، وأثارت بعض الضجة في الرأي العام، ولكن سرعان ما اختفت أو زال تأثيرها بفضل النقد المتبادل الذي يمارسه العلماء كل على أبحاث الآخرين، ولم يلحق بالعلم ضرر بسبب ذلك.
فالظاهرة الأصيلة، لا «المزيفة»، ينبغي أن تقرر وتوصف بأمانة كاملة. ذلك بأن حب الاستطلاع لدى العالم إنما هو انفعال، وهو قد يشوه نظرته إلى الأمور، شأنه في ذلك شأن أي انفعال آخر. إذن ينبغي للعالم أن يتحلى بصفات التواضع والصبر والنزاهة حين يلاحظ الظواهر ويصفها على ما هي عليه، لا كما يتمناها أن تكون.
كذلك تتطلب الملاحظة العملية صبرا لا ينفد. مثال ذلك أن عالم الفلك الدنماركي «تيكو-براهي
Tycho-Brahe » (1546-1601م) وكان ثريا ومن أسرة نبيلة، خصص ثروته وهدايا الملك «فردريك» من أجل تشييد معمل يحتل جزيرة بأسرها في الأرخبيل الدنماركي، هي جزيرة هفين
Hveen
قرب الزينيور
Elseneur
أسماه «مدينة أوراني» (وهو اسم إلهة الفلك)
Uranieborg
وظل طوال عشرين عاما، وبمعونة تلاميذه العشرين، يجمع ملاحظات أكملها بعد ذلك في هلشتين
Holstein
تحت رعاية الإمبراطور «رودولف» حين طرد من البلاد، فاضطر إلى مبارحة جزيرته ومعداته ووطنه الأصلي، ثم اتخذ لنفسه معاونا أصبح بعد ذلك خليفة له، وهو كبلر (1571-1630م) وبعد وفاته، استغل كبلر ملاحظاته ليحدد مدار كوكب المريخ، وكان يظن في أول الأمر أن هذا المدار دائري، ولكن الظواهر كذبت هذا الظن، والحق أن هذا التكذيب كان بفارق ضئيل للغاية، هو فارق دقائق في القوس، أي ربع القطر الظاهر للشمس، ولكن كما قال كبلر: «إن الكرم الإلهي قد جعل لنا في شخص «تيكو» ملاحظا بلغت دقته حدا يستحيل معه أن نتصور خطاه في ثماني دقائق». وهكذا عاد إلى البحث عن المدار الحقيقي للمريخ، وبعد عناء دام تسع سنوات «كاد يبلغ حد الجنون» جرب في خلالها تسعة عشر مدارا مختلفا، اهتدى أخيرا إلى المدار البيضاوي، واستطاع أن يضع «قانونه الأول» المشهور ونصه «إن كوكب المريخ (وفيما بعد طبق هذا القانون ذاته على كل الكواكب) يرسم مدارا بيضاوي الشكل تقع الشمس في أحد مركزيه».
3
ومن هذا المثال يتبين لنا أن العلم يتطلب صفات أخلاقية، وينطوي على نوع من الزهد، ففي النصف الثاني من القرن السابع عشر كانت قد توافرت للعلماء منظارات فلكية رائعة، ولكن كان يصعب استخدامها إلى حد بعيد؛ فقد كان الهدف مثبتا في طرف عصا تدور حول محور رأسي، وكان على المرء أن يوجه الهدف إلى النجم عن طريق إدارة العصا، ثم يتأمل، من خلال عدسة تمسك باليد، الصورة الحقيقية التي يصل إليها على هذا النحو، وكانت هذه الآلة الفجة هي التي استعملها أبناء كاسيني
Cassini
4
بالليل في حدائق مرصد باريس، وقضوا السنين الطوال يجمعون ملاحظاتهم وأقيستهم التي أدت إلى تطبيق قوانين كبلر الثلاث على كل الكواكب وعلى توابعها، فوضعوا بذلك أساس علم الفلك الحديث.
5
الملاحظة العلمية تتطلب شجاعة، إذ تنطوي على أخطار
تناقلت الألسن قصة عالم الفلك الذي عاش في القرن الثامن عشر، وأراد أن يلاحظ كسوف الشمس الذي يسببه الكوكب عطارد، فأبحر إلى نصف الكرة الجنوبي، الذي يمكنه فيه وحده أن يراه، فأسره قراصنة، ولم يطلقوا سراحه إلا بعد سنين عديدة لم يتمكن خلالها من القيام بملاحظاته، وفي آخر الأمر عاد إلى الرحيل إلى الهند، حيث يستطيع أن يرى الكسوف التالي.
والواقع أن العلم يثير من الانفعالات الجياشة ما يجعل من يحسون أناسا لا يعرف الخوف إليهم سبيلا. وإذا كان العالم الفلكي الذي تحدثنا عنه قد بلغ غاياته دون أن يصاب بضرر بالغ، فإن هناك كثيرا من العلماء الذين كانوا يدرسون أشعة «إكس» الخطرة في معاملهم قد أجريت لهم في كثير من الأحيان عمليات بتر على جانب كبير من الخطورة. والواقع أن الملاحظة العملية تنطوي أحيانا على أخطار جدية وتقتضي شجاعة بدنية. ويمكننا أن نقول بوجه عام: إن المرء عندما يكشف قوة طبيعية أو كيميائية أو بيولوجية مجهولة، ويشرع في دراستها، تكون ملاحظتها أمرا ينطوي على الخطر، فالعالم «كلود برنار» قد عقره حصان كان يجرب عليه آثار المرض الخطير المسمى بداء الخيل، ولا شك في أن أطباء معاهد باستير المتعددة كانوا يتعرضون لأخطار مميتة وهم يقومون بعملية عزل وجمع ودراسة فصائل «نقية» (أعني خطرة إلى أقصى حد) من البكتريا والطفيليات المخيفة التي تسبب الأمراض الوبائية الكبرى، كالتيفوس ومختلف أنواع حمى المناطق الحارة، والكوليرا والطاعون.
العمل العلمي يتطلب نزاهة كاملة
لا يقبل العالم جزاء على كل ما يصادفه من أخطار، وما يقوم به من أعمال، سوى المجد فحسب، فمهنة العالم تقتضي إنكارا للذات، وتتطلب منه على الأقل امتناعا عن استغلال علمه من أجل الإثراء، وهكذا يظل العالم فقيرا، والحق أن المهن العلمية ليست هي التي تسمح بصفقات مربحة، وإنما تعود الأرباح الجمة من التطبيقات الصناعية للعلم. غير أن هذه الأرباح لا تذهب إلى جيب العالم، الذي تظل أبحاثه نظرية خالصة، أعني تتجه دائما نحو المعرفة أو «التأمل النظري
theoria » بل تذهب إلى ذلك الذي يحول فكرة علمية إلى جهاز عملي تصنع منه أعداد كبيرة في مصانع ضخمة، وتتطلب اجتذاب عدد كاف من العملاء، أعني البحث عن «أسواق» كما يقولون وتلك مهمة لا صلة للعالم بها على الإطلاق، فعليه أن يختار، وقد اختار التأمل النظري بالضرورة، والفقر تبعا لذلك.
ولا شك في أن المجتمعات الحديثة تقدم «إعانات» للعلم النظري، فهي ترعى المعامل والمراصد، عن طريق الميزانيات الحكومة أو التبرعات الفردية، وتخصص للعلماء أرفع أنواع «التكايا»
Sinécures
حسب تعبير الجماعات الدينية القديمة، (والكلمة الفرنسية
Sinécures
تعني العطايا التي تبذل للباحثين من رجال الدين حتى لا تشغلهم أعباء النفوس، أي دون أن يضطروا إلى الانشغال بها
sine cura ).
وتحولت هذه المنح في الوقت الحالي إلى وظائف الأستاذية لا يتعرض من يقوم بها كثيرا لمظاهر الخضوع، وإنما تتيح له استخدام معامل مزودة بمعدات جيدة، ولكن ما هكذا يكون الإثراء!
أما عن المجد، فهو يقتضي إنكارا للذات: وهو يأتي عادة بعد انتهاء حياة العالم؛ بل يحدث كثيرا أن ينسب إلى شخص مجهول. وإذا كان في وسعنا الآن، بوجه عام، أن نطلق على الكشف العلمي الحديث اسم من اهتدى إليه، فما ذلك إلا لأن المحدثين قد أصبحوا يتصفون بالحرص الشديد في الأمور المتعلقة بدقة التسجيل التاريخي، ولكن هذه الصفة حديثة إلى حد ما، ومن هنا لم تظهر في المراحل الأولى للعلم، منذ العصر القديم حتى عصر النهضة، سوى أسماء غير موثوق منها، وكثير منها خرافية أو أسطورية. وفضلا عن ذلك فألمع الأسماء في نظرنا اليوم لم يكن لها مثل هذا الصيت بين معاصريها على الإطلاق.
بل إن على العالم أن يروض نفسه على التضحية بهذا المجد غير المؤكد في ذاته، إذا ما ارتكب خطأ، أو غابت عنه فكرة. فقد كان «باستير» يدعو العالم إلى القيام بتجاربه «ضد فكرته الخاصة»، أعني أن ينقد نفسه؛ بل أن يعاديها، وبعد أن فند «باستير» بالتجربة نتيجة التجارب التي زعم «بوشيه
» أنه قد برهن بها على «التوالد التلقائي»، أعني تكون الكائنات الحية عن طريق عمليات كيميائية محضة، قال باستير: «إني أنتظر وألاحظ وأسأل الطبيعة، وأطلب إليها أن تتفضل بأن تعيد أمامي الخلق الأول من جديد، فكم يكون ذلك المنظر رائعا! غير أنها تظل خرساء.»
6
ففي هذه التجارب كان «باستير» يعمل إذن ضد ذاته، إذ إن ميوله الشخصية كانت تتجه إلى النتائج التي ظن «بوشيه» أنه قد وصل إليها. لكن بدت له تجارب «بوشيه» مثيرة للشك، ومعرضة لنقد شديد، ولهذا حرص على تنفيذها بدقة. حقا إن هذا التنفيذ قد جلب له المجد رويدا رويدا، ولكن كان ذلك على الرغم منه.
روح النقد ضرورية للعالم
كل هذه الصفات العقلية تلخصها كلمة «روح النقد».
وكلمة «نقد» مأخوذة من اليونانية
Chrinein
وتعني «الحكم». فروح النقد هي إذن روح الحكم الصائب. فما الحكم بالمعنى الدقيق والرفيع لهذه الكلمة؟ هو أن يتخذ المرء الموقف العقلي للقاضي الذي هو بسبيل إصدار حكم. ومن الواجب أن يكون القاضي غير متحيز، وعدم التحيز يقتضي منه أن يطرح جانبا ميوله الشخصية، وأن ينتظر بصبر حتى تعرض عليه كل الحجج التي ينبغي له أن يختار بينها. كما أن هذه الصفة توجب على القاضي أن يضفي على كل من هذه الحجج قيمتها الحقيقية، وأهميتها الفعلية، دون أن يضيف شيئا إلى تلك التي يقدرها هو شخصيا. وأخيرا فالنزاهة تقتضي أن تظهر كل الحجج في الحكم النهائي بقيمتها الفعلية، ويكون تأثيرها معادلا لتلك القيمة.
وعلى ذلك، فاتصاف المرء بروح النقد، معناه إذن أن يأخذ على عاتقه أن يفحص كل البراهين التي يمكنها أن توجه القرار في اتجاه معين أو في اتجاه آخر فحصا دقيقا، ودون تدخل من أهوائه، وأن يعي ذهنه تلك البراهين بما لها من قيمة حقيقية، وأن يؤلف بينها في النتيجة النهائية دون إغفال واحد منها، ويتطلب ذلك طاقة أخلاقية كبيرة، وقدرة على كبح أهواء الذات، كما يتطلب ذلك النوع من الذكاء الذي أسماه باسكال «الحس المرهف
Esprit de finesse » والذي يمكنه من أن يجمع كل الحجج الدقيقة والعديدة جدا، ويجعل لكل منها دورا، دون أن يغفل واحدة منها.
وإذن فروح النقد هي بالاختصار «حاسة البرهان». ولقد كان الباحثون على حق عندما أضفوا أهمية خاصة على روح النقد في العلوم التي تتخذ الحقائق البشرية موضوعا لها، كالتاريخ مثلا؛ إذ إن الميول والأهواء الشخصية أو الاجتماعية للعالم ترتبط بمجال بحثه ارتباطا وثيقا. فالمؤرخ يجب ألا يكون منتميا إلى عصر معين، أو إلى وطن معين. غير أن هذا المطلب يستحيل تحقيقه بمثل هذه الصرامة؛ إذ إن المؤرخ لا بد أن يحب ما يحبه وطنه، وحزبه، وعصره، وأن يكره ما يكرهه هؤلاء، ولكن يجب عليه ألا يحسب لهذه المشاعر حسابا؛ بل يجب أن يفكر «كما لو كان» وطنه وحزبه غير موجودين بالنسبة إليه؛ أعني أن يجعل روحه معاصرة لما يرويه من أحداث.
من الضروري أن يكمل الخيال روح النقد
يتضح لنا مما سبق ضرورة توافر صفة أخرى في العالم. تلك هي صفة الخيال، وكثيرا ما يقال إن العالم لا ينبغي له أن يكون خياليا، وإن هذه الصفة هي التي تميزه عن الفنان مثلا، ونحن نسلم بأنه قد يكون للخيال أثر ضار في تفكير العالم؛ فقد يعوقه عن رؤية الأشياء على ما هي عليه، ويفرض عليه آراء وهمية «وأفكارا مسبقة».
غير أن الخيال يسهم بنصيبه في المجهود العلمي، وإنه لمن الخطأ الاعتقاد بأن العلم لا يضيف شيئا إلى ما يلاحظه، فهو يكشف لنا فيه عن عالم كامل؛ فالعالم يخمن بأن وراء الاتصال الظاهري للأجسام المادية أعدادا لا متناهية من الذرات ومركباتها، تتحرك بسرعة فائقة، ويفصل بعضها عن بعض حيز مكاني يفوقها امتدادا إلى أبعد حد. كذلك يلمح الفلكي بفكره، أن في السماء التي تزخر بالنجوم مساحات شاسعة مليئة بعدد لا يحصى من العوالم الكبرى، التي تقع على مسافات يستحيل علينا تصور اجتيازها أو إدراكها. ذلك هو الجانب الشاعري في العلم، وهذا الجانب الشاعري هو الذي خلقه العالم من أساسه، وليس معنى ذلك أن العالم المحسوس، كما ندركه، قد عدم كل جمال، ولكنا نود أن نشير إلى أن هناك جمالا آخر مختلفا عن الأول كل الاختلاف، هو جمال عقلي صرف، يبتكره ذهن العالم وحده، ولكي يضفي العالم مثل هذا الجمال على الكون، كان عليه أن يسلبه الجمال المحسوس أولا، وأن يستبعد شهادة الحواس، وكأنها حجاب خداع، ويأبى على الخيال الحسي لذته، لكي يفسح المجال للخيال الذي يمكن تسميته بالخيال العقلي. (1) العلم والشعر: هوميروس وأرشميدس
لقد قيل إن خيال هوميروس لم يكن له نظير في العصر القديم سوى خيال العالم الرياضي أرشميدس. ومن المؤكد أن بين هذين العبقريين تشابها غريبا. فقد أضفى هوميروس قيمة شاعرية لا نظير لها على مشاهد الحياة الإنسانية وأفعالها؛ كأعمال الناس في الحقل، وفي المنزل، ولهوهم، وقتالهم وأكلهم، ونومهم، فشعر «هوميروس» هو شعر الخبز والنبيذ .. أما أرشميدس، فقد أفهمنا الأدوات البشرية المتداولة، كالرافعة ومشتقاتها، والجاروف، والملفاف؛ نقول إنه أفهمنا هذه الأدوات على نفس النحو الذي روى لنا به هوميروس شعر الحياة المنزلية المعتادة.
ولنا أن نقول إن نصيب العلم من الخيال ليس أقل من نصيب الشعر منه. غير أن الخيال ليس واحدا في كلتا الحالتين: فخيال العالم يقتضي نوعا من التضحية، وهو يأبى أن يدين للحواس بشيء، والجمال الذي يستهويه هو جمال العلاقات المجردة والأعداد. وفضلا عن ذلك، فالخيال بالنسبة إلى العالم ليس غاية، وإنما هو وسيلة فحسب. فبينما ينحصر هدف الشاعر أو الموسيقار في تحريك خيال القارئ أو السامع وهز مشاعره بحيث تتجاوب معه، ولا يعبأ بالحقيقة، نرى العالم يولي وجهه شطر الحقيقة، وما «التحقيق» الجمالي - إذا جاز لنا أن نتحدث في هذا المجال عن «تحقيق»، بالمعنى المجازي للكلمة - إلا التأثير الذي ينطبع في نفس القارئ أو السامع، أما التحقيق العلمي فهو الخضوع النهائي للواقع. فنتائج الخيال العلمي تندمج في الواقع، وهي لحمته وسداه في نهاية الأمر، وليس من مهمة العلم أن يصنع الجمال، وإنما أن يصل إلى الحقيقة. وإذا كان للحقيقة جمالها، وإذا كانت تؤثر أن يكون من يقدسها محبا للجمال، فإنها تتطلب منه - بكل صراحة - أن يكون على استعداد للتضحية من أجلها بكل ما قد ينطوي عليه الجمال من إغراء. فقد يكون هذا البرهان أو الحل الرياضي «رشيقا» وقد تكون تلك الفكرة التجريبية «جميلة» ولكنهما يفقدان كل قيمة إذا ما ثبت بعد اكتمال التحقيق أنهما باطلان.
إذن فقوام الروح العملية صفات خارجة عن مجال العلم، وهي على الأخص صفات أخلاقية
تلك هي النتيجة التي ينتهي إليها جوبلو،
7
والتي يؤدي بنا بحثنا السابق بأسره إلى أن نؤيد بكل قوة ما تأتي به من عناصر إيجابية. فالعالم إنسان تبلغ لديه الشجاعة والأمانة العقلية أقصى حدودها، وهو قاض لا يتطرق إلى نزاهته شك، وهو إذا شئنا، شاعر بمعنى ما غير أن هذا لا يكفي في رأينا، لإيضاح خصائص الروح العلمية ، فمن الضروري أن تنطوي على شيء لم نذكره بعد.
الروح العلمية تنطوي أيضا على ثقافة واسعة
فلنبين أولا أهمية الثقافة. والمقصود بالثقافة أولا مجموع المعارف التي يمكن تسميتها بالمعارف الاحترافية أو المتخصصة، أعني تلك التي تشمل قدرا معينا من المعرفة يتخذه العالم موضوعا لبحث. وهذا أمر بديهي، ولكن قد يكون التنبيه إليه ضروريا، إذا كان هدفنا، على الأقل، هو أن نجرد الجهل من صفة الحياد التي اشتهر بها زورا وبهتانا. فليس جهل المرء لكل شيء هو الذي يمكنه من مواجهة الواقع بروح نزيهة محايدة، وما كان الجهل دعامة من دعائم روح النقد أبدا؛ بل إن الأمر على العكس من ذلك. فروح النقد صفة رقيقة هشة، تحتاج على الدوام إلى تقوية وتدعيم مستمدين من التحصيل العلمي، ولا يفهم مدى تعقد الواقع إلا من عرف كثيرا، وجرب كثيرا، وقضى على فرص الخطأ. ويصدق ذلك بوجه خاص على العلوم المعقدة التي تتخذ الأحياء والإنسان موضوعا لها؛ إذ إنه إن كان عباقرة الرياضيات يظهرون قبل الأوان في كثير من الأحيان، فإن عباقرة علم الحياة والأخلاق أناس ناضجون دائما. فالرياضي «إفارست جولوا
Evariste Galois » الذي مات في سن العشرين، قد وجد وقتا كافيا يبدي فيه عبقريته، أما «دارون» و«لامارك» فلم يقوما بأي كشف قبل سن الخمسين، كذلك كتب «كانت» (نقد العقل الخالص) وهو في السابعة والخمسين من عمره.
وقد يكون من المستحسن أن يلم العالم، الذي كرس حياته لعلم خاص، بالعلوم التي يفترضها ذلك العلم؛ فالطبيب مثلا لا ينبغي له أن يلم بالبيولوجيا وحدها بل يجب أن يكون قد مارس الكيمياء، وعلم الطبيعة نفسه.
8
ويذهب «كلودبرنار» إلى حد أبعد من ذلك؛ فهو يوصي من يعد نفسه ليكون عالما، بأن يتزود من الثقافة الفلسفية والفنية: «إنني، رغم نفوري من المذاهب الفلسفية، أحب الفلاسفة حبا جما، وأجد متعة كبرى في صحبتهم ... فالفلاسفة يبحثون دائما في المسائل المختلف عليها، ويقفون في مستويات رفيعة، أي عند الحدود القصوى للعلوم، وبهذا يضفون على التفكير العلمي حركة تبعث فيه الحياة وتسمو به ...» وهذا عن الفن، فهو يقول «إن العلم لا يتعارض قط مع ملاحظات الفن ومعطياته، بل من رأيي أن العكس هو الصحيح ضرورة. فالفنان يجد في العلم أسسا أرسخ، والعالم يستقي من الفن حدسا أصدق.»
9
العلم ينطوي على إيمان بمبادئ معينة
لقد أضفنا كلا من الخيال وسعة التحصيل إلى الصفات المقومة للروح العلمية، وهي تلك الصفات التي لها طابع أخلاقي أو خارج عن نطاق العقل على الأقل، فهل هذه هي كل الصفات؟ وهل يكفي المرء، لكي يكون عالما، أن يكون أمينا شجاعا، وعلى قدر من الخيال، وملما بمعلومات كثيرة؟ كلا؛ فما زلنا بعد ذلك كله على هامش الروح العلمية.
فبعد أن أوضح «كلود برنار» أهمية روح النقد (التي يسميها بالشك الفلسفي) في الوصول إلى الحقيقة، أبدى هذا التحفظ الهام: «ومع ذلك، ينبغي ألا يكون المرء ارتيابيا
sceptique ، بل عليه أن يؤمن بالعلم، أعني بالحتمية، وبالارتباط المطلق والضروري للأشياء، سواء بين الظواهر الخاصة بالكائنات الحية، أو بين كل ما عداها من الظواهر.»
10
وعلى ذلك، فالعالم في رأي «كلود برنار» ليس مجرد ملاحظ أمين شجاع لديه نوع من الخيال وقدر غير قليل من الثقافة، بل هو «مؤمن». وهذا يؤدي بالمرء إلى أن يرى أشبه بمعبد، وبالطائفة الدينية التي تتميز بعقائد محددة.
والحق أن هذا الوصف يصدق على العلم إلى حد ما، فالعلم يؤلف جماعة اجتماعية محددة، وهو أكثر من أن يكون مهنة، وهو لم يكن موجودا على الدوام؛ بل إن عمره يتراوح ما بين خمسة وعشرين وثلاثين قرنا، هذا إذا ربطنا نشأته بنشأة علم الفلك عند اليونان، ويقصر هذا العمر فيبلغ ثلاثة أو أربعة قرون، إذا رأينا أنه بدأ مع ظهور علم الطبيعة الحديث، ولا يرجع تأثير العلم ونفوذه إلا إلى القرن الثامن عشر، وهو ينطوي على مجموعة من المبادئ التي ينقلها التعليم من جيل إلى جيل، ولا تصبح موضوعا لأي شك بالمعنى الصحيح، وإن كانت تعدل أحيانا، بحيث يظل تقدم العلم متصلا ومستمرا، كما قال «باسكال» في إحدى كلماته المشهورة: إنه نوع من الدين، ولكن الأهم من ذلك أنه عقيدة، والعالم قد أقسم يمين الولاء لعدد معين من المبادئ.
أهم هذه المبادئ، تأكيد الحتمية
يبدو أن كلود برنار يسوي بين العلم وبين الإيمان «بالحتمية». فما الحتمية؟ إنها مبدأ عبر عنه كلود برنار على النحو التالي: «في الكائنات الحية، وفي أجسام الجماد على حد سواء، تتحدد شروط وجود كل ظاهرة تحديدا مطلقا.»
11
ولقد فعل كلود برنار الكثير من أجل تثبيت دعائم علم حقيقي «بالكائنات الحية»، وهذا ما يفسر الجزء الأول من عبارته، والمقصود بالظاهرة حادث يمكن الوصول إليه، من حيث المبدأ عن طريق الملاحظة، ونقول من حيث المبدأ، لأنه قد يحدث أن تكون حواسنا عاجزة من الناحية العملية عن إدراكه مباشرة، ويكون لزاما علينا أن نلجأ إلى آلات دون أن نبرح مكاننا (فمثلا، تسليط أشعة إكس لا يستطيع تسجيله إلا للتصوير) أو أن نتصوره من جديد، بناء على ما خلفه من آثار (ومن هذا القبيل، كسوف الشمس الذي تنبأ به طاليس، كما روى لنا كتاب المذاهب
doxographes
اليونانيون، وهم مؤرخو الفلسفة والعلم عند اليونان)، أو أن نتنبأ به عن طريق تضافر ما لدينا من براهين على وجوده (مثل حركة الأرض، التي لا نستطيع أن نقررها مباشرة، وإن كان لدينا عنها عدد كبير من البراهين غير المباشرة).
أما شروط وجود الظاهرة فهي الظواهر التي تسبقها أو تصحبها، والتي يؤدي وجودها إلى حدوث الظاهرة، بينما يستحيل أن تحدث في غيابها. ومن هذا القبيل، الجراثيم، والقابلية للإصابة بمرض معد. وهذه الشروط «محددة حتما» (ومن هنا استخدام لفظ الحتمية)، بمعنى أنها ثابتة على نحو مطلق. وبعبارة أخرى فالظاهرة لا تحدث إلا إذا توافرت هذه الشروط، ولكنها لا بد أن تحدث في هذه الحالة. وإذن من المستحيل أن تحدث الظاهرة إذا لم تتحقق هذه الشروط، ومن المستحيل ألا تنتج إذا ما توافرت. وهذه الاستحالة هي ما يسمى بالضرورة.
النتيجة الأولى: ليس هناك قدر محتوم ولا مصير محدد
كثيرا ما يخلط الناس بين الحتمية وبين الإيمان بالقدر المحتوم، وبالمصير، أعني الجبر المطلق. غير أن الحتمية بعيدة كل البعد عن الجبر المطلق، حتى ليمكن القول بأنها مضادة له بمعنى ما، وهذا ما جعل «كانت» يستخلص من الحتمية نتيجة هي إنكار الجبر المطلق
non datur fatum
12
وليذكر المرء أسطورة «أوديب». فأوديب سوف يقتل أباه ويتزوج أمه، مهما حدث، ومصير أوديب هو على حد تعبير «كوكتو» آلة جهنمية تؤدي دورها في اللحظة المحددة مهما فعل. على أن الحتمية لا تؤكد ضرورة وقوع حادث معين مهما كانت سوابقه؛ بل هي تؤكد أن هذا الحادث يتحدد ضرورة «عن طريق» سوابقه؛ فالجبري يرى أن الفعل هو الضروري، وهي ضرورة يصفها «كانت» بأنها مطلقة
catégorique ، أما المؤمن بالحتمية، فتهمه العلاقة بين الحادث وشروطه. فالضرورة التي تؤكدها الحتمية ضرورة «مشروطة
hypothétique ».
ونتيجة ذلك أن القدر لا راد له، أما الحتمية فهي كما يقول البحارة في تعبيرهم الطريف - «طيعة
maniable ». فليس في وسعنا أن نفعل شيئا حيال فعل أراده القدر، وكل محاولة لتجنبه تقربنا منه. فعندما ابتعد أوديب عن هذين اللذين اعتقد أنهما أبوه وأمه، اقترب بقوة لا تقهر من والديه الحقيقيين، والفتى في أسطورة «لافونتين» يقضي عليه بالفعل أسد مرسوم؛ لأنه ظل مبعدا عن الأسد الحقيقية، بعد أن حكم عليه في النبوءة بأن أسدا سيقتله.
13
أما إذا أدرك المرء أن الطاعون تسببه جرثومة تنقلها براغيث الفيران، فعندئذ يمكنه تجنب الطاعون بالحذر من تسلل الفيران، وبالقضاء عليها، وبالفعل يمكن الوصول إلى هذه النتيجة.
النتيجة الثانية: ليست هناك صدفة
non datur casus
يقول «كانت» بنتيجة ثانية للحتمية، هي نفي الصدفة.
14
والحق أن فكرة الصدفة أو الاتفاق معقدة محيرة، لأن لكلمة الاتفاق عدة معان متباينة، نستبقي منها معنيين: (1)
غياب القصد المدبر (كالصدفة الناتجة عن عدم وجود غاية). (2)
غياب السابقة المحددة (كالصدفة الناتجة عن عدم وجود علة). (1)
فعندما نقول إن صديقين تقابلا اتفاقا، أو إن قالبا سقط من حائط فقتل بالصدفة شخصا مارا، نعني بذلك أن المقابلة تبدو مقصودة ما دامت قد وصلت إلى نقطة التقى فيها الاثنان، وأن سقوط الحجر يبدو منطويا على قصد القتل، لشدة ما يبدو لنا أنه قد قصد المار المشار إليه بالذات. ولكنا نعلم أن الأمر في الواقع بخلاف ذلك، فما يبدو قصدا مدبرا، لا يطابق أية حقيقة واقعية. فليس ثمة قوة إلهية هيأت المقابلة، أو وجهت الحجر، وليس للعلم أن ينكر الصدفة بهذا المعنى، إذ إن الصدفة لا تكون عندئذ شيئا على الإطلاق. الكلمة هنا تعني أنه ليس هناك شيء، وأنه ليس ثمة أي قصد يبحث عنه. (2)
ولكن كلمة الصدفة يصبح لها، في التعبير القائل «لعبة الصدفة أو الحظ» معنى مخالف للسابق كل الاختلاف، وأعمق منه كل العمق. فلاعب الورق مثلا «يفنط» أوراق اللعب ويوزعها، وقاذف العجلة يلقي بها، ولكن ليس هناك صلة بين هذه الحركات وبين توزيع الأوراق، أو بين ظهور الرقم الرابح؛ فاللاعب لم يوزع الأوراق بإرادته، وقاذف العجلة لا يستطيع شيئا حيال الرقم الرابح، فهاتان النتيجتان غير محددتين.
وفي هذه المرة، ينكر العلم الصدفة. فكل حركة من حركات لاعب الورق أو قاذف العجلة لها، في الواقع، دور فعال في توزيع الأوراق أو ظهور الرقم، والنتيجة محددة «ومحتومة». وكل ما في الأمر أن تركيب المربعات التي تحمل الأرقام، والطريقة التي يصنع بها الورق، والتي ينبغي أن توزع بها، من شأنها ألا تمكن اللاعبين أو القاذف من التحكم في حركاته، أو من معرفة ما سوف تأتي به.
الصدفة في رأي كورنو
Cournot :
اعتقد بعض الفلاسفة أن في وسعهم تأكيد وجود الصدفة وجودا فعليا، ومن هؤلاء كورنو
15
فالصدفة عنده تنحصر في «اجتماع أو تقابل ظواهر تنتمي إلى سلاسل مستقلة في نظام العلية» فسقوط الحجر مثلا يكون هو وسوابقه وشروطه (تماسكه الواهي بالسقف، هبوب الريح في اتجاه معين، وفي لحظة معينة، وانخفاض الضغط الجوي) سلسلة حتمية تماما. ومن جهة أخرى، فإن مرور السائر عاثر الحظ يكون هو وسوابقه وشروطه (رغبته في النزهة أو الذهاب إلى عمله) سلسلة أخرى حتمية كالسابقة، وتقابل السلسلتين هو الذي لا يخضع للحتمية ما دامت السلسلتان مستقلتين، ولا تخضعان لنفس الحتمية؛ فالحتمية الأولى خاصة بالظواهر الجوية، والثانية نفسية. وبالمثل فحركة قاذف العجلة تبدأ سلسلة حتمية تؤدي إلى ظهور رقم معين. ولكن هذه الحتمية وهي آلية تماما، تنتمي إلى نوع من الوجود مخالف لذلك الذي تنتمي إليه تلك الأفكار والرغبات والتقديرات التي دفعت اللاعب إلى المراهنة بنقوده على رقم معين. ولنذكر هنا أيضا كلمة «باسكال» المشهورة: لو كان أنف كليوباترا أقصر قليلا لتغير وجه الأرض.
16
فأنف كليوباترا ناتج عن حتمية تشريحية وراثية، والصدفة تتمثل في لقاء كليوباترا مع أنطوان. فقد كان أنطوان بمعنى ما، ممثلا لحتمية أخرى، هي حتمية تاريخية وسياسية، وأدى تقابل هاتين الحتميتين إلى وقوع أنطوان في الحب، وتخلفه عن أكتيوم، وخسارته للمعركة، وأخيرا الإمبراطورية الرومانية التي دامت قرونا متعددة.
وتمتاز نظرية «كورنو» بأنها ترجع مختلف تعريفات الصدفة إلى تعريف واحد. فليس ثمة إلا اتفاق واحد، هو تقابل سلاسل مستقلة والنظرية لا تنكر الحتمية بالمعنى الصحيح؛ بل تجزئها، وتفصلها إلى سلاسل، وخيوط متميزة. لكن لنا أن نتساءل هنا: هل هذا الفصل مشروع؟ الحق أنه يبدو كذلك للوهلة الأولى، لأن البحث العلمي لا ينصب في الواقع إلا على سلاسل تسير في خطوط مستقيمة؛ فالعلم يمضي عن طريق فصل الظواهر الواقعية بعضها عن بعض، وهذا الفصل ينتهي إلى تكوين «حتميات» تكفيه مؤقتا، ولا يشعر تجاهها بالحاجة إلى بحثها وإلى تأكيد وحدتها تبعا لذلك. والحق أن الفلسفة أكثر طموحا في هذا الصدد، إذ إنها تسعى إلى الوحدة، ولا تستطيع أن تتصور سوى حتمية واحدة، تسميها بالكون، وهي لا تعرف سلاسل مستقلة، ما دام الكون واحدا. قد يقال إن تلك نظرة ميتافيزيقية، ولكن كثيرا ما يحدث أن يصبح ما كان ميتافيزيقيا بالأمس علما في الغد، بل اليوم.
17
وهذه هي الحال هنا. ففكرة الكون قد أصبحت فكرة علمية، كما سنرى فيما بعد. على أن هذه الفكرة تقتضي أن يرتبط كل شيء، وأن يكون استقلال السلاسل مجرد وهم، يطابق حالة مؤقتة من حالات البحث العلمي.
إذن نستطيع القول، مع اسبينوزا، بأن «الشيء لا يسمى احتماليا» (أعني ناتجا عن الصدفة والاتفاق) إلا لعدم كفاية معرفتنا.
18
تأكيد الحتمية هو الذي يمكن من حساب الاحتمالات
إن الذي يبقي على الاعتقاد بحقيقة الصدفة (بمعنى غياب العلة) هو تفسير باطل لحساب الاحتمالات. والمقصود بحساب الاحتمالات مجموعة من المبادئ الرياضية تسمح بتحديد فرص وقوع حادث اتفاقي. فيبدو إذن، لأول وهلة، أن الرياضة ذاتها تبرر الصدفة، ما دامت تقيسها. وسنرى أن الأمر على خلاف ذلك تماما، وأن حساب الاحتمالات ليس حسابا للصدفة؛ بل هو على العكس من ذلك حسب لحتمية مجهولة جزئيا، عن طريق عناصر منها نستطيع معرفتها.
فلندرس تطبيق هذا الحساب على الألعاب التي تعتمد على الصدفة. ولنسلم أولا بقواعد اللعب (52 ورقة، أربعة لاعبين، 13 ورقة للاعب مثلا). ولنحسب عدد التأليفات الممكنة كلها - وفي الرياضة فرع يسمى بالحساب التأليفي
combinatoire
يمكن من القيام بهذا الحساب - ثم نبحث من بين هذه التأليفات عن تلك التي تؤدي إلى نتيجة معينة (كوجود ثلاثي الآس لدى لاعب واحد مثلا) ثم نحدد عددها هي الأخرى، ونبين نسبة هذا العدد الأخير إلى العدد الكلي، وتسمى تلك باسم نسبة احتمال اللعبة المذكورة (كثلاثي الآس مثلا) فلنفرض أن هذه النسبة تدون على النحو أ/ب. عندئذ نقول: إن هناك من الفرص أ/ب في أن يجد اللاعب ثلاثي الآس بين أوراقه، وكلمة «فرص» ليست لها أية دلالة سحرية؛ بل تعني «نسبة التأليفات» فحسب، وليس في وسع هذه النسبة أن تتنبأ بما إذا كان اللاعب سوف يهتدي إلى ثلاثي الآس في الدورة القادمة من ألعابة؛ بل هي لا تسمح بأن نعلم بعد كم من الدورات سوف يهتدي اللاعب إليه، ولكن إذا ما لعب عددا كبيرا جدا من الدورات، فإن النسبة الفعلية والنسبة النظرية تتطابقان، وذلك هو ما يسمى ب «قانون الأعداد الكبيرة».
وعلى ذلك، فحساب الاحتمالات يفترض حتمية حقيقية وراء الصدفة الظاهرية، وهو يطبق على الطبيعة كلما أعوزتنا معرفة الحتمية المفصلة، لأن العوامل المقومة للحتمية صغيرة إلى حد كبير، أو تؤثر تأثيرا سريعا جدا، وإن كنا نعرف القانون الذي تخضع له. فكتلة الغاز المحصورة في قنينة من الزجاج تتكون من عدد كبير من الجسيمات، ولا يمكننا الاهتداء إلى حركة كل من هذه الجسيمات، لأننا لا نعلم تفاصيلها، وإن كنا نعرف قانونها، ففي وسعنا أن نعلم الطريقة التي سوف تتجمع بها كل القيم الممكنة للتفاصيل لتكون كلا، وأن نحسب المجموع الكلي، وهذا المجموع هو الصدمة الكلية على جدران القنينة، وما ينتج عنها من ضغط وذلك هو ما تقوم بحسابه «النظرية الحركية للغاز» التي وضعها كل من «جبس
Gibbs » و«بولتزمان
Boltzmann » في سنة 1870م.
المبدأ الثاني الذي تستلهمه الروح العلمية، هو مبدأ النسبية
إن الحتمية هي حقا مبدأ العلم، ومحور الحتمية هو فكرة الضرورة، ولكن نظرا لعدم وجود الجبرية، فإن الضرورة لا تتعلق بالحوادث ذاتها إذا شئنا الدقة، وإنما بالشروط التي تحيط بها، وبعلاقاتها. فهي إذن «نسبية» أعني أنها صفة للعلاقات، لا للحوادث ذاتها.
والحق أن فكرة العلاقة قد تكونت بصعوبة كبيرة فاليونانيون قد أدركوا أهميتها، ونحن نعلم أنهم أسموهما
pros ti ، وهذا هو اسم المقولة الرابعة من مقولات أرسطو. غير أن العلاقة عندهم كانت تعبر عن مقارنة كمية يستخدم «أفعل تفضيل» لتحديدها، أو هي رابطة غير محدودة بين صفة نشعر بها، وبين حساسية الذات التي تدرك (فيقال مثلا إن المصاب بالصفراء يرى كل شيء أصفر اللون، أو أن المصاب بعمى الألوان يتساوى لديه الأخضر والأحمر). ونتيجة ذلك أن النسبة كانت تعد إحدى حجج الشك، والحق أن النظر إلى الأمور من وجهة النظر النسبية يجعل من المحال القول بوصف مطلق؛ فسقراط ليس طويلا ولا قصيرا؛ بل هو «أطول» من تيتاتوس، و«أقصر» من القبيادس، والكريز الناضج ليس أخضر ولا أحمر، بل هو أحمر «بالنسبة إلى» ذي الإبصار السليم مثلا، وأخضر وأحمر معا بالنسبة إلى المصاب بعمى الألوان الجزئي.
الرياضيات والنسبية العلمية
وقد كانت الرياضة هي التي حررت العقل إذ أعانته على تكوين فكرة صادقة. ذلك لأن العلاقة في الرياضة موضوع من موضوعات هذا العلم، ولقد كان اليونانيون هم الذين كونوا فكرة اللوجوس
Logos
وعرفوها، وكانوا يعنون بها العلاقة الرياضية أ /ب بل «التناسب» وتساوي العلاقات أ/ب = ج/د، واستخلصوا النظرية عن هذه العلاقات. وذلك هو موضوع الكتاب الخامس لإقليدس. وكانت مهمة العصر الحديث هي تعميم هذه الفكرة على نحو يكفي لتحويل النسبة إلى «دالة»
fonction . ويقدم ديكارت في «المقال في المنهج» تعريفا لعلم رياضي (الرياضة البحتة والمجردة
mathesis pura atque abstracta «كما يسميها في التأمل الخامس») هو نظرية محضة «للعلاقات أو النسب المختلفة».
19
وبعد أن اعتاد الإنسان أن يواجه فكرة العلاقة مباشرة، ويراها معقولة، انتهى به الأمر إلى إدراك أن النسبية بدلا من أن تؤدى إلى الشك، هي في الحق إحدى دعائم العلم. (1) قلنا إن الحتمية هي تأكيد ضرورة «شرطية» أعني ضرورة رابطة، وضرورة نسبية؛ فالحتمية تتخذ إذن صيغة «العلاقات الضرورية» وذلك هو ما يسمى ب «قوانين الطبيعة». ويطلق عليها «لوكريس
Lucréce » اسم
foedera
أي (مواثيق) تقوم الأشياء على أساسها، وهذه الكلمة تطابق تعبيرا أوغل في باب المجاز للفيلسوف اليوناني أنبدوقليس (في القرن الخامس ق.م.) قال فيه إن الطبيعة هي «قسم واسع النطاق» ولكن هذه كلها لا زالت تعبيرات أسطورية، تفترض وجود آلهة، وقدرا محتوما يصدر قسما ويظل على الدوام متمسكا بكلمته. على أن الرياضة قد استبعدت الآلهة، واستبدلت بفكرة الميثاق فكرة «الدالة» وسوف نرى فيما بعد أن قوانين الطبيعة هي دالات رياضية.
فالنسبية هي إذن، أولا، تصور الحتمية على هيئة شبكة من الدالات الرياضية التي تشمل الطبيعة، وتحل محل فكرة القدر القديمة. (1) يمكن تحديد نسبية الإحساسات تحديدا رياضيا (2) عندما كان اليونانيون يقولون إن الإحساس نسبي تبعا للحاس، كانوا يعتقدون أنهم بذلك يدعمون موقف الشك، فيما يتعلق بالمعرفة الحسية على الأقل. ولهذا السبب تحولت المدرسة الأفلاطونية إلى الشك بعد قرنين من الزمان. أما المحدثون فقد أفلحوا في إدماج نسبية الإحساس في العلم. ولتحقيق ذلك، أدمجوا الإحساس في دالة رياضية تربطه بالموضوع المحسوس، أي بالمنبه. ومن المؤكد، كما بين لنا علم النفس، أن الإحساس ليس كمية حقيقية، قابلة للإضافة؛ فالأبيض ليس مجموع لونين رماديين، ولكن إذا لم يكن من الممكن التعبير عن الإحساس بأرقام تسلسلية
cardinaux ، فمن الممكن التعبير عنه بأرقام ترتيبية
ordinaux ، أي إن من الممكن تدريجه؛ فمن الممكن تدريج الألوان الرمادية حتى أقصى مراحلها، أي حتى اللون الأبيض، وكل تدريج جديد يمثل عبور ما يسميه علماء النفس ب «العتبة
seuil » أي الحد الأدنى للإحساس. على أن العتبة (التي نعلم أنها على أنواع، منها الكمية المطلقة الفارقة ومنها الكيفية) يمكن أن يعبر عنها، من جانب الموضوع ذاته، برقم معين. مثال ذلك أن العتبة الكمية البصرية الفارقة تناظر 10 / 11 في حالة إضاءة الشيء، بالنسبة إلى القيم المتوسطة، والعتبة الكيفية الفارقة في الموسيقى هي 81 / 80 (أي أقل صوت ممكن). وعلى هذا النحو تحتل العين والأذن ... إلخ، مكانهما بين أدوات الملاحظة، بل أدوات القياس، وإن يكن هذا المكان متواضعا.
وليست أعضاء الحس في أساسها سوى نقط نهاية للأعصاب. فهي جزء من الجهاز العصبي. على أن للجهاز العصبي قوانين خاصة يخضع لها في أداء وظيفته، وتتحكم في الملاحظة العلمية، ف «التيار العصبي» مثلا له سرعة محدودة إلى حد كبير، وتتفاوت تبعا للأفراد، بحيث إننا عندما نرى الظاهرة، يمضي زمن معين (ما بين 10 و20 في المائة من الثانية) قبل أن نقوم برد فعل عليها. وقد أمكن تحديد قيمة هذا الزمن عن طريق علم النفس الفسيولوجي (دراسة زمن رد الفعل). (2) نسبية وجهة النظر يمكن تحديدها رياضيا بدورها
على أن هذا ليس كل ما في الأمر، فالملاحظة نسبية تبعا لمكان الملاحظة أيضا، لا تبعا للملاحظ وحده، إذ إن كل ملاحظة بشرية تبدأ من الأرض. ولقد ظن الناس في بداية الأمر - وكان ذلك أمرا طبيعيا - أن الأرض مرصد ممتاز للملاحظة فهي مركز العالم، والسماء تدور حولنا، ما دمنا نراها تدور حولنا. فعلم الفلك التلقائي يتخذ الأرض مركزا له
géocentrique
كما يقولون، وكذلك كان علم الفلك اليوناني. ولكنا نجد بين مفكري اليونان المتعمقين النابهين، من اعترفوا بأن الأرض تدور حول الشمس أو حول مركز العالم؛ ومن هؤلاء عالم فيثاغوري هو فيلولاوس
(القرن الخامس ق.م.) وعالم أفلاطوني هو أرسطارخس الساموسي
Aristarque de Samos (القرن الثالث ق.م.)، وظلت فكرتهم التي ظهرت قبل أوانها ، راكدة وحجبها انتصار المذهب الفلكي القائل بأن الأرض مركز الكون، وهو المذهب الذي أذاعه بطليموس (القرن الثاني بعد الميلاد). ثم بعثت الفكرة، كما نعلم، على يد كبرنك، وهو بولندي في القرن السادس عشر، وسار جاليليو (1564-1642م) في الطريق الذي بدأه كبرنك، وسرعان ما ذاعت تعاليمه، رغم ما عاناه من اضطهاد. والفكرة القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس، وحول نفسها، فكرة رياضية؛ إذ إن التصوير الرياضي لحركات الأجرام السماوية أكثر يسرا، وأقرب إلى العقل، إذا ما نظرنا إلى الشمس على أنها هي النقطة الثابتة، فإذا ما تبين لنا مقدار خصب نظرية كبرنك وجاليليو أدركنا أن التقدم العلمي، في هذه الحالة بدورها، كان مشروطا «بتحول» انصرف فيه العقل عن المحسوس، مفضلا عليه المعقول. (3) فكرة النسبية أدت إلى الكشف عن سرعة الضوء
أدت فكرة النسبية أيضا إلى كشف سرعة الضوء، وهو كشف له أهميته القصوى في علم الضوء؛ بل في الميكانيكا ذاتها في الوقت الحاضر. فالرأي التلقائي الذي كان شائعا هو أن الضوء لا يستغرق زمنا، وهو رأي مبني على استدلال ساذج. هو أن الحادث الذي أراه، قد وقع في لحظة معينة، ما دمت قد رأيته في هذه اللحظة (أما بالنسبة إلى الصوت، فقد تحول الناس عن هذا الرأي، عن طريق تجارب بسيطة ملفتة للنظر إلى حد بعيد، ولكن كان لها أثرها البالغ). ومن الواضح أن في هذا الاستدلال مغالطة، ولكن ما كان يمكن التخلص منها إلا بإرشاد تجارب عظيمة الدقة، تفسر بناء على فكرة النسبية. ففي سنة 1676م لاحظ عالم الفلك الدانمركي «أولاف رومر
Olaf Reomer » عضو أكاديمية العلوم بباريس، أن أول تابع من توابع المشتري يدور حول ذلك الكوكب في زمن متغير (وكان التغير يقدر بحوالي ربع ساعة في الأسبوع)، وعندما فحص الشروط الأرضية للملاحظة، تبين له أن التابع يصبح «متقدما» عن المتوسط الزمني عندما تقترب الأرض من المشتري (الذي يسير في دورانه بسرعة أبطأ من الأرض كثيرا) ويصبح «متأخرا» عندما تبتعد الأرض عنه. فخطر بباله عندئذ أن للضوء سرعة معينة، وبالتالي، أن الأرض عندما تقترب من الكوكب، تتلقى الأشعة المضيئة بسرعة أكبر، أما إذا ازدادت المسافة فإنها تتلقاها ببطء أكبر؛ بل لقد استخلص من ذلك تقديرا لسرعة الضوء، وإذا كان ذلك التقدير مخطئا (200000 بدلا من 300000كم في الثانية) فإنه يعد تقديرا رائعا في ذاته، ويرجع خطؤه إلى أسباب لا صلة لها بمنهجه.
وهنا أيضا تظهر النسبية في التصميم على إعطاء دور للملاحظ (البشري أو الأرضي) في كل ملاحظة، وعلى جعل هذا الدور قابلا للتقدير الحسابي بقدر الإمكان، فيتيح لنا ذلك فرصة استبعاد تأثير الملاحظ على الملاحظة. (4) الرياضة والدقة العلمية
كل هذا يفترض تطبيق الرياضة على الطبيعة، بطرق شديدة الاختلاف. غير أن إدخال الرياضة في هذا الميدان يمكن من القيام بمجهود آخر، بل يتطلب مثل هذا المجهود، وأعني به السعي وراء «الدقة».
فالرياضة لا تتميز بالدقة التامة فحسب (2 + 2 = 4 بالضبط، المثلثان اللذان تتساوى أضلاع كل منهما بالآخر ينطبقان تمام الانطباق) بل إنها هي الدقة ذاتها، إلى درجة أنها تمكننا من قياس عدم الدقة بدقة تامة، إذ توضح بكل دقة فيم يكون المقياس غير دقيق، فيقال إن عدم الدقة يصل إلى 1 / 1000 أو 1 / 10000 إلخ، بحيث تكون الدقة متناسبة مع مقام هذا الكسر.
والقول يعد «دقيقا» إذا كان ينطبق على الواقع بطريقة محددة تماما، أعني إذا كان ذلك القطاع من الواقع الذي يشير إليه القول محصورا تماما، ولا ينطوي تبعا لذلك إلا على أقل قدر ممكن من عدم التحديد، ومن اليسير أن نتبين الفارق بين قضيتين مثل: الطقس بارد، الترمومتر يشير إلى درجة تحت الصفر. فالأولى تنطبق على عدد من الوقائع أكبر بكثير من ذلك الذي تنطبق عليه الثانية. ومن هنا نرى إلى أي حد تفيد الصيغة الرياضية في إكساب الدقة. فهي تزداد دقة على الدوام، ما دام في وسعنا دائما أن نضيف أرقاما عشرية، كلما ازدادت دقة أجهزة القياس.
الأشكال المتتابعة للروح العلمية
لقد تطورت الروح العلمية، وليس من الصعب إدراك سبب تطورها هذا: (1)
فالتقدم في الأساليب الفنية الصناعية يمدنا بأجهزة علمية أكمل وأقوى مما كان لدينا، نتمكن بواسطتها من الاهتداء إلى ظواهر كانت مجهولة، كما يزيد دقة الأقيسة من جهة أخرى. (2)
وتقدم الرياضة يأتي بدالات جديدة، وتعبيرات جديدة، يمكن استخدامها في حل مشكلات جديدة. (3)
وإن مجرد تكديس الملاحظات التي تقوم بها الأجيال المتعاقبة من الباحثين، ليأتي بوقائع جديدة تثير مشاكل لم تكن معروفة، وتخلق مزيدا من الصعوبات. (4)
والعلم يغير شكل العالم؛ فهو يعمل أولا على تعبير آفاقه بالنسبة إلى عقولنا، ثم إن الصناعة الحديثة، التي نشأت عن العلم، تتابع طريقها إلى السيطرة المادية على كوكبنا هذا، والكون الجديد يولد علما جديدا، وهكذا دواليك، وعلى ذلك فبين الوقائع وبين المعرفة العلمية سلسلة غير محدودة من الأفعال وردود الأفعال.
كل هذه الأسباب لا تؤدي إلى تغير العلم فحسب؛ بل إلى تغيير للروح العلمية ذاتها؛ إذ تظهر مناهج جديدة، تقتضي صورة جديدة للعقل، وصفات جديدة له.
وهكذا يمكن أن يروى تاريخ الروح العلمية، وإن كنا لا نزمع القيام بهذا العمل؛ بل سنكتفي بأن نعرض بإيجاز شديد للمراحل الكبرى التي يمكن أن نلمحها في ذلك التاريخ. (1) علم الطبيعة الميكانيكي
يبدأ هذا التاريخ من القرن السابع عشر. ففي السنوات الأولى من ذلك القرن نشأ علم الطبيعة بمعناه الصحيح من علم الفلك عند كبرنك وجاليليو. (1) وإذن يمكننا أن نميز مرحلة أولى تشمل القرن السابع عشر. هذه المرحلة تسيطر عليها النظرة الآلية المعروفة عند ديكارت وجاسندي.
20
وفيها كان ينظر إلى التركيب الداخلي للظواهر على أنه مكون من آلات صغيرة إلى أبعد حد، كالعتلة والملفاف والنورج الآلي والرافعة؛ أعني أقدم الآلات البشرية، التي بدأ أرشميدس (في القرن الثالث ق.م.) في وضع النظرية المبنية عليها، والتي أتمها ديكارت.
21
فظواهر المغناطيسية مثلا يفسرها ديكارت بحركة مسامير حلزونية لا متناهية الصغر تدخل في مسام أجسام معينة (المغناطيسي الطبيعي، والصلب) فتوجهها أو تنقلها من موضعها؛ أي أن تفسير الظاهرة هو وصف للأنموذج الآلي الذي تمثله تفاصيل تركيبها الداخلي. (2) فيزيقا القوى المركزية (2) ومنذ أن انتصر نيوتن، وطوال القرن الثامن عشر، لم تعد الأمور تفسر على النحو السابق ، بل استبدل بالتفسير القديم مذهب «القوى المركزية»، والمقصود بهذا التعبير، قوى الجذب والتنافر الموجهة نحو فقط (مراكز )، أو الخارجة من نقط، تمثلها موجهات
Vecteurs ، وهي المستقيمات المعروفة التي تتخذ صورة السهام. فتفسير ظاهرة (كالثقل وحركة النجوم، والجذب المغناطيسي أو الكهربي وتغير سطح السائل في أنبوبة الاختبار، ومثل العناصر إلى الاتحاد في الكيمياء) إنما هو رسم الموجه، الذي يحدد قانونه خصائصه الرياضية. ونستطيع القول بأن ميتافيزيقا الطبيعة عند «كانت» هي الصورة الواعية والمنظمة لهذه الفكرة. كما تتمثل حتمية الموجهات هذه في الصيغة المشهورة التي عبر بها لابلاس عنها (1794-1827م): «لو استطاع عقل ما أن يعلم في لحظة معينة جميع القوى التي تحرك الطبيعة، وموقع كل كائن من الكائنات التي تتكون منها، ولو كان ذلك العقل من السعة بحيث يستطيع إخضاع هذه المعطيات للتحليل، لاستطاع أن يعبر بصيغة واحدة عن حركة أكبر أجسام الكون وعن حركات أخف الذرات وزنا، ولكان علمه بكل شيء علما أكيدا، ولأصبح المستقبل والماضي ماثلين أمام ناظريه كالحاضر تماما.» (3) فيزيقا المجالات (3) في القرن التاسع عشر، أدت دراسات كولومب
Coulomb (1736-1809م) وأمبير
Ampére (1775-1836م) وفارادي
Faraday (1791-1867م) في الكهرباء والمغناطيسية، ونظريات ماكسويل
Maxwell (1831-1879م) في الضوء (الذي هو في رأيه ظاهرة كهربائية مغناطيسية في أساسها)؛ إلى ظهور فكرة جديدة عن الحتمية: هي حتمية المجال. والمقصود بالمجال نطاق معين من المكان يتحكم كل جزء من أجزائه في الآخر تحكما «متبادلا»، طبقا للتركيب الخاص للمجموع؛ فالحتمية هنا لم تعد تتصور خلال التعاقب الزمني بل خلال التزامن
simultanéité ، أي أن السابق ليس هو الذي يتحكم في اللاحق، وإنما المجموع هو الذي يتحكم في الجزء. (4) الروح العلمية الجديدة (4) وأخيرا، ومنذ السنوات الأولى في القرن العشرين، ظهرت «روح علمية جديدة» - على حد تعبير باشلار
Bachelard - من مختلف النظريات العامية. وسنرجئ مهمة وصف هذه الروح الجديدة،
22
وحسبنا أن نقول: إنها أحدثت في العلم انقلابا بعيد المدى لا نستطيع القول على الإطلاق إن نتائجه الفلسفية قد ظهرت كلها.
الفصل الرابع
تصنيف العلوم
يمكننا أن نتخذ من تقسيم «أوجست كونت» أساسا، وتبعا لهذا التقسيم ، ينبغي التمييز بين العلوم العملية أو علوم الأساليب الفنية، التي يطبقها المهندسون، والعلوم النظرية التي يبحث فيها العلماء، والعلوم النظرية إما عينية (كعلوم الحيوان أو النبات مثلا) أو مجردة (كعلم وظائف الأعضاء).
والعلوم المجردة الرئيسية ستة: الرياضة، والفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء، وعلم الحياة، وعلم الاجتماع. وهذه العلوم مرتبة ترتيبا من حيث البساطة والعموم، وهي علوم لها صفاتها النوعية، إذ لا يمكن إرجاع كل منها إلى العلم السابق عليه، فالمذهب الوضعي يتنافى مع المذهب المادي.
ومنذ عهد أوجست كونت، تطورت العلوم بحيث أصبح تصنيفه غير مطابق لحالة العلم كل المطابقة. فقد ظهرت علوم جديدة (مثل علم الطبيعة الفلكي، وعلم الطبيعة الذري)، واحتلت هذه العلوم مكانة تعلو مكانة علوم كثيرة أخرى، وأثبتت وحدة العلم التي تعبر، كمال قال «ديكارت» عن وحدة العقل الإنساني، وأصبحت المثالية، التي تؤكد هذه الوحدة، في مركز أقوى من حيث قدرتها على مناهضة المادية، من النزعة الروحية عند أوجست كونت.
فائدة القيام بتصنيف للعلوم، ولو كان مؤقتا
كونا فيما سبق فكرة أولى عن العلم، وعلينا الآن أن ندرس مختلف العلوم على التخصيص، ولأجل هذه الغاية ينبغي لنا أن نصنفها.
ومن المؤكد أننا لا نولي تصنيف العلوم أهمية أساسية، وذلك لأسباب سنوضحها في ختام هذا الفصل، ولن يكون التصنيف الذي سنعرضه إلا تصنيفا مؤقتا، ولكن من الضروري أن يوجد تصنيف أيا كان. فميزة التصنيف أنه يضفي دقة على المصطلحات الفنية في العلوم. والحق أنه لو لم تكن له من فائدة إلا هذه، لكان ذلك كافيا. ولقد وصف كوندياك
Condillac
العلم بأنه «لغة أحسن إعدادها». وفي مقابل ذلك نرى أن اكتمال اللغة يؤدي إلى بدء المعرفة، كما يؤدي وضع المصطلح على أسس عقلية إلى البدء في معرفة الأشياء. وفضلا عن ذلك، فلما كنا سنقتبس تصنيفنا المؤقت من أوجست كونت
1
الذي كان شديد الانكباب على معرفة علوم عصره، والذي اتجه بفكره إلى المشاكل التي تثيرها الصلات بين هذه العلوم، فسوف نستطيع الاهتداء خلال ذلك إلى أفكار طريفة وعميقة.
تصنيف بيكن (1623م) وأصحاب جائزة المعارف (1751م)
لكي يتسنى لنا فهم تصنيف «أوجست كونت»، يجب علينا أن نقول بضع كلمات عن التصنيفات السابقة له، والتي نقدها هو. فهو يتحدث أولا عن تصنيف «فرانسيس بيكن»، وأساس هذا التصنيف هو التفرقة بين ثلاث ملكات لدى الإنسان، وهي الذاكرة، والخيال، والعقل. فالذاكرة يناظرها التاريخ، الذي ينقسم إلى التاريخ المدني (وهو ما نسميه عادة اليوم بالتاريخ، بمعناه الصحيح) والتاريخ الطبيعي. والخيال يناظره الشعر. وأخيرا فالعقل هو أساس الفلسفة أو العلم بمعنى الكلمة، وهو الذي قد يكون موضوعه الله (اللاهوت) أو الطبيعة (الفلسفة الطبيعية) أو الإنسان (الفلسفة الإنسانية).
ثم يتحدث كونت بعد ذلك عن تصنيف أصحاب دائرة المعارف، وهو تصنيف ديدرو.
2
وهذا التصنيف شبيه من حيث المبدأ، بتصنيف «بيكن»، وهو التفرقة بين الكلمات الأساسية الثلاث للعقل: الذاكرة، والعقل، والخيال.
نقد التصنيفين: لا يعترفان بوحدة العقل
يقول «كونت» إن مثل هذه التصنيفات «معيبة من أساسها»، إذ إن عقلنا يستخدم، في كل مجال من مجالات نشاطه، جميع ملكاته الأساسية في آن واحد، وإنه لمن اليسير أن نبين أن الفنون الجميلة، مثلا لا تقوم على أساس الخيال وحده، وإنما على الذاكرة والعقل أيضا، إذ إنها كثيرا ما تتطلب من الفنان أن يكون ملما بمعلومات واسعة، وتقتضي في جميع الأحوال تنظيما عقليا للعناصر التي يمدنا بها الخيال. ولكن، لما كان اهتمامنا هنا منصبا على العلوم وحدها، فلنقتصر إذن على تذكرة القارئ بما قلناه عن مكانة الخيال العلمي
3
ولنضف إلى ذلك أن الذاكرة، هي دون ريب، ملكة لا غنى للعالم عنها، لا لأنها كما قال باسكال «ضرورية في كل عمليات العقل
4
فحسب، لأن العالم هو أيضا جامع للوقائع، فهو إذن في حاجة إلى ذاكرته حتى يكون مادة تجربته.»
ولنقل بوجه عام إن الوظائف العقلية لا يمكن أن تفصل كل منها عن الأخرى، وهي تتضافر دائما، بحيث إن كل تقسيم يقوم على أساس التمييز بينها هو تقسيم مصطنع.
تصنيف أوجست كونت (1830م): العلوم النظرية والعلوم التطبيقية
إن أول تقسيم يفرض هنا هو تقسيمها إلى علوم نظرية، وعلوم تطبيقية أو عملية أو فنية.
والفارق بين النوعين واضح كل الوضوح؛ فموضوع الفئة الثانية هو تأثير الإنسان في الطبيعة، بغية زيادة قوته ورفاهيته ، وضمان صحته، وإطالة عمره. وربما كان الهدف منها هو أن تساعده على أن يصبح أرجح عقلا مما هو عليه. والعلمان الرئيسيان في هذا الفرع هما الصناعة والطب، ويرتبط علم الصحة بالطب، بمعناه الصحيح. أما الصناعة فتحتل ميدانا واسعا، نستطيع أن نتبين بعض أجزائه بوضوح وهي: الكيمياء الصناعية، والكهرباء التطبيقية، وسبك المعادن، والميكانيكا التطبيقية؛ بل نستطيع أن نضيف إليها «معرفة الأجواء» وهو تطبيق للمعارف الفلكية على الملاحة.
5
ولقد نبه «أوجست كونت» إلى الأهمية المتزايدة التي تحتلها فئة المهندسين في المجتمع الحديث، وهي فئة تحتل مكانا وسطا بين العلماء ورؤساء العمل في الصناعة.
ولكن العلوم النظرية هي التي تهمنا بوجه خاص، وهدف هذه العلوم هو معرفة الطبيعة والإنسان، لا لشيء إلا لأجل إشباع غريزة حب الاستطلاع في الإنسان، وزيادة شعوره بذاته وبالعالم.
تقييم العلوم النظرية إلى مجردة وعينية
إذا نحن اقتصرنا على العلوم النظرية، وجدناها تنقسم بدورها إلى علوم مجردة، وعلوم عينية. «فالعلوم المجردة، العامة، تهدف إلى كشف القوانين التي تتحكم في مختلف أنواع الظواهر، أما العلوم العينية، أو الخاصة، أو الوصفية .. فمهمتها تنحصر في تطبيق هذه القوانين على التاريخ الفعلي لمختلف الكائنات الموجودة.»
وهاك أول مثال يؤيد هذه الفكرة؛ فإذا تأملنا علم وظائف الأعضاء العام من جهة، وعلم الحيوان وعلم النبات من جهة أخرى، وجدنا الأول يدرس «قوانين الحياة بوجه عام» والآخران يحددان «طريقة وجود كل من الأجسام الحية، على وجه الخصوص».
وإليك مثالا آخر؛ فالكيمياء ترتبط بعلم المعادن: «ففي الكيمياء نبحث كل التجمعات الممكنة للجسيمات، وفي كل الظروف التي يمكن تصورها، وفي علم المعادن، لا نبحث إلا في تلك التجمعات التي تتحقق في التركيب الفعلي للكرة الأرضية، وتحت تأثير الظروف الخاصة التي تتميز بها الأرض وحدها.»
وهاك مثالا ثالثا، هو علم الطبيعة المجردة (
physique abstraite ) بالنسبة إلى علم الطبيعة العيني، وأوجست كونت يعني بكلمة «علم الطبيعة العيني » ما نعنيه نحن اليوم بكلمة «علم الطبيعة للكرة الأرضية»، وهو يشمل، بطبيعة الحال، علم الأرصاد الجوية.
وفي استطاعتنا أن نأتي بأمثلة أخرى؛ فعلم الفلك المجرد ، أو الميكانيكا السماوية، يتميز عن علم الأكوان «الكوسموجرافيا
Cosmographie » الذي يدرس النجوم كلا منها على حدة، لا القوانين بوجه عام.
وسوف نستبقي هذا التقسيم لما فيه من فائدة جمة؛ فالعلوم المجردة تحدد صيغ القوانين العامة، وتدرس جزءا معينا من الطبيعة، واضعة نصب أعينها ما يظهر بين الموجودات التي تكون هذا الجزء من «أوجه تشابه». أما العلوم العينية فتركز بحثها على «الفروق» فهي إذن تقوم على التصنيف، والوصف التفصيلي؛ بل إنها في أيامنا هذه أقرب كثيرا إلى الوصف التفصيلي منها إلى التصنيف؛ إذ إن التصنيف الطبيعي قد فقد قدرا كبيرا من أهميته بسبب تأثير المذهب التطوري.
6
ولنضف إلى ذلك أن «كورنو»
7
قد اعترف لتفرقة أوجست كونت ذاتها، وإن كان قد عمقها وأضفى عليها مزيدا من الوضوح؛ فهو يضع تقابلا بين وجهة النظر النظرية، ووجهة النظر التاريخية. ففي رأيه أن العلوم التاريخية لا تتميز عن العلوم النظرية فحسب، بأنها ليست مستمدة منها، كما اعتقد أوجست كونت، فيما يبدو. فهي تكون مجموعة منفصلة، لها منهجها الخاص، وتعتمد على حالة عقلية مختلفة كل الاختلاف، وتوجهها أفكار متباينة كل التباين.
العلوم المجردة الرئيسية الستة
ولن نتابع بعد الآن نص أقوال أوجست كونت طويلا، وذلك لأنه يمضي عن طريق التفريع، أي عن طريق تقسيمات ثنائية متتابعة
8
وهذه الطريقة منهجية إلى أبعد حد، ولكنها تترك خارجها العلم الرياضي - ويجب أن نعترف بأن ذلك كان مقصودا، وراجعا إلى أسباب سنوضحها فيما بعد - ثم إنها لا تكشف بما فيه الكفاية عن الفكرة الأهم، وأعني بها تسلسل العلم.
فلنكتف إذن بالقول إنه قد ميز في نهاية الأمر بين ستة علوم مجردة أساسية وهي: الرياضة، والفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء، وعلم الحياة وعلم الاجتماع.
هذه العلوم الستة متسلسلة
توزع هذه العلوم توزيعا متسلسلا، أعني تبعا لنظام يقضي بأن يؤدي كل منها إلى الإتيان بشيء جديد بالنسبة إلى ما سبقه، وبحيث يكون هذا الشيء أسمى وذا قيمة أكبر. فموضوع الرياضة مجرد تماما، وهو ليس متصلا بالواقع بالمعنى الصحيح؛ فالرياضة تدرس الأفكار لا الأشياء. أما العلوم التالية فتدرس أشياء تزداد قيمتها بالتدريج: كالمادة الجامدة أولا، ثم المادة الحية، وأخيرا العقل الإنساني. فإذا ما تتبعنا ترتيب العلوم التي صنفت على هذا النحو، سرنا من الأدنى إلى الأعلى.
ويمكن القول بلغة بعض الفلاسفة المعاصرين إن كلا من موضوعات هذه العلوم المتعاقبة هو «نوع من الارتقاء» بالنسبة إلى سابقه، والمقصود بكلمة «الارتقاء» ظهور حقيقة لها قيمة أكبر، من داخل حقيقة لها قيمة أقل.
ومن المهم أن نلاحظ أن هذا الارتقاء يتوقف على ما يسبقه؛ أي أن الأدنى يتحكم في الأعلى. فالحياة مثلا، تتحكم فيها قوانين المادة الجامدة، والجسم الحي يخضع لقوانين الثقل أو الجاذبية. ولكي يكون في حالة توازن يجب أن يكون الخط العمودي النازل من مركز ثقله داخل الشكل الهندسي الذي يكونه وهو واقف، وإلا سقط، وذلك لأن صفة الحياة لا تكفل له أية ميزة في هذا الصدد.
وهذا يؤدي بنا إلى القول بأن الكائن الحي مثلا يخضع لنوعين من القوانين: هي قوانين الحياة، وقوانين المادة الجامدة. وإذن، فإذا تأملنا مفهومه وجدناه أوسع من مفهوم المادة الجامدة، وبالتالي يكون «ماصدقه» أقل.
9
ولقد عبر «أوجست كونت» - الذي كان يجهل مصطلح المناطقة، وقانون التناسب العكسي الذي عرضناه - عن الفكرة ذاتها بطريقة أخرى فقال «إن أبسط الظواهر، أعني تلك التي تعد أقل تعقيدا من الظواهر الأخرى، هي أعمها بالضرورة.» فلنقل نحن إذن، مستخدمين مصطلح المناطقة: إن العلوم توضع في ترتيب يتناقص فيه ماصدق موضوعاتها ويزداد مفهومها. أما بلغة كونت، فلنقل أنها ترتب ترتيبا تنازليا من حيث البساطة والعموم.
ولقد تأملنا، منذ قليل، حالة خاصة، هي حالة علوم المادة الجامدة بالنسبة إلى علوم الحياة. ولكن نفس الفكرة تنطبق على الصلة بين الرياضة وبقية العلوم، كما تنطبق على الصلة بين علم الفلك وعلم الطبيعة الأرضية؛ إذ إن الأرض نجم، ثم إنها مقر الظواهر الحرارية والكهربائية والضوئية التي تدرس في علم الطبيعة. كذلك الحال في علاقة علم الطبيعة بالكيمياء؛ فالظاهرة الكيميائية تخضع لقوانين علم الطبيعة، وتزيد عليها من جهة أن فيها تفاعلات لها قوانينها الخاصة. وأخيرا، فالطبيعة البشرية إذا اتخذت موضوعا، تشذ على كل قوانين الفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء، وعلم الحياة؛ إذ إن الإنسان كائن أرضي، وجسم جامد، وموصل جيد أو رديء للحرارة والكهرباء، ويمكن أن يتفحم وأن يحترق، وأن تؤذيه الأحماض، وهو كائن حي يهضم ويفرز، وهو فضلا عن ذلك إنسان له مصيره الروحي.
كل حقيقة لها نوعها الخاص بها أي لا يمكن إرجاعها إلى الحقائق السابقة
ومن هذه الملاحظة الأخيرة تتضح لنا الفكرة الفلسفية العميقة التي أوحت بهذا التصنيف: ألا وهي أن الحقائق تتمثل في سلسلة يكون لكل واحدة منها نوعها الخاص بها، أعني لا يمكن إرجاعها إلى الحقائق السابقة عليها.
والواقع أن لدى العلماء ميلا إلى «المذهب المادي» وهو - على حد التعبير الرائع الذي عرفه به «كونت»: «تفسير الأعلى بالأدنى.» على أن العالم ذاته يرى أن كل مرحلة من مراحل الواقع، كالعالم الرياضي (وهو ليس في حقيقة الأمر عالما واقعيا) والعالم الطبيعي، والعالم الكيميائي، وعالم الأحياء، وعالم البشر. كل مرحلة من هذه تعد جديدة كل الجدة بالنسبة إلى المرحلة السابقة عليها. فالمذهب المادي إذن في رأي «كونت»، مضاد للعلم في أساسه.
ومن هنا كانت تلك الحملات التي وجهها إلى ما أسماه بمذهب «الواحدية
monisme »، أعني المذهب الذي يرجع الواقع بأسره إلى الوحدة: «إنني أعتقد، في قرارة نفسي، أن محاولات تفسير الكون بناء على قانون واحد، محاولات باطلة في أساسها، حتى لو تصدت للقيام بها أكثر العقول ذكاء وتخصصا.»
أوجست كونت من السابقين إلى القول ب «مذهب العرضية»
يعد أوجست كونت في هذه المسألة سابقا للفلاسفة الفرنسيين الذين أكدوا في القرن التاسع عشر من بعده، «عرضية» مختلف المجالات التي تدرسها العلوم المتعاقبة، والعرضية ضد الضرورة، وإذن فتأكيد عرضية حقيقة ما يعني تأكيد استحالة استخلاصها كنتيجة، من الحقيقة الأدنى منها. فعلم الطبيعة «عرضي» بالنسبة إلى الرياضة، أي أن الحقيقة الفيزيائية فيها شيء لا يمكن إرجاعه إلى الرياضة. كذلك شأن الحياة بالقياس إلى المادة الجامدة، والكائن الإنساني بالقياس إلى الكائن البيولوجي. وذلك هو المذهب الذي جمع بين رافيسون
Ravaisson
وكورنو
Cournot
إميل بوترو
E. Boutroux
وأخيرا برجسون
Bergson .
10
وهكذا وجد في فرنسا مذهب وضعي مضاد للمادية، ومذهب روحي يبنى على أساس العلم ذاته.
الترتيب المتسلسل يجب أن يكون هو أيضا ترتيب العلوم في برامج التدريس
يوحي تصنيف «أوجست كونت» بفكرة أخرى. فإذا كانت مجالات العلوم المتعاقبة يتوقف كل منها على الآخر تبعا لترتيب متسلسل، فإن دراسة كل علم تتوقف على دراسة العلوم السابقة عليه، بحيث يتعين علينا أن ندرسها بالترتيب الذي يحدده التصنيف، وعلى ذلك يكون أساس تدريس العلوم هو دراسة الرياضيات؛ وتلك فكرة تبدو لنا في القرن العشرين، طبيعية إلى أقصى حد، ولا شك في أنها ليست جديدة؛ بل لقد دعا إليها من قبل علماء القرنين السابع عشر والثامن عشر. لكن المذهب الوضعي عند «أوجست كونت» هو الذي فرضها على الرأي العام، وبالمثل تنطوي دراسة العلوم البيولوجية ضمنا على دراسة العلوم الفلكية، أو على الأقل العلوم الطبيعية الكيميائية. فعلم الإنسان يفترض العلوم السابقة له.
الترتيب المتسلسل هو الترتيب الذي ظهرت به مختلف العلوم
إذا كان حقا أن العلوم يعتمد بعضها على بعض في الترتيب المتسلسل فلا بد أن تكون العلوم قد ظهرت تبعا لهذا الترتيب ذاته، ولكن لنلاحظ أولا أنه يجب علينا ألا ننظر إلى نقطة بدء العلوم على أنها هي اللحظة التي بدأت فيها البحوث التي استغلها ذلك العلم، فلو صح ذلك لكانت العلوم كلها قديمة كالإنسانية نفسها، فقد كان هناك دائما حاسبون، وفلكيون (أو بالأحرى منجمون) وأطباء. غير أن العلم يبدأ عندما يحدد المنهج الخاص به، وفضلا عن ذلك فإن الترتيب التاريخي لا يتفق اتفاقا دقيقا، بأية حال من الأحوال مع الترتيب المنطقي؛ بل يتضمن ظروفا لا يمكن حسبانها، فهو «عرضي» بدوره وبطريقته الخاصة.
ويمكننا القول، على وجه الإجمال، إن العلوم قد ظهرت في صورتها النهائية، بهذا الترتيب المتسلسل، وسوف تتاح لنا، فيما بعد، فرصة إثبات هذه الحقيقة على نحو أدق. وحسبنا الآن أن نقول أن الرياضيات والفلك علمان يونانيان، وأن علم الطبيعة قد اتخذ صورته الحديثة في القرن السابع عشر، والكيمياء في القرن الثامن عشر، وعلم الحياة في القرن التاسع عشر، وفي ذلك القرن نفسه، وبعد فترة طويلة، ظهرت علوم الإنسان، كالتاريخ العلمي، وعلم النفس التجريبي وعلم الاجتماع.
عيب تصنيف «أوجست كونت» وحدة العلوم
رغم أننا اقتبسنا من «أوجست كونت» معلومات عديدة، فإن هذا لا يمنعنا من أن نوجه إليه نقدا عاما، وأن نوضح بعد ذلك، النقط التي يؤدي فيها تطور العلم في وقتنا الحالي إلى تجاوز تصنيفه.
أما النقد العام، فينحصر في التنبيه إلى أن أوجست كونت، وإن كان قد أوضح الطبيعة الخاصة للعلوم المختلفة، لم يكشف عن وحدتها بما فيه الكفاية. فقد كان شديد الحذر من المذهب المادي، إلى درجة أنه كان يخشى أن يشجع مذهب «الواحدية» إذا ما أكد وحدة العلم، غير أن هذه الوحدة يمكن أن تتصور بطريقتين مختلفتين كل الاختلاف؛ تقوم أولاهما على الموضوع، والأخرى على الذات أو العقل، ويأبى «كونت» الاعتراف بالوحدة القائمة على الموضوع، والتي ترجع جميع الحقائق إلى حقيقة واحدة هي أدنى هذه الحقائق. غير أن ثمة وحدة أخرى، مضادة تماما لهذه، تؤكد وحدة العقل خلال مناهجه العديدة. ولنستمع إلى ديكارت وهو يقول: «إن كل العلوم مجتمعة ما هي إلا العقل البشري الذي يظل واحدا على الدوام، ويظل دائما على ما هو عليه مهما تغيرت الموضوعات التي ينصرف إلى بحثها، والذي لا يطرأ عليه من التغير أكثر مما يطرأ على ضوء الشمس نتيجة لاختلاف الأشياء التي تضيئها.»
11
وليس لنا أن نخشى أن يؤدي بنا هذا النوع من الأصل المشترك إلى المذهب المادي؛ بل هو يقرر فورا حقيقة العقل. ومع ذلك، فلن نطلق عليه اسم «المذهب الروحي» رغم ارتباطه الاشتقاقي بمضمون هذا المذهب؛ إذ قد شاع إطلاق اسم النزعة الروحية على المذهب الذي يهتدي إلى الروح في الأشياء.
فالمذهب الوضعي روحي باعتبار مقصده ؛ لأنه يعترف بأن الحقيقة الواقعية تنطوي على قيم متدرجة تتجه في أعلاها إلى الروحية، ولنقل بدلا من ذلك، إن تأكيد ديكارت «مثالي». فالمثالية تسعى وراء الروح، لا في الأشياء، ولكن في معرفة الأشياء.
العلم المعاصر وتصنيف كونت
لقد أحرز العلم منذ عهد أوجست كونت تقدما كبيرا، فكان من الطبيعي أن يتجاوز هذا التقدم تصنيفه. ومما يؤيد ذلك أن العلم المعاصر يستلهم روحا مخالفة لروح «أوجست كونت» إلى حد ما، وهي أقرب إلى روح ديكارت، الذي اتجه إلى الوحدة - وليس المقصود هنا الوحدة عن طريق وضع قانون شامل؛ بل عن طريق تطبيق منهج واحد بقدر الإمكان، وهذا المنهج الرياضي - فالمثل الأعلى المشترك لكل العلوم هو علم الطبيعة الرياضي، الذي ينطوي على علم الفلك، وعلى علم الطبيعة والكيمياء، ويضم هذه العلوم كلها في وحدة وثيقة الارتباط، يكاد يكون من المستحيل تمييز كل علم فيها عن العلوم الأخرى، ويستحيل بالفعل فصلها بعضها عن بعض. ولقد أدى هذا النشاط الموحد إلى ظهور علمين جديدين كل الجدة، سبقا العلوم الأخرى، وأصبحا رمزا لهذا العلم الموحد، الذي يناظر ما كان يحلم به ديكارت من وحدة العقل. وهذان العلمان هما: (1)
علم الطبيعة الفلكي
astrophysique
أعني تطبيق علم الطبيعة، ومن خلالها الكيمياء، على النجوم، لتحديد تركيبها وحرارتها وكتلتها ومقاديرها وأبعادها وعمرها أيضا، وذلك عن طريق عمليات غير مباشرة تتضافر كلها لتحقيق هذا الهدف، وتقتضي براعة لا حد لها. (2)
علم الطبيعة الذري
microphysique
وهو تطبيق علم الطبيعة على الذرات ومكوناتها (الإلكترونات ... إلخ) وهذه الدراسة تؤدي إلى تأكيد وحدة المادة، وهي فكرة مخالفة تماما لما قال به كونت.
ومن جهة أخرى، فلما كانت البيولوجيا تتحول بالتدريج إلى أن تعدو علما طبيعيا كيميائيا، ولما كان علم الطبيعة الفلكي وعلم الطبيعة الذري يتصلان في مواضع عديدة، بحيث تطلعنا الذرة والنجم كل منهما على أسرار الآخر، لهذا كله يبدو أن رأي ديكارت كان أقرب إلى الصواب من رأي أوجست كونت.
خطة هذا البحث
ومع ذلك، فسوف نتبع الخطوط الرئيسية للتصنيف الوضعي، إذ إنه لا يزال ينطبق، إلى حد غير قليل، على ترتيب العلوم على النحو الذي ندرس عليه (ولكنه لا ينطبق تماما على هذه العلوم من حيث شأنها). وإذن، فسنبدأ بدراسة العلوم الرياضية، من حيث موضوعها، ثم من حيث منهجها، وننتقل بعد ذلك إلى العلوم الطبيعية (علم الفلك والفيزياء والكيمياء)، ثم تأتي علوم الحياة (البيولوجيا) ثم نخصص فصلا للعلوم الأخلاقية التي تتجاوز علم الاجتماع إلى حد غير قليل. وأخيرا، نلم إلماما سريعا بالنظريات الحديثة في علم الطبيعة.
الفصل الخامس
موضوع العلوم الرياضية
الترتيب والقياس - العدد والمقدار
العلوم الرياضية هي الأدوات العقلية لكل العلوم، وهي أيضا علوم قائمة بذاتها؛ بل هي أكمل العلوم، لأن موضوعها هو القياس والترتيب.
فالرياضة، من حيث إن موضوعها هو القياس، تنقسم إلى رياضة المقادير (الهندسة والميكانيكا)، ورياضة العدد (الحساب والجبر)، ورياضة العدد الذي يطبق على المقادير وعلى الحجوم (الهندسة والميكانيكا التحليليتان).
والمكان، الذي هو رمز ومقياس لكل المقادير «صورة أولية»، وليس معنى ذلك أنه يعرف عن طريق الحدس الفطري؛ بل معناه أنه يبنى بوساطة نشاط العمليات العقلية المستقلة، فينشأ أولا في الإدراك الحسي، ومن بعده في الرسم وغيره من الأساليب العملية.
والعدد أيضا ينتج عن نشاط عمليات عقلية، تضع الوحدات، وتحصيها.
موضوع الرياضيات، من حيث هي علوم قائمة بذاتها، هو الترتيب والقياس
يمكن القول، بمعنى ما، إن العلوم الرياضية هي العلوم على الحقيقة؛ ولقد قال ديكارت أنه يعجب بها «لما لبراهينها من يقين وبداهة.»
1
ومعنى ذلك بعبارة أخرى، أن البراهين التي تأتي بها تستتبع يقينا مطلقا، ولها في الوقت ذاته وضوح كامل. لهذا كان المثل الأعلى عند ديكارت هو أن يرد إليها كل العلوم: «إن هذه السلاسل الطويلة من الأدلة، التي تتميز بالبساطة والسهولة التامة، والتي اعتاد علماء الهندسة أن يستخدموها للوصول إلى أصعب براهينهم، قد دفعتني إلى أن أتصور أن جميع العلوم التي يمكن أن تدخل في نطاق معرفة الإنسان، تتوالى على هذا النحو ذاته، وأننا لو امتنعنا عن التسليم بصحة أية معرفة لا تكون صحيحة بالفعل، وحرصنا دائما على الترتيب اللازم من أجل استنباط بعضها من بعض، فلن يستعصي علينا في نهاية الأمر بلوغ واحدة منها، مهما بعدت، أو كشفها، مهما غمضت.»
2
وسوف نرى أن علم الطبيعة الحديث هو بالفعل علم طبيعة رياضي.
ومع ذلك، فللمرء أن يقول، بمعنى آخر، إن الرياضيات ليست علوما، لأنها هي اللغة العامة والصيغة المشتركة لكل العلوم، ثم لأنها لا يمكن أن تكون منصبة على حقيقة محددة تتميز بها عن سائر العلوم الأخرى. ولقد لاحظ «أوجست كونت» في ختام الدرس الثاني من «دروس في الفلسفة الوضعية» أن تصنيفه للعلوم يتضمن «ثغرة هائلة وأساسية» «تركها عامدا»؛ فليس للعلم الرياضي في ذلك التصنيف مكان. «والدافع إلى هذا الإغفال المتعمد هو الشعور بأهمية هذا العلم، العظيم الاتساع، الكبير الأهمية ... ففي المرحلة الحالية من تطور معارفنا الوضعية، يجدر بنا - في رأيي - أن نكف عن النظر إلى العلم الرياضي على أنه جزء مكمل للفلسفة الطبيعية بمعناها الصحيح، وأن نؤكد أنه قد أصبح، منذ ديكارت ونيوتن، الأساس الحقيقي الضروري لهذه الفلسفة، وإن كان يجمع، في حقيقة الأمر، بين الصفتين معا.»
3
وإذن، فعلينا أن نفحص العلوم الرياضية بطريقتين متتابعتين: فنعدها في الأولى أكمل العلوم جميعها، وفي الثانية نعدها الأداة العقلية «للفلسفة الطبيعية» كما قال كونت. وفي هذا الفصل سوف نفحصها تبعا لوجهة النظر الأولى.
وعلى هذا النحو، يمكننا أن نتحدث عن «موضوع» العلوم الرياضية، أعني أننا نستطيع أن نعين ونحدد ونحلل نوعا من الوقائع تنصب عليه هذه الدراسة، وإن تكن هذه الوقائع فكرية وعقلية إلى أبعد حد؛ بل هي في نهاية الأمر غير مادية. لكن سنرى أنها كانت مادية في بادئ الأمر.
فإذا تأملنا العلوم الرياضية الحديثة، أمكننا القول بأن موضوعها مزدوج، لأنها العلوم الخالصة للترتيب والقياس
4
كما بين ديكارت بوضوح. فلنحلل هاتين الفكرتين، بادئين بالثانية.
5
القياس يخلق العدد والمقدار
إن القياس عملية فنية معروفة، يكون المرء بها - «عن طريق كمية تسمى وحدة القياس» - كمية أخرى مثالية يجب أن تكون في نهاية العملية مساوية تماما لكمية حقيقية مقررة. فمن الممكن مثلا ، استخدام «المتر» الصلب لتكوين خط مستقيم مثالي، ينطبق على ضلع المنضدة، وله نفس طرفيه. وهذه العملية تنطوي، كما هو واضح، على معنيين: معنى المساواة ومعنى الجمع، ذلك لأن وحدة القياس يجب أن تظل مساوية لذاتها، وإذا ما جمعناها مع نفسها عددا معينا من المرات، أنتجت كمية مساوية للكمية المطلوب قياسها.
وللكم نوعان؛ كم منفصل، هو العدد الذي يتكون أساسا من وحدات، وكم متصل أو مقدار، ويمكننا أن نلحظ فيه وحدات اخترناها بإرادتنا. ويتكون العدد - مؤقتا على الأقل - من وحدات لا تقبل الانقسام. أما المقدار فهو ينقسم إلى ما لا نهاية له.
وإذن يمكننا أن نميز في رياضيات القياس، بين مجموعتين: رياضيات المقدار، ورياضيات العدد.
رياضيات المقدار هي: الهندسة والميكانيكا الأوليتان
إن موضوع الهندسة الأولية هو المكان، وقد ظهرت في القرن السادس ق.م. في اليونان، وكان الفيثاغوريون وعلى رأسهم فيثاغورس (من ساموس
Samos ) أول علماء الهندسة وقد أكملها من بعده علماء يونانيون، واتخذت صورتها التقليدية على يد الأستاذ الإسكندري إقليدس (330-270ق.م.)، وقد ظل كتابه «المبادئ»، الذي يشتمل بجانب هندسة السطوح وهندسة المكان، على نظرية للنسب؛ بل على نظرية للمعادلات؛ ظل هذا الكتاب أنموذجا لكل الكتب الأساسية التالية، خلال ما يربو على العشرين قرنا.
أما الميكانيكا فتدرس الزمان والحركة، والقوة وتنقسم الميكانيكا التقليدية إلى ثلاثة أقسام: (1)
الاستاتيكا «السكونية» التي تدرس القوة، ومراكز الثقل، وشروط التوازن، وقد أسس هذا العلم أرشميدس السيراكوزي (287-212ق.م.). (2)
السينماتيكا
Cinématique
الحركية التي تدرس الحركة وأنواعها المختلفة، وانتقال الحركة بواسطة التروس بأنواعها المختلفة، والقضبان، ودواليب الحركة، وكل أجهزة الأدوات الصناعية بوجه عام، وقد ظهر هذا العلم على يد جاليليو (1564-1642م). (3)
الديناميكا، التي تحدد العلاقة بين القوة والحركة، وقد اتخذت صورتها الحالية على يد نيوتن (1642-1727م).
المكان أو الامتداد، هو مقياس كل المقادير الأخرى ورمزها
المكان هو أولا مقياس الزمن ورمزه، فالواقع أن الزمان عابر بحسب جوهره. وأجزاؤه يقتفي بعضها أثر بعض على الدوام، وليست هناك وسيلة أخرى لتصوره ودراسته إلا بالرمز له بخط يسير فيه جسم متحرك؛ بل سنرى فيما بعد أن العلم المعاصر يجعل الزمان البعد الرابع للمكان، فليس ثمة وسيلة لقياسه إلا بالمكان، عن طريق الحركة.
مقياس الزمن يرد إلى مقياس المكان
فلنتريث لحظة عند مقياس الزمن، وهو مشكلة رياضية ترجع إلى عدة ألوف من السنين؛ فمن المحال تثبيت وحدة زمنية، لنجعل منها أساسا للقياس يمكن الاحتفاظ به؛ بل يجب أن يصبح الزمان مكانا، ويقاس على هذه الصورة، وهذا لا يتأتى إلا إذا تحول الزمان إلى حركة. غير أن الحركة التي ترمز إلى زمن هي حركة مطردة. فأين نجدها، إذا كنا لا نتعلم كيف نقيس الزمن، وكيف أن الأمكنة المتساوية تقطع في أزمنة متساوية؟ تنطوي هذه المشكلة على نوع من الدور، لم تخرج منه البشرية إلا بصعوبة كبيرة؛ فلقياس الزمن، تختار حركات يحق لنا افتراض اطرادها، أو اطراد تعاقبها في فترات منتظمة، ويقوم هذا الافتراض المشروع على سببين، أولهما سبب سلبي. فلنا أن نعد الحركة التي لا يطرأ عليها ما يسبب تغيرها حركة دورية باطراد، ومن قبيل ذلك، الحركات الفلكية، التي لا يؤدي الاحتكاك إلى إبطائها، والتي تعود فضلا عن ذلك على أعقابها، أي تظل مرتبطة بعلتها دائما، والسبب الآخر إيجابي، وهو ينحصر في أن العلة المنتجة للحركة تؤثر دوريا، وعلى نمط واحد؛ فالجسم الذي يسقط مثلا، يصلح أن يكون في سقوطه مقياسا لوحدة الزمن، إذا نجحنا في جعله يسقط ثانية، بعد سقوطه الأول مباشرة، في نفس الظروف، ومن نفس الارتفاع، أو إذا ما سقط جسم آخر مماثل له من كل الوجوه بعد سقوطه مباشرة، وبنفس الطريقة. وذلك هو وصف أدوات قياس الزمن، المبنية على الثقل، كالساعة الرملية أو المائية، التي تفي بالشرط الثاني، والبندول الذي يفي بالشرط الأول. ولقد كانت الساعات الرملية والمائية هي أقدم الساعات التي يمكن حملها، والفكرة التي تبنى عليها مفهومة. وأخيرا فإن الوسائل المختلفة للقياس تحقق كل منها الأخرى؛ فالساعة الرملية تحقق صدق الساعة التي تكونها حركات النجوم؛ بل تمكننا من الاختيار بين هذه الحركات، التي لا تتصف جميعها بالانتظام. أما البندول، فاستخدامه أحدث بكثير من الساعة الرملية، وإنا لنعلم أن جاليليو قد اكتشف تساوي هزات البندول الضعيفة التي تبطئ شيئا فشيئا في الزمن. أما الهزات «المستمرة» فمن الواضح أن تعريفها يدل على أنها متساوية في الزمن، ما دام البندول المعلق هو ثقل يظل دائما متساويا، ويعود دائما إلى السقوط من نفس الارتفاع.
ولقد اكتشف «جاليليو» تساوي زمن هذه الهزات الأولى عن طريق مقارنتها بضربات الساعة النابضة (ساعة قديمة، غير دقيقة)، ثم حققها فيما بعد، بمقارنتها بالحركات الفلكية. وقد أفلح بعد ذلك في الربط بين البندول وسقوط الثقل، وفي الوقت ذاته، نجح في الربط بين ذبذبات البندول في الساعة ذات البندول وذات الثقل. وقوام هذه الآلة العجيبة، ينحصر في الربط بين ثقل يسقط بضربات صغيرة منتظمة وبين بندول ذي هزات متصلة، ويرتبط الثقل والبندول بطريقة تجعل كلا منها يتجنب الآخر، بحيث أن ضربات البندول تثير السقطات المتعاقبة للثقل، ثم توقفها، بانتظام، وبحيث أن سقوط الثقل، هو الآخر، يبقي على ضربات البندول. وتؤدي حركة الثقل إلى إدارة جهاز من المؤشرات، له وجه دائري، يمثل مجرى الزمان ذاته.
وعلى هذا النحو حلت البشرية مشكلة قياس الزمن.
قياس الحركة يرجع هو الآخر إلى قياس المكان
أما الحركة فتقاس بمقياس الزمن، وبمقياس مسارها، وبهذا يمكن الوصول إلى تحديد سرعتها، التي هي الجزء الذي قطع من مجال الحركة خلال وحدة زمنية، وتمثل هذه السرعة بموجة السرعة، وهو جزء من مستقيم يمثل الاتجاه مباشرة، ويمثل القيمة المطلقة للسرعة بطريقة رمزية.
ولقد أثار تصوير القوة بدوره مشاكل متعددة، حلتها البشرية بالتدريج. فالقوة هي أولا الجهد الذي يبذل للتغلب على الثقل، بطريق مباشر أو غير مباشر، وهذه القوة أصبحت تقاس بالميزان، ثم حلت محل فكرة الوزن فكرة الضغط، التي لا تخضع لنفس القوانين، كما تدل على ذلك مثلا مفارقة توازن السوائل
Le paradoxe hydrostatique
وأخيرا عرف نيوتن القوة، في أعم معانيها، بأنها دالة مرتبطة بمعدل السرعة.
فالمعادلة: ق = ك × س (القوة = الكتلة في السرعة) أصبحت هي المعادلة الأساسية للميكانيكا الكلاسيكية.
المكان «صورة »
قلنا إن المكان هو موضوع الهندسة، غير أن هذا الموضوع ليس «شيئا» على غرار الضوء أو المادة. إذ لو كان شيئا لكان إما مخترقا أو مجاورا لهما، فهل لنا أن نعده حاويا
réceptacte (أو حاويا شاملا كما قال أفلاطون)؟ لكن المكان لا يمكن أن يكون حاويا إلا بمعنى مجازي، إذ إن الحاوي الحقيقي له حدود وشكل وهذا ما يتوافر في المكان.
إذن فما المقصود بالقول بأن المادة في المكان، أو أن المادة ممتدة؟ إن المقصود بقولنا إن المادة في المكان، هو أنها تقبل «التجاور» تبعا لقوانين معينة، وأن أجزاءها المختلفة تشغل حيزا، بحيث إن كلا منها يستبعد الآخر، تبعا لشكله ومقداره وبعده. أما المقصود بقولنا إن المادة ممتدة، فهو أن لها شكلا ومقدارا وأبعادا داخلية، خاضعة لقوانين معينة. ومن هذا نستنتج إذن أن المكان أو الامتداد هو مجموعة من القوانين التي تنظم تجاوز الأشياء تبعا لشكلها أو مقدارها أو بعدها، ولكن إذا أردنا إكمال فكرة المكان وجب علينا أن نضيف أن هذه المجموعة من القوانين تتحكم في الوقت نفسه في الإدراك الحسي للمادة، وأنها هي التي تجعل هذا الإدراك ممكنا. فالمكان يشبه الشمس المعقولة عند أفلاطون بالنسبة إلى المثل؛ لأنه ينظم المادة وإدراكنا لها في آن واحد. وهذه الطبيعة المزدوجة للمكان، التي تجعل منه قانونا داخليا للمادة، وقانونا لإدراكها في الوقت ذاته، يعبر عنها بكلمة «الصورة». فالمكان هو صورة الحساسية الخارجية، كما يقول «كانت» وكلمة «صورة» تستخدم هنا بمعنى مجازي، أصبح مألوفا منذ أرسطو، وهي ترجمة لكلمة
eidos
في اليونانية، ويطلق أرسطو هذا الاسم على التركيب الداخلي لشيء ما، والتنظيم الذي يتميز به، والذي يجعله قابلا لأن يعرف. فالامتداد أو المكان هو التركيب الأساسي للمادة، وهو الذي يجعل إدراكها ممكنا.
فكيف تعرف هذه الصورة؟
هذه الصورة أولية
a priori
هناك مذهب فلسفي دعت إليه، بوجه خاص، المدرسة الفلسفية الإنجليزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر (لوك 1632-1704م، هيوم 1711-1776م). هذا المذهب لا يكتفي بالقول بأن لمعارفنا جميعها «أصلا» تجريبيا، وهو أمر لا شك في صحته، إذ إننا لا نستطيع أن نعرف شيئا قبل التجربة؛ بل يذهب إلى أن كل معارفنا ناشئة عن التجربة أو الحواس، وهو أمر مختلف كل الاختلاف، إذ معناه أن التجربة وحدها هي السبب في وجود معارفنا كلها، وفي تبريرها. وسنرى فيما بعد، أن هذا رأي لم يتفق عليه مطلقا. ومن جهة أخرى، فإن التسوية بين التجربة والإحساس، هو بدوره رأي لم يتفق عليه مطلقا؛ إذ ليس من المؤكد أن التجربة ترجع إلى الحس؛ بل من الجائز أن تحتوي على عناصر تأتي من مصدر مختلف كل الاختلاف - ويسمى هذا المذهب بالمذهب «التجريبي» (
emprisme )، وهي كلمة مشتقة من اليونانية، ومعناها التجربة.
6
كذلك يوجد مذهب تجريبي يسلك نفس المسلك في تفسير أصل المعاني التي تكون الامتداد.
ولنضرب لذلك مثلا: فكتب الهندسة الأولية تقول عادة إن الخيط الممتد يوحي إلينا بفكرة الخط المستقيم، وإن صفحة المياه الهادئة توحي بفكرة المسطح. ولكن إذا ما تركنا جانبا الصعوبة التي تتمثل في أن الخيط الممتد ليس خطا مستقيما، وإنما هو منحنى يسمى «قوسا» قد يقترب أو يبتعد عن الخط المستقيم الذي يعتبر حده النهائي، وكذلك إذا ما تركنا جانبا الصعوبة الأخرى، التي تتمثل في أن صفحة المياه الهادئة ليست مسطحا، لوجود التموجات التي ترفع الماء بهدوء شديد على الضفتين، فكيف يمكن أن نتصور العملية التي «نغض الطرف» فيها عن سمك الخيط؟ إن «غض الطرف» معناه «ألا نحسب حسابا ...» أي أن «نغفل، أو ألا ندرك» ولكن إذا كان المرء يغفل السمك أو لا يدركه، فذلك لأنه يفكر في شيء آخر. أي يفكر في محور الخيط، ويتصور الخط المستقيم الذي يعبر عن اتجاهه غير أن هذا التجريد لا يحل مشكلة معرفة مصدر المحور وفكرة الاتجاه. وفضلا عن ذلك، فعلم المكان يثير أفكارا أخرى عديدة، تفوق هذه عمقا وتعقيدا، ومنها المنحنيات، مثل «القطاعات المخروطية» بما فيها من قطع مخروطي وقطع زائد وقطع ناقص؛ وهي كلها معان أصبح بحثها أمرا مألوفا منذ عهد بعيد ولكن التجربة لا تزودنا بأية صورة محددة لها . ونحن، وإن كنا نقول إن مدارات الكواكب بيضاوية، فإننا متى أردنا أن نتبين ذلك وجب علينا أن نتصور الشكل البيضاوي أولا، دون أي نموذج ولم يكن لدى اليونانيين، حين أدركوا القطاعات المخروطية، أي أنموذج؛ بل استمدوها كلها من أذهانهم.
وهكذا يجد المرء نفسه مضطرا إلى القول بأن فكرة الامتداد لا تأتي من التجربة، وأن الهندسة بأسرها «أولية
a priori »، أي إن التجربة ليست هي الأساس الذي يبرر وجودها.
لكن المكان لا يتكشف بحدس «أولي» بل هو يركب بطريقة أولية
وعلى ذلك، فالمذهب الأولي أو العقلي هو الصحيح. ومع ذلك فعلينا أن نحسن فهم هذا المذهب، وألا نفرط في تبسيطه. وأبسط صورة - بل أبسطها إلى حد الغلو - هو الاعتقاد أن هناك عالما عقليا، نستكشفه بملكة خاصة، أو قد تكشف لنا بالأحرى قبل التجربة، أي قبل ميلادنا، وهو، كما يقال، عالم «فطري» وتلك هي بحذافيرها نظرية أفلاطون، ومالبرانش (1638-1716م)؛ فقد وصف أفلاطون رحلة النفس خلال عالم «المثل» قبل هبوطها إلى عالم الأبدان، كما قال مالبرانش إننا نرى «الامتداد المعقول» في العقل الإلهي، لكن يجب علينا أن نتعمق فهم فكرتهما، إذ لو فهمها المرء على نحو سطحي، لواجهته صعوبات لا سبيل إلى حلها؛ إذ ما هي ملكة إدراك المعاني المحضة، ورؤيتها على نحو ما ترى الأجسام؟ إنها نوع من الإحساس الذي ينصب على شيء غير المادة، وإذا فهم المذهب العقلي على هذا النحو، لم يعد إلا مذهبا تجريبيا محورا، تحول إلى الطابع الأسطوري.
والفكرة التي ترشدنا في تفسير المذهب الأولي
aphorisme
هي أن أفلاطون يرى أن العالم المحسوس، أي عالم الإدراك الحسي، مستمد من العالم المعقول، أي من عالم الهندسة. أما «مالبرانش»، فيزعم أننا عندما ندرك حسيا، فنحن «نرى في الله» أي نرى عالم الأجسام من خلال الامتداد المعقول، وعن طريق هذا الامتداد. وهذا ينبهنا إلى ضرورة البحث عن نقطة بدء الهندسة في الإدراك الحسي ذاته.
ونقول: نقطة البدء، ولا نقول «الأصل أو السبب». وهذا يعني، بعبارة أخرى، أن الإدراك الحسي ليس هو الذي يفسر الهندسة ؛ بل الهندسة هي التي تفسر الإدراك الحسي، فالهندسة تبدأ مع الإدراك الحسي، ولقد قال ليبنتز (1646-1716م) إن العالم قد ظهر عندما كان الله يحسب
Dum Deus calculat fit mundus
ويمكننا القول بأن العالم قد ظهر عندما كان الإنسان يحسب
Dum homo calculat fit mundus
أي أن العالم قد ظهر من تلك الهندسة التلقائية التي هي الإدراك الحسي.
فإذا أردنا فهم المذهب العقلي، وجب علينا أن ندرك أن العقل يبدأ في أداء وظيفته منذ مرحلة الإدراك الحسي. لكن ينبغي أيضا ألا نتصور العقل على أنه مجرد وظيفة تأملية؛ بل على أنه نشاط فعال
activité opératoire
عامل، يبني العالم عندما يدفع الإنسان بأكمله، بجسمه وروحه، وذهنه وعضلاته، إلى العمل ولا ينطبق ذلك على الإنسان الفردي وحده؛ بل أيضا على الإنسان الجماعي الذي يحيا في مجتمع.
النشاط الفعال ينشئ المكان بوساطة مجموعات من الحركات في الإدراك الحسي
وإذن فما صورة الشيء، وبعده، ومقداره؟ إنها إحساسات بشرية ولمسية نضمها، بعضها إلى بعض، عن طريق حركات؛ حركات استطلاع، وعبور، ومقارنة. وهذه الحركات حقيقية، تؤديها الأذرع والأرجل، وتهدف إلى تمكيننا من النفاذ إلى العالم المادي، المشترك بيننا وبين أقراننا، ولكنا في نفس الوقت الذي ننشئ فيه العالم المادي بفاعليتنا فيه، نفهمه أيضا، إذ إن المسافة، والصورة، والمقدار، كلها أفكار؛ فالصورة شكل هندسي يستمد من المظهر المرئي والإطار الملموس والعضلي للشيء، وهما يعبران عنها بطريقتهما الخاصة، والمسافة علاقة بين الشيء وبيننا، وهي بدورها علاقة عقلية في جوهرها، لأنها تستخدم في تفسير التناقض الظاهري بين فقدان الاتصال اللمسي، ووجود الاتصال البصري، وهو تناقض يزداد قوة لأننا عندما نحاول القضاء على فقدان الاتصال اللمسي، أي عندما نلمس الشيء، فإن الصورة البصرية تتضخم شيئا فشيئا.
وليس لنا أن نأمل هنا أن نصف النشاط الفعال للعقل الذي يسيطر على الجسد في الإدراك الحسي، ولن نستطيع إلا أن نقدم عنه فكرة مختصرة، تكفي لإفهامنا أن المكان يبنى منذ مرحلة الإدراك الحسي.
يمكننا الشعور بهذا النشاط الفعال عن طريق الرسم
ويبقى علينا أن نجعل علمنا بالمكان ممكنا، أعني أن نحوله إلى موضوع من نوع ما ، على أن المكان ليس موضوعا في ذاته؛ بل هو صورة، كما سبق أن قلنا، ومهمتنا هنا هي أن نحدد له نوعا من الوجود المادي، فما هدف هذه العملية؟ إن لها هدفا مزدوجا؛ هو أن نشعر بالنشاط الفعال الذي كونا به المكان، ذلك النشاط الذي كان سيظل، لولا ذلك، غير منفصل عن أثره، أي غير منفصل عن العالم المادي؛ ثم العمل على إكمال النتيجة التي نصل إليها؛ إذ من الممكن أن يكون المكان، بمعنى ما، أكثر اتساعا من العالم المادي، وأن يسمح بتجاوز ذلك العالم.
وينبغي أن نؤكد هذه النقطة الأخيرة بأن نقدم مثلا لتقدم الهندسة بالنسبة إلى الإدراك الحسي؛ فالعالم الذي ندركه حسيا كرة جوفاء نعيش في وسطها. وهو بعبارة أدق، كما قال مالبرانش، «شبه بيضاوي دوار» أي أنه كرة مسطحة في اتجاهها الرأسي، لأننا نميل إلى اعتبار المسافة التي تباعد بيننا وبين السمت على أنها أقل من تلك التي تفصلنا على الأفق، كما يدل على ذلك كبر الحجم الظاهري للقمر عندما يكون قريبا من الأفق. فلنقل إذن إن تصوير هذا العالم بالكرة هو في حد ذاته دليل على بلوغ الإنسانية حدا بعيدا من العمق، وأن البدائيين كانوا يتصورون أشكالا أكثر سذاجة من ذلك إلى حد كبير، كوجود أمكنة مربعة مماثلة لخريطة موطن القبيلة. هذا ولنلاحظ أن هذا المكان المدرك ليس متساوي الوجهات
anisotrope ، أعني أن اتجاهاته ليست متساوية؛ فالاتجاه الرأسي، وهو اتجاه الثقل، له طابع مميز، إذ إن للعالم المدرك أعلى وأسفل.
ولقد كانت الهندسة في مراحلها الأولى هي التي جعلتنا نتصور مكانا لا متناهيا، ومتجانسا، على أنه أساس مثالي للمكان الذي ندركه بالحس، وعندئذ نفهم أن من الممكن أن نتبادل الاتجاهات فيما بينها، إذا ما نظرنا إليها على أنها مجرد اتجاهات فحسب، وأنه من الممكن مد كل اتجاه إلى ما لا نهاية، من حيث هو اتجاه. ونقول بالاختصار إن المكان المتجانس واللامتناهي هو وعينا بالمكان الذي ندركه حسيا.
بقي علينا أن نوضح العمليات الفعالة التي نصل بها إلى هذا الوعي، والواقع أن ذلك يتم عن طريق الرسم والأساليب العملية التي تستمد منه، كالنحت وقطع الأحجار؛ فبهذه الأساليب، لا نقتصر على اجتياز المكان؛ بل نصنعه ونحققه ماديا، وإذا نحن أدركناه بحواسنا على أنه موضوع، استطعنا التفكير في طبيعته. فالرسام هو أول عالم هندسة وهو في الوقت نفسه أول من يفكر من المكان بطريقة ميتافيزيقية.
الانتقال العملي من الهندسة إلى الميكانيكا انتقال مباشر
بعد أن يدرك المرء المكان عن طريق الرسم، ثم عن طريق الهندسة، التي هي رسم عقلي، ينتقل انتقالا طبيعيا إلى الميكانيكا.
والواقع أن الميكانيكا قد بدأت بوصفها هندسة للآلات (الماكينات). والمقصود بالماكينات، الآلات التي يستخدمها الإنسان ليزيد من قدرته، ولكي يبذل قوة أقل للتغلب على مقاومة أكبر، كما هي الحال في «العتلة» الرافعة مثلا. وإذا حاول المرء فهم الصفة شبه السحرية للعتلة، فإنه يرسمها، وعندئذ يدرك أنها نوع من الميزان المائل غير المتعادل، ويحاول أن يفسر عدم تساوي الأثقال المتوازنة بعدم تساوي الذراعين.
7
المذهب العقلي أو الأولي يؤكد النشاط الفعال المستقل للعقل
ونتيجة ذلك هي أن أفلاطون ومالبرانش كانا على حق في الواقع؛ فهناك بالفعل عالم عقلي، بمعنى أن هناك عالما من الحقائق العقلية التي يدركها الذهن، بصرف النظر عن التجربة. غير أنه من الضروري أولا أن ننظر إلى هذا العالم على أنه «غير منفصل عن التجربة» أي أنه كامن فيها. فنحن نبنيه في التجربة ذاتها، حتى يتسنى لنا فهمها، والعالم المادي أثر من آثار التجربة، ولا يفهم إلا عن طريقها.
ثم يجب علينا النظر إلى هذا العالم على أنه ناتج عن فاعلية. فالعقل ليس سلبيا تجاه العالم الهندسي؛ بل إنه هو الذي «يخلقه» بأقوى معاني كلمة الخلق، أي بمعنى أنه هو أصل وجوده، وهو الذي يخترعه.
على أن هذا الإبداع لا يتم اعتباطا؛ بل هو أمر «يحقق» في كل لحظة، أعني أنه يدمج في حقيقة العالم المادي. فالإدراك الحسي يحقق في كل لحظة عن طريق الفعل المادي، والهندسة تحقق، وذلك لأنها لما كانت تستخدم أساسا لعلم الطبيعة وبالتالي للمعرفة العملية الخاصة بالمادة، فإن هذه الأخيرة هي السبيل إلى التحقق من صدقها.
8
العلم الأول للعدد هو الحساب الذي وضع الفيثاغوريون أسسه
ونصل الآن إلى رياضيات العدد. لقد كان الفيثاغوريون هم الذين وضعوا أسس علم العدد، ويمكن القول، بمعنى ما، إنهم قد اكتشفوه في السماء ذات النجوم، التي تتمثل لنا في أشكال وأعداد في الوقت ذاته، على هيئة مجموعات من النجوم، ولذا فإن الفكرة الأولى للعدد كانت تنحصر في نقط متجمعة في أشكال معينة، فالعدد المربع، مثل 9، شكل مكون من 9 نقط مجموعة في مربع، له ثلاثة خطوط في كل منها ثلاث نقط، وعلى هذا النحو بدا العدد منفصلا بوضوح، أي بدا مكونا من وحدات.
وبهذه الرمزية الساذجة، برهن الفيثاغوريون على نظريات حسابية. فمن المعروف مثلا أن مجموع الأعداد الفردية حتى (2ن − 1) يساوي ن
2 ، أثبت المحدثون ذلك باستخدام التدوين الجبري، فكتبوا المتتالية:
1 + 3 + 5 + + (2ن − 3) + (2ن − 1).
ثم كتبوها هي نفسها بالعكس، كل حد تحت السابق: (2ن − 1) + (2ن − 3) + 5 + 3 + 1
والمجموع يعادل 2ن
2 ، لأن كل حد يساوي 2ن، وعدد الحدود «ن»، لأن المدى بينها يساوي «ن» إذا كان هو ذاته مساويا 2ن − 1. فإذا كان المجموع 2ن
2 ، فإن كلا من المتتاليتين تساوي ن
2 .
9
ومن هذا ينتج أن مجموع الأعداد الفردية المتوالية يعطي المربعات المتوالية.
10
ولقد كان الفيثاغوريون يقولون: إن كل مربع يساوي المربع السابق مضافا إليه زاوية الظل (
gnomon )، وكانوا يعبرون بكلمة زاوية الظل عن العدد الفردي؛ إذ إن العدد الفردي يتكون من عددين متساويين، مضافا إليها العدد «1» مما يرمز إلى زاوية قائمة ضلعاها متساويان، بحيث يكون الواحد المكمل هو رأس الزاوية. فالزاوية الظل هي مثلث مفرغ ذو زاوية قائمة.
11
وهناك الشكل الفيثاغوري الذي يمثل هذه النظرية.
وبالطريقة نفسها أثبت الفيثاغوريون أن مجموع الأعداد الزوجية حتى 2ن يساوي ن (ن + 1).
12
وفي هذه الحالة تسمى المجموعات المتعاقبة «متغايرة» أعني كالمستطيلات قائمة الزوايا.
تتغاير في كل مرة، إذ إن العلاقة (ن + 1)/ن تتنوع تبعا لكل قيمة من قيم ن، كذلك برهنوا على أن مجموع الأعداد المتعاقبة حتى ن يساوي ن (ن + 1)/2
13
وتسمى المجموعات المتعاقبة باسم الأعداد «المثلثة» إذ إن المقدار ن (ن + 1)/2 يمثل مساحة المثلث.
العدد يركب في الإدراك الحسي ذاته، بواسطة النشاط الفعال للذهن
قلنا إن الحساب قد بدأ بتأمل السماء ذات النجوم. لكن هذا لا يعني أن فكرة العدد تأتي من الملاحظة. فلنعرف أن التجربة تبدو في هذه الحالة مواتية تماما لتمييز الوحدات؛ إذ إن الوحدة في هذه الحالة نقطة تنفصل تماما على صفحة السماء، بحيث لا يكون أمامنا إلا أن نراها كلها متشابهة، متجانسة (فيما عدا الفروق في اللمعان) وغير قابلة للقسمة مطلقا، ولكن لم يكن بد من وجود شروط أخرى لكي تظهر فكرة العدد؛ فيجب أولا أن تطبق هذه الفكرة على كل المجموعات، أي أن يكون العدد 7 ليس خاصا فقط بعدد نجوم «الدب الكبير» بل بعدد أيام الأسبوع أيضا، وبعجائب الدنيا، وحكماء اليونان ... إلخ. وينبغي أن ينطبق العدد نفسه على كل المجموعات التي يمكن إحصاء نفس مجموعة الوحدات فيها: مثل الكرات (في عدد البلي) والتفاح (في سلة تفاح). على أنه عندما لا يكون الأمر متعلقا بنجوم، فإن الوحدة لا تبدو في ظروف تجريبية مواتية كهذه؛ فالوحدات ليست غير منقسمة، ولا هي متجانسة. وفضلا عن ذلك، فكيف يتم التمييز بين عددين مختلفين؟ إن الملاحظة لا تطلعنا إلا على انطباع غامض عن الاختلاف بين مجموعتين. هذا إلى أن ذلك الانطباع يختفي إذا كان الفارق العددي أقل من حد أدنى معين، فمثلا، ليس ثمة فارق، بالنسبة إلى البصر، بين مجموعة مكونة من 100 نجم، ومجموعة أخرى من 101 نجم. أما من الوجهة العددية فهذا الفارق يساوي ذلك الذي يتمثل بين نجم مزدوج ونجم بسيط.
فلنقل إذن إنه لا وجود للعدد إلا إذا عد المرء أو أحصى، وهذه الفكرة نتيجة مباشرة لتحليلاتنا السابقة، وهي تناظر تماما الفكرة التي عرضناها بصدد المكان. فقد شرحنا المكان عن طريق نشاط فعال للعقل، يعبر المجال الإدراكي ويرسم. وكذلك نشرح العدد بالعد، أي فعل الإحصاء.
وهكذا تظل فكرتنا على المذهب العقلي أو الأولي على ما هي عليه، فنحن نرى أنه ها هنا أيضا على صواب في مخالفته للمذهب التجريبي، ولكن بالشروط نفسها؛ فليس هناك عالم عقلي للأعداد، وإنما توجد عملية عقلية للعد بطريقة سابقة على التجربة. وبهذا المعنى تكون النظرية الفيثاغورية عن العقول أو الأعداد المثالية، ونظرية مالبرانش عن الأعداد العادة “nombres nombrants”
14
صحيحتين.
العد، عملية مادية وعقلية في آن واحد
وهذا يؤدي بنا إلى عملية العد. لنلاحظ أن لهذه العملية مظهرين؛ فهي مادية من جهة؛ إذ إنها فعل عملي ينصب على أشياء مادية، كالبلي في صندوق «البلي»، غير أن هذه العملية تصحبها عملية عقلية هي تفسير لها، فالكل يكون نوعا من الإدراك الحسي الإيجابي، مشابها تماما لإدراك المكان حسيا.
ولقد أطلق على أبسط صورة لهذه العمليات اسم «مبادلة واحد بواحد
échange un contre un » قوامها أن نجعل لكل شيء في مجموعة شيئا يناظره في مجموعة أخرى، ونحقق تناظرهما واحدا مع الآخر. ولنضرب لذلك مثلا بالطفل الذي لا يعرف العد، فيكلف بشراء عدد من التفاح بقدر ما معه من القروش فهذا الطفل يستطيع أن يتأكد من أن كل قرش تناظره تفاحة.
على أن هذا لا ينطوي بعد على فكرة الوحدة العددية.
ولا يصل المرء إلى المرحلة التالية، إذا عرف كيف يعد على أصابعه، بل إذا عرف كيف يضع وحدة بالتوالي مقابل كل إصبع من أصابعه، معدودة تبعا لترتيب معين، وبحيث يطلق على كل منها اسما مختلفا كما يفعل البدائيون. تلك هي المرحلة «الترتيبية
ordinal
للعدد».
أما مرحلة الأعداد الأصلية (
cardinal ) فيبلغها المرء عندما يكشف فكرة العدد مميزة، لا فكرة ترتيب معين بين الأعداد فحسب، أي عندما يدرك أن كل عدد يمثل مجموعة معينة من الوحدات، تتكون عن طريق إضافة وحدة إلى المجموعة السابقة عليها في الترتيب؛ فالأربعة تعرف بأنها 3 + 1 وهذه العملية تتطلب من المرء أن يتصور كل عدد على أنه «كل» يعتبر وحدة لكثرة من الوحدات، وأن يتصوره على أنه وحدة جديدة في مرتبة أعلى، أو بعبارة أخرى أن يتمثل الهوية بين 1 × 4 = 4 × 1. ولقد أورد برنشفيك ملاحظة طريفة أبداها الأب «بوردان»
في «اعتراضاته» على «تأملات » ديكارت، قال فيها: لقد عرفت شخصا سمع ذات يوم، وقد دب النوم إلى جفونه، دقات الساعة الرابعة، فعدها على النحو الآتي: واحد، واحد، واحد، واحد، ولما اهتدى إلى ما في تصوره من غرابة، هتف: هذه ساعة مجنونة بحق؛ لقد دقت الواحدة أربع مرات .
15
وفي هذه الحالة، شبه المرضية، التي أدى فيها الشروع في النوم إلى إحداث خلل جزئي في التركيب العقلي، يدرك المرء طرفي الهوية المكونة للعدد، ولكنه يدركهما منفصلين. فالشخص وهو شبه نائم، لم يعد يدرك الفكرة القائلة إن الواحد مكررا أربع مرات هو ذاته الأربعة مكررة مرة واحدة.
وعندما تتكون لدى المرء فكرة العدد، والهوية الأساسية التي تعبر عن تركيبه، وهي 1 × ن = ن × 1، يمكنه تصوره فكرة تكوين العدد الواحد، بطرق كثيرة مختلفة، كلها متساوية، وأن يحدد العلاقة بين الأعداد بعضها ببعض، فيستخلص من الهوية 3 + 1 = 4، التي هي تعريف العدد 4، أن 2 + 2 = 4 إلخ وبهذا يتكون الحساب.
وسنرى في الفصل القادم، حين نعرض مشاكل فلسفة الرياضيات الحديثة، مدى التوسع الذي طرأ على علوم الامتداد والعدد.
الفصل السادس
منهج العلوم الرياضية
رأينا في الفصل السابق أن العلوم الرياضية الأساسية (الهندسة والميكانيكا والحساب) قد عملت تدريجيا خلال تأريخها على تحديد موضوعها بدقة. فأصبح تركيبها يتسم بانضباط يتزايد دون انقطاع، وهي تعد اليوم بحق، بناء محكما إلى حد بعيد، ومما له أهميته، حتى من وجهة نظر الفيلسوف، أن نفحص سبب هذا الإحكام، وأن نتبين بوضوح دقة تسلسل التفكير الرياضي.
ولقد حدث بالفعل، منذ أكثر من قرن من الزمان، أن أخذ كثير من الرياضيين على عاتقهم مهمة القيام بتحليل نظري لذلك العلم بعد نشأته. ففكروا في مبادئ علمهم، أي في البديهيات والمعاني التي تعد أساسا للرياضيات. ولفكرة البديهية
axiome
معنى حديث مختلف عن المعنى التقليدي لهذه الكلمة كل الاختلاف فالمبادئ تكون مشروعة في نظر التفكير الرياضي الحديث إذا كانت تسمح بتشييد علم متماسك منتج، لا لأنها تنطوي في ذاتها على بداهة مطلقة.
والاستدلال الرياضي دقيق منتج، وهو في أساسه تعميمي كما أثبت ذلك بوانكاريه، متخذا من الاستدلال الترديدي
recurrence
نموذجا للاستدلال الرياضي، ويؤدي كل من الحدس والتفكير الشكلي إلى تزويد العلوم الرياضية بقدرة هائلة على التعميم.
وفي نهاية الفصل ندرس الهندسات غير الإقليدية، وامتدادات فكرة العدد.
أولا: المبادئ (1) فكرة المبدأ. ميز إقليدس في المبادئ بين البديهيات والمصادرات والتعريفات
إذ قلنا إن الاستدلال الرياضي يتكون من استنباطات دقيقة، وإنه هو الاستدلال الاستنباطي على الحقيقة، ففي قولنا هذا تكرار لصفة أوضح من أن تستحق مزيدا من التأكيد، حتى بالنسبة إلى أبسط أنواع التعليم. فصحة النظرية الرياضية تتوقف على صحة الفروض، على أن تكون قواعد الاستنباط قد طبقت، بطبيعة الحال، تطبيقا صحيحا. ولكي تصدق هذه الفروض يجب أن يكون قد سبق البرهنة عليها، وهكذا دواليك. غير أننا لا نستطيع أن نتابع هذه الحركة الراجعة إلى ما لا نهاية، متعقبين سلسلة البراهين في الاتجاه العكسي. فليس ثمة استدلال دون معطيات أولية. ونقطة البداية هنا قضايا ليست نتائج لأي برهان، وتسمى هذه القضايا الأولية بالمبادئ - وهي تستخدم أساسا لبراهين النظريات الرياضية - ويميز إقليدس، في هذه المبادئ بين البديهيات والمصادرات والتعريفات. فلنتساءل إذن إن كانت كل هذه القضايا الأولية لها قيمة واحدة من حيث البداهة. (2) البديهيات (
Axiomes )
كثيرا ما نرى البديهية تعرف بأنها قضية بلغت في ذاتها حدا من البداهة يجعلنا نعجز عن الاهتداء إلى قضايا أشد بداهة منها ليبرهن بها عليها. ولقد اشترط «باسكال» للبديهيات أن تفي بهذه القاعدة «يجب ألا نتطلب من البديهيات سوى أمور واضحة بذاتها كل الوضوح.» وأضاف، تبعا لذلك، أنه «ليس علينا أن نحاول البرهنة على الأمور التي تبلغ بذاتها حدا من الوضوح يستحيل معه على المرء أن يجد ما هو أوضح منها ليبرهن به عليها.»
وإليك أمثلة لهذه القضايا: المقداران المساويان لمقدار ثالث متساويان. الكل أكبر من الجزء.
فنحن نجد في هذه القضايا مبادئ واضحة وضوحا مطلقا، وتصلح لكل الاستدلالات والتجارب. (3) الصادرات:
غير أن هناك قضايا أخرى لا يبرهن عليها، وتتخذ بدورها أسسا للرياضة، وذلك إلى جانب البديهيات التي تتصف بالوضوح التام، وتلك الأسس الأخرى تسمى بالمصادرات، ومن أمثلتها مصادرة إقليدس المشهورة: لا يمكن أن يمد من نقطة خارج مستقيم إلا خط واحد وواحد فقط، مواز لهذا المستقيم، ولقد حدث كثيرا خلال التاريخ أن حاول بعضهم «البرهنة» على هذه القضية، أعني أن يجعل منها نظرية تستنبط من نظريات أخرى أو من بديهيات واضحة بذاتها ولكن لم ينجح أحد من الإتيان بمثل هذا البرهان.
ومع هذا فلو لم «يسلم» المرء بهذه القضية، لتوقفت الهندسة الإقليدية عن المسير، ولهذا طالبنا إقليدس بأن نسلم بها. فهي إحدى «مطالبه». فالمصادرة إذن «مطلب» يتقدم به العالم الرياضي، كما يدل على ذلك أصلها الاشتقاقي، (يطالب =
postulare ) فالرياضي يقول «سلموا لي بنقطة البداية هذه، وسوف يضطر ذهنكم طوال الاستدلال إلى قبول ما أستنبطه منها.» ويبدو، كما نبه إلى ذلك العالم الرياضي فردينان جونست
Ferdinand Gonseth
أن في ذلك مظهرا من مظاهر العجز بالنسبة إلى الفكر الدقيق. فإذا كنا نستطيع البرهنة على شيء، فلن نقول أبدا إنه من الواجب علينا التسليم به. فضرورة القبول تعادل استحالة البرهنة.
1
فلنقر إذن بأن المصادرات المختلفة تقدم في العلوم الرياضية بوصفها فروضا. ومع ذلك ينبغي ألا تشبه هذه الفروض بفروض العلوم الطبيعية التي تخضع دائما للتحقيق «التجريبي». فالفروض الرياضية هي الأساس الذي يبدأ من بعده التفكير الرياضي في القيام بمهمة الاستنباط. وإذن يجب علينا القول بأن العلوم الرياضية فرضية استنباطية
hypothético déductives . وسوف نرى فيما بعد أن العلوم الرياضية إذا كانت فرضية استنباطية فليس ذلك دليلا على نقصان في قيمتها؛ بل هو بعكس ذلك الشروط الأساسية لاتساقها ولتنوعها الخصب. (4) النظرة الحديثة إلى فكرة «البديهية»
ولكن يجب علينا الآن أن نلح في بيان مسألة فلسفية خاصة جدا تقوم الرياضة على أساسها. فقد رأينا من قبل أن بين البديهية والمصادرة اختلافا كبيرا في «الطبيعة». ولكن عندما يشرع الرياضي في استخدام هذه المبادئ في البرهنة على مختلف النظريات، متبعا قواعد الاستنباط، فإنه لا يشير إلى هذا التمييز بين طبيعتي المصادرات والبديهيات. فالمصادرة، وإن كانت تفرض على ذهننا بوضوح مطلق، فإنها تؤدي دور «نقطة البداية المطلقة» بمثل اليقين الذي تؤديه به البديهية. ويبلغ الأمر في ذلك حدا يجعل من الممكن البدء، في نظريات معينة، بمصادرات تصدم الحدس الساذج لأول وهلة. وسوف نورد في هذا الفصل مثلا لمصادرة كهذه، تصدم الحدس. ولكن، متى سلمنا بالمصادرة يجب اتخاذها أساسا مؤكدا: أي أننا نستخدمها تماما كما لو كانت قضية بديهية في ذاتها. وبالاختصار، فالبديهيات والمصادرات تؤدي نفس الدور بعينه، وعلى أساس هذا الدور تبني نظرية للبديهيات والمصادرات.
وما دامت المصادرات والبديهيات تؤدي نفس الدور، فلم نتمسك إذن بتفرقة لا تأثير لها البتة في تركيب النظريات الرياضية؟ إن التفكير الرياضي الحديث يرى أن نقطة البدء تكون مشروعة إذا كانت تتيح لنا تشييد علم متسق منتج، لا إذا كانت تنطوي في ذاتها على بداهة مطلقة. وإذن فلماذا نحتفظ بكلمتين لكي نشير بهما إلى قضايا تؤدي عملها بطريقة واحدة؟ الواقع أن اسم «البديهية» هو الذي يستخدم عادة، حتى لو كنا إزاء إحدى المصادرات تبعا للنظرة القديمة. وكما لاحظ بوليجان
Bauligand
فاستخدام لفظ البديهية يتجه إلى أن يفرض نفسه، وذلك عن طريق مجموعة من الألفاظ المشتقة منه، مثل نسق البديهيات
axiomatique ، ووضع البديهيات
axiomatisation ، وتكوين البديهيات
axiomatiser ، وهي كلها كلمات لا نجد لها مقابلا إذا بدأنا بكلمة المصادرة.
2
ولكن إذا كانت التسمية تنطوي على قدر من الغموض، فإن المعنى الذي يضفيه الفكر الحديث على فكرة البديهية لم يعد حوله ظل من الشك. فليس المهم أن تكون القضية التي نسميها بديهية واضحة بذاتها أو لا تكون؛ بل سيظل أستاذ الرياضة يستخدم في محاضراته كلمة البديهية، دون أن يتجاوز مطلقا معنى القضية المبدئية التي لا يقوم عليها أي برهان، والتي تمكن من البرهنة على قضايا أخرى، ولن يشير الرياضي إلى أية بداهة كامنة في تلك القضية. وأقصى ما سوف يحدث، هو أنه لو كتب مقالا موجها إلى الفلاسفة. فسيشعر بأن من واجبه أن يذيل الصفحة بهامش يقول فيه: «لسنا في حاجة إلى أن نذكر القارئ بأنه ليس ثمة أي عنصر مشترك بين هذا المعنى لكلمة البديهية، وبين المعنى التقليدي، أعني معنى الحقيقة الواضحة .»
3
ولقد أطلنا الحديث عن هذا التغير الذي طرأ على معنى كلمة البديهية لأنه يلقي ضوءا على صفة مميزة للتفكير الرياضي الحديث، فقد استبدلت بالأبحاث الدائرة حول طبيعة الفكرة، أبحاث حول «وظيفة» أو دور هذه الفكرة، وذلك تغيير هام في وجهة النظر يمكننا أن نجد له في فلسفة الرياضيات أمثلة أخرى متعددة.
ولكن إذا لم يكن يتعين تحقق شرط الوضوح الأولى في البديهيات، بمعناها الواسع، وإذا كانت تكتسب وضوحها من أمر يقرره الرياضي الذي يتخذ إحدى القضايا نقطة بدء له، فمعنى ذلك أن من الممكن تنويع النظريات الرياضية، بأن نختار مبادئ أساسية مختلفة، وسوف نضرب لهذا التعدد مثلا عندما ندرس، خلال هذا الفصل، تكوين الهندسات غير الإقليدية، ولكن علينا الآن أن نبين أن هذه الاختيارات المبدئية لا تقوم على أساس الفوضى أو التعسف، وأن مجموعة بديهيات نظرية رياضية تخضع لشروط دقيقة كل الدقة، وكل هذه المجموعة من البديهيات تسمى «نسق البديهيات». (5) صفات «نسق البديهيات»
ما صفات نسق البديهيات السليم؟ (1)
ألا تكون أية بديهية مناقضة للأخرى، أي يجب أن تكون على وفاق مع البديهيات الأخرى. (2)
أن تكون البديهيات كلها مستقلة بعضها عن بعض. (3)
وهناك صفات تخضع لها نظريات معينة، ولكنها لا تتمثل في كل النظريات الرياضية مثل صفة التشيع
Saturation (وسوف نشرح معنى هذا اللفظ بعد قليل).
فلنستعرض هذه الشروط التي سوف تؤدي بنا، فيما بعد، إلى ملاحظات ذات دلالات فلسفية عميقة حول علاقات التفكير الرياضي بالتفكير المنطقي: (1)
يبدو أن الشرط الأول في غير حاجة إلى دليل. فنحن لا نتصور أن يبدأ الرياضي نظريته من قضيتين متناقضتين، ولكن قد يتفق أن يكون التناقض بين القضيتين مستترا، وعندئذ يجب الكشف عنه، وإقامة البرهان عليه. والحق في إثبات عدم تناقض نسق البديهيات قد يكون أحيانا مهمة عسيرة. غير أن الرياضي يستعين على ذلك بمعيار، فقد ثبت أن نسق البديهيات إذا كان يحتوي على بديهيتين متنافيتين، فمن الممكن إثبات نظرية وضدها. فقبول مجرد تناقض «واحد» يمكننا من البرهنة على كل شيء، ولننتبه جيدا إلى أننا نجعل لهذه الصفة معيارا نظريا لا صلة له بأي انطباع نفسي مباشر. (2)
أما شرط الاستقلال، فقد يفهم على أنه مجرد حرص على التميز الخالص والأناقة، ذلك لأن من البديهي أن المرء لا يفيد شيئا إذا كرر، بصورة تتفاوت غموضا، إحدى البديهيات التي ينبغي أن تصاغ بأكبر قدر ممكن من الوضوح. ولكن وضع بديهيتين تعتمد إحداهما على الأخرى، في مرتبة واحدة، فيه مخالفة لماهية نسق البديهيات ذاته. فإذا افترضنا أن نسقا من البديهيات يتألف من أ، ب، ج، د فإننا نقول إن البديهية «د» تكون مستقلة عن البديهيات أ، ب، ج إذا لم يكن من الممكن استنتاجها منها. وعلى العكس من ذلك، تكون البديهية «د» متوقفة على الباقيات إذا كان من الممكن إثباتها عن طريق البديهيات الأخرى، ولكن «د» تصبح عندئذ نظرية، لا بديهية.
ويستخدم الرياضيون معيارا للاستقلال يفيدنا بحثه أشد الفائدة في فهم فكرة نسق البديهيات؛ وإليك هذا المعيار:
فلنفرض أن نسقا من البديهيات يشكل على أربعة بديهيات: أ، ب، ج، د فلكي نوقن أن البديهية «د» مثلا مستقلة عن الأخريات، نفحص قائمة جديدة من البديهيات تشتمل على البديهيات أ، ب، ج وعلى بديهية مناقضة للبديهة «د» تناقضا تاما ولنسمها (لا - د) فلو كانت «د» متوقفة على البديهيات أ، ب، ج لكان معنى ذلك أننا نستطيع البرهنة على «د» عن طريق أ، ب، ج غير أننا جعلنا (لا - د) بديهية بدورها، وبهذا نكون قد كونا نظرية متناقضة. فإذا كانت النظرية المؤلفة من البديهيات أ، ب، ج، لا - د خالية من التناقض، فمعنى ذلك أن البديهية «د» مستقلة بالفعل عن الأخريات، وبالطريقة ذاتها يبرهن على كل بديهية أخرى. وهكذا نجد أن معيار الاستقلال بدوره أبعد عن أن يكون مجرد شرط يوضع فحسب؛ بل هو يحتاج في تطبيقه إلى قدر غير قليل من البراعة، ويستطيع الرياضي أن يبحث عن «أنموذج» أعني عن نظرية خاصة سبق اختيارها، تحقق فيها كل البديهيات فيما عدا تلك التي يراد إثبات استقلالها. (3)
وأخيرا فالتحليل العقلي للنظريات الرياضية المحكمة البناء قد حاول الإتيان من البديهيات الكاملة، وهذه الصفة تعبر عنها بوضوح كلمة «التشبع
saturation »، فنسق البديهيات يكون متشبعا إذا لم يكن من الممكن أن تضاف إلى بديهياته بديهية تكمله (مستقلة عن الأخريات) دون أن تؤدي إلى تناقض النظرية. غير أن هذه الصفة ملزمة من أجل تركيب نسق البديهيات تركيبا سليما (إذ يلاحظ أن هناك نظريات عديدة لا تنطوي على هذه الصفة)، والحق أن إيضاح مدى ما تنطوي عليه هذه المشكلة من تعقيد، يحتاج إلى تفاصيل فنية مطولة، ولكن لا شك في أن ما قلناه يكفي في بيان أن التفكير في نسق البديهيات هو في الحق شعور واضح بما يتصف به التفكير الرياضي من دقة بالغة.
ولقد كان أول من فتح باب الأبحاث في أنساق البديهيات هو الرياضي الألماني دافيد هلبرت
D. Hilbert (1862-1943م) الذي نشر في سنة 1899م كتابا مشهورا هو: أسس علم الهندسة
4
Die Grundlagen der Geometrie ، وقد تجمعت حول «هلبرت» مدرسة كرست جهودها لما يسمى بمشكلة الأسس في الرياضيات؛ أعني لتبرير النظريات الرياضية عن طريق دراسة عدم تناقضها، ودراسة صفات أخرى أتينا من قبل على ذكرها، وسوف نعود مرة أخرى إلى الكلام عن فكرة «هلبرت» عندما نفحص مشكلة المفاهيم الأولى في العلوم الرياضية. (6) المفاهيم الأولى
والواقع أننا لم نتحدث حتى الآن إلا عن القضايا الرياضية. وعلينا الآن أن ندرس المفاهيم التي يرد ذكرها في هذه القضايا (مثل مفاهيم النقطة، المستقيم، المسطح، والعد). وفي دراستنا للمفاهيم سوف نهتدي إلى خطوة شبيهة بتلك التي أدت بنا إلى وضع المصادرات. فكما أن القضية لا تكون سليمة إلا إذا برهن عليها، فكذلك لا يمكن الانتفاع بالمفهوم إلا بعد تعريفه، ولكي يعرف الرياضي أحد المفاهيم، يستخدم مفاهيم أخرى، وهذه المفاهيم الأخرى لا بد أن تكون مما سبق تعريفه. ولكن هذا معناه أن الرياضي يضطر إلى التوقف في حركة الرجوع إلى الوراء، بحيث يتخذ لنفسه نقطة بدء هي مفاهيم لا تردنا إلى أي مفهوم آخر. وهذه المفاهيم الأولى يطلق عليها كثير من المناطقة اسم اللامعرفات
indéfinissables
مثلما تسمى البديهيات «باللامبرهنات
Les indémontrables ».
ولكن نفس الملاحظة التي أبديناها بشأن القضايا الأساسية تنطبق أيضا على المفاهيم الأساسية؛ فالمفاهيم التي تختار على أنها مفاهيم أولى وأساسية، ليست «بطبيعتها» غير قابلة للتعريف، وإنما هي تقرر، كما لو كانت غير قابلة للتعريف. (ومن الجائز جدا أن أحد المفاهيم الذي يقرر كمفهوم أول في نظرية معينة، وبالتالي لا يعرف، يصبح في نظرية أخرى مفهوما مستمدا من غيره، ويعرف تبعا لذلك).
وفيما يلي مثال لهذا التحول، في مستوى الهندسة الأولية، وهو مثال يستطيع المرء إدراكه بالحدس؛ فمن الشائع أن يتخذ مفهوم النقطة مفهوما أول، وعندئذ يعرف مفهوم الخط المستقيم بأنه يتحدد عن طريق نقطتين، أي أنه توصيل نقطتين. ومن وجهة النظر هذه تكون النقطة مفهوما أول، والمستقيم مفهوما مستمدا منها.
ولكن في خلال القرن التاسع عشر، نظر إلى الأمور نظرة عكسية، فأصبح المستقيم هو الذي ينظر إليه بوصفه مفهوما من وجهة النظر الجديدة هذه، وأصبحت النقطة «تعرف» بأنها تقاطع مستقيمين.
على أن هذا التحول ليس مجرد لهو ذهني؛ بل إن وجهة النظر المزدوجة هذه كانت نقطة بدء الأبحاث التي كونت ما يسمى بمبدأ الثنائية
principe de la dualité . فمثلا لو ألقينا نظرة على كتاب «ألفريد كلبش
Alfred Clebsch » المسمى «دروس في علم الهندسة
Leçons sur la géometrié »
5
لوجدنا الصفحات فيه مقسمة إلى عمودين ترتب فيهما النظريات بحيث تناظر كل منها الأخرى بدقة. ففي العمود الأيمن نجد النظريات معبرا عنها «بإحداثيات الخطوط»، حيث يكون المستقيم هو العنصر غير المعرف، وفي الأيسر نجد النظريات معبرا عنها «بإحداثيات النقط» حيث تكون النقطة هي العنصر غير المعرف. وفي ممارسة مثل هذه المتناظرات التي يلعب فيها الخيال دوره يكتسب التفكير الهندسي مرونة كبيرة.
وفضلا عن ذلك فإن المرء يستطيع أن يرى أن تعديل نقط البدء على هذا النحو يجعل الطابع العيني للمفاهيم ذا قيمة ثانوية. فالمفاهيم الرياضية لا تفرض علينا في تجربة عينية يكون لها أصل تجريبي؛ إذ قد يوحى إلينا العالم المحسوس بضروب من الحدس، غير أن هذه الضروب يجب أن يتم إعدادها في مستوى فكري لا يعود مدينا بشيء لحقائق العالم المحسوس. فالمفاهيم الرياضية لا تكتسب قيمتها إلا خلال التنظيم التجريدي الذي يدرس علاقاتها. وقد لاحظ «بوريل
Borel »
6
أنه إذا كان هناك مفاهيم «أوحت بها في بدء الأمر أوجه شبه خاصة بالأشياء الحقيقية» (كالخط المستقيم، والدائرة ...) «فإن الأعداد الخيالية، والأعداد غير المتناهية، وكثيرا غيرها من الكيانات الرياضية هي مجرد ابتكارات عقلية.» (7) التعريفات
وكما أننا نستطيع تصنيف القضايا الرياضية إلى فئتين: قضايا يبرهن عليها كالنظريات، وقضايا أولية يسلم بها دون برهان، كالبديهيات، كذلك يمكن تصنيف المفاهيم إلى مفاهيم معرفة، ومفاهيم أولى يسلم بها دون تعريف. وهنا قد يخطر اعتراض بالذهن. فكيف حدث أن أدخلنا التعريف ضمن المبادئ، مع أن التعريف كما رأينا لا يبدو نقطة بداية؟ إن علة هذا الغموض ترجع إلى أن المرء ينظر إلى فكرة المبدأ من خلال نظرة إجمالية أكثر مما ينبغي. فالقضية يمكن أن تؤدي دور المبدأ، أعني يمكن أن تؤدي دور قضية يسلم بها دون برهان، وتمكن من البرهنة على غيرها من القضايا، دون أن تكون، رغم ذلك، هي الأولى زمنيا. ففي العلوم الرياضية ذات التركيب المعقد، لا يستطيع المرء أن يقنن بصفة نهائية كل المستلزمات الضرورية لبناء نظرية. فتعريف مفهوم ما هو نقطة نهاية على نحو ما، ما دام سيستخدم أحيانا مفاهيم متعددة «سبق» تعريفها، ولكنه يستخدم مبدأ من أجل التوسع «التالي» في النظرية. فتعريف الشكل البيضاوي مثلا هو نقطة بداية بالنسبة إلى كل برهنة على نظريات الشكل البيضاوي.
ومن العسير أن نحدد على وجه السرعة خصائص التعريفات الرياضية؛ فطرق التعريف متباينة،
7
ودراستها مرتبطة بدراسة عميقة لموضوع الرياضة. وسنرى في نهاية هذا الفصل عرضا لطرق معينة في التعريف (مثل إدخال مفهوم المجموع، ومفهوم العدد الحقيقي، ومفهوم العدد التخيلي، ومفهوم القوة). (8) النزعة الشكلية
Formalisme
بينا من قبل أن الرياضي يجد نفسه مستغرقا في القيام بعملية تجريد أساسية، وسنرى أن هذا الجهد الذي يقوم فيه الرياضي بعملية التجريد هذه، يصل إلى أقصى حدوده في عرض «هلبرت» لهندسة إقليدس.
ولنقل باختصار، إنه ما دام الرياضي ينفصل عن الطبيعة العينية للكيانات الرياضية، فمن الواجب أن نفحص عن كثب دور هذه الكيانات الرياضية، أو بعبارة أدق، العلاقات التي توجد بينها، ولكي نكون على ثقة من أننا نفحص «علاقات» الكيانات الرياضية، تاركين «طبيعتها» جانبا. يجب أن نكون قادرين على التحرر من اللغة ذاتها، وعلى فهم القيمة العميقة للمناهج التي تغلب الطابع الشكلي، المجرد، للتركيبات الرياضية. ولقد ألقى الرياضي «جان ديودونيه
Jean Dieudonné » ضوءا ساطعا على المعنى العميق لمنهج «هلبرت»، فقال: «لم يستطع أحد، مثل هلبرت أن يحقق هذا البرنامج بمثل هذا القدر من العزم والوضوح ولم يبرر أحد قبله ذلك المبدأ الأساسي القائل بأن «طبيعة» الكيانات المدروسة لا أهمية لها في الرياضيات، وأن العلاقات الموجودة بين هذه الكيانات هي وحدها الهامة. فبدلا من كلمات «النقطة»، «والمستقيم»، «والسطح»، ينبغي أن يكون في وسع المرء أن يقول دائما، دون أن يخشى الوقوع في الخطأ، «منضدة» و«مقعد»، وكأس من الجعة». ذلك ما عبر عنه «هلبرت» منذ 1891م بدعابة تكررت في ذلك الاستهلال المشهور (والذي عد في وقته انقلابا) لكتاب أسس الرياضيات.
8
فلو رجعنا إلى الصفحات الأولى من كتاب «الأسس»، لقرأنا فيها تحت عنوان «الاصطلاح
convention » السطور الآتية: لنتصور ثلاث مجموعات مختلفة من الكائنات، ونقسم كائنات المجموعة الأولى نقطا، ونشير إليها بالحروف أ، ب، ج ... وكائنات المجموعة الثانية «مستقيمات»، ونشير إليها بالحروف أ، ب، ج. وكائنات المجموعة الثالثة سطوحا ونشير إليها بالحروف أ
8 ، ب
8 ، ج
8 .
وبعد هذه التسميات الشكلية الخالصة، يبين «هلبرت» البديهيات التي تحدد علاقة هذه الكيانات. ولنذكر منها اثنتين على سبيل المثال. فلكي نقول إن النقطتين تحدان مستقيما، نكتب الآتي:
أ ب = أ. ولكي نقول إن ثلاث نقط ليست على استقامة واحدة تحدد مسطحا، نكتب ما يلي أ ب ج = أ
8 .
وإذن فها نحن أولاء تجاه نوع من الشكلية المفرطة. فإذا تذكرنا أن مجموعة البديهات تتألف من افتراضات ليس من الضروري أن تكون متفقة مع بداهات مطلقة، أو مع تجارب العالم المحسوس، وإذا لاحظنا أن «هلبرت» قد أدخل الكيانات الرياضية تحت صفة «الاصطلاح»، فهمنا عبارة «برتراند رسل» التي يلجأ إليها الكثيرون في المناقشات الفلسفية، دون أن يدركوا أحيانا أهميتها على وجه الدقة: «إن الرياضيات علم لا يعلم المرء فيه أبدا عم يتكلم (إشارة إلى الشكلية المحضة) ولا يعلم إذا كان ما يتكلم عنه صحيحا.» (إشارة إلى الاصطلاحات المبدئية، التي يعلن المرء فيها صلاحية بعض القضايا والمفاهيم ، دون إشارة إلى بداهة عقلية أو إلى خبرة تجريبية).
والواقع أن هذه الشكلية، التي تغض الطرف عن الطبيعة الحسية المحددة للموضوعات الرياضية، لا يمكن أن تنمو إلا في جو من المعاني الدقيقة المجردة، ومن الطبيعي أن تعجز عن وصف النشأة التاريخية للعلم الرياضي. وهي لا تظهر إلا في تفكير نظري في العلم بعد تكوينه، غير أن المرء لو أغفل الجهد الضخم الذي بذله الرياضيون المعاصرون من أجل بناء علمهم وتنميته بأكبر قدر من الدقة، لكان في ذلك تجاهل لصفة من أبرز صفات الرياضة المعاصرة.
هذا، وسنعود مرة أخرى، في هذا الفصل ذاته، إلى العلاقات بين الدقة والحدس، وسنحاول، بعد الدراسة الطويلة التي قمنا بها للمبادئ الأساسية في النظريات الرياضية، أن نحدد خصائص الاستدلال الرياضي من خلال مجموعة من عملياته تتسم بأكبر قدر من البساطة.
ثانيا: الاستدلال الرياضي (9) خصوبة الاستدلال الرياضي ودقته
الرياضيات كما قلنا من قبل تركيبات فرضية استنباطية يؤدي فيها الاستنباط دورا رئيسيا، وكثيرا ما يوصف الاستنباط بأنه عملية تحليلية تنتقل من العام إلى الخاص، ويتخذ القياس (
Syllogisme ) أوضح أنموذج للاستدلال الاستنباطي. فإذا ما قبلنا أوجه النقد التي وجهت إلى الاستدلال القياسي، أمكننا القول بأن نتيجة البرهان في الاستنباط، إن هي إلا نتيجة سبق أن احتوت عليها المقدمات. وهكذا يكون الاستنباط عملية استدلالية دقيقة، ولكنها عقيمة. وعلى العكس من ذلك يبدو أن الاستقراء هو الطريق الوحيد الذي يتبعه التفكير المنتج حقيقة؛ إذ هو امتداد للمعرفة وتعميم لها، وإن كان لا يزعم لنفسه ما للاستنباط من دقة مطلقة؛ فلنضع المشكلة أولا في هذه الصورة العامة جدا، لكي نفهم الجدل المشهور الذي نشب في مستهل القرن العشرين بين الرياضي بوانكاريه، والفيلسوف جوبلو، حول طبيعة الاستدلال الرياضي .
ففي مستهل هذا القرن، قال «بوانكاريه» في كتابه «العلم والفرض» (ص4) «ما طبيعة الاستدلال الرياضي؟ أهو حقا استنباطي كما يعتقد عادة؟ إن المقارنة العميقة تبين لنا أن الأمر بخلاف ذلك، وأنه يشارك بقدر معين في طبيعة الاستدلال الاستقرائي، وهذا هو السبب في أنه منتج. ومع ذلك، فإنه لا يفقد شيئا من طابع الدقة المطلقة.»
فكيف نفسر جمع الاستدلال الرياضي بين صفة الخصوبة، وصفة الدقة في آن واحد؟ (10) الاستدلال الترديدي.
9
فكرة التعميم
يأخذ بوانكاريه على عاتقه أن يثبت أن الاستدلال الرياضي لا يمكن إرجاعه إلى القياس «الذي لا يأتي إلينا بجديد.» وإنما هو في أساسه «تعميمي؛ مما يفسر طابع الخصوبة الذي لا سبيل إلى إنكاره في العلوم الرياضية.» ويكشف بوانكاريه عن هذا التعميم في صورة من صور الاستدلال الدقيق تتميز بها الروح الرياضية. هي الاستدلال الترديدي
raisonnement par recurrence ، وسوف نبين عن طريق مثال، كيف ينمو هذا النوع من الاستدلال؛ فلنقترح مسألة في حاجة إلى حل، هي إثبات عدم تساوي الطرفين الآتيين: (1) (1 + 1) ن >
1 + ن أ
حيث أ عدد حقيقي أكبر من −1 ومختلف عن الصفر، وحيث إن أي عدد صحيح أكبر من 1.
وللبرهان على هذه المسألة مرحلتان، حسب الترتيب التالي:
10 (أ)
نبرهن على أنه إذا كان عدم التساوي الذي تعبر عنه هذه المسألة صحيحا بالنسبة إلى قيمة معينة (ن)، ولتكن ك، كان أيضا صحيحا بالنسبة إلى القيمة ك + 1 (ولنقل على وجه الدقة إننا لا نعلم إذا كان يصح بالنسبة إلى قيمة ك هذه). (ب)
نبرهن على أن عدم التساوي يصح بالنسبة إلى ن = 2.
ومن هذين البرهانين يمكننا أن نستدل على أن عدم التساوي صحيح لكل قيم ن ابتداء من 2. والواقع أننا قد أثبتنا في البرهان (ب) أن الصيغة تصح إذا كانت ن =2. على أننا أثبتنا في (أ)، بصفة عامة، أنه إذا كان عدم التساوي صحيحا بالنسبة إلى قيمة معينة ل ن هي ك، فإنه يصح أيضا بالنسبة إلى ك + 1.
ولما كانت الصيغة (1) صحيحة عندما تكون ن = م، فإنها تكون أيضا صحيحة عندما تكون ن = 3. ولما كانت صحيحة عندما تكون ن = 3 فإنها تكون صحيحة عندما تكون ن = 4. وفي وسعنا أن نكرر هذا الاستدلال ذاته إلى ما لا نهاية، ما دام البرهان (أ) قد أثبت أن الصيغة إذا صحت بالنسبة إلى أية قيمة ل ن، فإنها تصح بالنسبة إلى القيمة التالية. وبدون البرهان (أ ) كان يمكننا أن نحقق الصيغة (1) عندما تكون ن = 2، ن = 3، ن = 4، على التوالي ... ولكننا لا نستطيع عندئذ أن نؤكد أنها تصح على ذلك العدد اللامتناهي من قيم ن، ابتداء من 2، فعن طريق البرهانين أ، ب معا، يمكننا أن نؤكد صحة عدد لا نهاية له من الصيغ.
وهكذا يمكننا أن نفهم السبب الذي قال من أجله بوانكاريه: إن «الاستدلال الرياضي يشارك بقدر معين في طبيعة الاستدلال الاستقرائي.» فالاستقراء الترديدي يسمح لنا أن نؤكد صحة صيغة في عدد لا نهاية له من الحالات، بينما كان يمكننا عن طريق براهين مماثلة للبرهان (ب) أن نؤكد الصيغة (أ) في عدد «متناه» من الحالات فحسب، ولكن علينا أن نفهم كل فكرة في تفاصيلها الدقيقة، لهذا أشرنا بوجه خاص إلى كلمة «بقدر معين». فبعد عدة صفحات، يعبر بوانكاريه عن رأيه بوضوح تام يمكن من توقي كل خلط، فيقول: «لا يستطيع المرء أن يتجاهل أن في الاستدلال الترديدي تشابها ملحوظا مع عمليات الاستقراء المعتادة، ومع ذلك، فلا زال بينهما اختلاف جوهري. فالاستقراء حين يطبق على العلوم الطبيعية يكون على الدوام غير مؤكد، لأنه يرتكز على الإيمان بنظام عام للكون ... أما الاستقراء الرياضي، أعني البرهان «الترديدي» فإنه يفرض ذاته بضرورة محتومة ...» وإذن فقد أراد بوانكاريه أن يقرب الاستدلال الترديدي من الاستدلال الاستقرائي كما يتمثل في العلوم الطبيعية لأنهما «يسيران في نفس الاتجاه، أعني ينتقلان من الخاص إلى العام.» ولكنه إذ يقربهما على هذا النحو يؤكد أيضا بوضوح أنهما «يرتكزان على أسس مختلفة.»
فما الاعتراضات التي وجهها عالم المنطق «جوبلو» إلى بوانكاريه؟ إنه يقول له: لقد وصفت «الاستدلال الترديدي» بأنه الاستدلال الرياضي على الحقيقة. غير أنه استدلال خاص إلى أبعد حد، ولا يمكن أن ينطبق إلا على مجالات معينة في الرياضة، وهي المجالات التي يتبدى فيها تعاقب الأعداد الصحيحة.
ولكن الشيء الذي أراد بوانكاريه أن يبينه، ليس هو القول بأن «الاستدلال الترديدي» هو أكثر الاستدلالات استعمالا؛ بل هو الاستدلال النموذجي للتفكير الرياضي؛ فهو استدلال صالح كل الصلاحية للكشف عن الخصائص التي يتميز بها الاستدلال الرياضي؛ إذ إن الاستدلال الرياضي هو، في الواقع، «أداة تمكن من الانتقال من المتناهي إلى اللامتناهي» بدقة كاملة «وهذه الأداة نافعة دائما، لأنها متى أتاحت لنا اجتياز ما نشاء من الخطوات بقفزة واحدة، فإنها توفر علينا القيام بالتحقيقات المطولة، المملة، التي تسير على وتيرة واحدة، والتي سرعان ما يصبح من المستحيل تنفيذها عمليا. غير أنها تصبح لازمة عندما يكون هدف المرء هو الوصول إلى النظرية العامة، التي نقترب على الدوام من تحقيقها تحليليا، دون أن نتمكن من الوصول إليها.» والواقع أن عملية التحقيق تصبح مستحيلة في مجال اللامتناهي. فقد نستطيع التحقق من أن الصيغة (أ) صحيحة في عدد متناه من الحالات، ولكن البرهان الدقيق للاستدلال الترديدي يمكننا من تأكيد صحتها بالنسبة إلى القيم اللامتناهية التي يمكن أن تعزى إلى ن. وإذن فقد أراد بوانكاريه أن يثبت أن الرياضيات لا يمكن أن ترجع إلى سلسلة من الأقيسة، وأنها تقوم على التعميم في أساسها، وأنها تسمح لنا بأن نؤكد، بكل دقة، صحة صفة معينة في عدد غير متناه من الحالات. «هذا إلى أنه من الضروري أن يكون في وسع المرء إثبات خواص الجنس دون أن يضطر إلى إثباتها بالنسبة إلى كل من الأنواع على التوالي.» (العلم والفرض ص27)، فبالاستدلال الترديدي، تكتسب قضايانا صفة العموم فورا.
ولكن هل يجب القول، كما قال بوانكاريه بتعجل، بأن الاستدلال الرياضي ليس استنباطا على الإطلاق؟ كلا بالتأكيد. ذلك لأن «بوانكاريه» قد سوى بين الاستدلال الاستنباطي والعملية القياسية التي تنتقل من العام إلى الخاص، وكان في ذلك متبعا منطق عصره. ولكن الحقيقة أن الاستدلال الاستنباطي يلجأ إلى عمليات فكرية معقدة، تختلف كل الاختلاف عن القياس، كما أثبت ذلك المنطق المعاصر. وحسبنا أن نذكر تلك الحقيقة البسيطة، وهي أن في وسع الرياضي أن يستبدل، في الصيغة الرياضية وبشروط معينة، مجموعة من الرموز بمجموعة أخرى من الرموز؛ نقول حسبنا أن نذكر هذا، لنكون قد فهمنا مدى تقدم البرهان، وفضلا عن ذلك فالمنطق يدخل عمليات التعميم، إن لم يكن في مراحله الأولى. ففي نموه التالي على الأقل.
فأهمية القياس قد أصبحت ضئيلة في العمليات الاستنباطية التي يقوم بها المنطق المعاصر. (11) فكرة التركيب
فلنفحص الآن وصف جوبلو للاستدلال الرياضي. إنه يقول: «البرهان هو التركيب»
11
على أن هذا التعبير الواضح جدا يخفي وراءه أكثر التفسيرات تباينا. والواقع أن كلمة «التركيب» تعني في نظر جوبلو التركيب المرسوم. والعملية الجبرية، والعملية الذهنية (التي يميزها جوبلو عن عملية العقل)، وتركيب النتيجة مع الفرض، ولنحتكم إلى النصوص. إنه يقول: «إن أهمية التركيبات المرسومة في الهندسة لم تخف على أحد، ولكن المناطقة يميلون إلى أن يروا فيها مجرد عمليات مساعدة أو ممهدة للاستدلال، في حين أنها هي الاستدلال نفسه.» (ص273)،كما يقول: «ليس ثمة قضية حسابية أو جبرية لا يبرهن عليها عن طريق «عملية» أو سلسلة من العمليات.» (ص269)، كذلك يقول «ليست العمليات التركيبية عمليات عقلية، وإنما هي عمليات تنفذ ذهنيا.» (ص273). وفي فقرة أخرى يقول جوبلو: «لكي نبرهن على أن فرضا ما يستتبع نتيجة ما، نركب النتيجة مع الفرض.» (ص272)، ويريد جوبلو أن يؤكد على وجه التحديد، أن «النشاط التركيبي للعقل هو الذي يظهر النتيجة الجديدة.» (ص264).
غير أن هذه الاستعانة بالنشاط التركيبي للعقل تظل تفسيرا على جانب غير قليل من الغموض، وليس هناك من ينكر نشاط العقل الرياضي وإبداعه، ولكن الواقع أن من العسير وصف الاستدلال الرياضي بصفة واحدة، وكل محاولة لفهم عملية الاستدلال الرياضي عن طريق تفسير واحد فريد، تظل محاولة غير دقيقة، وإنما الواجب تحليل البراهين الرياضية المتعددة، والرجوع إلى أكثر الأمثلة تنوعا. ومن الضروري، بوجه خاص، ألا يقف المرء عند حد الأمثلة الأولية؛ بل الواجب أن يدرس الاستدلالات التي تكون تعريفات موضوعاتها الرياضية نتيجة إعداد وئيد، ونتيجة للتأليف بين أكثر اتجاهات الفكر تباينا. وعندما نفحص دور الحدس والصياغة الشكلية، سنصبح أقدر على إدراك طابع التعميم والتركيب الذي يتميز به نشاط التفكير الرياضي.
ثالثا: الفكر الحدسي والفكر المقالي (12) الحدس الرياضي والحدس الحسي
رأينا من قبل في الجزء الخاص بالمفاهيم (
notions ) أن المفاهيم الرياضية، حتى وإن كانت من أصل تجريبي بالفعل، فسيظل من الصحيح أن الرياضيات قد انفصلت عن ذلك الأصل التجريبي، وأنها قد أصبحت علما بريئا من الصفات المحسوسة. فعندما يفكر الرياضي في الخط المستقيم، فهو لا يفكر في خيط البناء، وعندما يثبت أن المنصفات تتلاقى في المثلث، فإن برهانه يكون مستقلا عن التحقيق المادي لهذا الشكل. ومن المحال أن يحل البيان بالرسم محل برهان بالاستدلال؛ إذ ليس للرسم من عمل سوى أن يكون دعامة للانتباه، دون أن يكون عنصرا مكونا للبرهان «فالتصورات الهندسة تصورات فكرية.» كما أكد الفيلسوف الألماني هوسرل
Husserl ، الذي كان عالما رياضيا في الوقت ذاته، وهي تعبر عن شيء لا يمكن «رؤيته»، وعلى ذلك فليس من المستطاع المقارنة بين الحدس الرياضي والحدس الحسي بأية حال. (13) التفكير الحدسي والتفكير المقالي (
Discursive )
لكن هل سنهتدي في الحدس الرياضي إلى تلك الصفات التي اعتاد المفكرون أن يصفوا بها الحدس بمعناه الفلسفي؟
إن الحدس يمكن أن يوصف في هذه الحالة بأنه اتصال مباشر، فوري، عيني، بموضوعه، وهذا الاتصال المباشر يحقق في الوقت ذاته أوثق فهم لهذا الموضوع؛ إذ يصل إليه في جوهره ووجوده الفردي. وبهذا يكون الحدس مضادا لكل تفكير مقالي، أو «سلسلة من الحجج» أو خطوات للبرهان، أو تنظيم شكلي، أو تطبيق دقيق لمنهج ما.
ويبدو أنه من الممكن أن نهتدي إلى مثال للتقابل بين هذين النوعين من التفكير، عندما نقارن بين الهندسة والجبر الأوليين. فقد قال ليبنتس (
Leibniz ) في بحثه «فن الاختراع
Ars inveniendi » إن علماء الهندسة يستطيعون البرهنة بكلمات قليلة على قضايا يصعب إثباتها عن طريق الحساب إلى حد بعيد. فالطريق الجبري يؤدي دائما إلى الهدف، ولكنه ليس على الدوام أفضل الطرق. فمن الممكن أن نقابل بين البراهين السريعة اللماحة للفكر الهندسي، وبين بطء الحساب الجبري وخطواته المتدرجة، وأن نقابل بين رشاقة البرهان الهندسي وثقل الحساب الجبري، وبين عبقرية الحدس الهندسي وآلية المناهج الجبرية.
غير أن هذه المقارنة بين الهندسة والحساب لا تمكننا من تقدير دور الحدس في الرياضة حق تقديره. والواقع أننا نهتدي إلى التمييز بين الحدس والانضباط الدقيق حتى في الجبر ذاته. فعالم الجبر يهتدي أحيانا بالحدس السريع إلى منهج للحل، ويشعر بالنتيجة مقدما، ويكون مجهوده في البرهان موجها بوضوح في هذه الحالة، وهو لا يأخذ على عاتقه مهمة اختبار دقة برهانه إلا في المرحلة الثانية من بحثه.
وفي هذا الاختبار الدقيق يبدو أن الرياضي يدعو كل الآخرين إلى التحقق من فكرته الخاصة، فلا يعود الحدس الرياضي الذي يتحقق منه على هذا النحو، فكرا فرديا بالمعنى الصحيح؛ أي لا تتمثل فيه صفة طالما طالب بها أنصار الفكر الحدسي في الفلسفة. وقد تبدو هذه الملاحظة مرتبطة بعلاقة فرعية وظاهرية، للتفكير الرياضي. ولكن إذا كان الحدس الفردي في حاجة إلى التحقق من صدقه حتى يمكن قبوله؛ ففي هذا ما يكفي لبيان طبيعته الحقيقية. فالحدس الرياضي لا بد من أن يتداول، ومن الضروري أن يقبله مجموع الرياضيين قبولا تاما، ومن الواجب أن يحكم عليه من خلال نقط اتصاله وارتكازه على النظريات الرياضية القائمة بالفعل.
وإذا كان من ضروب الحدس ما هو أساس لظهور بعض المشاكل الرياضية، وإذا كان منها ما يوحي بحلول لمشاكل معينة، فلا يمكن من ذلك تصور تفكير حدسي يستغني عن الصياغة الشكلية الدقيقة. والحق أن بين النظرات الحدسية والمناهج الدقيقة تأثيرا متبادلا. فالتفكير القائم على الحدس في حاجة إلى أن يؤكد ذاته، وإلى أن يشيد بناءه عن طريق التفكير المقالي، وهذا التفكير الأخير في حاجة إلى استعادة صلته بالتأكيدات الحدسية، فإذا اقتصرنا، كما فعل أحد الفلاسفة، على القول بأن «التفكير الشكلي يستمد حياته من التفكير الحدسي.» لما عبرنا بهذا إلا عن نصف الحقيقة. فمن الواجب أن يضاف إلى ذلك، أن التفكير الحدسي يظل في الوقت ذاته مرتبطا بالتفكير الشكلي المقالي الذي يضفي عليه اليقين والدقة.
وليلاحظ بوجه خاص أن «هناك بداهات تكون في بعض الأحيان خادعة إلى أبعد الحدود.» على حد تعبير بوليجان
Bouligand
ولذلك ينبغي أن تكون الروح الجبرية
algebrisme
مرشدا للتفكير الذي يستند متسرعا إلى البداهة الحدسية.
ولكن لا ينبغي أن يوصف الحدس عموما بأنه قبول مباشر لكل بداهة تعرض للعقل. فهناك حالات يكون فيها الحدس «صادرا عن الروح النقدية بحق». إذ قد يكون لدى المرء أداة جبرية موثوق منها، ومنهج دقيق، ومع ذلك قد يأتي حدس خصب فيشككنا في إمكان تطبيق المنهج «تطبيقا آليا»، وعندئذ يصبح الحدس دليلا على حذر بالغ وعلى تفكير يقظ لا يثق بالحجج الاستدلالية التي تتشابك بطريقة آلية مفرطة. وقد اقترح بوليجان أن تسمى هذه الحدوس باسم «الحدوس المضادة
contre-intuitions » ومن قبيلها حدوس الدالات المتصلة التي لا تحل محلها قيم.
ولكن إذا كانت هناك «حركة ذهاب وإياب بين ضروب الحدوس والروح الجبرية
Algebrisme » كما يقول بوليجان، فمعنى ذلك أننا لا نستطيع القول بأن الحدس هو الخطوة الأولى حقيقة. فمن الممكن القول بأن إنشاء النظريات الرياضية يقوم «على أساس» حدوس، ولكن هذه الحدوس ترتبط «بمعرفة» رياضية، وكلما اتسع نطاق المعرفة المكتسبة، ازداد الحدس وضوحا، فالحدس الرياضي هو حدس أناس عارفين. والواقع أن ذلك الحدس الذي يبدو أنه يفرض علينا آفاقا أو موضوعات «جديدة» إنما ينتج في حقيقة الأمر عن ألفة طويلة الأمد مع مفاهيم أعدها التفكير الشكلي الدقيق إعدادا طويلا، ومع نظريات أحكم هذا التفكير بناءها. فالحدس لا يتدخل ابتداء من معطيات عينية فحسب ... بل سرعان ما يكتسب لدى الرياضي فاعلية في ظروف أوسع نطاقا من ذلك بكثير ... فعالم الهندسة، إذ يصبح أكثر «ألفة» بالكيانات التي يدرسها، ينتهي به الأمر إلى أن يكون لنفسه عنها فكرة تعادل في وضوحها فكرته عن الأشياء الحقيقية التي يحفل بها العالم الخارجي. وعلى هذا النحو يتكون في بعض مناطق العالم الرياضي ميل إلى إدراك علاقات، عظيمة الدقة في أغلب الأحيان، وذلك عندما يكون كشف هذه المناطق قد بلغ حدا معينا من التقدم.
12
ونحن نؤكد هذه العبارة الأخيرة بوجه خاص، لكي نلح في بيان الطابع «الفني» للحدس الرياضي، الذي يظل مرتبطا ارتباطا وثيقا بتمكن الرياضي من المناهج، وإلمامه الواسع بالتفكير المقالي. (14) حدس البديهيات
حاولنا أن نبين مدى الارتباط والتكامل بين جوانب الحدس والإجراءات المنضبطة في الرياضة، ولكن قد يخطر اعتراض بالذهن، هو: هل يؤدي ظهور التفكير المرتكز على مبدأ «البديهيات» إلى رفض الحدس رفضا تاما؟ إنه ليبدو أن وجود مجموعة من البديهيات معناه أن المرء قد بلغ مرحلة من التجريد لم يعد فيها أي مجال للحدس. والحق أن الرياضيين قد تصدر عنهم تصريحات توحي إلى الأذهان الساذجة بمثل هذا الاعتقاد، وذلك كقولهم: «إنا لا ننكر أن معظم الصور الرياضية كانت تحتوي في أصلها على عناصر حدسية محددة، ولكن من المحقق أنها لما جردت من كل محتوى فقد أمكنها أن تكتسب هذا التأثير العظيم الذي كانت تنطوي عليه في ذاتها بالقوة، وهكذا أصبحت قابلة للتعبير عن تفسيرات جديدة، ولأداء وظيفتها في إعداد النظريات الرياضية.»
13
فلنرجع لحظة إلى هذا التفكير الذي يعتمد على البديهيات، والذي سبق أن أشرنا إليه؛ أن مهمة البديهيات لا تنحصر في مجرد تقنين الفروض والقواعد في نظرية رياضية خاصة؛ بل إن نسق البديهيات لا يقتصر في الواقع على عرض البديهيات والمعاني الأولية الخاصة بنظرية ما، وعلى دراسة مدى اتساق هذه البديهيات فيما بينها، واستقلال كل منها عن الأخرى، وإنما يسعى إلى فهم «السبب العميق» للاستدلالات المتسلسلة، والكشف عن هيكل الاستدلال، بغض النظر عن «طبيعة» الموضوعات التي تتدخل في النظريات الرياضية. وهو يجمع النظريات لا لأنها تعالج موضوعات رياضية لها طبيعة واحدة، وإنما لأنها تكشف عن بناءات واحدة.
وكما يقول هنري كارتان:
14 «لنفرض أن بديهيات نظرية رياضية ما قد اختبرت بصفة نهائية، وعندئذ ينبغي ألا تقتصر نظريتنا الرياضية على أن تكون تجميعا جامدا للحقائق، أعني لنتائج البديهيات ... فلكي تكون الرياضة أداة فعالة، ولكي نستطيع نحن علماء الرياضة، الاهتمام بها من أعماق نفوسنا، فلا بد أن تكون تركيبا حيا، ولا بد أن نرى فيها بوضوح تسلسل النظريات، وأن نجمع فيها النظريات الجزئية، وفي هذه المحاولة بدورها نستعين بمنهج البديهيات الذي يزودنا بمبدأ للتصنيف.»
وفي هذا المجهود الذي يبذله الرياضي لاستخلاص بناءات النظريات، حتى يقارن هذه النظريات فيما بينها، ويكون منها مجموعات، نجده يقوم بعمل «تجريدي» تماما، فعليه أن يتجرد من الحدوس العينية، التي تجعل تفكيره خاضعا للمجالات الفردية الخاصة، وعليه ألا يقتصر على ثقافة محدودة تكتفي بأمثلة جزئية، أو حتى بنظريات خاصة؛ بل يجب أن يصل إلى فهم «التركيب الهندي» للرياضيات ذاتها، ولكن دراسة الصور المجردة تدفعنا عندئذ إلى استخلاص أفكار عامة «موجهة». وإذا كان في منهج البديهيات خروج على الحدوس العينية فمن المحقق، مع ذلك، أنه يكشف عن طبيعة الأشياء، ويجعلنا نجيد فهم ماهية النظريات الرياضية ونحسن «رؤيتها» بوضوح كامل. فالآن لم تعد الرياضة على الإطلاق، كما كانت فيما مضى، تأليفا آليا محضا بين صيغ منعزلة، وقد أصبح الحدس الآن - أكثر من أي وقت مضى - يسيطر تماما على نشأة الكشوف الرياضية، غير أنه أصبح منذ الآن يمتلك الوسائل القوية التي تمده بها نظرية الأنواع البنائية الكبرى، وهو يسيطر بلمحة واحدة على مجالات هائلة وحد بينها منهج البديهيات
l’axiomatique ، وهي المجالات التي يبدو أنه لم يكن يسودها من قبل سوى الاضطراب الشامل. فمنهج البديهيات المبني على المنطق البحت، لم يكتف بأن جعل لعلمنا أساسا راسخا؛ بل إنه يتيح لنا إجادة تنظيمه وإجادة فهمه، ويجعله أكثر فاعلية، ويستبدل بالحسابات أفكارا عامة،
15
ولكن أليست هذه علامة حدس أصيل يمكننا أن نسميه حدس التنظيم المجرد؟
إذن نرى الآن إلى أي حد تكون التفرقة بين التفكير المقالي والتفكير القائم على الحدس في الرياضيات تفرقة مصطنعة، فحتى في المجال الذي يبدو فيه أن الحدس قد استبعد، نراه يعود إلى الظهور بصورة قد تكون غير مألوفة، ولكنها قوية إلى حد بعيد، وهكذا فبناء أكثر الأساليب الفنية الرياضية تجريدا يقتضي الالتجاء إلى أكثر ضروب الحدس خصوبة وعمقا. (15) الحدس والنزعة الحدسية
ينبغي ألا نطلق اسم «النزعة الحدسية» على كل نظرية في نقد المعرفة تؤكد دور الحدس في التفكير الرياضي، إذ إن هذه الكلمة أصبحت اليوم مقتصرة على المذهب «الرياضي» لعالم رياضي هولندي معاصر هو «بروفر
Brouwer »، وكما يقول «جونست
Gonseth »: «إن النزعة الحدسية تقترح نظرية جديدة وتطبيقا عمليا جديدا للتفكير الرياضي.» وتعترف النزعة الحدسية بمعطيات، هي بضعة مفاهيم ذات وضوح بديهي ، وبضع عمليات أساسية للفكر، وهي لا تقبل سوى المفاهيم الرياضية التي يمكنها أن تبين بالفعل عملية «تركيبها عن طريق هذه المعطيات»، ويرى «بروفر» أنه لا يكفي أن نثبت عدم تناقض أحد المفاهيم حتى نسلم بصحته؛ بل يجب أن نكون قادرين على تركيبه، وذلك على حد التعبير الذي نصادفه على الدوام في كتابات بروفر. فمذهب بروفر لا يكون إذن سوى «جزء» من الرياضيات الكلاسيكية فحسب. ففي بعض الحالات الخاصة المعقدة جدا والخاصة باللامتناهي، قد يجد المرء قضايا ليست متناقضة (وبالتالي ليست باطلة) ولكنه لا يستطيع الجزم بصحتها؛ أعني بما إذا كان من الممكن تركيبها بالفعل. في هذه الحالات لا يمكن تطبيق مبدأ الثالث المرفوع، وعلى ذلك فلا يمكن في رأي بروفر الاعتراف بصحة مبدأ الثالث المرفوع بصفة مطلقة، وإذن فهذا الموقف مرتبط برفض المنطق التقليدي، ويقتضي منطقا جديدا (صاغه تلميذ لبروفر هو: هيتنج
Heyting ) ولكن النزعة الحدسية ليست منطقا بحسب جوهرها وإنما هي مذهب رياضي، وفضلا عن ذلك فالمنطق في نظر بروفر، شأنه شأن كل لغة، ليس دقيقا في التعبير عن النشاط الرياضي الذي هو حدسي في أساسه.
غير أن مذهب بروفر يظل مذهبا خاصا جدا، وهو على هامش الرياضيات الكلاسيكية تماما.
رابعا: الهندسات اللاإقليدية (16) المصادر الخامسة لإقليدس. هندسة لوباتشفسكي
إذا أردنا توضيح بعض خصائص منهج البديهيات، فلن نجد في ذلك خيرا من القيام بعرض سريع للهندسات اللاإقليدية. ولقد ذكرنا من قبل المحاولات المتعددة التي بذلت طوال عصور عديدة للبرهنة على مصادرة إقليدس القائلة بوجود خط مواز، وخط واحد (وهي المصادرة الخامسة) وفي مستهل القرن التاسع عشر «أدى الإخفاق العام إلى إثارة فكرة جديدة لدى علماء الهندسة، بصورة تبلغ قدرا غير قليل من الدقة، هي أن مسلمة إقليدس لا يمكن البرهنة عليها، ومن الضروري أن نسلم بها دون برهان، أو أن نسلم بأخرى تعادلها.»
16
وبالتدريج أخذت الآراء تتجه إلى رفض الفكر القائلة إن قضية إقليدس هي نظرية لم يكشف بعد برهانها، فاعتبرت مصادرة حقيقية لا يمكن استنباطها من المصادرات الهندسية الأخرى، ولو تذكرنا معيار استقلال المصادرات الذي أشرنا إليه في القسم «5» لفهمنا معنى محاولة العالم الرياضي الروسي لوباتشفسكي
Lobatchevski (1793-1856م). فلوباتشفسكي قد بدأ بمصادرة مرتبطة ببقية مصادرات الهندسة الإقليدية، وهي تنحصر في قضية تناقض مصادرة إقليدس؛ إذ تفترض أن من الممكن مد مستقيمين لا مستقيم واحد، من نقطة خارج مستقيم، ومن هذا الأساس الأول، استنبط نظريات عدة، ونشر نتائج أبحاثه باللغة الروسية في مطبوعات جامعة قازان
Kazan
في عام 1830م. ثم نشرها باللغة الفرنسية في مجلة
Journal de Grelle
1837م، ولا شك في أن النظريات التي تكونت على هذا الأساس الجديد كانت تناقض نتائج الهندسة التقليدية. فقد تبين مثلا أن مجموع الزوايا الداخلية للمثلث لا يساوي قائمتين؛ بل هو دائما أقل من قائمتين، ولكن لوباتشفسكي لم يعثر على تناقصات «داخلية» في البناء الذي شيده على أساس معدل، ولو وجد تناقض داخلي لكان في ذلك برهان على أن مصادرة إقليدس لم تكن مستقلة عن المصادرات الأخرى في الهندسة، وأنه يمكن البرهنة عليها.
ولا شك أن اعتراضا يخطر بالذهن ها هنا: فمن الجائز أن لوباتشفسكي لم يسر في التركيب الذي شيده إلى الحد الذي يجعله يصادف التناقض الذي كان كفيلا بهدم نظرياته، وكان في الوقت ذاته كفيلا بأن يأتي أخيرا ببرهان على مصادرة إقليدس بطريق «الخلف».
غير أن هذا الاعتراض قد وجد الإجابة عنه في مؤلفات الرياضي الألماني «فيليكس كلاين
Felix Klein » (1849-1925م) والعالم الرياضي «بوانكاريه
» (1854-1912م). فقد وضع كلاين «أنموذجا إقليديا» للهندسة اللاإقليدية، ووضع بوانكارية «معجما» يمكن من ترجمة نظريات لوباتشفسكي بلغة إقليدية، وعلى ذلك، فإذا كان من الممكن الاهتداء إلى تناقض في بناء هندسة لوباتشفسكي، فإن «المعجم» يتيح تحديد هذا التناقض في بناء الهندسة الإقليدية. فمجال صحة الهندسة اللاإقليدية يعادل في عمقه تماما مجال صحة الهندسة التقليدية، أي الهندسة الإقليدية القديمة.
17
وإذن فقد بين بوانكارية التكافؤ التام بين الهندسة الإقليدية والهندسة اللاإقليدية عند لوباتشفسكي، من حيث الصدق. ومن هنا يكون السؤال عما كانت إحداهما أصدق من الأخرى، سؤالا أسيء وضعه. ولندع بوانكاريه يتكلم: «فما قولنا في هذا السؤال: هل الهندسة الإقليدية صحيحة؟ ليس لهذا السؤال أي معنى؛ بل هو لا يختلف عن التساؤل عما إذا كان نظام القياس العشري صحيحا والمقاييس القديمة باطلة، وعما إذا كانت إحداثيات ديكارت صحيحة والإحداثيات القطبية باطلة. إن أية هندسة لا يمكن أن تكون أصدق من الأخرى، وكل ما يمكنها هو أن تكون أكثر يسرا
على أن الهندسة الإقليدية أكثر يسرا من غيرها، وستظل كذلك دائما: (1)
لأنها هي الأبسط ... (2)
ولأنها تتفق إلى حد غير قليل مع خصائص الأجسام الطبيعية، وهي الأجسام التي تقترب منها أعضاء جسمنا، وعيننا، والتي نصنع منها ما لدينا من أدوات للقياس.»
18
ولقد كان لهذه الإشارة إلى اليسر دور كبير في بداية هذا القرن، فرأى البرجماتيون فيها تأييدا لمبدئهم الفلسفي القائل إن الحقيقة تتصف بأنها قيمة للمنفعة، ولليسر.
والحق أنه مهما كان لهندسة إقليدس من قيمة عملية تكاد تكون شاملة، فمن الممكن فعلا أن تظهر حالات تصبح فيها الهندسة اللاإقليدية أكثر مناسبة لأحد البحوث الخاصة. فعندما بدأت النظرية النسبية العامة لأينشتين تطبق، تبين أن من الممكن التعبير عنها عن طريق هندسة أخرى لا إقليدية (هي هندسة ريمان) بطريقة أكثر يسرا منها في هندسة إقليدس. وعلى هذا فالإشارة إلى اليسر لا يمكن أن تمدنا بمعيار للقيمة «العقلية» «والتجريبية» المطلقة لهندسة من الهندسات. (17) هندسة «ريمان»
لقد أشرنا منذ قليل إلى الهندسة اللاإقليدية عند ريمان
Riemman (1826-1866م) وهذه الهندسة بدورها لا تقبل قضية إقليدس القائلة بوجود مواز واحد. وتتخذ هندسة «ريمان» بدلا من مصادرة إقليدس مصادرة أخرى تقول إنه لا يمكن رسم أي خط مواز لمستقيم. فأي مستقيمين على سطح معين يمكن أن يتقابلا. والواقع أن سطح أية كرة (حين ننظر إليه دون أية إشارة إلى بعد ثالث) يتمثل فيه مجال صالح للتوسع في هندسة ريمان ذات البعدين. فعلى مثل هذا السطح تكون الفكرة المناظرة للخط المستقيم في المسطح
19
الذي عرفه إقليدس، هي دائرة كبيرة (وكما أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين على سطح واحد، فكذلك الحال في الكرة، حيث يكون الجزء من الدائرة المحصورة بين نقطتين هو أقصر مسافة بين هاتين النقطتين)، وواضح أن «المستقيم» عند ريمان (أعني الدائرة الكبيرة) لا يمكن أن يكون له خط مواز (أي دائرة كبيرة أخرى) من نقطة على «السطح» (الكرة) خارجة عن هذا المستقيم، وفي هندسة ريمان يكون مجموع زوايا المثلث أكبر من قائمتين (إذ إن مجموع زوايا المثلث الكروي أكبر بكثير من قائمتين). (18) هل تتعارض مصادرة لوباتشفسكي مع الحدس؟
في هذه الإشارة إلى هندسة السطح الكروي نرى دعامة «لأنموذج» هندسة لا إقليدية في نظر الحدس. على أن معارضة الحدس الشائع قد تكون أعظم في بعض الأحيان، فكثيرا ما يسيء المرء تصور التعارض مع تجربة شائعة، ومع حدس معتاد.
ومع ذلك فيبدو من الممكن تبرير المصادرات الجديدة على أساس الحدس، وسنقدم فيما يلي تخطيطا سريعا لهذا العمل الذي يقوم به الحدس بالنسبة إلى مصادرة لوباتشفسكي القائلة إن من الممكن أن يمد من نقطة خارج مستقيم مستقيمان موازيان لهذا المستقيم.
فكيف يحاول المعلم، في مرحلة تعليمية مبكرة، أن يقدم فكرة الموازي؟ نفرض نقطة م خارج المستقيم س ص، ونمد منها قاطعا قابل س ص في أ، ونتصور أننا نغير موضع هذا القاطع في نقطة أ، أ، أ ... وهي نقط تتباعد إلى اليسار بالتدريج، ثم نقول إنه في النهاية، عندما تبعد النقطة أ، إلى ما لا نهاية، يصبح القاطع موازيا للمستقيم س ص.
وغني عن البيان أننا لو كنا قد تناولنا القاطع م ب، ومجموعة من النقط ب، ب متباعدة نحو اليمين، لأصبح لدينا خط مواز في النهاية عندما تبعد النقطة ب إلى ما لا نهاية في جهة اليمين.
وإليك الآن ما اختاره إقليدس وما اختاره لوباتشفسكي، ففي رأي إقليدس أن الموازي المكون من نهاية القواطع على اليمين والموازي المكون من نهاية القواطع على اليسار، هو مواز واحد. أما لوباتشفسكي، فيرى أن هذين المستقيمين النهائيين هما موازيان يظلان متميزين في النهاية، كما تميز مجموع القواطع اليمنى من مجموع القواطع اليسرى.
وبالاختصار فإن إقليدس يفترض فرضا زائدا على لوباتشفسكي، وفي نهاية الأمر يتضح أن حدس لوباتشفسكي كان هو الأكثر حرصا، وهو الذي يضيف إلى الحدس الأصلي أقل إضافة ممكنة. وهكذا، فمتى أقلعنا عن الخلط بين الحدس وبين إحدى العادات، ومتى تركنا للعقل حريته التامة في الحدس، فلن نستطيع القول إن مصادرة لوباتشفسكي أقل اتفاقا مع طبيعتنا من مصادرة إقليدس. (19) تعدد الهندسات
وهناك دوافع أخرى متعددة للإكثار من الهندسات، ولكن قد يسيء المرء فهم الازدهار الحالي في المذاهب الهندسية، إذا أغفل ما يتصف به التفكير الهندسي من وحدة وثيقة.
فالهندسات التي تتباين فيما بينها تباينا هائلا، يمكن أن تتلاقى معا على نحو ما، وأن تتحد في مجموعة محكمة متسقة من المذاهب. ولكي نعطي فكرة عن هذا التنظيم المتسق للهندسيات، نعلق على لوحة ظهرت في الكتاب القيم الذي ألفه لوسيان جودو
Lucien Godeaux .
20
فلنبدأ بالهندسة الأولية، وهي تنظيم نوعين من الأفكار: أفكار يدخل فيها معنى المسافة، وأخرى يدخل فيها معنى الخط المستقيم. فإذا استبعدنا أحد هذين المعنيين أو الآخر عن طريق التجريد، استطعنا الوصول إلى نظرتين أكثر عمومية.
فإذا جردنا معنى المسافة، وصلنا إلى هندسة المساقط، وإذا جردنا معنى الخط المستقيم، وصلنا إلى علم القياس العام، فإذا قمنا بعد ذلك بتجريد معنى الخط المستقيم من هندسة المساقط وصلنا إلى علم المواضع
topologie .
كما نصل إلى علم المواضع هذا أيضا إذا جردنا القياس العام من معنى المسافة، وهكذا يتمثل لنا علم المواضع - الذي كان يسمى من قبل بتحليل الموضع
analysis situs - في صورة نظرية غاية في العمومية، لا تتدخل فيها سوى الخصائص الترتيبية الأساسية
ordinales (فلما كانت الطوبولوجيا لا تدخل معنى المسافة في اعتبارها، في مكان فيها للقياس
mesuré ). وكما يقول جودو
Godeaux «فالطوبولوجيا من وجهة النظر الحدسية، دراسة المسطحات والمنحنيات المرنة.» ويكون المسطحان أو المنحنيان متكافئين في الدراسة الطوبولوجية، إذا أمكن تطبيق أحدهما على الآخر عن طريق تغيير شكله، ولكن دون تمزيق أو تغطية. والطوبولوجيا، رغم ما يبدو عليها من بساطة مردها إلى تلك التجريدات التي أوضحناها، علم رياضي عظيم الصعوبة، لهذا كانت تجتذب كثيرا من المشتغلين بالرياضة. (20) فكرة المجموعة
من بين الأسس التي يقوم عليها تصنيف النظريات، نجد أن لاعتبارات «المجموعات» الرياضية أهمية خاصة. فلنوضح بإيجاز فكرة المجموعة هذه.
المجموعة هي طائفة من العناصر يمكن أن «تؤلف» مثنى مثنى، على نحو يعيد تكوين أحد عناصر المجموعة، ولهذا التأليف ثلاث خصائص: (1)
أولاها أنه ترابطي
associative : فإذا تأملت ثلاث عناصر أ، ب، ج، ففي وسعي أولا أن أؤلف بين أ، ب، ثم أؤلف بين نتيجة هذا التأليف الأول وبين ج، ولكنني أستطيع أيضا التأليف بين أ وبين نتيجة تأليف ب، ج؛ وفي الحالتين أحصل على نتيجة نهائية واحدة. (2)
يوجد في المجموعة عنصر محايد (ويسمى أيضا عنصر وحدة)، وتأليف عنصر محايد مع أي عنصر في المجموعة يؤدي إلى تكوين هذا العنصر. (3)
لكل عنصر في المجموعة عنصر مناظر له (ويسمى أيضا مقابلا له)؛ والتأليف بين العنصر ونظيره يؤدي إلى العنصر المحايد. فلنضرب لذلك مثلا: هو نقلات أحد المسطحات، فإذا ألفنا بين نقلتين أ ب، ب ج (أعني إذا أجرينا النقلتين بالتعاقب) أصبحت لدينا نقلة هي أ ج (التي تؤدي بالنقطة أ إلى النقطة ج). (1)
فإذا أجرينا ثلاث نقلات أ، ب، ج بحيث تصل أ إلى د فإنه يستوي عندنا أن نبدأ من أ إلى ج ثم إلى د، أو من أ إلى ب ثم إلى د. (2)
النقلة المحايدة هي التي يمكن تسميتها بالنقلة المنعدمة، التي تترك كل الأشكال ساكنة على ما هي عليه. (3)
كل نقلة تناظرها نقلة متماثلة معها: فلو تأملنا أ ب، لوجدنا النقلة المناظرة هي ب أ، والتأليف بين هاتين النقلتين المتناظرتين يؤدي بنا إلى النقطة أ، التي كنا قد بدأنا منها، فنتيجة هذا التأليف هي النقلة المحايدة كما عرفناها من قبل.
وإذن فتنقلات المسطح تكون مجموعة.
ولتلاحظ - على هامش هذا الموضوع - أننا قد عرفنا خلال العرض نظاما للبديهيات بطريقة مجردة تماما؛ وهو نظام البديهيات الخاص بالمجموعات، والذي ضربنا له مثلا ملموسا، هو مجموعة نقلات المسطح.
أما الهندسة الأولية، فتخضع لمجموعة التغيرات والتشابهات، وهذا التعبير المجرد يفسر تجربة شائعة. فمن الممكن تغيير موضع شكل دون تغيير الشكل ذاته، ومن الممكن زيادة أو إنقاص أبعاد شكل بنسبة واحدة، دون تغيير خصائصه الهندسية، والذي يدهش في الأمر أن هذه الأوصاف المعتادة تكفي للدلالة على ماهية الهندسة الأولية، فإذا ما انتقلنا من الهندسة الأولية إلى مذهب هندسي آخر، كالطوبولوجيا مثلا، وجدنا مجموعة أخرى. ففي حالة الطوبولوجيا، يجب فحص مجموعة تسمى بالمجموعة «المتماثلة الأشكال»
groupe des homéomorphes
وتلك هي مجموعة التغيرات الزوجية المتناظرة والمتصلة، أعني مجموعة التغيرات التي تجعل شكلين يتناظران نقطة نقطة مع بقاء جوارهما مستمرا.
وفكرة المجموعة لا تكفي بأن تسود الهندسة؛ بل إن الميكانيكا التقليدية تخضع لمجموعة معادلات لورنتس
Lorentz .
وهذه الفكرة، التي تبدو بمثل هذه البساطة في ظاهرها، قد اهتدى إليها شاب فرنسي عبقري قتل في مبارزة وهو في العشرين من عمره، هو إفارست جولوا (
Évariste Galois ) (1811-1832م) وقد طبق «جولوا» هذه الفكرة على حل المعادلات الجبرية، وثبت من بحثه الأخير الذي كتب في الليلة السابقة على المبارزة، أن جولوا قد أدرك ما في استخدام المجموعات في الجبر من خصوبة عظيمة. والواقع أن فكرة المجموعة، ومعها بعض المعاني الأخرى المتشابهة (مثل معنى الجسم والحلقة الدائرية ...) فكرة أساسية في الرياضيات الحديثة: «فنظرية المجموعات هي، بمعنى ما، الرياضة مجردة من مادتها ومردودة إلى صورتها المحضة.»
21
خامسا: امتدادات مفهوم العدد (21) تعاقب الأعداد الصحيحة لا ينتهي
أوضحنا في الفصل السابق كيف نشأت فكرة العدد، فرأينا أن العد كان ينحصر في إيجاد تناظر بين مجموعتين (بحيث يرتبط شيء من إحدى المجموعتين بشيء من المجموعة الأخرى). فإذا أمكن إيجاد مثل هذا التناظر حتى تستنفد كل الأشياء في المجموعتين في وقت واحد، أمكن القول إن عدد الأشياء في المجموعتين واحد.
ولكن لا يمكن معرفة العد معرفة صحيحة، إلا إذا استطاع المرء الوصول إلى التناظر بين الأشياء وأسماء الأعداد، ثم إلى المعنى المجرد للعدد، وسرعان ما تتكون في الذهن فكرة السلسلة غير المحددة من الأعداد الصحيحة، ويفهم المرء كيف يستعمل النظام الرقمي دون أن يقف عند حد، عندما يدرك أن عملية الوصول إلى الرقم التالي لعدد معين بإضافة واحد، يمكن أن تستمر على ما هي عليه، إلى ما لا نهاية. لهذا يمكن القول إن السلسلة غير المتناهية للأعداد الصحيحة الموجبة تتبدى لدينا في حدس بسيط. (22) الأعداد السالبة والأعداد الكسرية
لنفحص سلسلة غير محددة من الأعداد الصحيحة الموجبة 1، 2، -ن فإذا أخذنا أي اثنين من هذه الأعداد، أمكننا دائما أن نجمعهما فتكون النتيجة التي نحصل عليها هي دائما عدد في السلسلة م. ولكنا إذا نظرنا إلى حالة الطرح، وجدنا أن هناك حالات لا يعود فيها الطرح ممكنا. لهذا أدت الرغبة في المضي في عملية الطرح دون أي عائق، إلى وضع مفهوم الأعداد السالبة، وبالتالي إلى زيادة سلسلة الأعداد عن طريق الأعداد السالبة، كما أدت استحالة إجراء عملية القسمة دون باق بين الأعداد الصحيحة في حالات معينة، إلى التوسع في فكرة العدد، عن طريق خلق الأعداد الكسرية، وكما يقول الرياضي بول ديبرل
في بحثه عن الجبر «إن لمشاكل الامتداد التي تثار عن طريق مجرد تحليل لفكرة العملية، أهمية قصوى.»
22 (23) الأعداد الجذرية
rationnels
والأعداد الصماء
irrationnels
فلنفحص الآن امتدادات العدد كما تظهر عندما نستخدم العدد للتعبير عن نتائج القياس
mesure
فقياس بعد معين (وليكن قياسه، على بعد آخر يتخذ وحدة. وعندما حاول الفيثاغوريون قياس طول المربع، متخذين وحدة القياس من طول نحصل عليه بتقسيم ضلع المربع أقساما متساوية، أدركوا أن القياس في هذه الحالة لا يمكن أن يتم «بدقة» وكذا تبين أنه لا يوجد قياس مشترك بين طول الضلع وطول القطر ... فلم يكن من الممكن الاهتداء إلى «مقياس مشترك
commune mesure » بين هذين المستقيمين اللذين يتمثلان في شكل بسيط جدا.
ولقد كان في ذلك «إخفاق» لتطبيق العدد على قياس الأبعاد، ومع ذلك، كان من الضروري البحث عن «كيان» رياضي للتعبير عن «العلاقة» بين هذين الطولين اللذين تبين عدم وجود مقياس مشترك بينهما. ولما كان الرياضيون قد نظروا دائما إلى الأعداد الصحيحة، على أنها واضحة جلية أمام العقل، ولما كان من الممكن القول بأن الأعداد الكسرية ترجع إلى الأعداد الصحيحة (بوصفها علاقة بين عددين صحيحين) فقد كان من الطبيعي أن يطلق على مجموع الأعداد الصحيحة والكسرية (الموجبة والسالبة) اسم الأعداد الجذرية.
23
أما الكيانات الجديدة التي لا يمكن التعبير عنها بأعداد جذرية، فقد سميت «صماء».
فإذا رجعنا إلى النظرية الأساسية في قطر المربع، لوجدنا أن العدد الأصم الذي صادفناه كان ، إذا اتخذنا من ضلع المربع وحدة
24
ولنقل ثانية إن هذا العدد لا يمكن أن يوضع في صورة كسر (ومن الممكن حسابه باستخراج الجذر التربيعي ولكن الحساب يظل تقريبيا على الدوام).
وبهذه الإشارة إلى الجانب التاريخي، وضحنا كيف ظهرت فكرة الأعداد الصماء في الهندسة، ولكن دورها في الجبر واضح، فالجذر
هو جذر المعادلة س
2 - 2 = صفر ونستطيع كتابة عدد لا متناه من المعادلات تكون جذورها كلها أعدادا صماء.
وهكذا نرى أننا إذا أردنا حل كل المعادلات الجبرية، وجب علينا التوسع في عتادنا العددي. فهناك حلول معينة لمعادلات جبرية تعبر عنها أعداد صحيحة وكسرية. وهناك حلول أخرى تعبر عنها أعداد صماء (ووجود هذه الأعداد الصماء راجع إلى أن الأعداد الصحيحة والكسرية ليست كلها مربعات كاملة)، وإذن فلضمان وحدة التفكير الجبري، يجب أن نجمع في نسق واحد بين مجموعة الأعداد الصحيحة، والكسرية والصماء، مثل ، ولما كانت كل الأعداد الصحيحة والكسرية والصماء، كما عرفناها الآن، يمكن تصورها حلولا لمعادلات جبرية، ترتب على ذلك أنها تندرج جميعها تحت اسم واحد هو الأعداد الجبرية. (24) الأعداد العالية
ومع كل ذلك فما زلنا بعيدين عن الوصول إلى كل الكيانات الضرورية لدراسة الكم دراسة عامة. فهناك نقط على محور السينات لا يمكن تحديد نقطها البيانية عن طريق أي عدد من الأعداد التي أشرنا إليها حتى الآن، وهنا أعداد ليست حلا لأية معادلة جبرية ، وتسمى بالأعداد العالية
transcendants (العدد
مثلا عدد عال: إذ ثبت أنه لا يمكن أن يكون حلا لمعادلة جبرية). ولما كانت كل الأعداد الجبرية (الصحيحة أو الكسرية) حلولا لمعادلات جبرية، فقد وجب أن تكون الأعداد العالية أعدادا صماء. فالأعداد الصماء إذن نوعان: أعداد صماء مثل ، وهي أعداد جبرية، وأعداد صماء مثل
ليست جبرية، ومن ثم كانت عالية حسب تعريفها.
والأعداد الجبرية والأعداد العالية تكون مجموع الأعداد المسماة بالحقيقية
réels ، ومن الممكن وضعها كلها مرتبة في مستقيم واحد، فيكون مجموع هذه الأعداد هو مجموع كل نقط المستقيم، وهي كلها تتساوى في أنها أحوال للمقدار، وهكذا رأينا كيف ازداد عالم التفكير الرياضي ثراء بهذه الموضوعات الجديدة.
25 (25) الأعداد الخيالية
يبحث الجبر في الأعداد الخيالية إلى جانب الأعداد الحقيقية؛ وهي تظهر بدورها لتعميم القضايا. فإذا تأملنا مثلا المعادلة س
2 + س + 1 = صفر كان علينا أن نستخلص الجذر التربيعي لعدد سالب، وعندئذ نقول إن المعادلة ليس لها جذر حقيقي، ومع ذلك ففي وسعنا أن نتصور إمكان حل هذه المعادلة إذ قلنا بفكرة العدد الخيالي. غير أن المسألة في هذه المرة ليست امتدادا لفكرة العدد بالمعنى الصحيح؛ إذ لا يمكن تصور العدد الخيالي بأنه نقط على خط مستقيم ترتب عليه كل الأعداد الحقيقية؛ بل إن العدد الخيالي هو في الواقع تنظيم لعددين حقيقيين، ويجب ألا يعبر عنه بأنه نقطة على مستقيم فحسب؛ بل على أنه نقطة على مسطح، وهنا تغيير كامل للمعنى الأساسي للعدد، وهو تغيير يزيدنا شعورا بحقيقة مجموع الأعداد الحقيقية (أي الأعداد الجبرية والأعداد العالية). (26) فكرة اللامتناهي-فكرة القوة
وبعد هذا العرض السريع للامتدادات المتعاقبة لمعنى العدد، يجب علينا أن نفسح مكانا لامتداد متطرف، وأن نختبر بإيجاز مسألة «العدد اللامتناهي». والواقع أن الرياضة الحديثة قد أدركت ضرورة استبدال فكرة جديدة بفكرة العدد لحل مسائل تتعلق بمجموعات من الأشياء «لا نهاية لعددها»، وتلك هي فكرة «القوة»؛ فتسمى الفئات اللامتناهية من الأشياء باسم المجموعات
ensembles . ودراسة المجموعات مبحث أصبحت له أهمية قصوى منذ ما يقرب من قرن من الزمان، ويسمى الرياضيون الباحثون فيه باسم المجموعيين
ensemblistes .
فعلى أي نحو تبدو فكرة قوة مجموعة لا متناهية؟ يقال عن المجموعتين أن لهما نفس القوة إذا أمكن وضع تناظر بينهما عنصرا عنصرا (أي تناظر فردي بين كل زوج).
فكما أن العدد قد استمد معناه من أن فئتين متناهيتين تتفقان في العدد، فكذلك تستمد القوة معناها من أن مجموعتين لا متناهيتين لهما نفس القوة.
ونقول بعبارة أخرى إن معنى العدد لا يصلح لدراسة مجال اللامتناهي؛ بل ينبغي أن نستعين في هذه الدراسة بفكرة القوة، وهي فكرة توسع معنى العدد، وتستخدم مع ذلك فكرة التناظر واحدا واحدا، التي نجدها في أساس بناء الحساب ذاته.
فلننظر بالأمثلة إلى تطبيق فكرة القوة، ولنفحص مجموع حواصل الضرب في 3، ومجموع حواصل الضرب في 5. فإذا كنا بصدد عدد متناه، أي الأعداد المائة مثلا، كان عدد حواصل الضرب في 5 أقل بطبيعة الحال من عدد حواصل الضرب في 3. ولكن إذا قارنا المجموعات اللامتناهية عن طريق فكرة القوة، وجدنا أن المجموعين (حواصل الضرب في 3 وحواصل الضرب في 5) لهما نفس القوة، التي تساوي بالضبط قوة مجموع الأعداد الصحيحة، وهي القوة الأساسية بقوة «المعدود
dénumerable ». ويكفي أن نضع 3، 5 «بوصفهما عوامل» لكي نبين أن من الممكن إيجاد تناظر بين هذه المجموعات الثلاث حدا حدا:
1
2
3
4
5
0
0
0
3
1
2
3
4
5
0
0
0
5
1
2
3
4
5
0
0
0
وليس من العسير أن نثبت أن مجموع الأعداد الكسرية يساوي هو الآخر قوة المعدود؛ بل من الممكن أن نثبت بها أمرا آخر أصعب، وهو: أن مجموع الأعداد الجبرية (التي تشتمل إلى جانب الأعداد الصحيحة والكسرية على أعداد مثل ، ، ) له هو الآخر قوة المعدود.
ولقد كان لاستبدال فكرة القوة بفكرة العدد قيمة تنظيمية كبرى في بحث مشاكل اللامتناهي العددي، وعلينا أن ننتبه جيدا إلى هذه القيمة. والحق أن الفكرة هنا ليست عسيرة؛ بل إن كل فيلسوف يريد أن يظل على صلة بالمشاكل الحديثة يستطيع أن يفهمها دون عناء كبير.
أما مجموع الأعداد الحقيقية (وبالتالي مجموع نقط المستقيم) فيجب أن نبحث له عن قوة أخرى. فهذا المجموع ليست له قوة المعدود، بل قوة الكم المتصل التي سوف نفحصها الآن.
فلنفحص جزءا من مستقيم طوله أ ب، وجزءا طوله مضاعف هو أ ب ففي كل منهما بطبيعة الحال عدد لا متناه من النقط، ومع ذلك فإذا أردنا مقارنة هاتين المجموعتين اللامتناهيتين من النقط، كان الجواب المتسرع هو أن نقط أ، ب ضعف نقط أ ب، ما دام طول أ ب ضعف طول أ ب. ولكن لنتصور المستقيمين كما في الشكل التالي. فمن الممكن أن تؤدي قواطع م د د إلى إيجاد تناظر بين كل نقطة من أ ب وبين نقطة واحدة فحسب من أ ب، وبالعكس وهكذا نجد أن مجموع أ ب ومجموع أ ب لهما نفس القوة، وهي القوة المسماة بقوة المتصل. وليس هذا البرهان حديثا بل إنه يظهر في كتاب أويلر
Euler
26 «رسائل إلى أميرة ألمانية».
على أن فكرة القوة هذه، التي ثبت أن لا غناء عنها في دراسة المجموعات اللامتناهية، قد تحير الحدس. ولنضرب لذلك مثلا، فنتصور جزءا من خط مستقيم أ ب، ونقسمه إلى ثلاثة أجزاء متساوية، ثم نمحو الجزء الأوسط ثم نعيد عملية التفريغ في الجزأين، ثم في الأجزاء الأربعة الباقية، وهكذا دواليك. قد تظن أن عمليات البتر هذه، التي تتوالى إلى ما لا نهاية، تؤدي إلى تناقص عدد نقط أ ب بسرعة كبيرة، ولكن لنقل مرة أخرى إن فكرة العدد لا تصلح للتعبير عن عناصر المجموعات اللامتناهية، ويثبت الرياضيون أنه على الرغم من هذا التناقض غير المحدود، يتبقى من المجموع الأول أ ب نقط تكفي لكي يكون المجموع الباقي مساويا على الدوام لقوة المتصل.
ويصادفنا أمر آخر يدعو إلى الدهشة إذا تابعنا الرياضي في تقديره لقوة مجموع نقط المسطح. فقد أوضح الرياضي الإيطالي «بينانو
» «تركيب المنحنى» الذي يمر بجميع نقط المربع، ولما كان مجموع المنحنى له قوة المتصل، فلا بد أن نستنتج إذن أن مجموع نقط المسطح له نفس القوة بالضبط.
والحق أننا إذا أردنا توضيح أهمية فكرة القوة هذه من الأبحاث الدائرة حول ظواهر اللامتناهي، فربما وجب أن نأتي بأمثلة أخرى متعددة .
ولكن الأمثلة التي أوضحناها تكفي في بيان العمل الضخم لضروب الحدس، التي تظل تصحح على الدوام عن طريق إنتاج العقل لأفكار جديدة أخرى، وهي أفكار أصلح من الصور الأولى التي كونت في حدس متسرع.
الفصل السابع
العلوم الطبيعية
تتصف العلوم الطبيعية الحديثة بتطبيقها للرياضيات على معرفة الطبيعة، تبعا لفكرة عبر عنها ديكارت، وإن كان تحقيقها يرجع إلى كبلر وجاليليو. وفيما بعد طبق «لافوازييه» هذه الفكرة على الكيمياء.
ومن الممكن رد مناهج هذه العلوم إلى ثلاث عمليات متتالية: (1)
تحديد الوقائع، الذي لا ينحصر في مجرد ملاحظتها بدقة، حتى لو كان ذلك من طريق آلات التحليل، والتكبير، والتسجيل، بل ينطوي على قياس وقائع مختارة، وتفسير هذا القياس وتصحيحه. (2)
البحث عن القوانين، أي عن العلاقات الضرورية التي تصدق بصفة عامة، والتي تربط الوقائع بعضها ببعض، وليس هذا البحث قراءة بارعة للوقائع، كما ظن (جون استيوارت مل) بل هو إبداع حقيقي. ومن الممكن تصنيف الأنماط الرئيسية للإبداع التجريبي. (3)
التحقق من صدق القوانين، أو التجريب، وهو اختبار الفكرة عن طريق وقائع ينتجها المرء أو يتنبأ بها، ويقال عن هذا التحقيق - تبعا لاصطلاح بيكن - إنه حاسم
cruciale
إذا كان يتخذ صورة برهان الخلف، الذي نصل إليه بحذف الفروض الباطلة، ولكن هذا الحذف لا يؤدي أبدا إلى نتيجة دقيقة منطقيا.
وأخصب أجزاء المنهج التجريبي هو «الفرض»، الذي يخترع من أجل تفسير الوقائع بقانون سوف نتحقق من صدقه تجريبيا. والطبيعة الرياضية فرضية استنباطية، شأنها في ذلك شأن العلوم الرياضية، وكل ما في الأمر أن البرهان في هذه العلوم الأخيرة يأتي عن طريق الإثبات الاستنباطي، أما في الأولى فالاستنباط يبحث عن البرهان في الوقائع.
أولا: نظرة إجمالية (1) ضرورة التفرقة بين الجانب النظري والجانب العملي، وبين العالم والمهندس
تقوم حضارتنا المادية على أساس الصناعية العلمية، وهي تحقق بذلك حلما طاف بذهن «ديكارت».
فقد أكد ديكارت أنه «بدلا من هذه الفلسفة النظرية التي تعلم في المدارس، يمكن الاهتداء إلى طريقة تتيح لنا - متى عرفنا قوة وآثار النار والماء والهواء والنجوم والسماوات وجميع الأجسام الأخرى المحيطة بنا، بمثل الدقة التي تعرف بها مختلف مهن الصناع لدينا - استخدام جميع هذه القوى في كل الاستعمالات التي تصلح لها. وبهذا نصبح سادة مسيطرين على الطبيعة.»
1
ولكن من الضروري أن نميز في ضروب التقدم التي أحرزها عصرنا بين دور العلوم بمعناها الصحيح، ودور الأساليب الفنية (التكتيك)، ولهذا الفصل بين المجالين أهمية بالنسبة إلى مناهج البحث العلمي أولا ، وبالنسبة إلى الأخلاق ثانيا وعلى وجه أخص. ذلك لأن من الجائز أن يكون الحكم الذي نصدره على مدنيتنا إذا تأملنا النتائج العلمية التي وصلت إليها، مختلفا كل الاختلاف عنه إذا تأملنا التطبيقات الصناعية التي استخلصتها من العلم، وخاصة لأن هذه التطبيقات الصناعية لم تصدر كلها عن العلم مباشرة؛ بل الأمر أبعد من أن يكون كذلك.
وعلى أية حال، فالعلم يستهدف المعرفة؛ إذ يحصي العالم الذرات ويقيس أبعاد النجوم، ويحسب عمر الأرض. أما القائم بالتطبيق الفني، أي المهندس، فيحاول الوصول إلى كشوف تزيد من رخاء الإنسان وقوته، وذلك باستخدام النتائج التي توصل إليها العلماء في معاملهم في أغلب الأحيان. فالتمييز بين الاثنين واضح كل الوضوح.
والذي يهمنا وحده هنا هو العلم بمعنى الكلمة.
حقا أن من العسير أن نفصله عن الأساليب الفنية فصلا تاما؛ إذ إن المصنع يشتغل من أجل المعمل، بمعنى أنه يزوده بأجهزة عديدة (كالآلات الكهربائية والعدسات الفلكية) وهي أجهزة يحتاج صنعها إلى مقدرة صناعية غير ضئيلة. وفضلا عن ذلك فالمصنع هو - بمعنى ما - معمل ضخم للتحقيق التجريبي، وللكشف في كثير من الأحيان. فإذا كنا على يقين من صحة العلم، فإن قدرا كبيرا من ذلك اليقين يرجع إلى أن ذلك العلم قد ثبتت صحته بالتطبيقات الصناعية. فالقوة تثبت العلم؛ ولكن العلم ليس هو القوة. (2) الفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء
سوف نفرق، بناء على المصطلحات التقليدية، بين علم الفلك وعلم الطبيعة والكيمياء، وإن يكن من المحال أن تنسب إلى هذه التفرقة قيمة مطلقة، فنحن نعلم أن هذه العلوم الثلاثة قد أصبحت متداخلة في أيامنا هذه.
ومع ذلك فسوف تصبح نظرتنا إلى علم الطبيعة الرياضي أكثر وضوحا إذا ما عدنا بها إلى الوراء قليلا، أي إلى العهد الذي كان علم الفلك وعلم الطبيعة والكيمياء فيه علوما متميزة. وكما قال ديكارت، «فإننا ندرك طبيعة هذه العلوم على نحو أكثر يسرا إذا تأملناها، وهي تظهر على هذا النحو شيئا فشيئا، مما لو تأملناها وهي تامة كاملة.» (1)
فعلم الفلك الرياضي قد كشفه اليونانيون، وقد أراد أفلاطون نفسه أن يحوله إلى نوع من الميكانيكا السماوية.
2
والواقع أن مشكلة التفسير الفلكي بالنسبة إلى اليونانيين كانت تقتصر على افتراض وجود حركات «حقيقية» أرادوا أن تكون دائرية مطردة، حتى يمكن تفسير المظاهر البادية في السماء، لأن الدائرة التي تعبر بحركة مطردة كانت تبدو في نظرهم الشكل الميكانيكي الوحيد الذي يمكن أن يعقل حقيقة. ولا شك أن ميتافيزيقا (الفرجار) هذه - إذا أجيز لنا هذا التعبير - كانت ضيقة الأفق إلى حد ما، ولكن توجيهها كان صحيحا إلى حد بعيد. ثم أدى تقدم الهندسة إلى تقدم علم الفلك، فعندما أصبح الشكل البيضاوي معقولا تماما، على غرار الدائرة، وعندما أمكن تحويل عدد كاف من الأقواس بعضها إلى بعض، عندئذ حدث ما يسمى بانقلاب «كبرنك» وأمكن الاهتداء إلى قوانين كبلر. وإنا لنعلم أن كبرنك (1473-1543م) قد اقترح في كتابه المسمى بالدورات السماوية
Les révolutions célestes (والذي ظهر في نفس العام الذي توفي فيه) تغيير أساس ملاحظتنا الفلكية، وذلك بأن تصبح الشمس مركزا رياضيا للكون بدلا من الأرض، وقد صاغ كبلر القوانين الثلاثة التي تخضع لها حركة كوكب المريخ حول الشمس، ثم طبقت هذه القوانين خلال القرن السابع عشر على جميع النجوم وتوابعها. كما استغل كبلر الملاحظات الدقيقة التي قام بها أستاذه «تيكوبراهي
Tycho Brahé ». (2)
كان اليونانيون لا يكادون يعلمون شيئا عن علم الطبيعة الرياضي (بمعناه الضيق)، هذا إذا استثنينا علم الصوت الرياضي الذي درسه الفيثاغوريون باسم «علم توافق الأصوات»،
3
وكانوا يعتقدون أن عالم ما فوق القمر هو وحده الذي يتمثل فيه النظام والقوانين والحكمة، وأن العالم الأرضي أقرب إلى الفوضى، ومن هنا كان لديهم علم فلك عقلي ولم يكن لديهم علم طبيعي.
ولقد تفرع علم الطبيعة الحديث عن الميكانيكا القديمة، وعلم الفلك أدى لدى كبرنك، في آن واحد. وكان جاليليو (1564-1642م) هو الذي حدد صورته عندما وضع قوانين سقوط الأجسام، ووضع «ديكارت» أسس علم الضوء عندما صاغ (في وقت واحد مع الأستاذ الهولندي سنليوس
Snellius ) قانون الانكسار (في بحثه: انكسار الضوء
Dioptrique
عام 1637م)، وأصبح علم الكهرباء، الذي كانت تدخله عناصر الدجل والتهويش، وربما التصوف في القرن الثامن عشر، علما عقليا رياضيا في القرن التاسع عشر على يد كولومب
Coulomb . (3)
أما الكيمياء الحديثة فقد بدأت على يد لافوازييه (1743-1794م)، وكثيرا ما يظن أن «الانقلاب الكيميائي» الذي قام به لافوازييه ينحصر في تحليله للهواء والماء، ولكن في هذا غبنا له، إذ لن يرفع ذلك من قدره فوق «شيله
Scheele » أو «بريستلي
» مثلا، وإنما يرجع إليه الفضل في الكشف عن الوسيلة التي تصبح بها الكيمياء رياضية، ولهذا عرف العنصر الكيميائي تبعا لثبات الوزن فحسب.
ثانيا: منهج علم الطبيعة (3) قواعد «جون استيوارت مل» لا تفسر هذا المنهج
سيطر على منهج علوم الطبيعة - مدة طويلة - وصف خاطئ يرجع إلى جون استيوارت مل (1806-1873م)، الذي عرضه في كتابه عن المنطق (1843م).
4
فلنوضح عنصر البطلان فيه، لكي نستخلص وجه الصواب في ذلك المنهج العلمي.
فلقد نشأ «مل» في جو عقلي مشبع بروح المذهب التجريبي الإنجليزي، على أن خطأ المذهب التجريبي يكمن في اعتقاده أن التجربة تقوم على أساس الإحساس الذي هو سلبي تماما. ولكنا سبق أن أوضحنا أن الإدراك الحسي بعيد عن الإحساس كل البعد، إذ هو ينطوي على قدر غير قليل من التنظيم العقلي، فماذا تقول عن التجربة العلمية؟ إن هذا الخطأ يرجع إلى خطأ آخر، ينحصر في اعتقاد أن الإحساس أو، بعبارة أدق، الواقعة المحسوسة، تنطوي في ذاتها على المعارف التي سنستخلصها منها.
ونتيجة ذلك أن منهج علم الطبيعة، في نظر المذهب التجريبي، هو مجرد اقتطاع من سلسلة التجربة، مع الاحتفاظ بمعالمها الطبيعية، فماذا يكون التفسير؟ إنه الكشف عن علة الظاهرة، والعلة هي «السابقة المطردة غير المشروطة » ومعنى ذلك أنها الظاهرة التي تسبق تلك التي نحن بصدد تفسيرها، والتي تسبقها دائما وتكفي لإيجادها، وبهذا يمكننا استخدام المنطق لاستنباط الطرق والقواعد (
canons ) التي يجب اتباعها في عملية الاقتطاع هذه: (أ)
طريقة الاتفاق: فما دامت العلة هي السابقة المطردة غير المشروطة، فمن الممكن الاهتداء إليها إذا أدركنا أنها هي التي تسبق الظاهرة المراد تفسيرها بإطراد مهما تغيرت الظروف. (ب)
طريقة الاختلاف: ولهذا السبب عينه، يمكن الاهتداء إلى العلة أيضا إذا أدركنا أنها هي التي تختفي إذا لم توجد الظاهرة، وظلت جميع الشروط الأخرى على حالها. (ج)
طريقة التلازم في التغير: كذلك يمكن التعرف على العلة إذا كان تغيرها يؤدي إلى الظاهرة باطراد مع بقاء كل الشروط الأخرى على ما هي عليه. (د)
طريقة البواقي: إذا أمكن عزل مجموعة من السوابق والنتائج، وأمكن ربط كل واحدة من النتائج، فيما عدا واحدة، بكل واحدة من السوابق فيما عدا واحدة، كانت السابقة الباقية هي علة النتيجة الباقية، أي أن باقي السابقة هو علة باقي النتيجة.
فتفسير ظاهرة الندى، في نظر التجريبي، هو أن نعمد إلى مجموعة الظواهر المتشابكة فنعزل منها بمهارة التي تكونها الظاهرة (مثل تجمع قطرات الماء على حجر، أو على عشب، إلخ)، والسابقة المطردة غير المشروطة (تباعد درجة الحرارة بين الحجر أو العشب الذي ظل أو أصبح أكثر برودة وبين الجو، الذي يحمل قدرا كافيا من الماء ويصبح، أو يظل أكثر حرارة) وهنا نرى كيف يمكن تطبيق المناهج الأربعة على هذه الظاهرة.
ومن المؤكد أن اليأس من الوصول إلى العلة قد يدفع المرء إلى أن يسلك هذا المسلك عندما يكون أكثر حاجة إلى العمل منه إلى الفهم، وعندما تكون الظروف مواتية لذلك، إذ تكون الصدف، أو التقاليد قد وجهت العالم نحو السابقة الواضحة التي أحدثت النتيجة؛ وهذا المسلك شبيه بما يفعله من يحاول إيجاد تفاعل معدني في بوتقة.
العلم «والتجربة التائهة» ولكن العلم لا يتكون بهذه الطريقة. فالطرق التي وضعها ستيوارت مل هي طرق التجربة التائهة
experientia vage (على حد تعبير بيكن نفسه ). ونجد الدليل على ذلك في نفس التجربة التي أشرنا إليها من قبل، وهي تجربة الندى، فتفسير الندى لا ينحصر في عزل سلسلة متتابعة من الظواهر؛ بل هو أن نتصور من وراء الظواهر، القوانين الرياضية الخاصة بالضغط المشبع لبخار الماء في درجات الحرارة المختلفة، وهذه القوانين قد وضعها جاي لوساك
Gay Lussac
ورينيو
Regnault
إلخ، بعد تجارب عدة في المعمل. فالظاهرة التي استخدمها ستيوارت مل لتوضيح نظرياته وتطبيقها ظاهرة مزيفة ؛ وهي لم تقرر ولم تبحث في واقع الأمر على النحو الذي تقضي به قواعده؛ بل كانت النظرية الرياضية هي الأساس الضمني لها منذ البداية.
والخطأ الذي وقع فيه مل هو اعتقاده أن الظواهر تنطوي في ذاتها على التفسير، والحقيقة أن الواجب هو جلب التفسير إليها، فالتفسير يخترع أكثر مما يكتشف، ثم يحقق بعد ذلك، وأساس الرياضية هي الأساس الضمني لها منذ البداية.
5 (4) أمثلة لبحوث في العلوم الطبيعية تكشف عن عملية ذات ثلاث مراحل
أول مثال نقدمه هو أنبوبة توريشيلي، فقد استشار صناع النافورات في فلورنسا، جاليليو، في ظاهرة لاحظوها، وهي أن الماء الذي يستخرجونه من الآبار بالمضخات الماصة لا يصعد أكثر من 36 ذراعا
6 (10 أمتار و33سم) بأية حال من الأحوال، فما سبب هذه الظاهرة؟ يقول علماء الطبيعة إن ارتفاع الماء في الأنبوبة يرجع إلى أن الطبيعة تفزع من الفراغ، ولكن كيف نفسر أن هذا «الفزع» يتوقف عندما يصل الماء إلى ارتفاع 36 ذراعا؟ أجاب جاليليو إجابة لا قيمة لها لأنها سطحية، ولا تفسر شيئا في واقع الأمر، ولكن ظهرت عبقريته في علم الطبيعة الرياضية في نقطة معينة؛ فقد تنبأ بأن هذا الحد الأعلى من الارتفاع يتناسب عكسيا مع كثافة السائل. (أ)
وهنا يبدأ عمل توريشيلي، الذي كان تلميذا لجاليليو، فهداه خياله إلى إجراء تجربة يستخدم فيها أثقل السوائل، أي الزئبق. فإن كان جاليليو على حق فإن الزئبق سوف يرتفع في أنبوبة مفرعة إلى ارتفاع أقصى ما تكون نسبته إلى الست والثلاثين ذراعا كنسبة كثافة الزئبق إلى كثافة الماء، أعني أنه سوف يرتفع قدر ذراعين على وجه التقريب، وبدلا من تفريغ الأنبوبة مما فيها من هواء باستخدام مضخة، يلحم أحد طرفيها وتملأ زئبقا حتى حافتها، ويصب هذا الزئبق من الطرف الآخر، وتحمل الأنبوبة وهي مليئة بالزئبق مع تغطية الطرف المفتوح، ثم تقلب في إناء من الزئبق. ثم ينزع منها الغطاء تحت زئبق الإناء، فيلاحظ أن الأنبوبة إذا كانت طويلة بقدر كاف فإن الزئبق يهبط فيها قليلا، ولكنه يظل مرتفعا حتى المستوى المتوقع، وهو «ذراعان وقيراط» (76سم) تلك هي الظاهرة (حوالي 1644). (ب)
وقد ابتكر توريشيلي تفسيرا لها، وينحصر هذا التفسير في أن نتصور الأنبوبة وإناء الزئبق على أنهما الفرع الأول والقرار لوعاء على شكل الحرف
U
يحتوي على سائلين متوازيين أحدهما هو الزئبق، فما هو الآخر؟ إن الآخر هو الهواء الذي يجب اختراعه بالمعنى الصحيح، إذ إنه لم يكن من العناصر التي يلاحظ وجودها في هذه التجربة. ولكنا نعلم أن الهواء موجود، وأن له وزنا. ثم إن جاليليو كان هو الذي حدد كثافته بمقدار 1/ 400 من كثافة الماء، ونحن نعلم أيضا، عن طريق الملاحظات الجوية، أن الغلاف الجوي حول الأرض يبلغ سمكه ما بين «50، 54 ميلا» على حد قول توريشيلي: فجميع هذه الظواهر يمكن ربطها بعملية رياضية. فبضرب ارتفاع الغلاف الجوي المعروف في كثافة الهواء المعروفة، نحصل على ناتج يعادل إلى حد بعيد، الناتج الذي نحصل عليه إذا ضربنا كثافة الزئبق في ارتفاعه العمودي فوق سطح الوعاء، وتلك هي الفكرة التي تتخذ صورة رياضية دقيقة. (ج)
هذه الفكر تبدو من الآن راسخة، بفضل ما تتصف به من مطابقتها للعقل. وهي فكرة رائعة، ولكنها لن تصبح صحيحة إلا إذا تحققنا من صدقها، ولم ينجح توريشيلي في الوصول إلى طريقة مقنعة للتحقيق، تثبت بها صحة فكرة الأنبوبة التي تتخذ شكل
U . وكان باسكال هو الذي اهتدى إلى هذه الطريقة، وربما كان ذلك بإيعاز من ديكارت، الذي قابلة باسكال في باريس عام 1647م. ولقد كان الصالون الباريسي لأبيه «إتين باسكال
Étienne Pascal » يكاد يكون نظيرا لمدرسة جاليليو في فلورنسا. ولما ترامت أنباء ظاهرة توريشيلي إلى أسرة باسكال في 1646م، أعادوا إجراء التجربة، وفي 1647م عرفوا فكرة توريشيلي، وبعد شهرين من مقابلة بليز باسكال لديكارت، أرسل إلى صهره «فلوران برييه
Florin
»، في كليرمون-فيران، الإرشادات اللازمة لإجراء التحقيق: فعليه أن يعمل على تقصير ما كنا نسميه بالفرع الهوائي للأنبوبة
U ، والصعود على جبل عال إلى حد ما (هو جبل بوي ديدوم
de Dôme ). وهناك يجب ملاحظة انخفاض الزئبق في الفرع الآخر، وأجرى «بيريه» التجربة في نهاية صيف 1646م، فنجحت نجاحا باهرا، وشجع ذلك النجاح باسكال على مواصلتها على نطاق أضيق، إذ انخفض عمود الزئبق انخفاضا محسوسا (درجتين) عندما صعد باسكال فوق برج «سان جاك دلابوشري» البالغ ارتفاعه 25 قامة، كما انخفض الزئبق نصف درجة في أعلى بيت يبلغ ارتفاعه ثمانين قدما.
7
وهكذا تم إثبات فكرة توريشيلي:
أما المثال الثاني فسنقتبسه من نيوتن: (أ، ب) خلال فترة أقامها نيوتن في بلدته الأصلية، متجنبا فيها حركة النجوم الثانوية حول النجوم الرئيسية (كالكواكب حول الشمس، والتوابع أو الأقمار حول الكواكب) بحركة السقوط.
ويزعم بعضهم أن الظاهرة الأصلية هي سقوط التفاحة، وأن الفكرة عندئذ كانت تنحصر في تشبيه حركة القمر حول الكرة الأرضية بسقوط التفاحة على الأرض، والقول بأن القمر يسقط بدوره على الأرض بلا انقطاع، وإن كانت له سرعة أصلية تؤخر سقوطه إلى ما لا نهاية، فإذا كان للقذائف في سقوطها سرعة مبدئية تبعد نقطة سقوطها، أفلا يمكننا أن نتصور أنه إذا كانت هذه السرعة كبيرة إلى حد ما (ونحن نعلم اليوم أنه يكفي أن تبلغ هذه السرعة 8كم في الثانية) فإن القذيفة تهبط حول الأرض، إذا جاز هذا التعبير؟ (ج) وظل نيوتن عشرين عاما يعد وسائل التحقيق من هذه الفكرة (1666-1686م). وكان ذلك ينحصر في أن نبين أنه لو كان القمر على مسافة قليلة من الأرض، لسقط بنفس السرعة التي يسقط بها جسم سقوطا حرا في باريس مثلا (490سم في الثانية الأولى). على أن نيوتن قد برهن بنظريتين في الميكانيكا، على أن القوة التي تحفظ النجوم في مداراتها البيضاوية هي قوة «مركزية» أي تتجه نحو الجسم الذي يشغل أحد مركزي الشكل البيضاوي، وهي تتناسب تناسبا عكسيا مع مربع المسافة، وإذن فلكي تحقق الفكرة يكفي أن يكون ارتفاع السقوط الحقيقي للقمر على الأرض خلال ثانية واحدة مضروبا في مربع المسافة الفاصلة بينه وبين الأرض، مساويا لارتفاع سقوط جسم يسقط حرا في باريس في نفس هذا الوقت.
على أننا نعلم مقدار سقوط القمر على الأرض في الساعة مثلا، وهي المسافة التي يبتعد بها القمر، أثناء سيره في مداره، عن مماس هذا المدار ، خلال ساعة من الزمن، فإذا ما عرفنا الزاوية التي سار بها، أمكن الحصول على تلك المسافة دون صعوبة، عن طريق جدول حساب المثلثات. ولقد اتضح أن المسافة التي تقطع خلال ساعة تعادل بالضبط الارتفاع الذي يسقط فيه جسم سقوطا حرا في باريس، خلال ثانية واحدة. وإذن فالبرهان يكون قد تحقق إذا كانت النسبة بين المسافتين على النحو الذي يقتضيه القانون، وانتهى الأمر بنيوتن إلى الحصول على تقدير للمسافة يحقق فكرته بالضبط: إذ إن القمر على بعد 60 درجة أرضية و(60
3 ) هي بالضبط العلاقة بين الساعة والثانية، وهي في الوقت ذاته مربع المسافة المطلوبة من أجل التحقق. ولقد كان التطابق تاما إلى حد أن نيوتن عندما تلقى رقم مسافة القمر، لم يجد لديه على ما يقال، من رباطة الجأش ما يمكنه من إعادة الحساب، فاضطر أن يعهد به إلى أحد أصدقائه.
وهنا تم التحقق بالأرقام، إذ اتضح أن الأرقام مساوية للظواهر التي كان على النظرية أن تفسرها وتتنبأ بها. (د) وفي نفس هذا الاتجاه، يمكننا أن نصل إلى نتائج أفضل من تلك. فإذا كان القمر يسقط على الأرض، وإذا كانت الكواكب بوجه أعم، تسقط على الشمس ... إلخ فلا بد أن تسقط الكواكب بعضها على بعض، وأن تسقط الأجسام الأرضية هي الأخرى، بطريق ما، على الشمس بل على القمر ذاته، والنتيجة الأولى تسمى بالانحراف
perturbation . فالكواكب الكبيرة تؤثر في الكواكب الصغيرة وتجعلها تنحرف في مسارها قليلا عن المدارات التي حددها كبلر لها. ولقد كانت تلك الظاهرة معروفة قبل نيوتن ، وها هي ذي قد فسرت، وبالمثل فإنه يمكن التحقق من صدقها، أما الظاهرة الثانية فهي ظاهرة المد والجزر، فكتلة البحار تتجه نحو الشمس ونحو القمر (الذي هو أصغر منها، ولكنه أقرب كثيرا)، ويمكن التحقق من ذلك أيضا.
ولنلاحظ أن هذه التحقيقات الثانوية، التي ظهرت متفرقة تماما، والتي لم تخطر على بال نيوتن في مبدأ الأمر، هي أفضل التحقيقات وأكثرها إقناعا
8
وسوف نأتي بمثال ثالث، نعرضه عرضا مبسطا إلى أبعد حد.
9 (أ)
كان لوفرييه
Le verrier ، وهو فلكي في مرصد باريس، يعلم أن الكوكب أورانوس، الذي كان عندئذ (في سنة 1846م) أبعد الكواكب المعروفة في المجموعة الشمسية، ينحرف انحرافات معينة، وباتباع المنهج الذي وضعه نيوتن، والذي عرضنا مبدأه العام من قبل، تفسر هذه الانحرافات بعوامل معترضة، هي الكواكب المجاورة عندما تقترب من أورانوس اقترابا كافيا، وبعد أن قدر تأثير كل من المشترى وزحل، ظل هناك باق من الانحراف لم يتم تفسيره. (ب)
وخطرت بذهن لوفرييه فكرة تفسير هذا الباقي بعامل معترض ثالث، خارجي، وبعيد إلى الحد الذي جعل الفلكيين لا ينتبهون إليه. وترجم لوفرييه هذه الفكرة بصيغة رياضية: فحسب كتلة الكوكب، ومسافته، وبالتالي حجمه (أو عظمه
magnitude
كما نقول في اليوم)، أعني الضوء البادي منه، وحدد موقعه في أكثر اللحظات ملاءمة. (ج)
ويقف بعض علماء المناهج بالعرض التاريخي عند هذا الحد، زاعمين أن لوفرييه لم يكن في حاجة إلى السماء لكي يوقن بوجود الكواكب. على أن في هذا خطأ. فلا بد أن ينتهي الحساب إلى ملاحظة، وهي دون ريب ملاحظة تدخل فيها الذهن إلى حد بعيد، وأدى الحساب دورا كبيرا في التمهيد لها، ولكنها ملاحظة في نهاية الأمر. ودليل ذلك أن منهج لوفرييه قد طبق من بعده مرتين أخريين: الأولى من أجل تفسير انحرافات الكوكب الذي اكتشفه «بالحساب» والذي سمي باسم نبتون، وبهذه الطريقة كشف الكوكب «التالي لنبتون» وهو بلوتون. والمرة الثانية كانت لتفسر انحرافات عطارد. ولما كانت الطريقة قد نجحت في حالة نبتون وبلوتون، ما دام الكوكبان قد رئيا، فقد تعجل الباحثون وأطلقوا اسم «فلكان» على الكوكب الجديد، ولكن لم ير أحد فلكان هذا أبدا، وظل أسطورة رياضية. هذا إلى أن أينشتين قد فسر انحرافات عطارد بطريقة أخرى مختلفة عن هذه كل الاختلاف.
10
وقد ثبت وجود الكوكب «نبتون» عندما شوهد، وسرعان ما تمت هذه المشاهدة، وإن كان لوفرييه قد اضطر إلى الاستعانة بمرصد «برلين» المزود بآلات أدق، للكشف عن الكوكب. ولقد ظن بعضهم، من تقسيم العمل هذا، أن لوفرييه كان واثقا من وجود هذا العامل المعترض بمجرد أن قام بحساب عناصره، ولكن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق، إذ إن حساب لوفرييه حدد النقطة التي كان يجب أن يوجد فيها، ومرصد «برلين» قد قرر أنه يوجد هناك بالفعل.
ولعل القارئ قد لاحظ أننا أسمينا الظاهرة التي بدأ منها لوفرييه باسم باقي الانحراف. وتذكرنا كلمة «الباقي» هذه بالطريقة الرابعة من طرق مل، ولكن الواقع أنها إذا كانت تذكرنا بها، فما ذلك إلا لكي تكشف عن الخطأ الذي وقع فيه «استيوارت مل». فطريقة لوفرييه مثال ممتاز لطريقة البواقي الصحيحة؛ وذلك هو باقي النتيجة، أما باقي العلة، فلا يعطى أبدا، بل هو يخترع بتمامه، وفي هذا المثال، كان هذا الباقي هو نبتون (أو بلوتون) الذي لا يعدو أن يكون فكرة محضة. (5) مراحل المنهج ثلاث: من الواقعة إلى الواقعة عن طريق الفكرة
ينحصر المنهج في الصعود من مجال التجربة إلى عالم العقل، أي عالم الصيغ والمعادلات، ثم نعود فنهبط إلى عالم الواقع لكي نضمن الصلة بين المعقول والواقع. ونحن في ذلك أشبه بسجين الكهف عند أفلاطون؛ إذ يصعد من المحسوس إلى الأفكار، ومن الكهف إلى العالم الحقيقي الذي يغمره ضوء الشمس، ثم يعود فيهبط إلى الكهف لكي يهتدي فيه إلى المحسوس من جديد، وليفسره بالأفكار.
وإذا شئنا، قلنا بعبارة أفضل من هذه، إن التفكير في علم الطبيعة الرياضي يرسم دائرة، ولكن هذه الدائرة ليست «دورا فاسدا» على حد تعبير المناطقة، ويرجع ديكارت ذلك إلى أنه «لما كانت التجربة تضفي يقينا كبيرا على معظم نتائجها، فإن الأسباب التي استخلص منها هذه النتائج لا تستخدم في إثباتها بقدر ما تستخدم في تفسيرها. وإنما الأمر على عكس ذلك، فالنتائج هي التي تفسر الأسباب.»
11
ولنعبر عن هذا النص عظم التركيز، الذي صيغ في لغة تخالف اللغة الشائعة إلى حد ما، بتعبير آخر فنقول: إن التجربة تضفي اليقين على نتائج الأفكار التي نبتكرها (أو معلولاتها)، وبهذا لا تكون الأفكار (الأسباب) التي استنبطت منها هذه النتائج برهانا على الوقائع؛ بل هي تفسير لها، بينما البرهان يأتي على عكس ذلك ، من الوقائع. ولنقل بعبارة أخرى، إن الفكرة تفسر الوقائع، والوقائع تثبت صحة الفكرة. وكان من الممكن أن يكون في هذا دور، لو أن كلا من الفكرة والوقائع يبرهن على الآخر. (6) المرحلة الأولى: تحديد الوقائع: قياس الوقائع المختارة وتصحيحها وتفسيرها
يبدأ العمل باتصال أولي مع الواقعة، وكل ما في الأمر أن الواقعة التي نبدأ منها قد سبق أن أعدها العقل إلى حد كبير، وليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة، فالملاحظ أولا أن الإدراك الحسي ذاته يتضمن إعدادا عقليا، فعندما نتحدث مثلا عن «القمر» - وهو موضوع إدراك حسي شائع، يبدو مباشرا تماما - فإننا نستعين في الواقع بتجربة إنسانية ترجع إلى ألوف السنين، تبنى على التقريب بين ظواهر مختلفة، ونستطيع تقريب فكرة الإعداد العقلي هذه إلى الأذهان إذا فكرنا مثلا في تعبير مثل «القمر الجديد» الذي يفترض إيمانا بموت «القمر القديم» وظهور آخر أحدث منه. فالقول إن القديم هو ذاته الجديد، اكتساب حديث العهد.
12
وفضلا عن ذلك، فإذا كان العلم يكمل الإدراك الحسي بمعنى ما لأنه يفسره، فإن العلم ينكر الإدراك الحسي بمعنى آخر، وتلك هي حركة الرفض التي عبر عنها ديكارت بكلمة «الشك المنهجي»، فديكارت يرفض أولا عالم الإدراك الحسي، ثم يعود مرة أخرى إلى العالم، ولكنه ليس نفس الذي رفضه، فهو ليس عالم الإدراك الحسي؛ بل عالم الطبيعة الرياضية.
والسبب في ذلك غاية في اليسر، وهو في أيامنا هذه قد أصبح أوضح مما كان في أيام «ديكارت» ولقد سبق لنا أن ذكرنا عنه شيئا في معرض الحديث عن مبدأ النسبية؛ فالملاحظ الساذج لا يتصف بأية صفة تؤهله لملاحظة الواقع؛ فحواسه هي حواس حيوان أرضي، قد تكيفت، بعد تطور طويل جدا، بالحياة الأرضية، واتجهت نحو الفعل أكثر منها نحو المعرفة، وهذا ما أكده «برجسون» بعده حين قال: «إن الإدراك الحسي ينظم المكان بنفس النسبة التي ينظم بها الفعل الزمان.»
13
وهذا ما أثبتته في آن واحد بحوث التشريح المقارن، وعلم النفس التجريبي، وتحليل الإدراك الحسي، وتاريخ العلوم.
14
قياس الواقعة: في هذه الظروف كانت النتيجة الضرورية هي أن نيأس من المعرفة البشرية، وأن تصبح النسبية شكا، لو لم تكن عبقرية الإنسان قد تغلبت على الصعوبة بالتوسع في استخدام الأداة الرياضية، ولقد بين «فولتير» بكل وضوح في روايته الفلسفية «ميكروميجاس
Micromegas » كيف أن القياس الرياضي ذو قيمة موضوعية شاملة.
15
فقياس الشيء هو في ذاته معرفة له، والتعبير عن الواقعة التي نقيسها بصيغ رياضية، هو في ذاته فهم لها.
فالواقعة العلمية إذن واقعة حورتها الرياضيات فلنوضح باختصار العمليات التي تمر بها: (1) إن الواقعة، كما قلنا، تقاس أولا. ولا جدال في أن العلم قد أحرز تقدما كبيرا باختراع الآلات التي تزيد من قوة الإدراك الحسي، كالمنظار الفلكي والمجهر، أو تلك التي تسجل هذا الإدراك، كجهاز التصوير الفوتوغرافي والسينما، أو تلك التي تحلله، كجهاز تحليل الطيف، وهو الذي خلف، وكمل المنشور (
prisme ) الذي حلل به نيوتن ضوء الشمس. ولكن ليس هذا هو الأمر الأساسي. إذ إن هذه الآلات إذا كانت تزيد من قدرة حواسنا، فإنها لا تغيرها، والمهم هو اختراع الطرق الفنية للقياس، الذي تطور فأصبح علما للقياس
métrologie . فعلم الحرارة يقتضي استخدام ميزان الحرارة (الترمومتر)، وقد ظهر علم الكهرباء عندما حل محل علم الطبيعة المسلي الخاص بالآلات التي تداعب الجسم بهزات كهربائية، علم صارم مبني على استخدام الكشاف الكهربائي ومشتقاته. (أ) تصحيح الواقعة (2) كذلك تصحح الوقائع. والحق أن محال الحديث عن وسائل التصحيح التجريبي واسع جدا. فمن المعروف أن أية قراءة لأي جهاز، مهما كانت أمينة، لا تقبل أبدا على علاتها؛ بل يجب أن تمر بعمليات حذف متعددة، تعدلها على نحو لا يظل فيه سوى باق
residu
واحد. ذلك لأن الإدراك الحسي المعتاد محدد بطريقة غير شعورية، وهو يزودنا بمعلومات عن جسمنا، وعن شخصيتنا المعنوية، وعن المؤثرات التي نخضع لها من جميع المصادر، مثلما ينبئنا تماما بمعلومات عن الموضوع. ولنضرب لذلك مثلا: فإذا أرجعنا ملاحظة فلكية إلى أبسط مظاهرها، وأردنا فقط أن نحدد الساعة التي عبر فيها نجم بمحور المنظار المكبر، وجدناها تتوقف على سرعة استجابتنا، ثم إنها تنصب على شعاع من الضوء يصل إلينا من النجم، ويستغرق وقتا حتى يصل إلينا، ويتعرض لكل أنواع التحوير والانكسار. ولكي يكون لنا الحق في تشبيهه بخط هندسي مستقيم يربط فورا بين عيننا وبين الموقع الحقيقي للنجم في اللحظة المطلوبة، يجب أن نقوم بسلسلة من الحسابات هي في حقيقة الأمر استدلالات، تبدأ من الواقعة وتنتهي إلى الفكرة. فتصحيح الملاحظة يعني استبدال فكرة معينة عن الواقعة بالواقعة نفسها. (ب) تفسير الواقعة (3) كذلك تفسر الواقعة. وقد بين بوانكاريه في تحليل رائع ذاعت شهرته، كيف يمكن القول في التجربة الكهربائية إن «التيار يمر».
16
فذلك لا يكون إلا بالاستعانة بكل المعلومات المكتسبة، بحيث تقف هذه المعلومات حول الملاحظ مؤيدة له، وتقرر هذه الملاحظة معه، إن جاز هذا التعبير. ففي المثال الذي أورد «بوانكاريه» يكون الشيء الذي يراه الملاحظ، هو تغير موضوع النقطة المضيئة، وهذا التغير يعني أن الجلفانومتر ذا المرآة يؤدي عمله، وبالتالي أن المغناطيس والملف الكهربائي قد أثر كل منهما في الآخر ... إلخ. فتفسير ملاحظة هو بدوره، وعلى نحو آخر، الاستعاضة عن الواقعة بفكرة. (ج) اختيار الواقعة (4) ثم إن الواقعة تختار: إذ إن عددا ضئيلا من الوقائع التي تحدث حولنا بلا انقطاع هو وحده الذي يدخل في مجال العلم. وليس ذلك راجعا إلى أن عدد هذه الوقائع أكبر من اللازم؛ بل يرجع أيضا إلى أنه يندر أن تكون لهذه الوقائع أهمية في الموضوع. فالواقعة هي واقعة معملية أو واقعة ملاحظة، أي أنها واقعة منتقاة، فما شروط استبقائنا لها؟ إننا نستبقيها إذا كانت تتم عن فكرة، وعندئذ توصف بأنها «بسيطة»، والحق أنه إذا كان علم الطبيعة الرياضي قد بدأ بالفلك، فذلك لأن النجوم - لحسن الحظ - قد بسطها بعدها عنا، فلا ندرك منها في بداية الأمر إلا نوعا من العلاقات الهندسية.
17
والكثيرون يدهشون عندما يجدون العلماء يرفضون معظم الوقائع التي تعرض عليهم، فالمؤمنون بتحضير الأرواح مثلا يكدسون وقائع الاتصال الروحي عن بعد
télépathie ، ويدهشون لانصراف العلماء عنها، فيستخلصون من ذلك حجة يحملون بها على «العلم الرسمي» كما يقولون ولكن الواقع أن المسألة مسألة علم فحسب، أعني علما يهتم أولا، وقبل كل شيء، بما هو بسيط ومعقول. (7) المرحلة الثانية: البحث عن القوانين هو إبداع بمعنى الكلمة
يطلق اسم القانون على العلاقة التي تربط برباط الضرورة الشاملة واقعتين أو أكثر من الوقائع المتعاقبة أو المقترنة في الزمان، أو بين عنصرين أو أكثر في الظاهرة الواحدة. فقانون الأوتاد المشدودة مثلا يربط بين طول الوتر ومقدار توتره وكثافته، وبين ارتفاع النغمة التي يحدثها، وقانون الجاذبية العامة يربط الكتلتين والمسافة بالقوة الجاذبة، وقوانين الاصطدام تنظم توزيع السرعات بين الكرات التي تتقابل، تبعا لكتلتها، وقوانين سقوط الأجسام تحدد المكان الذي يقطعه الجسم في السقوط في علاقته بالزمان وعجلة السرعة، ولكل القوانين التي ذكرناها صورة رياضية، وهي كلها تؤيد أن العلاقة هي تحديد دقيق، وهي قوانين عامة، بمعنى أنها تصدق على كل زمان وكل مكان.
فكيف اهتدى العقل إلى هذه القوانين واخترعها؟ ذلك هو سر الخلق العقلي، أو بعبارة أدق، معجزة حرية العقل في التصرف. إذ إن بين شروط الخلق، والخلق ذاته، هوة سحيقة على الدوام. وهذه الهوة قد تبدو أشد أو أقل عمقا، تبعا لمدى سهولة الخلق، وتاريخ العلم يقدم إلينا عدة حالات نموذجية. (أ) الحالات المختلفة للإبداع (1)
حالة التجريبية الظاهرة: عندما تقاس الوقائع وتترجم بالأرقام ثم ترتب في قائمة (
tabula
بلغة بيكن) فإنها تنم عن علاقة بسيطة، كالتناسب الطردي أو العكسي مثلا. وعلى هذا النحو كشف «ماريوت
Mariotte » القانون المعروف باسمه حين قارن بين الأحجام والضغوط المختلفة لكتلة واحدة من الغاز الذي يتوازن مع عمود سائل يتفاوت ارتفاعه. (2)
وقد تزداد الحالة تعقدا: إذا كان هناك شخص معين هو الذي أجرى التجارب التي جمع بها الملاحظات وأعد بها القوائم. ثم أتى عالم آخر فقام، معتمدا على مجهود الأول، بقراءة القانون الذي خفي عنه. ومن المحتمل أن تكون هذه هي الطريقة التي اهتدى بها ديكارت إلى قانون جيوب الزوايا خلال دراسته لكتاب كبلر المسمى «انكسار الضوء
Dioptrique » (1600) فكبلر لم يكن قد اهتدى إلى القانون، ولكن يمكن القول بأنه أشار إلى الاتجاه الموصل إليه. (3)
حالة النظرية أو التمثيل الضمني
Analogie Latente : لسنا نعلم كيف اكتشف قانون انعكاس الضوء على يد إقليدس المزعوم، الذي اقتصر على عرض ذلك القانون في كتابه: انعكاس الضوء
Catoptrique
بوصفه إحدى المصادرات، ولكن مجرد عرضه له على هذا النحو، يوحي بأنه كان يرى فيه نوعا من البداهة المسلم بها، والأغلب أن تكون هذه البداهة راجعة إلى مجاز أو تمثيل. هو مقارنة شعاع الضوء المنعكس بكرة تصطدم بجدار، إذ يبدو أن مبدأ التمثيل يوجب أن تخضع الكرة في مجال حركتها لقانون تساوي الزوايا. (4)
حالة التركيب الرياضي المحض: أثبت هجنز
Hygens
رياضيا قوانين اصطدام الأجسام، في الحالة التي تكون فيها الكتل متساوية، ويتم الاصطدام في نفس خط الحركة، وذلك بأن بدأ بأبسط حالة، وهي تلك التي تحذف فيها كل مظاهر عدم المساواة، فيكون للجسمين أ، ب نفس السرعة س. وفي هذه الحالة سوف نسلم، بناء على مبدأ التماثل
Symétrie ، بأن الجسمين يرجعان في اتجاه عكسي، محتفظين بسرعتهما. ولنفرض الآن أن شخصا يلاحظ، قد انتقل بنفس السرعة س، (مع بقاء كل الظروف الأخرى على حالها)، وسار في نفس اتجاه أ، فبالنسبة إليه تكون أ ساكنه وب آتية تجاهه بسرعة 2س. ولما كان الملاحظ يواصل سيره في نفس الاتجاه بعد أن يقابل ب، فإن ب هي التي تبدو الآن ساكنة، و أ هي التي تبتعد عنه إلى الوراء بسرعة 2س، وإذن يمكننا أن نستنتج أنه إذا قابل جسم متحرك جسما ساكنا له نفس الكتلة، فإن الجسم المتحرك يتوقف، ويرث الجسم الآخر حركته بنفس السرعة وفي نفس الاتجاه، وذلك ما تحققه التجربة. (5)
حالة البساطة التي نسلم بها على أساس احتمال الصدق: من الحقائق المعروفة أن الأجسام التي تسقط تزداد عجلة سرعتها، وأبسط صفات هذه العجلة هو اطرادها. وذلك هو ما يسلم به جاليليو. (6)
حالة تجاوز نطاق التجربة
extrapolation : صيغ قانون تذبذب الأوتار، أو صيغ الجزء الأساسي منه على الأقل (أعني ذلك الذي يتعلق بالطول والوتر) لأول مرة في سنة 1636م على يد الأب مرسين بمدينة مينيم
Minime ، وكان مرسين صديقا لديكارت .
على أنه لم يكن في متناول يد مرسين، لإثبات ذلك القانون، أية وسيلة لإحصاء المتوسط لذبذبات التردد التي يناظرها مثلا صوت «لا»، والذي يحدث عن 435 ذبذبة في الثانية، وغاية ما كان يستطيع أن يفعله هو أن يحصي ما بين 8، 10 ذبذبات في الثانية، ومثل هذا التردد لا يحدث صوتا، ولكن ما يعجز عنه السمع، يقدر عليه الإبصار، وعلى ذلك فقد بدأ يجربه بوتر منفرد طوله 17,5 قدما (حوالي 570سم) مصنوع من أمعاء الخروف وشد هذا الوتر بأوزان تتراوح ما بين 2/1 رطل و4 أرطال، ولم يكن هذا الوتر المنفرد يحدث أي صوت، ولكن كان من الممكن حساب ذبذباته، وهكذا كشف قانونه بإحصاء هذه الذبذبات، وبالبحث عن كيفية تفاوت عددها عندما يقل الطول ويتغير الثقل الذي يشد الوتر، وقد بلغ من ثقته بالنتيجة التي وصل إليها على هذا النحو أنه حدد بواسطة قفزة عقلية تخرج عن حدود التجربة (وذلك ما يسميه بتجاوز نطاق التجربة
extrapolation ) التردد المناظر لما يسمى «بنغمة الكنيسة» أي النغمة التي يرجع إليها المغنون الذين تصدر عنهم، في قداس الكنيسة، أكثر الأنغام انخفاضا (وهذه النغمة تصدر عن أنبوبة للأرغن ذات طول معلوم).
وهكذا نرى أن كشف القوانين يتطلب ثقة مطلقة في معقولية الطبيعة، وفي إخلاصها للقوانين، وفي خضوعها للرياضيات بمعنى ما، ولا شك أنه ليس للمرء أن يؤمن بأن الطبيعة ستظل مخلصة للقانون الذي توصل إليه. فقد يكون هذا قانونا غير صحيح، ولكن يظل المرء على ثقة من أن هناك قانونا، وأن لهذا القانون صورة رياضية.
هذا إلى أن مجرد الملاحظة العلمية التي تحول الظاهرة إلى رقم تفترض مثل هذه الثقة ضمنا. وإذن فكشف القوانين يفترض مبدأ صاغه الميتافيزيقيون بصيغ مختلفة، بدأ معظمها في صورة مجازية، ومن قبيل ذلك قول أفلاطون: «إن الله يسلك دائما سلوك عالم الهندسة» وقول ليبنتز: من حساب الله صنع العالم
Dum Deus calculat fit mundus . (8) المرحلة الثالثة: التحقق من صدق القوانين أو التجريب، اختبار الفكرة بواسطة الوقائع
وإذن فليست هي التأكد من وجود قانون؛ بل التأكد من أن القانون هو ذلك الذي كشف. والتحقق هو ملاحظة الوقائع التي أحدثها المرء أو تنبأ بها، والتي حدد صورتها سلفا بطريقة رياضية، بناء على القانون الذي اهتدى إليه، ونقول: أحدثها أو تنبأ بها، إذ إن من الممكن، من حيث المبدأ، أن نخلق الوقائع وأن نركبها تركيبا تاما في أجزاء معينة من علم الطبيعة بمعناها الخاص، وفي الكيمياء. أما في العلوم الأخرى، كعلم الفلك، فليس ذلك الخلق ممكنا، وعندئذ يقتصر المرء على التنبؤ بها. (1)
ومبدأ التحقيق ليس عسيرا في علم الطبيعة الرياضية، ما دامت نتائج القانون الذي نهتدي إليه تنطوي ضمنا على صور جميع الوقائع التي نريدها، وتكفي عملية حسابية لتحديدها.
ولكن يجب أن تكون النتيجة قابلة للتحقق من صحتها، ومتفقة مع الإمكانيات المادية للمعمل أو المرصد. (2)
ينبغي أن تنطبق الشروط الفنية العملية للملاحظة على مشاهدة الواقعة التي سوف نحدثها، وهذه مسألة ينطبق عليها ما قلناه عن الواقعة العلمية في الفقرة السادسة من هذا الفصل. (3)
وأخيرا، ينبغي ألا يرتكز التحقق على الملاحظة التي اكتشف القانون على أثرها. فعلى المرء، إن استطاع، أن يوسع الحدود التي تمت فيها الملاحظات الأولى، أو أن يغير المجالات التي أجريت فيها. (أ)
مثال لتوسيع الحدود: من الممكن أن تعد التجارب الصوتية التي أجريت بها طريقة تسجيل الأصوات على أسطوانة ماري
Marey
محققة للقانون الذي اهتدى إليه مرسين. (ب)
مثال لتغيير المجالات: إن قانون نيوتن، الذي اكتشف بدراسة مدارات الكواكب، يتيح لنا أن نفسر ونتنبأ بما يلي: انحرافات مدارات الكواكب، والمد والجزر، وهو أيضا يفسر حقيقة عرفت في وقت نيوتن ذاته، وهي اختلاف الجاذبية الأرضية تبعا لخط العرض، إذ إن الأرض منبعجة عند خط الاستواء، كما يثبت من قياس درجة من درجات خط الطول في أماكن مختلفة من خطوط العرض. وعلى ذلك يكون الجسم أبعد عن المركز الذي يجذبه، أي إن وزنه يقل، تبعا لقانون نيوتن. ولم يستطع نيوتن أن يقيس الجاذبية المتبادلة لكتلتين على سطح الأرض؛ بل توصل العلماء إليها فيما بعد (تجربة يوتفوس
Eotvos ) وكان في ذلك تحقيق آخر. (9) التجربة الفاصلة
experimentum crucis
وهي المعادل التجريبي لبرهان الخلف
يرجع هذا التعبير إلى «فرنسيس بيكن» وقد ورد ذكره في كتابه «الأورجانون الجديد».
18
والصور الصحيحة التي يضفيها عليه هي «مثال الصليب
instantia crucis »؛ والمقصود بالصليب هنا الإشارة التي تحدد مفرق الطرق. «فالمثال» أي الواقعة، يهدف إلى وضع الطبيعة في مفترق الطرق، لنرى أي الطرق سوف تسلك: أي أنها، بتعبير مجازي آخر، هي أن نرغم الطبيعة على الاختيار.
وهذا التعبير يدل على نوع حاسم من التجريب، يوصف بأنه قاطع، ويتيح لنا أن نختار بين فرضين، لأننا قد تصورنا التجربة وأجريناها بحيث أنه إذا صح أحد الفرضين أصبحت قيمتها مختلفة كل الاختلاف عنها إذا صح الفرض الآخر؛ بل تصبح مضادة لها.
وفيما يلي مثال مشهور: ففي مستهل القرن التاسع عشر، انقسم العلماء إلى فريقين يعضد كل منهما فرضا مضادا عن طبيعة الضوء: (1)
الفرض المسمى بالفرض الجسيمي
corpusculaire ، والذي يؤكد أن الضوء هو بث الجسيمات. وفي هذا الفرض يفسر انكسار الضوء عندما ينتقل من الهواء إلى الماء بالجاذبية التي يمارسها الماء بحيث يكون انتقال الضوء في الماء أسرع. (2)
والفرض الثاني هو التموجي
ondulatoire ؛ فالضوء هو انتقال اهتزازات في الأثير، دون أن يصحبه انتقال مادة. وفي هذا الفرض، يكون الانكسار نفسه راجعا إلى تعطيل ناتج عن الماء، فيسير الضوء في الماء أبطأ مما يسير في الهواء.
19
وفي 1730م تخيل فوكو
Foucault
تجربة تسمح بالمقارنة بين سرعة الضوء في الهواء وسرعته في الماء؛ فيقسم شعاعا ضوئيا إلى حزمتين، تمر إحداهما بأنبوبة مليئة بالماء، ويختلف الشعاعان عند وصولهما باختلاف صورة النقطة التي يسقطان فيها على شاشة. وفي الجزء المشترك من مسارهما توضع مرآة تدور حول نفسها بسرعة تصل إلى حد أن الشعاع الضوئي، بعد أن يصطدم بالمرآة التي تدور ثم ينعكس على مرآة أخرى ثابتة ترده إلى المرآة الدائرة، لا يرتد إلى نفس الموضع من المرآة التي تدور وإذن فالضوء قد انحرف، ويزداد انحرافه كلما ازداد بطئا، ويبين الموقع النسبي لنقطتي الوصول، بطريقة مباشرة وفاصلة، أي الشعاعين هو الأبطأ، وبالتالي أي الفرضين هو الصحيح. والواقع أن الفرض التموجي هو الصحيح .
وفي مبدأ الأمر تثير القدرة الإقناعية لهذا النوع من الأمثلة دهشة المرء. ومع ذلك فإن هذه الأمثلة نادرة، ويبدو أن التجربة الفاصلة تزودنا بنوع من برهان الخلف على الفرض الذي تثبت صحته. (10) ولكن ليس هناك تجربة فاصلة بالمعنى الصحيح
يبين بيير دوهم
20
أنه ليس ثمة تجربة فاصلة بالمعنى الصحيح، وذلك لسبب عرفناه من قبل؛ فالواقعة العلمية التي يراد أن تكون دليلا للإثبات، تفسر عن طريق معارف سبق اكتسابها، أي أن لها في ذاتها مضمونا نظريا كاملا، بحيث إن الفرضين لا يتمثلان في صورتهما الخالصة. فالشيء الذي يحققه المرء عندئذ هو العلم كاملا، وقد أضيف إليه محتوى جديد هو الفرضان المتضادان. فإن كان جواب التجربة عن أحد الفرضين بالسلب، فلن نعلم على وجه الدقة إن كان ما تكذبه هو الفرض الذي نحن بصدده، أو كان مسألة أخرى في ذلك العلم يجب علينا معاودة بحثها. ونقول بعبارة أخرى، إن العلم في جملته هو الذي يكون صوابا أو خطأ، لا الفرض الواحد. (11) هناك تشابه عميق بين العلوم الرياضية والعلوم التجريبية
تبين لنا أن منهج الطبيعة الرياضية نصف رياضي ونصف تجريبي. فهو رياضي من حيث أنه يستبدل بالواقعة المشاهدة واقعة ذات صورة رياضية، ويدخل هذه الواقعة في صيغة رياضية، هي الدالة. وهو تجريبي من حيث إنه يبدأ بمشاهدة أمر ما، أي بإدراك حسي، تدخل فيه الذهن على نطاق واسع حقا، ولكنه إدراك حسي على أية حال. ثم إن العلم يعود في نهاية الأمر إلى ذلك الإدراك الحسي الذي بدأ منه. وفضلا عن ذلك، فالإدراك الحسي الأخير هو الذي يحكم على القانون، فإما أن يؤكد صحته، وإما أن يرفضه مؤكدا بطلانه.
ومن ثم فإن قوام منهج الطبيعة الرياضية هو الفصل بين العمليتين اللتين كان يجمع بينهما البرهان الرياضي، واللتين لا يستطيع منهج علم الطبيعة أن يجريهما مجتمعتين: أي العملية التي يتم بها الفهم، والعملية التي يتم بها التحقق.
فهناك إذن شبه عميق - مع وجود اختلاف واضح - بين المنهج الرياضي ومنهج الطبيعة الرياضية، أي بعبارة أعم ، منهج العلوم «التجريبية» أعني العلوم الخاصة للتجريب.
المعاني المختلفة لكلمة الفرض:
التشابه والاختلاف السابقان يدل عليهما تشابه واختلاف المعاني التي تفهم بها كلمة الفرض التي تستخدم في الرياضة وفي العلوم التجريبية معا.
فالكلمة اليونانية
hypothesis
تعني الأساس المنطقي أو المبدأ (أي ما يوضع تحت
supposé
أو ما يفترض). (أ)
ومن هنا كان المعنى الأول لكلمة الفرض: إذ يشير إلى المبادئ المعترف بها (كالتعريفات والبديهيات والمصادرات) والتي تستخدم نقطة بدء في الرياضيات. غير أن هذا المعنى قد أصبح قديما. (ب)
ويقرب من ذلك معنى آخر يستخدم بدوره في الرياضة، وفيه يكون الفرض هو الحالة المعطاة للشكل أو العلاقة المعطاة. (كالفرض في النظريات الهندسية).
وكثيرا ما يستخدم معلمو الرياضيات كلمة الفرض بهذا المعنى الثاني الذي يرتبط بالأول، لأن حالة الشكل أو العلاقة إذا ما أعطيت، فإنها تضمن في الوقت ذاته، الخصائص التي عرفت من قبل، وبالتالي تضمن المبادئ بالتدريج.
ولنلاحظ العنصرين اللذين ينطوي عليهما هذا المعنى؛ فالفرض هو ما يسلم به، ويعطى ويوضع على نحو ما وما يتفق عليه، وهو أيضا ما يستخدم أساسا نتقدم من بعده. (ج)
والفرض، في علم الطبيعة الرياضية وفي العلوم «التجريبية» بوجه عام، هو القانون الذي يخترع، والذي سوف يتحقق المرء من صدقه. وعلاقة هذا المعنى بالمعنيين السابقين واضحة؛ إذ يظل الفرض نقطة بدء لتقدم تال، وهو نقطة بداية تعد مبدأ، أعني أنها أكثر وضوحا من نتائجها، وكل ما في الأمر أن الفرض هنا لا يعود مبدأ يوضع بطريقة حملية مطلقة وتنتقل حقيقته إلى نتائجه؛ بل هو مبدأ مؤقت لا زال مشكوكا فيه، يسعى إلى البحث عن الحقيقة باستخلاص ما ينطوي عليه من نتائج. فما يأتي به الفرض هو المعقولية، ومن الواجب أن يذهب إلى الحقيقة باحثا عنها، ومن هنا أتى التخمين الذي أصبح في نهاية الأمر مرتبطا بالفرض. (د)
سوف نعرض فيما بعد
21
لمعنى رابع لكلمة الفرض، وفيه يكون الفرض هو النظرية، أعني أنه تفسير للظواهر يتصف بأنه أكثر عمقا وتخمينا في الوقت نفسه، وفي هذا المعنى الرابع ، يكون التخمين أشد وضوحا، غير أن المعقولية بدورها تصبح فيه أعظم. فالعنصر المشترك بين العلوم الرياضية والتجريبية هو أنها تستخدم «الفروض» مع فارق واحد، هو أن الفرض يكفي للتحقق من صدق النتائج في الرياضة وحدها، ولكنه هو الذي يقوم بالتفسير في كل هذه العلوم.
ومن المحتمل أن تكون العلوم الرياضية قد بدأت بمرحلة تجريبية. ومن ناحية أخرى فقد أشرنا إلى الأصول التجريبية التي يرجح أنها كانت أساس الهندسة والميكانيكا. وفي مقابل ذلك بينا أن البحوث الأولى في الطبيعة الرياضية تتمثل في صورة إقليدية، تبدأ بمصادرات ونظريات. والخلاصة أن العلوم الرياضية هي علوم تجريبية تأكد طابعها العقلي وأصبح ثابتا.
ولكن؛ لم كانت كذلك؟ وما أصل هذه الميزة التي تنفرد بها؟ أو لنتساءل على عكس ذلك فنقول: ولماذا لا تصل العلوم الأخرى إلى هذه المرتبة؟
في نهاية الفصل السابق أجبنا عن هذا السؤال إجابة جزئية. فقد قلنا إن نشاطا عقليا معينا، أعني ذلك النشاط الذي يحصي، ويضع العلاقات ويرسم الأشكال، قد وصل في الرياضيات إلى مرحلة الاستقلال الذاتي، أعني إلى الشعور التام بذاته، والاكتفاء الكامل بنفسه؛ ذلك لأن الوقائع التي بدأ منها بسيطة، أعني أنه أمكن استخلاصها للوصول بسهولة إلى الأفكار التي استطاع الذهن إنشاءها، والتي تؤدي إلى فهم هذه الوقائع. ففي الرسم مثلا أمكن الانتقال بسهولة من الخط المرسوم إلى المستقيم، وفي نظرية الآلات (الميكانيكا) أمكن الانتقال من الآلة المادية إلى عناصرها العقلية (ذراع الرافعة، انحدار السطح المائل، نقطة التطبيق، الاتجاه، قوة الشد). وعندئذ تبين أن الأفكار التي أنشئت على هذا النحو تفسر الوقائع التجريبية التي بدأنا بها في أول الأمر تفسيرا كاملا. فالخصائص الهندسية للدائرة تفسر كون الخط الذي يقيس محيط حلقة، أيا كان حجمها، هو في جميع الأحوال أكبر قليلا من ثلاثة أمثال الخط الذي يقيس قطرها. والخصائص الهندسية للشكل البيضاوي تفسر كون الحلقة التي ينظر إليها من زاوية تبدو دائما في شكل بيضاوي.
ولكن الموضوعات التي تدرسها العلوم التجريبية معقدة، وربما كانت كما قال ليبنتز، معقدة إلى حد لا نهاية له، بحيث يستحيل استيعابها، فالضوء والحرارة مثلا يتكشفان في كل لحظة عن خصائص غير متوقعة (وأعقد منهما بكثير الحياة، وهي موضوع العلم الذي سوف نتحدث عنه في الفصل التالي).
إن الضوء ينشر في خط مستقيم، وينعكس تبعا لقوانين هي في ذاتها بسيطة إلى حد ما، وطالما اقتصر البحث على هذه المسائل، كان من الممكن تصور علم «هندسي» للضوء يكون ملحقا بعلم الهندسة، وذلك لو أضفنا عددا من المصادرات المكملة، ولكن كشفت بعد ذلك الوقائع المعقدة الغامضة التي يشتمل عليها علم الضوء «الطبيعي» وهي التي بدأت بالخصائص الضوئية العظيمة التعقيد للبلورات، مثل بلور «سبات
Spath » في أيسلنده،
22
ومنها إلى الانعطاف أو الزيغ
diffraction
23
وإلى تلون الشرائح المعدنية الرقيقة بلون قوس قزح
24
إلخ.
ومع ذلك، يظل بين العلوم الرياضية والعلوم التجريبية علاقة مزدوجة: (1)
فالأولى هي المثل الأعلى للثانية، التي تسعى إلى التشبه بها، على نحو ما أمل ديكارت. (2)
والأولى هي صورة الثانية، فكل ما هو معقول في المجال التجريبي، له تركيب أو صورة رياضية. (12) العلوم الرياضية وعلم الطبيعة الرياضي فرضية استنباطية
يمكننا أن نعبر عن التشابه بين العلوم الرياضية وعلم الطبيعة الرياضي بقولنا إن كلا منهما علوم «فرضية استنباطية»، ونعني بهذه الكلمة أن مناهجهما المشتركة تنتقل من الفرض إلى نتائجه عن طريق الاستنباط، وفي علم الطبيعة الرياضي يبدأ التحقق بعد أن يتم الاستنباط. ففي الأولى ينزل البرهان من الفرض إلى النتائج، وفي الثانية يصعد من النتائج إلى الفرض.
الفصل الثامن
علوم الحياة
علم الفسيولوجيا (وظائف الأعضاء) هو دراسة الوظائف التي تتألف منها الحياة، وهو يقتصر في بحثه للمادة الحية على النظر إليها من حيث ما فيها من حتمية، وعلى تفسير الوظائف عن طريق البيئية الداخلية. وهكذا فإن منهجه هو في أساسه منهج العلوم الطبيعية والكيميائية، أي أنه منهج ثلاثي يشتمل على ملاحظة الظواهر، والكشف عن الفرض، والتحقق من صحته. ولكن يبدو أن الأحياء تتمثل فيها غائية توجه الأجزاء نحو المجموع الكلي للكائن العضوي، وهذا التوجيه هو موضوع دراسة أبحاث حديثة.
وقد نشأ علم الحياة عن مذهب التطور، الذي يرجع إلى «لامارك» و«دارون». ومذهب التطور في أساسه تفسير للأشكال الحية عن طريق البيئة الخارجية، والسلالات السابقة، أعني أنه تفسير لها عن طريق ظروفها وعللها، لا عن طريق مرتبتها في التصنيف؛ ومن هنا كانت هذه الأشكال قابلة لأنواع من «التحول»، ولكن تفسير «لامارك» لهذه التحولات بوساطة صفات مكتسبة عن طريق تكيف الأعضاء أو الوظائف تحت تأثير البيئة، ونقل هذا الاكتساب بالوراثة، وكذلك تفسير دارون لها عن طريق تغيرات موروثة تحدد الانتقاء الطبيعي، نقول إن هذه التفسيرات لم تعد مقبولة لدى باحثي علم الحياة المعاصرين.
ومع ذلك، فالمذهب التطوري يظل منهجا للبحث والتفسير، ويوجه علم الحياة الحديث جهوده نحو بحث مشاكل علم الأجنة (
Embryologie ) وعلم الوراثة.
علم وظائف الأعضاء (1) الفسيولوجيا هي دراسة الوظائف التي تتألف منها الحياة
موضوع علوم الحياة هو الخصائص التي تتميز بها الكائنات الحية، ولقد كانت هذه العلوم في الأصل مختلطة بالطب، غير أن النمو المعتاد للمعارف، وتأثير العلوم المتصلة بالطب، أديا إلى الفصل بين النظرية المحضة وبين التطبيق العملي، وإلى تمييز علم العلاج
Thérapeutique
أو فن الشفاء، وهو الطب بمعناه الصحيح، من «العلم» النظري المحض، وهذا العلم النظري ينقسم إلى: (1)
علم التشريح: وهو علم قديم جدا، ينحصر في وصف «الأعضاء» التي يتكون منها الكائن العضوي، ويقتضي مجموعة من العمليات لاقتطاع الأعضاء (أي تشريحها) ثم إعدادها تمهيدا لحفظها، أو ملاحظتها دون مشقة. (2)
الفسيولوجيا: وعلى العكس من ذلك، فإن العلم المسمى بهذا الاسم حديث إلى حد ما، ورغم أن الكلمة التي تدل عليه ترجع إلى القرن السادس عشر، فإنه لم يصبح علما محددا إلا في القرن التاسع عشر، بفضل جهود كلود برنار، وهو ينحصر في دراسة «الوظائف» أي القوانين التي تؤدي الكائنات الحية وظائفها تبعا لها، والمنهج المميز له هو «التشريح الحي
vivisection » أي ملاحظة طريقة عمل الأعضاء «الحية» التي يجري عليها التجارب بوساطة عمليات مختلفة ذات طبيعة جراحية: كالبتر التجريبي، أو عمليات الفصد التي تهدف إلى فحص السوائل التي يفرزها العضو أثناء أدائه لوظيفته ... إلخ. ولقد أصبح علم وظائف الأعضاء أهم العلوم التي تفرعت عن الطب القديم وأكثرها نفعا. (2) الفسيولوجيا ليس لها أن تفسر الحياة
وهنا يعرض سؤال أولي، فهل تستطيع علوم الحياة أن تفسر لنا كنه الحياة؟ لا شك في أن المرء يميل إلى الثقة بقدرة هذه العلوم ثقة لا حد لها، ولكن للمرء أن يخشى من أن الحياة بطبيعتها لا تخضع خضوعا مطلقا لمناهج العلم.
فما الكائن الحي إذن؟ (أ) الحياة والفردية (1) لقد قيل إنه هو الفرد، أي هو حقيقة تنطوي على طابع مزدوج، هو أنها: محددة المعالم، منعزلة في المكان قائمة بذاتها، أي بمعنى ما حقيقة لا ينفذ إليها غيرها، كما أنها مزودة بوحدة داخلية، بحيث تفنى الأجزاء إذا انحل الكل، أي إذا أصيب الكائن العضوي في مقتل، ولا شك في أن فردية الحيوان أو النبات ليست مطلقة؛ إذ يتفق أحيانا أن يعاد تركيب الكائن العضوي عن طريق أحد أجزائه المنفصلة؛ بل إن هذه الظاهرة هي المعتادة في أنواع معينة من التكاثر، كما هي الحال في تكاثر النباتات بانفصال بعض أجزائها. ولكن الذي نستنتجه من ذلك، كما قال برجسون في عبارته الدقيقة، هو «أن الفردية لا تكون كاملة أبدا، وأنه كثيرا ما يكون من العسير؛ بل من المحال أحيانا، أن نفرق تفرقة واضحة بين ما هو فردي وبين ما هو غير فردي، ولكن هذا لا يحول دون القول بأن الحياة تسعى إلى تحقيق الفردية، بطبيعتها.»
1
ولقد كان علماء الكيمياء القدامى يقولون إن الكائن العضوي كون مصغر
microcosme . وإذا كان من سوء الفهم أن نتصور الكون المصغر على مثال الكون الحقيقي، وعلى أنه مكون من أجزاء تناظر أجزاء الكون، فمن المؤكد مع ذلك أن الكائن العضوي الحي يشبه الكون إلى حد معين، يتمثل في أنه هو الآخر كل ما يبدو موجودا لذاته. (ب) الحياة والطبيعة، والميل (2) وللكائن الحي «طبيعة» أو «ماهية» داخلية، يمكن تصورها على أنها حقيقة تعبر عن طريقة تركيب ذلك الكائن، ولقد تصور «إسبينوزا»
2
هذه الطبيعة على أنها نوع من «التناسب من شأنه أن يؤدي بكل الأجزاء إلى الاحتفاظ فيما بينها بنفس علاقات الحركة والسكون.» (3) يبذل الكائن العضوي من أجل هذه الطبيعة أو الماهية «جهدا للمحافظة على وجوده» كما قال إسبينوزا
3
أعني «ميلا» إلى المحافظة على صيغة تركيبه أو إلى إعادة تركيبها. (ج) الحياة والتمثيل والتعويض (4) هذا الميل يبعث في أعماق الكائن الحي وظائف التغذي والتعويض، فبالتغذي «يمثل» مواد خاما تأتيه من الخارج، أي إنه يلائم بين هذه المواد وبين تركيبه ويدمجها فيه، وفضلا عن ذلك يعوض ما يفسد من كيانه بأن يعيد إلى حد ما بناء الأنسجة المصابة (ظاهرة الاندمال
cicatrisation ) ويطرد أسباب الفساد أو يبطل أثرها، ولقد كان الأطباء القدامى يقولون بوجود قوة علاجية للطبيعة
vis medicatrix naturae
أي قدرة طبيعية تعيد ترميم الكائن، والحق أن علاج المرض يحدث في كثير من الأحيان؛ بل في أغلب الأحيان، عن طريق «ترك الطبيعة تعمل» أي عدم الوقوف في وجهها. ولقد كان أنصار «طب الانتظار» أعني أولئك الذين يؤمنون بالعلاج الذي تنتظر فيه الطبيعة حتى تقضي على أصل الداء أو تعيد الأمور إلى نصابها؛ كانوا يقولون: علينا أولا ألا نفعل شيئا يضر (
primo non nocere ). والواقع أن شفاء كسر في العظام ليس غير إعادة وضع الطرفين في الموضع المعتاد (أي جبر الكسر) ثم الانتظار حتى يتم الالتئام من تلقاء ذاته، ومن هنا كان «أمبرواز باريه»
Ambroise Paré
يقول عن الجرح «لقد كنت أضمده، ولكن الله هو الذي يشفيه.» (د) غرائز البقاء والتكاثر (5) ويبدو هذا الميل بصفة أكثر وضوحا، في الغرائز التي هي نظم تلقائية من الأفعال، تهدف بوضوح إما إلى حفظ الكائن الحي (كالدفاع عن الذات، أو الحركة، أو البحث عن الغذاء أو التقاطه) وإما إلى تكاثره (كالحمل، وإخراج الكائن الجديد وتغذيته وحمايته ... إلخ.) (ه) الحياة والغائية
وهكذا تجري الأمور كما لو كان الكائن الحي ينطوي في ذاته، كما يقول كلود برنار،
4
على «فكرة موجهة» تحققها قوة داخلية وتحميها، وتعمل على امتدادها، وهذه الفكرة هي مصدر وحدة الكائن الحي. (6) وبذلك يكون للكائن الحي «مصير» خاص به، وتمر حياته بسلسلة من «المراحل » التي تتحدد من الداخل، فالكائن الحي «يهرم» على حد تعبير برجسون، أي أنه يسير من الميلاد إلى الموت عبر سلسلة من المراحل التي «تنضجه»
5
ثم تؤدي به إلى الهلاك، ومدة حياته محدودة.
وما دام الأمر كذلك، فإننا ندرك السبب في أن بعض الفلاسفة اعتقد أن التفسير المألوف في العلوم الطبيعية الكيميائية لا ينطبق على الكائنات الحية، لأن هذا التفسير يقتضي أن يكون موضوعه داخلا في نطاق الحتمية العامة، دون استثناء أو امتياز، وألا يكون متصفا أو منفردا بشيء خاص به، وأن تكون طبيعته خارجة عنه تماما. أو على الأصح، ألا تكون له «طبيعة» ولا «ماهية»، إذ يفسر كل ما يطرأ عليه تفسيرا كاملا بالبيئة المحيطة به والقوانين التي يخضع لها، وهذه القوانين ليست كامنة فيه؛ بل إن هذا هو الشرط الذي يسمح بتطبيق الرياضة على المادة، إذ لا تكون للمادة قوانين رياضية ولا علم طبيعة رياضي، إلا إذا فسرنا كل ما يطرأ على المادة بعلاقات متناسبة رياضيا مع ما هو خارج عنها. ويترتب على ذلك أن التفسير العلمي ينتقل من الأجزاء إلى الأجزاء ومن الأجزاء إلى الكل، ولكنه لا ينتقل أبدا من الكل إلى الأجزاء؛ بل إن العلم لا يعرف كلا وفردا بالمعنى الصحيح، وهذا هو ما يسمى بالتفسير عن طريق الأسباب.
ولقد رأينا الآن أن الحياة تتطلب، فيما يبدو، نوعا آخر من التفسير، ذلك هو التفسير بالغايات، أو بالغائية. والغاية هي الهدف المقصود، وليست مجرد نتيجة؛ فالغائية هي تفسير الظواهر بفكرة موجهة يعبر عنها الكائن العضوي أو ينطوي عليها. وهي - على حد تعبير «لاشلييه» الموجز - «علية الفكرة»
6
في حين أن العلم لا يعترف إلا بعلية الظاهرة السابقة.
فإذا كانت الغائية «حقيقية»، فإنها تزودنا بالتفسير «الصحيح» أي إن أداء الوظائف في الكائنات العضوية يرجع إلى «الطبيعة» و«الماهية» و«الفكرة الموجهة» لا إلى تركيب الكائن العضوي، أي طريقة تنظيم «أجزائه» أي إنه إذا كانت هناك وظيفة تسمى بالهضم، فذلك راجع، في نظر التفسير العلمي، إلى أن الكائن العضوي يشتمل على معدة، وعلى عصارة هضمية، أما في التفسير الغائي، فإن المعدة والعصارة الهضمية توجدان من أجل الهضم، أي لكي تتم عملية الهضم، فالوظيفة «تخلق» العضو، والحياة «تخلق» الكائن الحي. (3) الفسيولوجيا تتجه إلى الاستغناء عن التفسير الغائي
من الصحيح أن هناك تصورا معينا للغائية يوقعنا في أسئلة عسيرة لا سبيل للعلم إلى الإجابة عنها، وذلك بقدر ما يظل هذا التصور مرتبطا بالفلسفة التلقائية التي ترى الإنسان صانعا
homo faber ، أعني كائنا يستخدم وسائل معينة من أجل تحقيق غاية ما. هذه الأسئلة هي: (1) (ميتا فيزيقا الغائية): كيف يمكن تصور هذا الخلق؟ هل لنا أن نتحدث عن عناية إلهية؟ أم نقتصر على افتراض «طبيعة خيرة» أي طبيعة تسهر على رعاية مصالح الكائنات الحية. (2) (مشكلة القيم) إن الغاية أسمى من الظواهر التي يجب عليها تفسيرها، وهي أرفع في قيمتها منها؛ فالحيوان أعظم قيمة من أعضائه، وهكذا يؤدي التفسير الغائي إلى إقحام اعتبارات «القيمة» وهي اعتبارات لا شأن للعلم بها. (3) (اتفاق الغايات) كيف نوفق بين كل التفسيرات الغائية؟ أيتسنى لنا التوفيق بين ما هو في صالح كائن عضوي وما هو في صالح كائن آخر؟ وهل خلق العشب «من أجل» آكلة العشب؟ أم أن آكلة العشب خلقت «من أجل» آكلة اللحوم؟ ولمن، أو لم، خلقت آكلة اللحوم؟
تلك سلسلة من المشكلات التي يفضي إليها التفسير الغائي بالمعنى الذي حددناه من قبل، أو إن شئت فسمه التفسير القائم على التشبيه بالإنسان
anthropomorphique ، وهي مشكلات لا قبل للعلم بها. ولذا أمكن أن توجه إلى هذه الغائية في علم الحياة الاعتراضات التالية:
7
كل تقدم في العلم إنما هو تقدم في التفسير عن طريق العلل، فمثلا كان الرأي متفقا من قبل على أن العلم يفسر الظواهر المتعلقة بأداء الأعضاء التامة التكوين لوظائفها (
catagenèse )، ولكنه يخفق في تفسير تركيب هذه الأعضاء وخلقها ونموها (
Anagenèse ) ولكن تبين أن خلق الأعضاء (وكان يسمى من قبل
ontogenèse
أي خلق الفرد) يرتبط ارتباطا وثيقا بالهرمونات التي تفرزها الغدد الصماء، كالغدة الدرقية مثلا، التي تفرزها الأجسام الدرقية، وهكذا يتضح لنا أننا بسبيل الوصول إلى نظرية «سببية» علمية خاصة بظواهر تكوين الأعضاء. (4)
على أن المسألة لا تقف عند هذا الحد، فالتفسير الغائي لا يمكن الانتفاع به من الناحية العملية، ففي التطبيق الطبي، لا يهمنا أن نعلم إذا كان الهضم «غاية» للمعدة، والواقع أن المعدة تهضم «لأنها» تفرز العصارة الهضمية، وأن المرء يصاب بعسر هضم عندما تنقص في العصارة الهضمية مادة معينة يمكن أن يحل محلها دواء معين، ولقد قال بيكن - ساخرا: «إن السعي وراء العلل الغائية إنما هو سعي عقيم لا يلد شيئا، مثله مثل العذراء التي تهب نفسها لله.»
Causarum finalien inquisition sterilis est, et tanquan virgo dei consecrate, nihil pavit.
8
ولهذه الأسباب اتجهت علوم الحياة إلى الاقتصار على الأسباب وإلى إغفال الغايات، ولكن هل هذا الإغفال ممكن؟
أجل، لأن التفسير الغائي يفترض التفسير بالسبب، أما العكس فغير صحيح. فالغاية تفترض الوسائل، والوسيلة تؤدي دور السبب بالنسبة إلى الغاية، التي هي دائما نتيجة ومعلول. ومن هنا أمكن القول إن الغائية وإن تكن شيئا يزيد على السببية، فإنها سببية مثل كل شيء، وهي في حاجة إلى السببية؛ فالغائية إذن لا تكتفي بنفسها، وإذا كانت العين قد خلقت «لكي» تبصر فذلك لأن تركيبها يؤدي إلى الإبصار بوصفه «نتيجة».
أما التفسير بالعلة أو السبب فهو قائم بذاته تماما؛ بل إن أشد أنصار الغائية تحمسا مضطرون إلى الاعتراف بوجود حالات لا وجود للغاية فيها (
atélie ) أو حالات تتجاوز فيها الغاية
hypertélie ، على حد تعبير كوينو
Cuénot .
9
لهذا السبب كان في استطاعة علوم الحياة أن تستبعد الغايات تماما، وأن تحذو حذو الطبيعة والكيمياء، في الاقتصار على التفسير بالعلل. (أ) الغائية والكلية
كانت وجهة النظر التي فحصنا الغائية تبعا لها حتى الآن قائمة على التشبيه بالإنسان
Anthropomorphique
بدرجات متفاوتة. ولكننا نصادف في علم الحياة معنى لمصطلح الغائية
Finalisme
يمكن فحصه هذه المرة من وجهة النظر العلمية، ذلك لأن الكائن الحي يبدو بمظهر الحقيقة الكلية، إن كل وظيفة للكائن العضوي تتضامن مع الوظائف الأخرى، وهذه الوظائف تتضافر «وتتجه» نحو كل. وإن ظواهر تجدد الأنسجة
régénération (انظر القسم الثاني) والظواهر التي تستطيع أجزاء معينة من الكائن العضوي أن تحل فيها محل أجزاء أخرى مصابة في الكائن العضوي، لتشهد بحقيقة هذا الاتجاه نحو الوحدة في الكائن العضوي. فإذا ما نزعنا البلورية من الكائن المسمى «سلمندرا ماكولاتا» مع إبقائنا على القزحية، فإن الجزء الأعلى من القزحية يمكنه أن يعيد تجديد أنسجة الحدقة (وقد أورد برجسون هذه التجربة في كتاب التطور الخالق ص76). فإذا أطلقنا اسم التفسير الغائي على إدراك حقيقة اتجاه الوظائف نحو الوحدة الكلية التي يكونها الكائن العضوي، وعلى دراسة هذا الاتجاه، دون إشارة إلى أي هدف مقصود، فعندئذ يمكننا القول بأن لمثل هذا التفسير الغائي ما يبرره في علم الحياة. (4) منهج الفسيولوجيا: الحتمية ونظرية البيئة الداخلية
كان أول من وضع أسس الفسيولوجيا على النحو الذي تبحث غايته اليوم في المعامل، هو هارفي
Harvey ، وهو طبيب إنجليزي كان هو أول من تقدم في 1628م بنظرية محددة في الدورة الدموية، وهي ظاهرة فسيولوجية أساسية، وفي القرن الثامن عشر، توصل لافوازييه ولابلاس إلى تفسير يعلل - على الأقل - أهم ما في ظاهرة الحرارة الحيوانية، وهي تلك الصفة الفريدة التي تتمثل لدى الكائنات العضوية العليا، والتي تجعل هذه الكائنات تحتفظ بدرجة حرارة ثابتة، رغم التغيرات الحرارية في البيئة المحيطة، ما دامت تعيش في حالة طبيعية. وأخيرا، حدد كلودبرنار الفسيولوجيا في شكلها النهائي عندما بين كيف يمكن تطبيق مبدأ الحتمية على الحياة. وإنه ليبدو بالفعل، للوهلة الأولى، أن الكائنات العضوية لا تخضع للقانون الذي يقضي بأن تكون النتائج متفقة مع الأسباب؛ إذ يبدو أن البيئة لا تؤثر فيها إلا تأثيرا وقتيا محدودا، فمثلا لا تستطيع البيئة أن تحدد حرارتها وتركيبها الكيميائي تحديدا تاما ولكن ينبغي أن نميز بين «البيئة الخارجية» أي الوسط الذي يحيط بالحدود المرئية للكائن العضوي (الجلد)، وبين البيئة الداخلية، أي مجموع السوائل العضوية «والأمزجة» كما كان يقال قديما، كالدم والسائل الليمفاوي.
10
والواقع أن الكائن العضوي منعزل عن البيئة الخارجية بنوع من القشرة العازلة المتماسكة إلى حد ما، ولذا كانت البيئة الخارجية لا تؤثر فيه مطلقا، أو لا تتحكم فيه على الأقل إلا جزئيا، ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البيئة الداخلية، فالخلايا التي تتكون منها الأحياء العليا مغمورة تماما في الدم والسائل الليمفاوي، اللذين يعدان بيئتهما الحقيقية، واللذين يحددان حالة الخلايا بدقة مطلقة. فحرارة الجسم البشري مثلا تظل ثابتة في الأحوال العادية رغم تغيرات الحرارة الخارجية، ذلك لأنها تتوقف على ظواهر كيميائية تستقر في البيئة الداخلية، حيث تتحكم عملية عظيمة الدقة في حفظ توازنها. فإذا ما طرأ على هذه العملية تغير طفيف ارتفعت درجة الحرارة مثلا، وأدى ذلك إلى الإصابة بالحمى، دون تأثير مباشر بالبيئة الخارجية، فعلينا إذن أن نتصور الكائن العضوي في الأحياء العليا على أنه كتلة منتظمة من الخلايا، بيئتها الحقيقية المحددة بها هي الدم والسائل الليمفاوي. وينحصر منهج علم وظائف الأعضاء في البحث عن الحتمية العضوية في العلاقات بين الخلايا وبين الدم أو السائل الليمفاوي، وإنا لنعلم بوجه خاص تلك الكشوف التي لا زالت فجة، ولكنها تبشر بمستقبل باهر، والتي أتاح ذلك المنهج الاهتداء إليها في مجال الغدد «الصماء». هذه الغدد، - كما نعلم - تصب إفرازاتها في البيئة الداخلية التي تحدث فيها عن بعد تغيرات هامة كانت لا تخطر لنا على بال. (أ) المنهج الطبيعي الكيميائي في الفسيولوجيا
ذلك هو المنهج الذي وضعه هارفي، ولافوازييه ولابلاس، والذي صاغ كلودبرنار
11
قواعده النظرية، فضلا عن قيامه بأعظم تجاربه العملية، والمبادئ الأساسية لهذا المنهج هي: (1)
أن حتمية ظواهر الحياة صارمة تماما كحتمية علم الطبيعة والكيمياء. (2)
وهي من نفس الطبيعة، أعني أن المرء لا يصادف في الكائنات العضوية سوى ظواهر طبيعية وكيميائية. فالمادة الحية، كما قيل، «ذات تنظيم عضوي»، أعني أن لها تركيبها الخاص، وهذا التركيب عظيم التعقيد، ولكن عناصره هي نفس العناصر التي تكون المادة الجامدة؛ فالكربون والآزوت والهيدروجين تلعب فيها الدور الرئيسي. و«الكيمياء العضوية» إنما هي امتداد للكيمياء المعدنية أي لكيمياء الأجسام الجامدة، وليس هناك عنصر كيميائي تختص به الأجسام الحية، والتفاعلات الكيميائية التي تلاحظ أو تنتج في معمل الكيميائية، تنتج كذلك في الكائنات العضوية، وكل ما في الأمر أنها عندما تحدث في الكائن العضوي تخضع لشروط أكثر تعقيدا من ذلك، وإن كانت واحدة في حقيقتها. فمن وجهة نظر العلم الطبيعي يعد الكائن الحي «آلة»، كما قال ديكارت من قبل عن الكائن العضوي الحيواني، وعن الكائن العضوي البشري أيضا، بالقدر الذي تتشابه فيه وظائفه مع وظائف الكائن العضوي الحيواني.
وعلى هذا النحو تكون علم طبيعة كيميائي للحياة امتدت كشوفه امتدادا هائلا وتلاحقت بسرعة كبيرة. (5) أمثلة للبحوث الفسيولوجية تبين المراحل الثلاثة للمنهج
لكي نوضح خصائص المنهج في الفسيولوجيا، سنقتبس من كلودبرنار الأمثلة الآتية:
الأرانب من أكلة اللحوم: إن المثال الأول معروف مشهور وهو مثال تلك البحوث التي أثبت بها «كلودبرنار» أن الكائن العضوي للحيوانات آكلة العشب، إذا ما تعرض للصيام مدة طويلة، يتغذى من جسمه هو، ويسلك مسلك الحيوانات آكلة اللحوم. (1)
فقد أتى «كلودبرنار» لتجاربه بأرانب من السوق، وعندما تبولت هذه الأرانب على منضدة المعمل، لاحظ مندهشا أن بولها حمضي صاف، كما هي الحال في أكلة اللحوم، وليس قلويا عكرا، كما هي الحال في أكلة العشب عادة. (2)
خطر بذهنه أن هذه الحيوانات ربما كانت محرومة من الطعام منذ مدة طويلة، وأن جسمها الذي يتغذى مما فيه من مواد داخلية احتياطية، هو في حقيقته من أكلة اللحوم. (3)
كانت التجارب التي حقق بها فكرته عظيمة التنوع والطرافة، فقد أخضع الأرانب لنظام غذائي عادي، ثم منع عنها الأكل من جديد، فكان بولها يصبح مرة مماثلا لبول أكلة العشب، ومرة لبول أكلة اللحوم، وأجرى تجارب مماثلة على غيرها من أكلة العشب كالحصان مثلا، وأمكنه الوصول بالتجربة إلى «أرنب آكل للحوم» يتغذى بلحم بقر مسلوق بارد.
12
أكسيد الكربون: والمثال الثاني يتعلق بأسباب التسمم بوساطة أكسيد الكربون، وهذا المثال أكثر تعقيدا لأنه ينطوي على إخفاق مؤقت عرضه صاحب التجربة باختراع فكرة جديدة.
13 (1)
سمم كلودبرنار كلبا بوساطة أكسيد الكربون، ولما شرحه وجد أن دم الحيوان قد أصبح كله قانيا كدم الشرايين. (2)
وبدا له، لأول وهلة، أن كل الدم، حتى دم الأوردة، قد أصبح «شريانيا» أي يشتمل على شحنة من الأكسجين حال تأثير المادة السامة دون تركها في الأنسجة، واستبدال الحامض الكربوني بها. (3)
على أن التحقيق أثبت بطلان الفكرة، إذ لو كانت صحيحة لوجب أن ينتج ماء عند إضافة هيدروجين إلى الدم، ولكن هذا لم يحدث، ولم يحدث تفاعل بين الدم والهيدروجين. (4)
ولكن كلودبرنار كان قد احتاط باستخدام عينات من الدم مأخوذة من الأوردة والشرايين معا، أما أن دم الأوردة لا يحتوي على الأكسجين، فذلك أمر لا غرابة فيه، ولكنه أيضا لا يحتوي على حمض كربوني، ثم إن لونه كلون دم الشرايين، وهنا يقول كلودبرنار «لقد استنفدت عندئذ كل ما في ذهني من تخمينات.» ولكنه استقر أخيرا على الاستدلال التالي: إذا لم يكن هناك أكسجين فذلك يرجع إلى أن أكسيد الكربون قد حل محله، بحيث أصبح الدم عندئذ عاجزا عن تثبيت الأكسجين، أما مظهره الشرياني فيرجع بلا شك إلى أن أكسيد الكربون قد ثبت على الكريات الحمراء. (5)
وتمت مرحلة التجريب في الزجاج
in vitro ، أي في وعاء من الزجاج، أو بعبارة أخرى خارج الكائن العضوي، وفي بيئة من الجماد، فأخذ كلودبارنار دما شريانيا سليما وسممه في أنبوبة اختبار، وأمكنه أن يتتبع كيميائيا حلول أكسيد الكربون بالتدريج محل الأكسجين.
سم الضفدع: هناك مثال ثالث، وآخر رابع، يبينان الدور الذي يلعبه الإيمان بالحتمية في البحث التجريبي، وفي هذا يقول كلودبرنار: «إذا تمثلت في التجربة ظاهرة تبدو متناقضة إلى حد أنها لا تصبح مرتبطة ارتباطا ضروريا بشروط محددة للوجود، فينبغي للعقل أن يرفض هذه الظاهرة بوصفها ظاهرة غير علمية.»
14
فما معنى قوله هذا؟ إن الظاهرة التي تخالف الحتمية إما أن تكون علة تسبب حدوث نتيجة معينة تارة، ونتيجة أخرى تارة ثانية، كيفما اتفق، وإما أن تكون هي ذاتها معلولا ينتج تارة عن علة ما، وتارة عن علة أخرى، كيفما اتفق، وفي هذه الحالة يجب على المرء ألا يصدق ما يراه؛ فوحدة العلة في الحالة الأولى، ووحدة المعلول في الحالة الثانية، لا تعدوان أن تكونا وهميتين، ولا بد أن هناك فارقا لم نره لأن حواسنا تفتقر إلى الدقة، أو لا تتكيف مع الموقف، أو لأن التجربة لم تجر بالقدر الكافي.
15 (1)
فالظاهرة هي أن السم الذي يفرزه جلد الضفدعة السامة يقتل الضفدعة العادية بأن يوقف قلبها، ولكن لا يبدو أنه يسبب ضررا للضفدعة السامة، هذا على الرغم من أن أنسجة القلب واحدة في النوعين. (2)
فهناك إذن فارق لم نلاحظه للوهلة الأولى، ويحاول كلودبرنار العثور على هذا الفارق فلا يهتدي إليه. (3)
فلابد إذن أن التجربة لم تجر بالقدر الكافي، أي أنها لم تستغرق «الوقت» الضروري، أو لم تطبق على «الكمية» اللازمة. (4)
والواقع أن «الكمية» هي التي كانت ناقصة فيكفي أن تضاعف الجرعة حتى تقتل الضفدعة مثلما قتلت الضفدعة المعتادة.
وفي هذا المثل «يبدو» أن علة واحدة في ظاهرها تنتج المعلول دون ضرورة محتومة.
الأثير وقنوات العصارة الهضمية: فيما يلي معلول يبدو أنه ينتج دون ضرورة محتومة عن علة أو أخرى، أو يبدو الاختصار ناتجا عن غير علة: (1)
فعندما حقن كلودبرنار كلبا منع عنه الطعام بالأثير في أمعائه، وجد أن القنوات حاملة العصارة الهضمية قد ابيضت، كما لو كان الحيوان قد هضم مواد غذائية دسمة، وتلك هي الظاهرة التي لا نجد لها علة، وهي «ظاهرة ممتنعة وغير معقولة». (2)
وعلينا أن نهتدي إلى تعليل لها، وعندما فحص كلودبرنار الأدوات التي استخدمها في تجربته فحصا دقيقا، تبين له أن الأثير قد أدخل بوساطة حقنة بها دهان عالق أذابه الأثير وأدخله معه، وعلى ذلك فقد امتص الحيوان دهنا بالفعل. (3)
فإذا ما أدخلنا الأثير بأنبوبة لا أثر بها للدهن، فإن قنوات العصارة لا تبيض، وهذا ما تحقق منه بالفعل. (6) أهمية الفكرة في منهج الفسيولوجيا
من كل هذه الأمثلة، ننتهي إلى أن العملية التجريبية متشابهة في العلوم البيولوجية وفي الطبيعة الرياضية، على أن هذا التشابه يقف عند حد معين هو عدم إمكان إضفاء صورة الدالة الرياضية أو على الأقل عدم إمكان إضفائها دائما على «الفكرة» التجريبية التي تبتدع في المرحلة الثانية من مراحل البحث. وقد بذل مجهود كبير للوصول إلى هذه الغاية؛ بل إن في علم الحياة جزءا كاملا يتشكل بالصورة الرياضية. أو أن الفكرة تتشكل على الأقل بالصورة الطبيعية الكيميائية، ففكرة الدورة الدموية عند «هارفي» ميكانيكية، وفكرة الحرارة الحيوانية عند «لافوازييه» كيميائية، وكان كلودبرنار يجري تجاربه، في أغلب الأحيان، بطريقة صناعية، أعني في البيئة الجامدة كما يفعل الكيميائي.
ولقد ألح كلودبرنار في بيان أهمية «الفكرة» التي كان يسميها فكرة أولية
apriori
أو «فكرة مسبقة
préconçu » أو «فرضا» على أن كلمة «الفرض» هي الكلمة الشائعة، التي استخدمناها من قبل في الفصل السابق، أما عبارة «الفكرة الأولية» فتهدف إلى توضيح أسبقية الفكرة على التجريب، وتبين أيضا أنها اخترعت، وأنها وليدة الذهن، أي أنها من خلقه الحر الأصيل، وأما عبارة الفكرة المسبقة، فلا تدل إلا على أنها تسبق التجربة، وعلى كل حال، فنحن لا نوصي باستخدام هذين التعبيرين الأخيرين، إذ إن «الأولى
apriori » يعني - إذا شئنا الدقة - ما هو مستقل عن التجربة، والفكرة المسبقة
idée préconçu
هي نوع من التحيز الذي يشوه الملاحظة.
هذا إلى أن كلودبرنار نفسه قد فطن إلى ما يؤدي إليه استخدام هذا اللفظ من لبس، لأنه كتب يقول «إذا ما أجرينا التجربة دون فكرة مسبقة، فإن المرء يمضي خبط عشواء، ولكن ... إذا لاحظنا بناء على أفكار مسبقة، كانت ملاحظتنا غير سليمة.»
16
البيولوجيا (علم الحياة) (7) التاريخ الطبيعي هو الصورة الأولى للبيولوجيا
عندما عددنا علوم الحياة تركنا عامدين مجموعة كاملة من العلوم التي يمكننا أن نسميها بالعلوم العينية
sciences concrètes
وذلك إذا استخدمنا مصطلح أوجست كونت، ونحن نعلم أن كونت كان يطلق اسم العلوم العينية على تلك العلوم التي تتخذ الموجودات موضوعا لها، في مقابل العلوم المجردة، التي تتخذ من «القوانين» موضوعا؛ فالفسيولوجيا تدرس الحياة، أما التاريخ الطبيعي فيدرس «الأحياء».
17
والهدف المنشود للبحث في التاريخ الطبيعي هو تفسير الفروق بين الأحياء، لا قانونها المشترك، الذي هو الحياة. فدراسة التنفس بوجه عام تنتمي إلى مجال الفسيولوجيا. حقا إن المرء لا ينظر إلى الأمر من وجهة النظر التجريبية هذه أبدا، وإنما يدرس التنفس في «الإنسان» مثلا، ولكن هذا راجع إلى أننا نختار الإنسان بوصفه أكثر الحيوانات تعقيدا، ولأنه - كما ينبغي لنا أن نعترف - أكثرها أهمية بالنسبة إلينا، ولكن المرء على استعداد للتعميم دائما. فالتفرقة بين الحيوانات، أو التمييز مثلا بين التنفس عن طريق الرئتين والتنفس عن طريق الخياشيم، معناه التطرق إلى مجال التاريخ الطبيعي.
ومن المفهوم أن التاريخ الطبيعي قد بدأ بإعداد مجموعات، وقد قام أرسطو نفسه بمثل هذا العمل، مثال ذلك أن نعد مجموعات للنباتات الحية أو المجففة (كالحدائق النباتية أو حدائق المزروعات والأعشاب) إلخ، أو حيوانات حية (كبيوت الحيوانات المستأنسة أو أقفاص الطيور) أو حيوانات محفوظة في حالة «طبيعية» بطرق متباينة (كالحيوانات الكبيرة المحنطة، والحشرات المحفوظة في صناديق، والحيات والقواقع المحفوظة في الكحول) أو مجموعات من الرسوم أو الوثائق.
التصنيف الطبيعي: والمرحلة التالية هي أن يحاول المرء تنظيم هذه الثروة الضخمة، فيجمع الحيوانات والنباتات تبعا لما بينها من أوجه الشبه والاختلاف وهذا ما يسمى بالتصنيف، ولقد حاول بعضهم جعل هذا التصنيف طبيعيا (ظهور «التنظيمات الطبيعية
naturae systemata » في القرنين السابع عشر والثامن عشر: كأبحاث لينيه
Linné
وجوسييه
Jussieu
إلخ) ذلك لأنهم كانوا يفترضون أن هناك خطة طبيعية للتصنيف، نظرا لأن الأحياء تتشابه وتختلف وفقا لطريقة منظمة.
وإذن فقد بدأ التاريخ الطبيعي في هذه المرحلة كما لو كان تصنيفا للأحياء أقرب ما يكون إلى الطبيعة. فتفسير كائن حي هو ربطه بنوعه، ثم إدراج هذا النوع تحت جنس أعم، حتى الفروع الرئيسية لمملكة الأحياء. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن التاريخ الطبيعي يفرض على مجموعة الأحياء نسقا من «الأفكار»، وينحصر التفسير في ربط كل كائن حي بفكرة في هذا النسق، وذلك بعينه هو ما أسماه كونت «بالتفسير الميتافيزيقي» إذ إن قوام هذا التفسير الأخير هو أن نحدد سبب وجود ظاهرة ما بأنه فكرة ما، أو بأنه كيان عقلي (تجريد مشخص) على حد تعبيره. (8) مذهب التطور هو تطبيق للمنهج الوضعي على البيولوجيا
في مستهل القرن التاسع عشر، وعلى وجه التحديد في عام 1800م
18
انتقل التاريخ الطبيعي من المرحلة الميتافيزيقية إلى المرحلة الوضعية على يد لامارك
Lamarck . ولقد أمكن تجاوز التفسير الميتافيزيقي، والقضاء عليه في نهاية الأمر: (1)
عن طريق تقدمه الخاص، فقد تبين للعلماء أن المجموعات تظهر بينها مجموعات متوسطة يزداد عددها بالتدريج، وتوحي بفكرة الاتصال وبالتالي بفكرة القرابة قطعا. (2)
وعن طريق نمو علم الحيوانات المنقرضة
paléontologie
والمقصود بهذا الاسم دراسة الأشكال الحية للحفريات، المعاصرة للعصور الجيولوجية السحيقة في القدم والتي ظلت باقية بصور مختلفة.
فمنذ القرن السادس عشر نجد «برنار باليسي
Bernard Palissy » مهتما بالحفريات، وفي القرن السابع عشر، نرى ليبنتز، الذي كان يهتم بكل شيء، لا سيما بما يوضح تنوع الكون واتصاله، قد لفت الأنظار إلى الحفريات.
19
ولا شك أن تصنيف الحفريات يقوي هذه الفكرة التي نكونها لأنفسنا نتيجة لتقدم تصنيف الأحياء الحالية، وأعني بها فكرة وجود قرابة واتصال بين الأنواع الحية. (3)
وقد ابتدع مربو الحيوان والبستانيون والزراع، وحسنوا منذ ألوف السنين، وسائل عملية تؤدي إلى خلق نماذج فرعية، وربما أنواع
20
كالقمح، ونباتات الزينة، والحيوانات المستأنسة والأنواع المتأقلمة. وهذه كلها أشكال حصل عليها الإنسان وخلقها.
فإذا ما وضعنا هذا كله في حسباننا، ألفينا التاريخ الطبيعي يتخذ طابعا مغايرا؛ فهو يبدو في صورة «تاريخية» بالمعنى الصحيح، أي أنه يروي قصة «تاريخ» ويرسم «جغرافية» الأنواع الحية، بدلا من أن يكتفي بوضع قائمة لها وفقا لنسق من الحقائق الأزلية، وبعبارة أخرى، فهو يعيد تأليف «شجرة نسب» الأنواع، مع ربطها بالبيئة الجغرافية (كالمناخ والمسكن والظروف) وإذن فهو يصور الأنواع من حيث خضوعها للزمان وللعلية والمكان، لا وفقا لمعان أزلية.
والنتيجة التي تستخلص من هذه الفكرة الجديدة هي أن الأنواع الحية، لما كانت معلولات ونتائج للبيئة وللسوابق في آن واحد، فمن الضروري أن تتغير كلما اقتضى ذلك تأثير السوابق والبيئة. وإذن يجب ألا نتصورها بعد الآن كما لو كانت ثابتة؛ بل يجب النظر إليها على أنها قابلة للتحول. هذه النتيجة للنظرية هي أكثر عناصرها الباقية شيوعا وأبلغها دلالة على النظرية، ومنها استمد الاسم المعروف لهذه النظرية: مذهب التطور. (9) لامارك وأتباعه المحدثون
بدأ مذهب التطور في أول الأمر في صورة النظرية، أو بتعبير أدق، في صورة مجموعة من النظريات أهمها تلك التي تقدم بها «لامارك ودارون».
لامارك: كان لامارك
21
عالما للنبات وأحد الذين اشتركوا في «دائرة المعارف
encyclopedie »، ثم أصبح في سنة 1795م أستاذا لعلم الحيوان في فرع اللافقاريات بالمتحف، ويمكننا اعتباره تلميذا لبيفون
Buffon
22
ومكملا له. وقد تجلى تأثير بيفون في تفكيره عندما اقتنع تماما بتلك الفكرة القائلة إنه ليس هناك تصنيف طبيعي بمعنى الكلمة: وهي في ذاتها فكرة تنطوي - سلبيا على الأقل - على مذهب التحول، وذلك لأنها تعني أن الطبيعة تجهل تقسيم الكائنات إلى أنواع وأجناس، وأن المرء لا يستطيع تبعا لذلك أن يهتدي فيها إلا إلى سلالات متعاقبة، أي علاقات سببية. ومع ذلك، تظل لتصنيف الأحياء قيمة نسبية مؤقتة، ولقد صحح «لامارك» ذلك التصنيف الذي قسم لينيه (
Linné ) فيه الحيوانات إلى (ثدييات، وطيور، وبرمائيات، وأسماك، وحشرات وديدان) فجمع الأربعة الأولى في نوع واحد، هو «الفقريات» بينما أقحم بين النوعين الأخيرين أنواعا أخرى هي اللاحشوية (
Coelentéré )، والشوكيات (
échinoderms ) وميز القشريات (
crustacés ) والعناكب (
arachnides ) من الحشرات فكرة السلسلة، ولما أصبح هذا التصنيف أكثر توازنا وتعقيدا على هذا النحو، أوحى إليه بفكرة وجود سلم متصل للأحياء، أي «سلسلة متفرعة» كما أسماها، يحتل الإنسان قمتها، أما بقية الحيوانات فتمثل الأشكال التي تقترب منه تباعا، ولكي نصل إلى مذهب التحول يكفينا التسليم بأن هذه الأشكال تعبر عن مراحل لطريق واحد سلك بالفعل، وبهذا تكون القائمة المنظمة للأجناس قد عبرت «شجرة نسب» الحياة.
التكيف مع البيئة: ويبقى علينا أن نعرف العلة التي أدت إلى التحول، فإذا قارنا بين نماذج معينة لحيوانات متقاربة، ولكنها متباينة، كالصقر والقادوس (
Albatros )، والبجعة والنعامة، والسنجاب وثعلب البحر، والكلب والدلفين (
) وجدنا أن الفارق يرجع إلى التكيف مع البيئة، وتلك هي الفكرة الرئيسية في مذهب «لامارك». (أ) ضمور الأعضاء أو نموها
ومع ذلك، فالتكيف يمكن أن يفهم بمعنيين مختلفين (1)
بمعنى الغائية: بل بمعنى «العناية الإلهية»، إذ إن الكائنات الحية قد أصبحت قادرة على الانتفاع من البيئة بفضل الطبيعة أو الله، ولكن لامارك، الذي كان من فلاسفة دائرة المعارف، لا يقبل هذا التفسير. (2)
والمعنى الثاني هو معنى «العلية». فالطبيعة قد أثرت في الكائنات الحية لكي تجعلها متلائمة معها، أو على الأصح، سلكت الكائنات الحية مسلكا يكفل لها الانتفاع بالبيئة (بأن تعوم بدلا من أن تسير مثلا) ونتج عن ذلك أن نمت أو ضمرت لديها أعضاء معينة، بتأثير التعود، أو بتأثير عدم التدريب.
مثال الزرافة: وهاك مثالا دقيقا؛ فالزرافة (
comelo pardalis ) تحيا في بيئات تجبرها فيها الأرض التي تكاد تكون مجدبة وخالية من العشب دائما على قضم أوراق الأشجار، وعلى محاولة الوصول إليها باستمرار، ونتج عن هذه العادة التي استمرت لدى كل أفراد جنس الزراف زمنا طويلا، أن أصبحت رجلاها الأماميتان أطول من الخلفيتين، وطالت رقبتها إلى حد أنها تستطيع، دون الوقوف على رجليها الخلفيتين، أن ترفع رأسها وتصل إلى ارتفاع ستة أمتار (حوالي عشرين قدما).
23
وراثة الصفات المكتسبة: ولكي يكمل التفسير، يجب التسليم بأن كل زيادة أو ضمور في الأعضاء تنقل بالوراثة (وهذا ما يسمى بوراثة الصفات المكتسبة).
تلك هي آراء لامارك الأساسية: اتصال الكائنات العضوية في السلسلة، والتكيف بالبيئة باستخدام الأعضاء أو عدم استخدامها، ووراثة الصفات المكتسبة.
كوب
cope : وقد ترددت هذه الآراء لدى «أتباع لامارك المحدثين» أي لدى أتباع مذهب التحول الذين اتخذوا مذهب لامارك مصدر وحي لهم بعده بخمسين عاما، ومنهم العالم الأمريكي كوب
24
الذي فسر نشأة العمود الفقري عن طريق رواسب معدنية تنفذ إلى أنسجة العضلات، ثم تشكلها حركات الحيوان، مثلما تتخذ أكمام الثوب شكلها من حركات الذراع. (10) مذهب دارون
بلغ دارون
25
مرحلة النضج بعد لامارك بحوالي نصف قرن، وفي ظروف مغايرة تماما؛ فقد كان لامارك أستاذا في المتحف، أما دارون فكان عالما طبيعيا رحالة، ولقد لاحظ دارون في «شيلي» أنواعا حيوانية واضحة التقارب، ولكنها تختلف من حيث مواطنها، أي الأرض التي تعيش فيها، فربط بينها وبين أنواع الحفريات التي اهتدى إليها في باطن الأرض. فأقنعته هذه الملاحظات، التي أجراها بوصفه عالما للأحياء ورحالة، بصحة فكرة التطور. ومما ساعد أيضا على قبوله هذه الفكرة، وجود نوع من التقاليد العائلية كان يوحى إليه بها؛ فقد كان جده «إرازموس دارون» من علماء الأجنة ، وهذا النوع من العلماء المشرحين يعد تغير النوع حقيقة مجربة، إذ إن الجنين ينتقل خلال نموه انتقالا ملحوظا من نمط إلى نمط آخر مختلف عنه كل الاختلاف، ولكن دارون كان أكثر حذرا من أن يطبق أفكار جده بحذافيرها على تكون الأنماط الحية بوجه عام، وإنما أراد أن يعرف أولا «كيف» تتطور الأنواع.
الانتقاء الطبيعي: وعندما عاد إلى إنجلترا، قرر أن يلاحظ التحولات التجريبية التي يمكن الوصول إليها بأساليب التربية البشرية، وبدا له أنها ناتجة عن «انتقاء»، والانتقاء طريقة تعزل بها التغيرات العرضية التي نهتم بها، مع استبعاد بقية التغيرات. ومثال ذلك ما يفعله مربي القطط حين لا يستبقي لديه من السلالة إلا القطط السوداء، ويقضي على الأخرى فهل يعني ذلك أن الطبيعة تسلك هذا النحو ذاته؟ لقد ظل دارون يفكر في إجابة عن هذا السؤال مدة طويلة، إلى أن كان يوم قرأ فيه كتاب المفكر الاقتصادي الإنجليزي مالتوس (
Malthus ) ووجد فيه أنه بينما تزداد موارد العيش تبعا لمتوالية حسابية، فإن الناس يتزايدون بمتوالية هندسية، أي أنهم يتزايدون بسرعة أكبر بكثير. لكن إذا كان قانون مالتوس ينطبق على الكائنات البشرية بطريقة غير مؤكدة، فإنه ينطبق بطريقة مؤكدة تماما على ما يعمر الأقاليم الجغرافية من الحيوانات والنباتات، وقام دارون بعملية حسابية، أساسها متوسط قدرة الأنواع على التكاثر، فأدرك أننا، حتى لو نظرنا إلى الأنواع القليلة النسل (كالفيلة مثلا) لوصلنا سريعا إلى زيادة مريعة، على أن الطبيعة عاجزة ؛ بل هي عاجزة تماما، عن تقديم الغذاء لكل ما يولد، وإذن فهناك انتقاء آلي، هو «الانتقاء الطبيعي» وهو قانون للطبيعة، وليس إجراء صناعيا مقصودا.
وعند دارون أن سبب التحول هو الآتي: فكلما ولد كائن حي، حدث «فارق عرضي» وفي «التنافس الحيوي» الذي تدخل فيه بالطبع الكائنات التي تنتمي إلى نوع واحد تعيش أفراده معا، فيضطرون إلى التغذي من نفس الإقليم، ومن نفس الأغذية، وبمقادير غير كافية؛ في هذا التنافس قد يكون ذلك الفارق العرضي أمرا ضارا أو نافعا. فإذا كان ضارا، أدى ذلك إلى القضاء على الكائن الذي يحل فيه، وإن كان نافعا، استمر الكائن في البقاء، وتكاثر، ونقل الاستعداد للتنوع على هذا النحو، وهو الاستعداد الذي كان فطريا لديه. فالفارق العرضي الموروث، والانتقاء الطبيعي (بقاء الأصلح، والقضاء على الآخرين بتأثير التنافس الحيوي). هذه هي الأفكار الرئيسية في مذهب دارون.
مثال الزرافة: من حسن الحظ أن لدينا تفسيرا طبقه دارون على نفس المثال الذي تحدث عنه لامارك، وإذن فمن الطبيعي جدا أن يكون التفسيران تضادا ثنائيا. وفي هذا يقول دارون: (إن ارتفاع قامة الزرافة، وطول رقبتها، ورجليها الأماميتين، ورأسها ولسانها، يجعل منها حيوانا يتكيف على أفضل نحو مع البيئة لقضم أعلى أغصان الأشجار، وبهذا يمكنها الوصول إلى أنواع من الغذاء بعيدة عن متناول غيرها من الحيوانات ذات الحوافر التي تسكن نفس الإقليم، ولا شك في أن هذا يحقق لها مزايا كبرى في أوقات القحط ... ولو تأملنا الزرافة المولودة، في حالة التوحش الأولى، لوجدنا أن أعلى الأفراد قامة وأقدرهم على القضم من ارتفاع يعلو على ارتفاع الآخرين شبرا أو شبرين، هم الذين أمكنهم الاستمرار في البقاء في وقت المجاعة، إذ كانوا يجوبون الإقليم كله من أقصاه إلى أقصاه بحثا عن الغذاء، وأدى امتزاجهم إلى إنتاج ذرية ورث أفرادها الخصائص الجسمية، أو الميل إلى السير في نفس اتجاه التغير، بينما تعرض الأفراد الذين لم يصلوا إلى نفس درجة التكيف في نفس هذه الظروف للفناء.
26 (أ) الصعوبات التي تواجهها نظرية التطور عند لامارك وعند دارون
بقي علينا أن نعرف أيهما كان على حق: لامارك أم دارون.
إخفاق نظرية لامارك: توقفت نظرية لامارك في التطور فورا عند عقبة كأداء؛ فالتغيرات التي تكتسب خلال حياة الكائن لا تنقل بالوراثة، أي أن «المكتسب لا يورث» كما يقول التعبير الشائع، ولقد أجريت في هذا الصدد تجارب متعددة، ولكن لم يثبت من واحدة منها إمكان انتقال تغير مثلا، أو عادة مكتسبة. فالاستعدادات والميول والتكيفات الموروثة هي وحدها التي تنقل.
نظرية فيسمان
Weismann : قام فيسمان، وهو من الدارونيين المحدثين الألمان، بترجمة هذا القانون وتفسيره عن طريق النظرية المشهورة في استمرار بلازما التوالد
continuité du plasma germinatif (1885)،
27
وبلازما التوالد هي مجموع الخلايا الجنسية، المذكرة المؤنثة التي تؤدي إلى وجود الكائن الجديد، عندما «تبذر»، ولهذه الخلايا طابع مزدوج: (1)
فلديها القدرة على إنتاج الكائن العضوي بأكمله. وهي وحدها، التي تتميز بهذه القدرة، أما بقية خلايا الجسم، المسماة بالخلايا السوماتية (الجسمية
Somatiques ) فلا تنتج على الأكثر إلا جزءا من نفس النسيج الذي تنتمي إليه (كما في حالة اندمال الجروح، والترقيع الحيواني). (2)
وهي تتميز ثانيا بأنها تحمل خصائص الوراثة، فمن أين أتت هذه الميزة «للبذرة»؟ أهي ترجع إلى نوع من التفويض من قبل الكائن العضوي بأكمله؟ وهل هذا التفويض - إذا صح - يتجسم في دقائق تسمى بالبراعم
gemmules ، تتوزع على الجسم بأكمله، وتتجمع في البذرة؟ إن أحدا لم يلاحظ من قبل مثل هذا التجمع، كما أن «البراعم» الجسمية هذه كيانات لا وجود لها إلا في الذهن، والأصح من ذلك أن نفترض أن خلايا التوالد لا تأتي من جسم الفرد؛ بل من بذرة السلالة نفسها. فعند كل ميلاد، يكون هناك جزء من «البذور» الخاصة يحتوي على الخلية الأم، ولا يستخدم في تركيب الكائن العضوي الجديد، وإنما يحفظ احتياطيا دون أن يطرأ عليه تعديل، ليكون «البذرة الجديدة». وتستمر خلايا التوالد في الأجيال المتعاقبة، وتكون من مادة واحدة، ومن تركيب جسيمي واحد، وإذن فعلينا، تبعا لهذه النظرية الطموح، أن نتصور تعاقب الأجيال في صورة بلازما التي تظل مستمرة في الوجود دائما، والتي تنضم إليها، عند نموها، الخصائص الجسمية للفرد في كل جيل. وإذن فالوراثة تنتقل من الجنس إلى الأفراد المتعاقبين، لا من فرد إلى فرد، ولا شك في أن هناك ردود أفعال تحدث من جانب الفرد على «البذور»؛ فهناك مثلا أمراض جرثومية معينة، أو أنواع من التسمم المكتسب قابلة للانتقال، ولكن عددها ضئيل. ثم إن ما يورث في هذه الحالة، كما قال برجسون، ليس هو «الصفة» وإنما «الانحراف» الذي يتجسم في صورة ميكروب أو مادة سامة أصابت الجسم، وبالتالي تصاب البذرة بالعدوى عن طريق الاتصال المباشر.
28
فالواجب إذن أن نفسر التحول بأنه قدرة تصف بها البذرة الجماعية، وتلك نقطة مقررة في هذا الموضوع، بحيث أصبح مذهب دارون في شكله الحديث هو الذي يمثل مذهب التطور في صورته الحالية.
ولقد نشب منذ عدة سنوات جدال عنيف بين علماء الأحياء الذين يرفضون فكرة الوراثة المكتسبة، وبين مدرسة روسية (هي مدرسة متشورين
Mitchourine ) التي تؤكد وجود طفرات ملحوظة، بحيث إن الصفات المكتسبة يمكن أن تصبح متوارثة بفضل طفرات موجهة. فمذهب متشورين، على حد تعبير كولد شارل ماتون
Claude Charles Mathon
يرفض مبدأ استقلال الجسم عن البذرة. وفي هذا كتب أحد تلاميذ «متشورين»، وهو ليسنكو
Lyssenko
يقول: «إن التغيرات الوراثية واكتساب خصائص جديدة، وتدعيم هذه الخصائص، وكذلك تراكمها في سلسلة من الأجيال المتلاحقة، كل هذه تتحدد دائما تبعا لظروف حياة الكائن العضوي.»
29 (ب) الصعاب التي تواجه مذهب دارون
من المهم ألا ننسى أن مذهب التطور يتعين عليه، لكي يظل سائرا في الطريق الذي اختطه دارون، أن ينظر إلى هذه القدرة على التغير على أنها تسلك أي اتجاه كان، بحيث إن الانتقاء الطبيعي هو وحده الذي يوجهها في الوجهة الملائمة، ولكن ما عسى أن تكون نسبة احتمال التغير الملائم عندئذ؟ إنها بلا شك نسبة ضئيلة جدا، لا سيما أن هذا التطور لن تكون له فائدة إلا إذا كان مشتملا على عدد معين؛ بل على عدد كبير من التغيرات التي تتجه كلها نحو هدف واحد، فمثلا: ما قيمة اكتساب بلورية العين بغير شبكية، أو شبكية بغير بلورية؛ بل ما فائدة وجود عين بدون الأفعال المنعكسة التي تعين على استخدامها؟ لقد شعر دارون نفسه بهذه الصعوبة، ولهذا اعترف بأن التغيرات كانت لا بد ضعيفة في البداية، حتى لا يكون ضررها أكبر من نفعها. ومع ذلك، فلنا أن نتساءل عما يتبقى لها من قيمة إذا كانت ضعيفة، وكيف يتسنى للانتفاء أن يثبتها. (ج) الطفرات
وهكذا اضطر الباحثون إلى تصور حدوث تغيرات قوية مفاجئة، وهي التي أسماها «دارون» بالسورات
Sports
والتي تسمى اليوم طفرات
mutations . ولقد أشار دي فريس
De Vries
وهو عالم هولندي ينتمي إلى المذهب الدارويني الحديث إلى وجود طفرات كهذه في نبات قريب من «الفوكسيا»
fuchsia ، اسمه
Densthera amarckiana ، وهذه الطفرات قد أصبحت اليوم موضوع بحث العلماء. ولكنها لا تخفف من الصعوبة؛ بل الأمر على عكس ذلك، لأنها لو كانت عرضية لكان يخشى منها أن تكون ضارة، وأن تنتج مسوخا
30
لا تستطيع الحياة.
وهكذا يواجه مذهب التطور عند دارون أو لامارك عقبات لا سبيل إلى الغلبة عليها. فهو يصطدم، عند لامارك بالتجربة، وعند دارون بعدم الاحتمال. فهل يعني هذا إخفاق مذهب التطور ذاته؟
هذا ما ظنه البعض.
31
ولكن ينبغي لنا أن نميز بين نظرية التطور والمنهج التطوري. فإذا كانت النظرية التطورية تتخبط اليوم في الصعاب التي أوضحناها، فقد تبقى لدينا المنهج التطوري. (11) ما تبقى من مذهب التطور: المنهج التطوري
إن المنهج التطوري اليوم هو المنهج المتبع في علم حل محل التاريخ ويسمى بالبيولوجيا (وهو لفظ صاغه لامارك في 1802م).
هذا المنهج ينحصر في: (1)
تفسير أصل الأنواع الحية عن طريق السلالة التي تنتمي إليها، والبيئة التي تنشأ فيها، لا عن طريق مرتبتها في التصنيف. وليس معنى ذلك أن التصنيف يختفي؛ بل يظل باقيا، ويكون موضوعا لذلك القسم من البيولوجيا المسمى «تصنيف الأنواع
la Systématique ». ولكن التصنيف قد قلت أهميته كثيرا، ولم يعد له من قيمة سوى تثبيت المصطلح اللفظي، والتمهيد لإدماج الأنواع في شجرة النسب، وهذا الإدماج هو بالاختصار الهدف النهائي للبيولوجيا. (2)
توجيه الأبحاث على نحو يؤدي إلى تكوين تاريخ وجغرافية للحياة: (أ) فهناك سلسلة من الأبحاث تهدف إلى إعادة تصور التسلسل التاريخي بين الأشكال، وإلى تحديد صبغة قوانين التعاقب بقدر ما يكون ذلك ممكنا (علم الأحياء المنقرضة
). (أ) الوثبة الحيوية
l’élan vital
كان تأثير برجسون هائلا في هذه الأبحاث. فقد كان مقتنعا بصحة نظرية «فيسمان»، وفي الوقت ذاته كان يدرك أن مذهب دارون في صورته الأصلية وفروعه الحديثة غير كاف، فأكمل هذا المذهب بنظرية ميتافيزيقية استخدمها علماء الحياة بعد أن حولوها إلى منهج بيولوجي. تلك هي نظرية «الوثبة الحيوية».
32
ويطلق برجسون اسم الوثبة الحيوية على دفعة مبدئية، ذات طبيعة روحية، تشبه إلهام الفنان؛ بل تشبه الفيض الصوفي، تبعث المادة وتعدها للخلق، وتدفعها إلى قبول الحياة أولا، ثم إلى إنتاج أنواع أكثر تحررا من الجمود الأول، حتى تنتهي إلى النوع الإنساني الذي يتوقف عليه المستقبل الروحي لهذا الكوكب. ومن الواضح أن مذهبا من هذا القبيل لا يمكن أن ينقل كما هو إلى مجال البيولوجيا. ولكن علماء البيولوجيا استبقوا منه ما يلي: إن هناك «قوة» تسيطر على التغيرات التي تطرأ على الحياة، وهي قوة لا تحددها غايتها؛ بل يحددها ما تتجه إليه من تباعد متزايد عن نقطة البدء، وهي تسيطر على كل صور الحياة. وهاك ما صنع علماء البيولوجيا بهذه الفكرة: فهناك قانون للتعاقب، يحدد ظهور الأنماط البيولوجية. فنحن نرى مثلا أن العضو الواحد (وهو العين، في المثل الذي ضربه برجسون) ينمو «عن طريق عمليات في التكوين الجنيني مختلفة كل الاختلاف.»
33
وذلك في الفروع المختلفة لشجرة النسب (وهنا كان برجسون يقارن بين العين عند الفقريات والعين عند اللافقريات). (ب) وهناك سلسلة أخرى من الأبحاث تحدد موقع الكائنات الحية على هذا الكوكب، وتحدد مدى ارتباطها بالإقليم الجغرافي الذي تحيا فيه، وتحاول رسم خطوط الهجرة التي سبق أن مرت بها (الجغرافيا الحيوية
Biogeographie ). (3)
والأساس الأخير للمنهج التطوري هو إدخال المنهج التجريبي الإيجابي في البيولوجيا. فقد كان علماء التاريخ الطبيعي السابقون يقفون عند حد الجمع والتصنيف، أما علماء الحياة في أيامنا هذه فهم أصحاب تجارب قبل كل شيء. (12) البيولوجيا الحالية تشتمل أساسا على علم الأجنة والوراثة
إن المشكلة الكبرى في البيولوجيا تنحصر في تحديد شجرة نسب الأنواع الحيوانية والنباتية، وحول هذه المشكلة تدور مسألتان أخريان أدى تأثير هذه المشكلة إلى تجديد البحث فيهما، وهما: (1)
دراسة تطور الجنين، وهو موضوع علم الأجنة
Embryologie
وهذه الدراسة قديمة جدا، ولكنها تجددت بوساطة مذهب التطور أولا حوالي 1865م، ثم تجددت مرة أخرى في 1900م بعد أن أدخل عليها المنهج التجريبي الإيجابي، وهو المنهج الذي يهدف إلى تعديل تطور الجنين عن طريق التدخل القائم على التجربة (طرق الشطر
Segmentation
والترقيع والتلقيح التجريبي).
ولقد أحرزت طرق الترقيع البيولوجي في هذه السنوات الأخيرة تقدما هائلا، ويقول جان روستان
Jean Rostand
34
بأن من الضروري التمييز بين أنواع مختلفة من الترقيع؛ فقد يدمج العضو الذي يستخدم في الترقيع في نفس الكائن العضوي الذي أتى منه الترقيع الذاتي
autograffe ) أو في كائن عضو آخر ينتمي إلى نفس النوع (الترقيع المتجانس
homogreffe ) أو من كائن عضوي من نوع مختلف (الترقيع المتغاير
hétérogreffe ). فمثلا يمكن ترقيع قلب ضفدعة بقلب ضفدعة أخرى (ترقيع متجانس) أو عين سحلية بسحلية من نوع آخر (ترقيع متغاير).
ويمضي جان روستان (ص21) قائلا: «إن الترقيع الذاتي هو وحده الذي يسمح لنا بتوقيع نتائج إيجابية في حالة الإنسان.» ويستخدم الترقيع الذاتي بوجه خاص في جراحة التجميل، وذلك بنقل قطعة من جلد الذراع مثلا إلى الجبهة أو الوجنة. كذلك استخدمت طريقة الترقيع لأنسجة ميتة. وعندئذ يكون الجسم الغريب الذي استخدم في الترقيع - كما يقول جان روستان (ص26) - «دعامة، ومقوما، فتدعمه وتحييه وتعمره عناصر أصلية في الكائن.» وعلى هذا النحو أمكن ترقيع القرنيات الشفافة وإعادة قوة الإبصار إلى بعض العميان.
كذلك ترتبط الأبحاث المتعلقة بالترقيع البيولوجي بمشكلة أخرى جذبت اهتمام كثير من الباحثين منذ نصف قرن، وهي مشكلة «زرع الأنسجة»
culture des tissus
وقد أعاد جوتريه
Gautheret
إلى الأذهان في محاضرة ألقاها عام 1950م في موضوع زرع الأنسجة، الكشوف الأولى (ص6)، فقال: «في عام 1907م كان عالم الفسيولوجيا الأمريكي هاريسون قد وضع قطعة من النخاع الشوكي للضفدعة في قطرة من السائل اللمفاوي المتخثر، فوجد أنها قد أحيطت بنوع من الألياف أتت من زيادة نمو الخلايا العصبية التي بترت بعد العزل، ولم يكن في ذلك زرع للأنسجة بالمعنى الصحيح، ولكن تلك التجربة الرائعة قد فتحت طريقا يبشر بنتائج عظيمة الأهمية، وبعد بضع سنوات، استطاع بروز
Burrous
وكاريل
Carrel
الإبقاء على قدرة الخلايا على الانقسام والتكاثر في أجزاء من الأنسجة الحيوانية فترة من الزمن، وأخيرا، تمكن كاريل في 1912م، بفضل تحسين الأوساط الغذائية، من زرع الخلايا الحيوانية دون قيد أو شرط، وكان لهذا النجاح دوي كبير، إذ إن إثبات كاريل لقدرة خلايا الحيوانات المركبة على أن تحيا حياة مستقلة، قد دعم الأفكار العامة لمؤسسي نظرية الخلايا.» (2)
والمسألة الثانية، هي دراسة الوراثة، وهي موضوع «علم الوراثة
La génétique ». وقد أثيرت هذه المسألة من جديد بفضل أبحاث الراهب التشيكي مندل
Mendel
في 1865م في الأنواع المهجنة من البازلاء، وقد أحرزت نموا كبيرا في أيامنا هذه بفضل أبحاث العالم التجريبي الأمريكي مورجان
Thomas Hunt Morgan
ومساعديه (فرقة الذباب) حول ذبابة الفاكهة (
drosophile ). والفكرة التي يقول بها علماء الوراثة المعاصرون هي أن الصفات الوراثية (كلون العينين وقابلية الإصابة بأمراض معينة، والصفات الخاصة للأعضاء ... إلخ) تحملها المورثات
gènes
وهي دقائق ترى بصعوبة في أكبر أنواع المجهر (
ultra-microscope ) وتحتوي على صبغيات (
chromosomes ) نواة خلية التوالد.
وكل ما في الأمر هو أن هذه النظرية لو صحت لتعرضت نظريات التطور من جرائها لمواجهة صعوبات جديدة. فإذا كانت الخصائص ترتبط بالمورثات، وتنقل بوساطتها عن طريق بلازما التوالد، فكيف يمكننا أن نتصور حدوث تطور في النوع، أعني ظهور صفات جديدة كل الجدة؟ إن الحتمية التي يفترضها علم الوراثة هي حتمية «محافظة»، تفسر كل تجديد بظهور تجمع غير متوقع بين العناصر النوعية، ولكن التجمع غير المتوقع ليس تجديدا بالمعنى الصحيح، وما هو إلا تجديد ظاهري، فهو تجديد لمزيج لم نحسب له حسابا من قبل. أضف إلى ذلك أن هذا الفرض لا يساعدنا على فهم تأثير البيئة.
ومع ذلك، يجب القول إن علم الوراثة لا زال حديثا جدا، وإن الفرض القائل بالمورثات مفرط في بساطته وجموده، بحيث لا يعد الفرض الصحيح . هذا إلى أن الفكرة القائلة بأن الصفة تحملها إحدى الدقائق المادية، فكرة غامضة إلى أبعد حد، ولن تتضح بجلاء إلا إذا أصبح لها معنى طبيعي كيمائي: فمن المحتمل أن المورثات تؤثر عن طريق تفاعلات كيميائية في خلايا التوالد، وهذه التفاعلات يعدلها تأثير البيئة. ومن جهة أخرى، فمن الممكن كذلك أن تعدل صفات المورثات ذاتها بمضي الوقت في اتجاه محدد.
الفصل التاسع
العلوم الإنسانية
العلوم الإنسانية تدرس الإنسان من حيث هو فرد، ومن حيث هو عضو في جماعة في آن معا. وهي تواجه صعوبات خاصة، تلخص كلها في التضاد ما بين الحتمية وحرية الاختيار، كما ترجع إلى تباين هذه العلوم (علم النفس، التاريخ، علم الاجتماع).
الطابع الوضعي للعلوم الإنسانية (1) العلوم الإنسانية
منذ أن قال سقراط كلمته المشهورة «اعرف نفسك» أصبح التفكير في الإنسان من المهام التي يوجه إليها الفيلسوف عنايته على الدوام. ولكن، بازدياد شعور العلم باستقلاله وبإمكانياته، نمت فكرة وضع علوم إنسانية موازية لعلوم الطبيعة، تشترك معها في الروح على الأقل، إن لم يكن في المنهج. وكثيرا ما كانت هذه العلوم تسمى بالعلوم الأخلاقية
morales
حيث يقصد بالأخلاقي، العقلي في مقابل المادي. ولكن التسمية المفضلة اليوم هي «العلوم الإنسانية» وذلك حتى يتجنب الباحث الجزم مقدما بالتمييز ما بين الفعلي والمادي. كما كان من الممكن أن يطلق عليها اسم «الأنثروبولوجيا» (علم الإنسان)، لولا أن هذا اللفظ قد استحوذ عليه مبحث خاص يهتم، قبل كل شيء، بمعالجة مشكلة التركيب المادي للإنسان وبمشكلة الأجناس بوجه خاص، وإن كانت هذه المشكلة الأخيرة لم تعد من المشكلات التي لها أهميتها في الوقت الحاضر. •••
والعلوم الإنسانية على كثرتها - التي سنتحدث عنها فيما بعد - تنقسم عادة إلى ثلاثة أقسام كبرى: فعلم النفس يدرس الإنسان من حيث هو فرد، ويبحث في أفعاله وأفكاره وعواطفه، وما يكونه وما يفعله. وفي وسعنا أن نضم إليه علم الحياة البشري، وهو العلم الذي ظهرت فكرته منذ وقت قريب، للدلالة على السلوك الفسيولوجي والمرضي للإنسان ليس مماثلا من كل وجه لسلوك الأحياء الأخرى. والتاريخ يدرس ماضي البشر، والحوادث التي تتحكم فيه، والمنطق الذي يتكشف عنه خلال تطوره (إن كان في هذا التطور منطق). ووجهة نظر التاريخ مختلفة عنها في علم النفس، فالتاريخ في بحثه للفرد لا يهدف إلى معرفته من حيث هو فرد؛ بل يرمي إلى فهمه بالنسبة إلى موقف تاريخي معين، وفهم هذا الموقف ذاته من خلاله. أما علم الاجتماع فيلتزم معالجة الأمور من خلال هذا المنظور الجديد، فهو غالبا ما يدع العنصر الفردي جانبا لكي يدرس العنصر الاجتماعي، أعني أوجه النشاط والأفعال البشرية من حيث أن لها، بطبيعتها، أو في جملتها، طابعا غير فردي. وبالإضافة إلى هذا كله ، سنرى أن كلا من هذه العلوم ينقسم إلى فروع جزئية يتطلب كل منها موضوعا ومنهجا خاصا به. (2) السبب في كثرة هذه العلوم
إن كثرة العلوم الإنسانية تقتضي منا، منذ الآن، تعليقا. فلم هذه الكثرة؟ يرجع ذلك، أولا، إلى أن من طبيعة كل علم، ولا سيما علوم الطبيعة، أن يتخصص ويستقل عن غيره بقدر ما يحرز من تقدم، فمن الممكن أن يدرس الموضوع الواحد من زوايا مختلفة كل على حدة، تفي بمقتضيات وجهات نظر مختلفة، وتعبر في ذاتها عن حاجات مختلفة أو عن أساليب عملية متباينة: فكما أن الحجر يمكن أن يدرس من وجهة النظر الجيولوجية، أو الطبيعة الكيميائية، كذلك يمكن دراسة الإنسان باعتباره كائنا عضويا، أو شخصية أو محركا للتاريخ، أو فردا في مجتمع.
غير أن هذه الكثرة من الفروع لا تفي بمقتضيات كثرة وجهات النظر التي يتخذها الإنسان فحسب؛ بل ترتبط أيضا بطبيعة الإنسان، الذي لا نستطيع أن نعده شيئا كبقية الأشياء، إذ لديه القدرة على التذكر والتفكير، وهو يطالب لنفسه بمكانة الكائن الحر الذي يتحكم في نفسه، بدلا من أن تتحكم فيه عناصر خارجة عنه. وليس معنى ذلك أننا لا نستطيع النظر إلى الإنسان على أنه كائن يسيطر على حتمية العالم الخارجي، ولكن هذه الحتمية غاية في التعقيد، وتتطلب دراسة متعددة النواحي، فالإنسان يبدو كائنا لا يفهم، أو على الأقل كائنا لا تستوعب كل جوانبه. والفعل البشري الواحد يبدو بدلالات مختلفة؛ فتحول «بوليوكت
»
1
إلى الدين المسيحي قد يكون مظهرا من مظاهر مزاج متحمس للعبيد، أو عملا سياسيا، أو ناتجا عن تدخل العناية الإلهية. وقد يبحث العالم عن تفسير له في التركيب المادي لبولوكيت نفسه، أو في شخصيته، كحبه للمغامرة مثلا، أو في نوع من سوء التصرف بإزاء «بولين»، أو في الظروف التاريخية المتشابكة أو كنتيجة لتربية معينة؛ بل إن ظاهرة اجتماعية مثل الحرب، قد تفسر من حيث طبيعة السكان أو الاقتصاد، أو علم النفس، أو الحضارة، وكل هذه التفسيرات مشروعة، وكلها تبرر ظهور علوم متباينة لكن ينبغي من جانب آخر أن يكون كل علم من هذه العلوم واعيا بحدوده، وعلى استعداد للتعاون مع العلوم الأخرى. أما نزوع علم خاص إلى السيطرة والتحكم، كما يتمثل فيما سمي أحيانا بالمذهب الاجتماعي أو المذهب النفسي، فتلك ظاهرة ترجع إلى عهد البطولة الذي كان كل علم يسعى فيه إلى استبعاد بقية العلوم، أو يدعي القدرة على ضمها تحت لوائه، وهذا كله لكي يكفل لنفسه مكانا بينا لبقية العلوم.
ولكن، أليس في وسعنا أن نمضي إلى أبعد من ذلك، أعني أنه إذا كانت هناك تفسيرات متعددة للظواهر البشرية، دون أن يكون أحدها صحيحا بالأسبقية، وإذا لم يكن من الممكن بحث الإنسان في ظل حتمية بسيطة واحدة، فهلا يحق لنا أن نقول إنه ليس هناك علم خاص للإنسان؟ (3) إمكان قيام العلوم الإنسانية
ذهب البعض إلى حد إنكار إمكان قيام العلوم الإنسانية: فهل يمكن أن يكون الإنسان موضوعا للعلم، إذا كان في الوقت نفسه صانع العلم؟ وهل نستطيع أن نرجع الإنسان إلى مجرد شيء من الأشياء، دون أن نبخسه حقه تماما؟ إن المعرفة الصحيحة للإنسان قد تنتمي إلى مجال الأدب أو التفكير الفلسفي، وقد تتبدى في الحياة العملية، وفي الأساليب الفنية للتربية أو الأخلاق، وفي الحكمة السياسية. والفلسفة هي التي تنظم هذه المعرفة قبل الفلسفية، دون أن يكون لدى العلم ما يضيفه إليها.
لا شك في أن هذا النقد ينطوي على شيء جدير بالتوقف لدراسته: فمن الحق، أولا، أن الإنسان لم ينتظر ظهور العلوم الإنسانية رسميا لكي يسعى إلى معرفة الإنسان، والأدب بأسره خير شاهد على ذلك.
ثم إن علم الإنسان، متى تكون، فإنه يبدو مهددا في موضوعيته من جانبين؛ فهو يرتكز من جهة على المعرفة الذاتية والعملية المحضة التي تنطوي عليها العلاقات البشرية، والتي تنمو بنمو ما يسمى بالخبرة
expérience
وإن كانت تتفاوت أيضا تبعا لفطنة كل فرد. ومن جهة أخرى، فهذا العلم تشيع فيه فكرة معيارية تستلهم من أخلاق معينة، ولو ضمنية على الأقل. فالإنسان يوصف من خلال ما ينتظر منه، أو ما يطلب إليه؛ لأن من شأن الإنسان أننا لا نستطيع تعريفه إلا إذا حكمنا عليه. وإذا حددنا موقفنا منه وطبقنا قيما معينة في حكمنا عليه، فمعرفة الإنسان لا يمكن أبدا أن توصف بالحيدة المطلقة.
وأخيرا، فمعرفة الإنسان تقتضي وسائل ليست كلها مماثلة للوسائل التي تستخدمها علوم الطبيعة. فليس من الممكن إجراء التجارب على الإنسان كما لو كان شيئا من الأشياء، إذ إن في هذا قضاء على حياته؛ بل إن فيه انتهاكا لحرمته واغتصابا لحريته. ويبدو أنه يجب ألا يمس أعمق ما في الإنسان، وأبعد دخائله غورا، إلا بطريق تجهلها العلوم التجريبية، فضلا عن أن هذه المجالات إذا ما اقتحمت، كانت مهددة إما بأن تختفي عن أعيننا، وإما بأن تنحط قيمتها. وتذهب بعض الآراء الحديثة إلى حد القول بأن تطبيق علم خاص بالأشياء على الإنسان، هو انتهاك روحي مماثل للتعدي الجسمي الذي يتمثل في الاسترقاق أو الإرهاب.
ولكن هل يقضي هذا على كل علم إنساني؟ (4) حقيقة العلوم الإنسانية
علينا أولا أن نقرر بوضوح أن معرفة الإنسان قد أحرزت قدرا من التقدم ينبغي أن يعزى إلى العلم. فعلى حين أنه قد يكون من الضروري، في كل تفكير جديد، أن يستعاد البحث في المشكلات الميتافيزيقية المتعلقة بالموقف الإنساني والمشاكل الخاصة بالواجبات الأخلاقية مرة أخرى، فإن معرفتنا بالأصول النفسية للسلوك، بل بشروطه العضوية، قد ازدادت وضوحا. فمعرفتنا بالطفل قد تقدمت منذ رابليه
Rabelaie
ومونتني، ومعرفتنا بالمجانين قد تقدمت منذ الوقت الذي كان المجانين يحرقون فيه. كذلك أحرز التاريخ تقدما، فنحن نعرف أصول روما خيرا مما عرفها فرجيل، والحروب الصليبية على نحو أفضل مما عرفها جوانفيل
Joiniville
2
لهذا كانت الأساليب الفنية الإنسانية في تقدم هي الأخرى، سواء أكان الهدف منها توجيه اختيار أنواع النشاط، كما هي الحال في التوجيه النفسي، أم زيادة إنتاج الفرق العاملة، أم الصحة النفسية، أم تنظيم المدن. وسواء أكان تقدم هذه الأساليب الفنية يتجه إلى سعادة البشر أم شقائهم (وتلك مسألة أخرى) فإننا لا نستطيع أن ننكر هذا التقدم الذي يترتب على تقدم العلم.
هذا التقدم يحدث، قبل كل شيء في ترتيب الوقائع، بحيث تتوالى المجالات البيولوجية والنفسية والاجتماعية تبعا لهذا الترتيب. فمن المقرر أن الانفعالات يصحبها زيادة في إفراز «الأدرينالين»، وأن بعض أمراض الذاكرة تصحبها اضطرابات حركية، وأن التفكير العقلي يزداد تقدما في ظروف معينة، وبالمثل يلاحظ أن مجتمعا خاصا تكون له حضارة خاصة، وأن تقدما فنيا معينا يرتبط بظروف اجتماعية معينة، وأن نمو المدن يحدث في ظروف خاصة، ويؤدي إلى نتائج معينة بالنسبة إلى تركيب الأسرة أو العقائد الدينية. وإذن فحتى لو لم تكن معرفتنا الحالية واسعة، فلا شك أنها أوسع من معرفة أسلافنا. (5) السببية في العلوم الإنسانية
ومع ذلك، فليس يكفينا أن نكشف عن الظواهر؛ بل يجب أن نرتبها، ونوضح ضرورتها. وإنا لنعلم أنه ليس هناك ظواهر علمية إلا عن طريق القانون، وأن الظاهرة هي في ذاتها قانون. ولكن هل يمكن أن يتوصل علم الإنسان إلى قوانين؟ وهل يستطيع الاهتداء إلى تتابعات سببية؟ وهل تنطبق الحتمية على الإنسان؟ الحق أن إمكان قيام العلوم الإنسانية رهن بهذا الشرط، كما هي الحال في سائر العلوم.
والواقع أن من الممكن أن يكون الإنسان موضوعا لعلم وضعي، لأنه يمكن أن يخضع لملاحظة منهجية، ولأن سلوكه، ولو كان فرديا، ينم عن اطرادات منتظمة، وعن «صور إجمالية
schemes » (على حد تعبير برلو
Burloud ) تشهد بوجود طبيعة بشرية يمكن تعميمها، ولأن سلوكه ليس فرديا فحسب ؛ بل هو اجتماعي أيضا، ومن ثم يمكن تحديده موضوعيا على نحو ما ينبئنا علم الاجتماع، وأخيرا لأن الحرية إن كانت مضادة لعبودية الأهواء من الوجهة الأخلاقية وللقدر المحتوم من الوجهة الميتافيزيقية، فإنها لا تتنافى مطلقا مع الحتمية والتي تحاول علوم الإنسان الكشف عنها.
وسنوضح أن هذه العلوم، إذا كانت تضطرنا إلى إدخال أفكار جديدة نظرا إلى موضوعاتها، فإنها لا تتنافى مع التفسير السببي، وأنها لهذا جديرة بأن تسمى علوما. (أ)
الأحكام المعيارية والأحكام الواقعية:
مما لا شك فيه أنه يجب التسليم أولا بأن العالم لا يستطيع الوقوف من موضوع دراسته موقف عدم الاكتراث. فالإنسان يهم الإنسان ، وهو يستثير حكمه، وتحيزه، إن جاز هذا التعبير. ومن هنا كانت المعرفة في هذا الصدد تسترشد، على نحو ضمني على الأقل، بتأكيد قيم معينة. وكما أن البيولوجيا تميز بين السليم والعليل، وعلم النفس بين السوي والمريض، أو بين الإدراك الحسي الصحيح والباطل، أو الذاكرة القوية والذاكرة الضعيفة، كذلك يميز علم الاجتماع بين قوى التقدم أو التقهقر، وبين المجتمع المتوازن وغير المتوازن، وبين التركيبات الاجتماعية التي تعين على نمو الشخصية أو تعوق هذا النمو. غير أن هذه الأحكام المعيارية تضاف إلى البحث العلمي ولا تشوهه؛ فهي توجهه وتضعه في خدمة الإنسان. والعلم ينحاز إلى صف الإنسان في نفس الوقت الذي يشرع فيه في معرفته مثلما ينحاز الطبيب إلى صف المريض. ولذلك فإن المعايير التي يقابلها العلم على هذا النحو ليست تحيزات، وإنما هي تعبر عن الجهد الذي تبذله الحياة، وربما العقل، كي تبلغ كمالها في الإنسان، والجهد الذي يبذله الإنسان ليصبح إنسانيا.
وقد يقال، رغم ذلك، إن بعض المعايير التي يرجع إليها التفكير العلمي، وخاصة في التاريخ وعلم الاجتماع، هي بالفعل تعبير عن آراء العالم ذاته أكثر مما هي تعبير عن معيارية حقيقية. فإن قال المرء مثلا إن أصلح جماعة اجتماعية هي تلك التي تنتج أكبر إنتاج أو تتماسك أقوى تماسك، أو أن خير تعليم هو الأكثر حرية (بينما يرى آخرون أنه الأكثر خضوعا للسلطة )، أو أن التاريخ يتجه إلى تكوين مجتمع بلا طبقات (بينما يرى آخرون أنه يتجه إلى تكوين مجتمع يزداد تفاوتا)، فهلا تكون هذه الأحكام، سواء أكانت عملية أم أخلاقية، أحكاما شخصية تقحم في مجال تفسير الظواهر؟ الواقع أن هذه الأحكام إذا كانت تعبر عن ذاتية العالم، فإنها تعبر أيضا عن الموقف التاريخي والاجتماعي، وعن المعيارية المتعلقة بالجماعة أو المجتمع أو العصر الذي يكون العالم جزءا منه، وهذا ما تكشف عنه بالفعل الدراسة السيسولوجية لعلم الاجتماع
sociologie de la sociologie
أعني علم الاجتماع الخاص بالمعرفة، الذي يتجلى فيه تحيز العالم على أنه تعبير عن حقيقة اجتماعية. ولكن من واجب العالم بطبيعة الحال ألا يركن إلى علم الاجتماع الخاص بالمعرفة في محاولة تفسير هذه التفصيلات؛ بل يجب عليه أن يحاول التخلص منها، وألا يخلط بين معيارية المجال البشري الذي يدرسه وبين التفضيلات الخاصة التي يشعر بها نحو صورة معينة للمجتمع أو نحو مستقبل سياسي معين. (ب)
الغائية والسببية:
في هذه الحالة تعبر الأحكام المعيارية التي يصورها العالم عن قدرته على التقويم في موضوع دراسته. ومعنى ذلك أن علوم الإنسان لا تستبعد الغائية. والحق أن الحياة ذاتها، تتجه في المجال البيولوجي إلى تحقيق فرد سليم، أعني فردا قادرا على البقاء والتكيف مع العالم وتأكيد سيطرته عليه. والبيولوجيا تصف جهد التكيف هذا، وفي الوقت نفسه تستلهمه وتشارك فيه. كذلك يتجه الإنسان، من الناحية النفسية، إلى اختراع الوسائل التي تضمن له سلوكا يزداد تكيفا ونجاحا، وهو السلوك الذي تبدو بعض الرواسب أو ضروب التقهقر حالات مرضية بالنسبة إليه؛ بل إن الظاهرة المرضية ذاتها تعد صورة ممسوخة أو مشوهة لهذا الجهد. وأخيرا، فإن الجماعة الاجتماعية تتجه، هي الأخرى، إلى الاستمرار في البقاء وإلى حفظ توازنها، لا عن طريق عمليات للتنظيم الذاتي أو الإصلاح الذاتي، كما هي الحال في الكائن العضوي؛ بل عن طريق وسائل تزداد دقة على الدوام، كالتربية والإدارة ونظام الشرطة، وهي الوسائل التي تدعو الفرد إلى الاندماج في المجتمع والعمل على حفظ وجوده. وعلى هذا النحو يمكننا أن نتحدث عن غائية اجتماعية، وربما عن غائية تاريخية، وذلك إذا سلمنا بأن الصيرورة البشرية في مجال المجتمع لا الفرد، ليست نتيجة للصدف وحدها، أي لحتمية تبلغ من التشابك والتعقد حدا لا يمكن معه تمييز عناصرها.
غير أن الغائية، مفهومة على هذا النحو، لا تغض من قيمة التفسير السببي؛ بل الأمر على عكس ذلك تماما، لأنها إذا شاءت أن تبرر وجودها، فإنما يكون ذلك عن طريق الحتمية التي توضح كيف يتسنى للوسائل أن تنتج الغاية، أو كيف تؤدي الغاية بدورها إلى نتائج معينة، وبالتالي كيف تتأكد معيارية الفرد أو الجماعة وتنمو، أعني كيف يكون الفرد السوي، مثلا، هو ذلك الذي يتكيف مع المجتمع على أفضل وجه، وكيف أن أكثر الجماعات تجانسا هي أكثرها بقاء، وكيف أن حالة اجتماعية معينة توحي بمستقبل معين، وتتجه إلى تحقيقه. (ج)
الفهم والتفسير:
ومن جهة أخرى، فالإنسان أيضا وعي، وهو بهذا الاعتبار مقفل بالنسبة إلى غيره من الناس، وشفاف أمامهم في آن واحد. فهو لا يعرف الآخر معرفته للأشياء، وإنما يتعرف عليه بوصفه شبيها له، بفضل ما لديه من قدرة على الاتصال به، وعلى قراءة تعبير عاطفي على وجهه، والارتياب في قصد معين وراء فعل ما، أو أحد الدوافع وراء قرار ما. فللظاهرة الإنسانية دلالة تدرك مباشرة على الدوام، حتى لو لم تكن واضحة أو صالحة للتطبيق. وهذا ما أسماه بعض الكتاب - منهم الفيلسوف مثل «دلتي
Dilthey » والمؤرخ مثل «ماكس فيبر» وعالم النفس مثل ياسبرز - بالفهم
compréhension
وهم يقابلون بينه وبين التفسير. ويضرب ياسبرز لذلك مثلا فيقول: إن المرء يفهم أن الشخص الذي تستبد به الغيرة يسعى إلى الانتقام، ويفسر كون الزهري يؤدي إلى الشلل العام.
لكن العلم لا يستطيع الوقوف عند حد هذه التفرقة؛ بل عليه أن يجمع بين التفسير والفهم دائما، والواقع أن: (1)
الفهم ذاته قد يصبح علميا يتطلب تدخل العلم أكثر مما يتنافى معه، فالفهم يتفاوت في مداه، والمحلل النفسي يفهم الغيرة والغضب على نحو أفضل من الشخص غير المثقف. كما أن الخبير يفهم معنى العمل الفني خيرا من الهاوي. (2)
والفهم لا يتنافى مع التفسير، ويرجع ذلك أولا إلى أنه قد يتضح في ذاته على هيئة علاقة سببية، كما هي الحال عندما يصف عالم النفس العمليات النفسية التي تؤدي إلى الغيرة، أو عندما ينسب عالم الجمال «آثارا» فنية معينة إلى علل معينة. ثم إن المرء يستطيع البحث عن أسباب لما يفهمه، ومثال ذلك: الأسباب الفسيولوجية للغيرة أو الأسباب الاجتماعية للتعبير عنها، أو الأسباب الفردية أو الاجتماعية لخلق عمل فني ما. (6) الحرية والحتمية
وهذا يثير مشكلة أخيرة: فإلى أي حد يمكن أن تنطبق الحتمية على الظاهرة البشرية؟ إن الإنسان مضاد للشيء، لا لأن له وعيا فحسب؛ بل لأن لديه الحرية أيضا، ولأنه قادر قبل كل شيء على التذكر والاختراع، وظاهرة التذكر تحد من الحتمية؛ فالحتمية لا تكون مطلقة إلا إذا كانت اللحظة الحالية محددة تماما عن طريق اللحظة السابقة مباشرة. غير أن هذا يفترض أن حالة الأشياء في اللحظة السابقة هي وحدها التي تهم، وأن مجموع الماضي بأسره ليس له تأثير حقيقي في الحاضر. وبعبارة أخرى، فالحتمية تتنافى مع تأثير الذاكرة. على أن من المحقق أن المادة تختلف عن العقل في أن العقل يتذكر. أما المادة فلا ذاكرة لها، ولقد كان ليبنتز على حق عندما قال إن الجسم عقل مؤقت، أي بلا ذاكرة،
corpus est mens momentones sur recordatione carens
وقال برجسون مكملا هذه الفكرة، إن النسيان هجوم مضاد من المادة على العقل «فالحالة المادية تجلب لنا النسيان».
3
فإن كان للماضي الذي يحتفظ به العقل عن طريق الذاكرة تأثير على الحاضر فمعنى ذلك أن اللحظة الماضية مباشرة لم تعد هي وحدها التي تتحكم في اللحظة الحاضرة، وأن الحتمية الرياضية لا تنطبق في صورتها الخالصة على العلوم الإنسانية. (أ) الحرية والتقدم الإنساني:
من أجل هذا يتقدم الإنسان. ولندع جانبا الحديث عن التقدم المعنوي الذي أنكر بعضهم حقيقته، ولنتحدث عن تقدم الأنوار (المعارف)
porgrés des Lumiéres . فمثل هذا التقدم يستحيل إنكاره، وفي هذا يقول باسكال: «إن كل السلسلة البشرية خلال كل القرون المنصرمة يجب أن تعد إنسانا واحدا ظل باقيا على الدوام، ويتعلم دون انقطاع.»
4
وإذا كانت معارفه في مجموعها تزداد بلا انقطاع فما ذلك إلا لأن الذاكرة تحفظ ما اكتسبته. وقد يقال إن تسمية مجموع الوثائق المحفوظة التي تساعد على تعليم الجيل الجديد باسم «الذاكرة» ليس إلا تسمية مجازية. ولكنا نجد هنا شيئا أكثر من مجرد المجاز، ويرجع ذلك أولا إلى أن الوثائق لم تسجل ولم تحفظ من تلقاء ذاتها؛ بل كان من الضروري أن يشعر الإنسان بالحاجة إلى تدوينها وإلى حمايتها من تقلبات الزمان، وأن يهتدي إلى الوسائل التي تعينه على ذلك. ثم إن أولئك الذين كتب لهم أن ينتفعوا بها يجب أن يكونوا قادرين على قراءتها وتقدير قيمتها وإدماجها في تجربتهم. وبعبارة أخرى، فإذا كان الإنسان قد تمكن من أن يكون لنفسه ذاكرة بالمعنى الحقيقي لهذين اللفظين.
من هذه الملاحظات ننتهي إلى أن الحتمية لا تؤثر في الظواهر المعنوية مثلما تؤثر في الظواهر المادية، إذ إن للإنسان قدرة على التذكر، وعلى التقدم تبعا لذلك.
فإذا ما مضينا في التحليل أبعد من ذلك، أمكننا أن نهتدي إلى فكرة أهم بكثير، هي فكرة الحرية الميتافيزيقية - وما أدراك ما هي! هذه الكلمة تطلق على ما لدى الكائن المفكر من قدرة أن يقبل تصوراته وميوله أو يرفضها، وعلى أن يقول للكون ولذاته «نعم» أو «لا». هذه القدرة الهائلة، التي يتساوى فيها الإنسان بالله ذاته، على حد تعبير ديكارت.
5
كانت موضع شك لدى البعض. ولسنا نود أن ندخل في تفاصيل هذا الخلاف، ومع ذلك فسوف نستبقي منه نتيجة ضئيلة، لم يثر حولها إلا خلاف قليل، ويمكن أن يثبتها التحليل دون عناء؛ وأعني بها القدرة على التفكير وعلى الخلق.
فإذا كان الإنسان قادرا على التقدم في المجال الفردي والاجتماعي معا، فما ذلك إلا لأنه يستطيع الخروج على أفعاله الآلية، وعلى نظمه الجامدة، وعلى دوافعه التي قد ينقاد لها في المجالين العملي والنظري معا، أي أن في استطاعته أن يقول لتلقائيته «لا»، أو كما يقول مفستو فيليس (الشيطان): «إنني الروح التي تنكر على الدوام.»
6
وليس معنى ذلك أن الروح تقول لا على الدوام، وإنما هي تستطيع النفي، وفي تلك القدرة تتجلى حريتها. (ب) الحرية خالقة
والواقع أن حرية الإنسان قادرة على الخلق. ولقد سبق لنا الكلام عن اختراع القوانين في علم الطبيعة الرياضي، وكان ذلك خلقا بالمعنى الصحيح، إذ إن هذه القوانين ليست معطاة في الظواهر بل ينبغي أن يكشفها العقل فيها.
والحال كذلك في كل ما هو إنساني: فمن المؤكد أن الإنسان يخلق عالمه، وعلومه، وفنونه، وسياسته، ولا شك في أنه لا يخلق كل ذلك دون مادة أو دون معطيات. ومن هنا كان هناك نوع من الحتمية الحقيقية ، فلنتأمل في هذا مثلا: إن الهندسة علم «أولي
apriori » أي أنها تبتدع بأسرها. ولكن مادتها هي طريقة معالجة الأجسام الصلبة، كقطع الأحجار مثلا. هذه الطريقة ذاتها قد نشأت عما قامت به الأداة البدائية من تهذيب وصقل. والأداة بدورها نوع من التجسيد للحركات الغريزية التي تهدف إلى الضرب، والخلع ... إلخ. فهناك إذن اتصال بين الغريزة، واستخدام الأداة. والأسلوب العملي الذي ينطوي في ذاته على نوع من العلم، ثم العلم المحض. هذا الاتصال لا ينقطع؛ بل تتخلله بين الفينة والفينة حالات إبداع جديدة، وهكذا نرى مكانة الحتمية في هذا التطور؛ فكل مرحلة توحي بالمرحلة المقبلة وتجعلها ممكنة، دون أن تتحكم فيها كلية.
لهذا تحتفظ الحتمية بمكانها في العلوم الأخلاقية (الإنسانية). إذ إنها تهيئ «الشروط» و«المناسبات» التي يمكن أن تعد «أسبابا» بالمعنى الصحيح. وبعبارة أخرى، إذا كانت الحرية تحد من الحتمية، فإنها لا تنفيها مطلقا. وهذا ينطبق على الحتمية المادية، وذلك لأنه من الضروري أن يوجد عالم محدود يمكن التنبؤ به، حتى يستطيع المرء أن يدبر الفعل الحي ويحققه، كما ينطبق على الحتمية النفسية، التي هي ضرورية ليتمكن الشخص من التأثير في ذاته، وبذلك يبدي حريته. فلو لم يكن الإنسان إلا حرا لما تسنى له أن يكون حرا.
7
ومن جهة أخرى، فإذا كان الفعل الحر هو الفعل العقلي على الحقيقة، فمعنى ذلك أنه يستفيد هو الآخر من التفسير، إذ إنه يبدأ على الأقل بتحديد يبرره، إن لم يبدأ بحتمية تامة. ولا شك في أنه ليس لنا أن نخلط بين الدافع والسبب، عندما يكون مصدر الدافع حكما حرا، ولكن دراسة الأفعال الحرة هي دراسة يمكن أن يقوم بها علم الإنسان في كل الأحوال، وهي جديرة بأن تحتل مكانها في هذا العلم.
وأخيرا، فليست كل الأفعال البشرية تستطيع أن تدعي لنفسها صفة الحرية. ففي الإنسان استجابات معينة تبدو آلية بمعنى الكلمة، بل إن مظاهر السلوك الشعورية والإرادية ذاتها لها شروط بيولوجية وتاريخية واجتماعية. ولا شك في أن لغة السببية يجب أن تكون أقل صرامة في هذا المجال، إذ يتحدث المرء عن شروط وتأثيرات، أو عن أسباب متبادلة، كما هي بين الفرد والجماعة، وبين الكائن العضوي والبيئة. فمن الجائز أن الحتمية هنا ليس لها ذلك المعنى الدقيق الذي تتميز به في مجال علوم الطبيعة؛ بل هي تتكيف مع الظواهر الإنسانية، ومع ذلك، تظل تحتفظ في العلم الإنساني بنفس الحاجة إلى التفسير. ومن جهة أخرى فإن علم الاجتماع سيبين لنا أن الظواهر الإنسانية يمكن فحصها في مظهرها الجماعي لا الفردي، وعندئذ تكون ما يمكن أن يعد طبيعة اجتماعية، تقبل الخضوع للحتمية بدورها. (7) خاتمة
فهناك إذن علوم للإنسان، وهذه العلوم ذاتها تثبت اليوم وجودها عن طريق نموها. وهي علوم كثيرة، ومناهجها ذاتها متعددة، مثلها مثل المفاهيم التي تطبقها. ولكن ألا يصدق هذا أيضا على علوم الطبيعة، التي أدخلت عليها التفرقة بين مجالات العالم الأكبر والعالم الأصغر تعديلات عميقة؟ كذلك نستطيع أن نفرق في دراسة الإنسان بين مجالين: الفردي والجماعي، كما نفرق بين وجهين للظاهرة البشرية: الطبيعة والحرية. ومن هنا كانت كثرة وجهات النظر التي تفحص الظواهر الإنسانية تبعا لها. غير أن علوم الإنسان لو أصرت على أن تتسم بطابع البساطة التامة والاطراد المطلق لقصرت في أداء مهمتها، إذ إنها ستخرج عندئذ عن الطابع المميز لموضوعها، وستكون غير جديرة برسالتها. (8) العلوم المعيارية
ويبقى علينا، قبل البحث في العلوم الإنسانية كل على حدة، أن نقول بضع كلمات: سمي «بالعلوم المعيارية»، أي الأبحاث التي تدور حول بعض القيم، وتقدر الأعمال الإنسانية تبعا لهذه القيم؛ وأهمها المنطق، وعلم الجمال، والأخلاق. هذه الأبحاث تفترض أن الإنسان معياري، ولا يستطيع أن يفهم دون أن يحكم (على الأشياء)، ويحكم على ذاته. ولكن هل من الممكن أن يكون الشيء الذي بدأ منذ برهة موضوعا للعلوم الإنسانية، وشركا منصوبا لها في الوقت نفسه، علما بدوره؟ وإذا نحن تحدثنا عن علم للحق أو الجمال أو الخير، أفلا نكون عندئذ قد استخدمنا كلمة العلم بمعنى سابق على ظهور الروح الوضعية؟ وهل في وسعنا أن نقول إن هذه العلوم تندرج تحت الفلسفة، إذا صح أن الفلسفة تنطوي على التفكير في القيم؟
ينبغي لنا أن نفرق هنا بين أمور مختلطة، فيبدو لنا أن: (1)
تعريف القيم، وفحصها، وتبريرها، وترتيبها، ينتمي إلى مجال الفلسفة التي يمكنها بطبيعة الحال أن تفيد هنا من تجربة العلوم الإنسانية، ولكن دون أن تخضع لها. (2)
ينتمي تطبيق هذه القيم إلى أوجه مختلفة للنشاط يجب أن توصف بأنها فنية عملية، وأوضح مظاهرها هو التعليم بكافة صوره، وهذه الأساليب العملية يجب أن تستند إلى العلوم الإنسانية، حتى تؤدي الغرض المقصود منها على الوجه الصحيح. فالتربية الأخلاقية أو العقلية أو الفنية ترتكز على علم النفس، وكذلك على تاريخ العلم، الذي يعرض بالتفصيل في علمي الاجتماع والتاريخ. (3)
دراسة القيم المتفق عليها صراحة أو ضمنا في مجتمع معين وعصر معين، ودراسة تطورها ونتائجها العملية، تنتمي إلى صميم العلوم الإنسانية على نحو ما عرفناها.
وعلى ذلك، فلفظ «علم السياسة» قد يشير إما إلى دراسة دجماطيقية للمدينة المثلى (كما في «جمهورية» أفلاطون أو «العقد الاجتماعي» عند روسو)، وإما إلى مجموع الأساليب العملية للحكم (كالإدارة وتنظيم السلطة والدعاية ... إلخ) وإما إلى دراسة اجتماعية أو تاريخية للنظم السياسية، وبحث نفسي للإنسان من حيث هو مواطن. (9) الأخلاق والعلم
وهكذا يمكننا أن نفهم الجدل الذي ثار حول الأخلاق باعتبارها علما. فهناك علم للأخلاق، وهو ذلك الفرع من علم الاجتماع الذي أصبح يسمى، منذ عهد ليفي بريل، بعلم العادات الاجتماعية.
8
أو علم الاجتماع الأخلاقي
sociologie morale
ذلك هو العلم الذي يبحث في الأفكار الأخلاقية وقواعد السلوك الأخلاقي كما صيغت، صراحة أو ضمنا، في المجتمعات البشرية، منذ أن كان للبشرية وجود. هذه الأفكار والقواعد لم تعدم أن يكون لها تأثيرها في المذاهب الأخلاقية التي وضعها الفلاسفة. صحيح أنها لم تتحكم فيها، ولكن كان لها أثر فيها؛ فمثلا نرى أن تغير صورة الرق ثم تحريمه أخيرا كان، قبل ظهوره في مذاهب الفلاسفة، أفكارا كامنة أو ضمنية، تنطوي عليها العادات الأخلاقية، ويتحكم فيها التقدم التلقائي للأفكار الأخلاقية جزئيا؛ بل لقد خضع لما طرأ على الحياة الاقتصادية والصناعية ذاتها من تغييرات؛ فقد فطن الناس إلى أن الرق عادة اجتماعية مستهجنة عندما حدث تهذيب الأخلاق، وكذلك عندما جعلته الظروف الاقتصادية أقل ضرورة أو أقل نفعا، أي عندما حلت الآلة محل الرقيق مثلا؛ وكذا الأمر في فكرة «القانون الطبيعي» أي فكرة وجود شريعة للعدل تمتد حتى تشمل البشرية بأسرها، وتنظم بطريقة عقلية العلاقات بين الناس أيا كانوا، نقول إن هذه الفكرة كانت إلى حد ما وليدة بعض العوامل التي أثارتها، كالإدارة التشريعية لإمبراطورية كبيرة كالإمبراطورية الرومانية التي ضمت شعوبا عظيمة التباين، لها أفكار ونظم تشريعية مختلفة كل الاختلاف.
وفي الأخلاق جزء آخر يرتبط بصميم العلوم الإنسانية، هو علم النفس الأخلاقي، والتربية الأخلاقية، وهما يصفان الضمير الأخلاقي عندما يصطرع مع مختلف ميول الإنسان، ويرتد إلى الوسائل التي تضمن له الظفر.
ولكن، هل تقتصر الأخلاق على أن تكون علما للعادات الأخلاقية أو علم نفس أخلاقيا؟
هذا السؤال سيناقش في الكتاب الخاص بالأخلاق.
9
علم النفس (1) علم النفس والتحليل الفكري الانعكاسي
يمكن أن يتخذ بحث الإنسان في الإنسان وجهتين مختلفتين ينبغي التمييز بينهما بوضوح، لأن إحداهما علمية بالمعنى الصحيح، بينما تنتمي الثانية إلى الفلسفة. ولنبدأ شرح هذه المسألة بمثال: هو الإدراك الحسي، كإدراك السائر الذي ينتبه إلى المرور وعلاماته خلال عبوره الشارع. هذا الإدراك الحسي يمكن دراسته بالبحث عن التركيب الفسيولوجي الذي يجعله ممكنا، ونوع الأحداث التي قد تغيره حتى تؤدي إلى توقفه. ومن الممكن قياس قوة الإبصار عن طريق بحث حالة أعضاء الإبصار والكائن العضوي بأكمله. كذلك يمكننا أن نفحص كيف يقوم الفرد برد فعل تجاه إدراكه الحسي، وكيف يرتبط هذا الإدراك بسلوكه، وكيف أنه يعبر الطريق مطمئنا إلى هذا الإدراك، وكيف تدرب على هذا السلوك، وبفضل أي الظروف التاريخية والاجتماعية أمكنة ذلك. وأخيرا ففي استطاعتنا أن نربط إدراكه الحسي وسلوكه بشخصيته، ونحدد السمات الشخصية التي تتجلى في طريقة عبوره للشارع، ونبحث في تاريخه الفردي والاجتماعي عن أصل هذه السمات، وهذه الملاحظات قد تمهد الطريق لتطبيقات عملية عن أفضل نظام لإشارات المرور التي ينبغي استخدامها في مفارق الطرق، وطريقة تدريب المشاة، والاحتياطات التي ينبغي اتخاذها بالنسبة إلى من لم يتكيفوا مع هذه النظم. وفي هذه الحالة وفي غيرها يرتبط العلم بأساليب عملية تدفعه إلى الأمام، وتدعم نتائجه في آن واحد.
وعلى العكس من ذلك، يمكننا أن نفكر على نحو مخالف مماثل لذلك الذي ضرب به «ديكارت» مثلا في تحليله لإدراكنا الحسي لقطعة الشمع التي تذوب، فنبين كيف أن الفهم كامن في الإحساس، وكيف أنه يرتبط بالإرادة، أعني أن كل إدراك حسي هو عمل لذات قادرة على «التفكير». فالتحليل الفكري الانعكاسي يهدف إلى تحديد شروط إمكان المعرفة، ويهدف بصورة أعم إلى تحديد تلك العلاقة الفريدة للإنسان بالعالم، مما يؤدي بهذا التحليل إلى الخوض في مجال الميتافيزيقا، وربما تناول موضوع الغاية التي يختص بها الإنسان في هذه الحياة، فيؤدي به ذلك إلى الخوض في مجال الأخلاق. ومن الجائز أن يلهم هذا التحليل علم النفس العلمي، إذ يدفعه إلى أن يحسب حسابا لما يكشفه، وأن يهتدي إلى الشروط الأولية المعروفة في التجربة ذاتها. ولكن البحث العلمي يستهدف غرضا آخر، هو معرفة الإنسان بوصفه فردا وكشف قوانين سلوكه، والسعي وراء معرفة الحتمية النفسية، واتخاذ هذه المعرفة الوضعية أساسا تبنى عليه أساليب عملية تمكن الإنسان من التأثير في الإنسان. (2) الدراسات النفسية السابقة لعلم النفس
إن معرفة الإنسان للإنسان هذه كانت موجودة قبل ظهور علم النفس، ويمكننا الاهتداء إليها قبل ذلك العلم: (1)
ممثلة في العلاقات بين الأشخاص؛ فالطفل ذاته يستشف ما يمكن أن يثير غضب أبويه، ونتائج ذلك الغضب، والطبيب والسياسي، والكاهن الذي يتلقى الاعتراف هم أنفسهم «علماء نفس». (2)
كما توجد ضمنا في الأساليب العملية التي يؤثر بها الإنسان في الإنسان ولو كان ذلك بطريقة غير شعورية، كما هي الحال في التربية، والقيادة والإرشاد. (3)
كما يعبر عنها في الأدب، الذي يستطيع أن يمدنا بأمثلة قيمة التفكير التحليلي، حتى في الحالات التي لا يهدف فيها إلى التفسير والشرح.
فمن أين تأتي هذه المعرفة التلقائية الأولى؟ إن لها مصدرين يتجهان إلى هدف واحد، فمن جانب يوجد الاستبطان، أي قدرة الإنسان على أن يلقي نظرة على نفسه، والأصل في الاستبطان، هو الشعور بالذات. فإذا كنت أتألم، فذلك لأنني أشعر بالألم، وإذا كنت أرغب، فذلك لأنني أشعر بالرغبة، ولو سئلت عما أفعل في هذه اللحظة، لأجبت فورا: إنني أكتب. ولقد اقترح بعضهم في أيامنا هذه - وكانوا على حق في اقتراحهم - أن نفرق بين الشعور بالذات، الذي هو إدراك المرء لذاته مباشرة، وبين معرفة الذات التي فيها عمليات مقالية متدرجة (
discursives ) ويمكننا أن نشبه التقابل بينهما بالتقابل بين الفهم والتفسير، ولكن من المحقق أن الأول يفضي إلى الثاني مباشرة. فإذا ما شعرت بالألم، فإني لا أقنع باستشعار ألمي، وإنما أرغب في معرفة مصدره، وأسبابه، ونتائجه، والطريقة التي أعالجه بها. أما المصدر الآخر فهو الاتصال، أي قدرة المرء على فهم شبيهه، وفك رموز تعبيراته واستشفاف مقاصده أو دوافعه، والتكهن باستجاباته. وهنا أيضا سرعان ما يفضي الفهم المباشر إلى التفسير، أي إنه يدعونا إلى البحث عن التسلسلات العامة التي تسمح لنا بالتنبؤ بسلوك الآخرين على نحو أدق، وإلى صياغة هذه التسلسلات في قوانين، وإذن فهاتان المعرفتان: معرفة المرء لذاته، ومعرفته للآخرين، في المستوى السابق على العلم، لا تكف كل منهما عن الإحالة إلى الأخرى. إذ إني أعرف الآخر تبعا لما أعرفه عن ذاتي، وأقدر غضبه مثلا تبعا لحالات الغضب التي مرت بي. وفي مقابل ذلك أستعين على معرفة ذاتي بمعرفة الآخرين لي، كما نرى في حالة الصداقة، أو بمعرفتي للآخرين، إذ إن إدراكي للآخرين قد يعينني على استجلاء ذاتي. (3) الأنواع المختلفة لعلم النفس
ما الشروط التي تجعل هذه المعرفة علمية؟ إنها تصبح كذلك إذا ما مضت في طريقها على نحو أدق تنظيما، وما كانت تعتمد بوجه خاص على ظواهر موضوعية تخضع للملاحظة، وربما للقياس، وتكشف في هذه الظواهر عن حتمية نفسية، ما دام السعي إلى الموضوعية وتأكيد الحتمية أمرين مرتبطين دائما ارتباطا ضمنيا على الأقل. وانطلاقا من هذا يمكننا أن نتبين الفروع المختلفة لعلم النفس الوضعي. (أ) الاستبطان
أين يجب البحث عن الموضوعية؟ علينا أن نبحث عنها أولا في الاستبطان ذاته، والحق أن المنهج الاستبطاني قد تعرض منذ «كونت» لنقد كثير، ينبني على القول بأن من المحال على الذات المدركة أن تحيا وأن تلاحظ في آن واحد، إذ إن الملاحظة تحور العملية الحية التي تلاحظها أو تبطلها. غير أن كل وعي هو في الوقت نفسه وهو للمرء بذاته، وهذا الوعي بالذات يمكن أن يصير معرفة، عن طريق النظر إلى الماضي، دون أن يطرأ على تلقائية الوعي أي تغير بسبب ذلك. والواقع أن علم النفس بأسره يصبح مستحيلا لو لم توجد المعطيات الأساسية التي يقدمها الاستبطان. وعن طريق ممارسة التحليل الواعي تزداد هذه المعطيات وضوحا ودقة بالتدريج. ويتمثل ذلك في طريقة «الاستبطان التجريبي» التي استخدمها «بينيه
Binet » في دراساته عن الذكاء، والتي عممتها مدرسة فرتزبرج
Wurzbourg . وفي هذه الطريقة يطلب إلى الشخص أن يصف بدقة ما يحدث في داخله عندما يجيب عن مسألة معينة أو يقوم بعمل معين، ولو لم يرجع علم النفس إلى الاستبطان رجوعا ضمنيا على الأقل، لكان مهددا بإغفال بعد أساسي من أبعاد الظاهرة النفسية. وهو الوعي الذي لا يمكن تجاهله دون القضاء على الطابع المميز لموضوع علم النفس. ذلك لأن اللاشعور ذاته، الذي توليه بعض المذاهب وبخاصة مذهب التحليل النفسي، أهمية كبرى هو «لاشعور» نفسي، أي إنه شعور أو وعي بالقوة، ومن هذه الناحية يكون كل من الشعور واللاشعور مضادا لما هو عضوي أو مادي. والمسألة الوحيدة التي يمكننا أن نتفق فيها مع نقاد الاستبطان، هي أنه لا يكفي وحده، ولا يستطيع وحده أن ينظم المادة التي يكشفها تنظيما علميا. (ب) التحليل النفسي
يقدم إلينا التحليل النفسي خير مثال لإمكان بحث هذه المادة موضوعيا دون التخلي عن فهم الظاهرة النفسية. فالتحليل النفسي، كما وصفه واضعه فرويد، هو أولا نظرية للانفعالية
théorie de l'affectivité
وللدوافع التي تتركز حول الغريزة الجنسية (وصفة «الجنسية» هنا تفهم بمعنى واسع يقرب من معنى «الانفعالية») ولضروب التغير التي تطرأ على هذه الدوافع، التي قد تكبت أحيانا، فتصبح لا شعورية، وقد لا تكبت، وذلك طوال تاريخ الفرد، وفي طفولته قبل كل شيء ... ولما كان مصير هذه الدوافع حاسما بالنسبة إلى شخصية الفرد، فقد غدا التحليل النفسي مفتاح الدراسة النفسية للشخصية، وهو يفسر هذه الشخصية تفسيرا جزئيا على الأقل، بأن يئول بعض مظاهر السلوك السوية (كالأحلام وتداعي المعاني) أو المرضية (كأنواع الأمراض العصبية، مثل الأزمات
tics
والوساوس، والهذيان، والمخاوف
phobies ) وذلك لإعادة تصوير تاريخ الفرد من جديد وتحديد الحوادث التي تردد صداها في نفسه، وتوضيح آثار هذه الحوادث والعمليات النفسية التي تؤدي إليها. وبفضل التطبيقات العلاجية التي توصل إليها التحليل النفسي، وبفضل امتداد منهجه إلى ما وراء الحالة الانفعالية، أي إلى العقل والإرادة، أصبح ذلك التحليل يحتل اليوم مكانا مرموقا في علم النفس. (ج) مذهب تداعي المعاني ومدرسة الجشطالت
يوجه التحليل النفسي علم النفس نحو فحص «التجمعات السيكولوجية» التي يصف تركيبها وتاريخها. فهو يغلب فكرة التركيب الكلي على فكرة البساطة، وبهذا يتفق مع مدرسة الجشطالت (الصورة الكلية) في علم النفس. وبينما كان هدف العلم النفسي المسمى بالذري
10
أو الترابطي في القرن الثامن عشر، هو تفسير الظواهر النفسية عن طريق تجمع عناصرها الأولية، كالإحساسات أو المعاني، فإن علم النفس الجشطالتي يلاحظ أن الإدراك الحسي هو دائما إدراك لصورة كلية، أي لمجموعة منظمة لها دلالتها، وتبرز فوق «أرضية» كما تبرز لوحة الرسم فوق الحائط أو اللحن فوق السكون، ومن ثم لا يمكننا إعادة تركيب الإدراك الحسي عن طريق إحساسات منعزلة. وبوجه عام فكل سلوك (أعني كل فعل نقوم به، أو رأي نصرح به، أو حاجة نسعى إليها) هو أكثر من مجرد مجموعة للعناصر التي يمكننا أن نحلله إليها، فالعقل ليس مجرد مجموعة مختلفة من الحركات، والحكم ليس مجرد معان متجاورة، والرغبة ليست مجموعة من الإحساسات الوجدانية. ولا يكون للسلوك معنى إلا إذا وضعنا نصب أعيننا طابعه الكلي هذا، وعندئذ يكون هذا المعنى هو الذي كشف عنه الاستبطان من قبل. غير أن هذا الاعتماد على الدلالة الشاملة والوحدات المتجمعة، لا المتجزئة، لا يحول على الإطلاق دون دراسة السلوك دراسة علمية. (د) علم النفس الفسيولوجي
ومن ذلك فقد اعتقدت بعض المدارس أنه يجب البحث عن الموضوعية من جهة الجسم بوجه خاص، بدلا من البحث عنها في الوعي، ويرجع ذلك أولا إلى أن الملاحظة والقياس هي في الظواهر الجسمية أيسر منها في ظواهر الوعي، وإلى أن الظواهر الجسمية تتحكم في ظواهر الوعي هذه تحكما قويا. ومن هنا كانت الأهمية التي اكتسبها علم النفس الفسيولوجي، الذي يدرس الأسس أو المظاهر العضوية للظواهر النفسية، ويدرس بوجه خاص تركيب المخ والجهاز العصبي المركزي وأجهزة الحس، وكذلك طريقة أداء هذه الأجهزة لوظائفها، وأحوالها المرضية. وهنا يدخل علم النفس في مجال البيولوجيا البشرية. وفي مقابل علم النفس الفسيولوجي، نجد علم النفس الاجتماعي، الذي سنعود إليه فيما بعد، والذي يدرس علاقة الفرد بالجماعة الاجتماعية، ويهتم خاصة بمختلف المؤثرات التي تباشرها الجماعة على الفرد. (ه) علم النفس السلوكي
على أن هناك اليوم مدرسة كبيرة تأبى الاعتراف بالتضاد بين الظاهرة النفسية والظاهرة الفسيولوجية، وتزعم أن أساس هذا التضاد هو التفرقة الميتافيزيقية بين الجسم والروح، وتجد في فكرة التصرف أو السلوك وسيلة لتجاوز نطاق هذا التضاد. ويمكننا أن نذكر من طلائع هذا المذهب في علم النفس كلا من بافلوف
الروسي وبيير جانيه الفرنسي، وواطسن وثورنديك الأمريكيين، كلا في اتجاهه الخاص. والمدرسة السلوكية في علم النفس ، وإن لم تكن تنكر الشعور أو الوعي ضرورة (رغم أن بعض ممثليها أرادوا إنكاره) فإنها ترمي إلى دراسة الإنسان على نحو يتيح ملاحظته ملاحظة موضوعية من الخارج، وكما يتجلى للقائم بالملاحظة في أفعاله وأقواله. فبدلا من أن تدرس الذاكرة على أنها وظيفة نفسية، تلاحظ كيف تؤدي وظيفتها بحسب الظاهر، أي كيف يتعلم الإنسان أو ينسى، ويروي ... إلخ، وبدلا من أن تدرس الإدراك الحسي، تلاحظ كيف يعبر المار الطريق، وكيف يشرف العامل على الآلة، وكيف ينقل الرسام منظرا طبيعيا. (4) المنهج التجريبي
هذه الدراسات في علم النفس الفسيولوجي، وفي علم النفس الاجتماعي، وعلم النفس السلوكي - سواء أكانت تتخذ علم نفس الجشطالت مصدر وحي لها أم لم تكن - تندرج كلها تحت ما يسمى بعلم النفس التجريبي ويستخدم الأستاذ «لاجاش
Lagache » هذا اللفظ في مقابل علم النفس العلاجي (الإكلينيكي) أو علم النفس الشامل
وفي مقابل التحليل النفسي بوجه أخص، ذلك كي يبين أن الممارسة العلمية لا بد أن تتجاوز هذا التقابل، وأن هذا هو ما تقوم به فعلا (وبذلك يبرر تجاوز التقابل بين التفسير والفهم).
ولقد أدخل علم النفس التجريبي مناهج الملاحظة المدعمة بالآلات العلمية التي تمارسها العلوم الطبيعية بطريقة منظمة في دراسة الإنسان. وبهذا أصبحت أهمية المعمل بالنسبة إلى عالم النفس لا تقل عن أهميته بالنسبة إلى عالم الكيمياء. وقد تكون «الحالة» التي تدرس هنا حيوانا أو إنسانا على حد سواء، وقد تكون مجتمعا أو إنسانا منفردا. ولنذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، بعض الدراسات التي يقوم بها علم النفس التجريبي؛ فمنها دراسة التعلم
learning
أو تكوين العادات، التي تجرى أساسا على حيوانات تحبس في متاهة، وتتعلم كيف تسير في طرقها الملتوية للوصول إلى غذائها. أما بالنسبة إلى الإنسان فمنها دراسة التعود على نشاط معين ودراسة مراحل العمل، ودراسة التعب، وعلى الأخص ما يسمى بالتعب الناتج عن العمل في المصانع، وبالنسبة إلى الجماعات، دراسة العلاقات بالقائد
leader
تبعا لمدى سيطرته عليهم، وتأثير «جو الجماعة» في الفرد.
ومن بين التطبيقات التي يسمح بها استخدام القياس (
mesure ) الذي تكفل الأجهزة العلمية دقته، ينبغي أن نشير على الأقل إلى القياس السيكولوجي
. بفضل مختلف أنواع الاختبارات يسمح لنا هذا القياس بتقدير بعض قدرات الفرد تقديرا عدديا، كالذكاء المدرسي والذاكرة، ودقة الإدراك الحسي، وسرعة القيام بحركات معينة أو دقة هذه الحركات ... إلخ. وتلعب هذه المقاييس دورا تتزايد أهميته في التوجيه الدراسي والاختيار المهني. وحسبنا هنا أن نورد مثالا واحدا، فالحوادث التي ترتكبها السيارات العامة قد قلت إلى النصف بعد أن استخدمت اختبارات خاصة في اختيار السائقين.
وأخيرا ينبغي أن نذكر، إلى جانب المنهج التجريبي، المنهج المقارن الذي يقوم بمقارنات، إما بين نماذج مختلفة من الأفراد - وهذا هو ما يسمى بالبحث النفسي في الفروق الفردية أو بعلم الشخصية - وإما بين أفراد ينتمون إلى مجتمعات أو حضارات متباينة، وهنا يرتكز علم النفس على علم الاجتماع وخاصة علم الأجناس (
Ethnologie ) لدراسة الأفراد الذين ينتمون إلى ما يسمى بالجماعات البدائية؛ وإما بين البالغ والطفل، وهذا ما يبحثه علم نفس الطفل وعلم النفس التربوي، وإما بين الفرد السوي والمريض، وهنا نعتمد مرة أخرى علم النفس المرضي. وكل هذه الفروع لعلم النفس قد نمت اليوم نموا ملحوظا على أيدي المختصين. وكل منها يمكن أن يرجع، من ناحيته الخاصة، إلى علم النفس التجريبي، أو إلى علم النفس الإكلينيكي، ومن ثم فالتضاد بين هذين المنهجين لم يعد حاسما، وإنما ينتمي الاثنان معا إلى علم النفس الوضعي. (أ) الحتمية النفسية
ولكن، أيا كانت المناهج فهي لا تكون منتجة من الوجهة العلمية إلا إذا كانت قادرة على الإتيان بتفسير سببي للظواهر التي تكشفها، وبالفعل تدعي كل المناهج أنها قادرة على ذلك. وعلى أساس قدرتها هذه يمكنها إيجاد أساليب عملية صالحة تستبدل بالأساليب التلقائية التي كان يلجأ إليها علم النفس في البداية. ذلك لأن الإنسان لا يستطيع السيطرة على الإنسان - سواء في ذلك سيطرة الطبيب على المريض، والمربي على الطالب، والمعلن على العميل، والرئيس على المرءوس - إلا إذا ترتبت نتائج معينة على أسباب معينة، وأمكن تحقيق النتائج بتحقيق الأسباب. أما إذا كانت الحرية التي تعزوها بعض المذاهب إلى الإنسان (وهي حرية مشروعة في رأينا) تحول دون أي تطبيق للعلاقات، فسيعجز الفرد عندئذ حتى عن التأثير على ذاته، ولن تكون حريته إلا لفظا فحسب.
وعلى ذلك فلنا أن نقول: (1)
إن الإنسان يخضع للحتمية عندما ينحط سلوكه إلى مرتبة الآلية، كما هي الحال في أوقات نومه، أو عندما يحول المرض دون أن يحقق ذاته بالمعنى الصحيح، كما في حالة استسلامه للفكرة الثانية أو للوهم الملح أو للعقد. (2)
وإن الإنسان السوي، إذا كان قادرا على السيطرة على نفسه فهو في الوقت ذاته مسيطر عليه، ومن واجبه أن يعترف بمظاهر السيطرة الواقعة عليه ، والتي يمكن تسميتها «بالشروط
conditions » وهكذا يدرس علم النفس الفسيولوجي الشروط الفسيولوجية للسلوك، ويدرس علم النفس الاجتماعي شروطه الاجتماعية، أما علم النفس بوجه عام فيدرس العمليات النفسية التي تتجلى في هذا السلوك، والعلاقات السببية التي يتكشف عنها تاريخ الفرد.
فإن كان للحرية مدلول غير المدلول الميتافيزيقي، وإن كان لعلم النفس أن يقدم من جانبه دليلا على هذه الحرية، فلن يكون ذلك عن طريق استبعاد هذه العلاقات السببية؛ بل عن طريق بيان أن الإنسان يمكنه أن يضع في مقابل هذه الأسباب سببيته الخاصة، التي لا يحول شيء دون تصورها على أنها سببية حرة، كتلك التي تمارس في الفعل الإرادي؛ ففي استطاعته أن يؤثر في جسمه، وفي الجماعة الاجتماعية، وفي شخصيته هو، وفي ميوله أو طباعه. فالسببية المتبادلة فكرة يزداد استخدامها شيوعا في علوم الإنسان، وهي تشهد بالطابع الوضعي لهذه العلوم، وهي في الوقت ذاته دليل على حرصها على احترام الطابع المميز للكائن البشري.
التاريخ (1) التاريخ والتاريخية
يهدف التاريخ إلى معرفة الماضي، أي ماضي البشر، أفرادا وجماعات. أما ماضي الأشياء فلا يهمه إلا بقدر اتصاله بماضي البشر. فالتاريخي هو ما يحدث للإنسان وما يهم الإنسان؛ فزلزال لشبونة في القرن الثامن عشر تاريخي لأنه أثر في مصير سكان لشبونة، ولأنه أثار خواطر فولتير ومناقشاته حول فكرة العناية الإلهية. أما تاريخ الأنواع، أو الأرض، أو النظام الشمسي، فليس تاريخا بالمعنى الصحيح طالما أن الإنسان لا يتمثل فيه. وفي هذه الحالة لا تكون هناك حوادث، لأن ما يحدث لا يحدث لأحد. أما الإنسان فهو وحده الذي له تاريخ، لأن الإنسان وحده هو الذي لا يكتفي بأن يكون في الزمان، أو يخضع لتسلسل زمني لا يمكن عكس اتجاهه ولا مستقبل له، وإنما يشعر بالزمان، ويستطيع تصور الماضي، وتثبيت الحاضر على نحو ما، وذلك القيام بأعمال تظل باقية من بعده، وتصور مستقبل يقارنه بماضيه. وربما كان لنا أن نقول أن للتاريخ وجودا حقيقيا، وذلك لأن له وجودا من حيث هو معرفة، أعني أن الإنسان قادر على أن يتمثل ماضيه ليقرر مصيره، إما بطريقة أسطورية كما في المجتمعات البدائية، حيث لا يبعث الماضي إلا في صورة أساطير يجب الاحتفاظ بها، وإما بطريقة علمية كما هي الحال في مجتمعنا، ومما تجدر ملاحظته أن المجتمعات البدائية التي لم يظهر فيها مؤرخ بالمعنى الصحيح، هي في معظم الأحيان مجتمعات ثابتة، جامدة، لا يبدو لها تاريخ، على حين أن ظهور التاريخ باعتباره علما هو خطوة حاسمة في حضارة الإنسانية ووعيها بذاتها. (2) الواقعة التاريخية
كيف تتيسر معرفة الماضي؟ يلاحظ أن الواقعة التاريخية، بالإضافة إلى كونها ذات طابع إنساني، هي مضادة للواقعة الطبيعية من جهة أنه يستحيل تكررها من حيث المبدأ، فهي تنتمي إلى الماضي، وعلى هذا الأساس فهي قد اختفت إلى الأبد. وهي من جهة أخرى فردية، وهكذا درج الناس على المقابلة بينها وبين الواقعة الاجتماعية. وقد أبدى «هنري بوانكاريه» هذه الملاحظة الساخرة: «لقد كتب كارليل شيئا أشبه بما يأتي: إن الحادث الوحيد الهام هو أن فلانا ابن فلان قد مر من هنا. ذلك هو الأمر الذي يدعو إلى الإعجاب، وتلك هي الحقيقة التي تساوي عندي أكثر مما تساوي كل نظريات العالم ... تلك هي لغة المؤرخ. أما عالم الطبيعة، فيؤثر أن يقول إن فلانا ابن فلان قد مر من هنا، ولكن هذا أمر لا شأن لي به، ما دام لن يمر بعد الآن.»
11
ولكن ما مصدر هذا التأكيد لفردية الواقعة التاريخية؟ ذلك أولا لأن هذه الواقعة تتخذ لها موقعا في زمان لا رجعة فيه، أعني زمانا يحياه الإنسان ويتحدد أولا بالموت المحتوم للفرد، وبمجهود الإنسانية لبلوغ كمالها، على حين أن زمان الأشياء قد يمكن العودة فيه إلى الوراء إلى حد ما، إذا جاز هذا التعبير، ما دام ينقسم إلى مراحل متكررة ومنتظمة، ولا يتجه نحو معلوم. وثانيا لأن الواقعة التاريخية ترتبط بالإنسان الذي يحياها بوصفها حاضرا له، وحدثا فريدا. (3) المنهج التاريخي (أ) تحقيق الواقعة
من ثم كان العمل الأول للمؤرخ هو الاهتداء إلى الواقعة التي اختفت في الماضي، والتثبت منها؛ ولذا كان من الضروري أن يرجع الإنسان من الحاضر إلى الماضي، ولو لم يكن قد تبقى من الماضي شيء استحال الوصول إليه، وإذن فنقطة البدء في المنهج التاريخي هي الوثيقة، أعني الأثر المادي الذي تتركه الواقعة، وبه يمكن الرجوع إلى الواقعة ذاتها. ويمكننا هنا أن نفرق بين الوثائق غير الإرادية التي لم يتحكم أي مقصد في إنتاجها وحفظها، والتي تتمثل بوضوح في الحفريات، وبين الوثائق الإرادية التي حفظت عمدا من أجل إرشاد الأجيال التالية، أو التي تهدف في الحاضر ذاته إلى الدعاية ولا توجه إلى الأجيال التالية. ومن هذا القبيل، الآثار، والنياشين، والنقود ومختلف أنواع الصور. وعندئذ يكون للنقد التاريخي مرحلتان: (1)
فهو يجعل الوثيقة قابلة للاستعمال، ويتثبت من صحتها. ذلك هو النقد الذي يقوم به البحث العلمي، الذي يستعين بعلوم ثانوية عديدة يعتمد عليها التاريخ، كعلم الرسوم
Iconographie (ويشتمل على الصور والتماثيل المنحوتة والنقوش البارزة) إلخ. وعلم الكتابات القديمة
(المخططات) وعلم النقوش
Epigrahpie (كالكتابات على الحجر) وعلم المسكوكات
Numismatique
كالنياشين، وعلم الآثار
Archéologie
وعلم أصول المواضع
Toponymie (أصل أسماء الأمكنة). (2)
كما تستخدم الوثيقة للتثبت من الواقعة. وأكثر الوثائق صحة هي الوثائق غير الإرادية التي لا تقول إلا القليل، أما الوثائق الإرادية فتقول أكثر، ولكن لا يطمأن إليها كثيرا، إذ يمكننا أن نتساءل عما إذا كان المؤرخ الذي دونها قد ألم بالحوادث إلماما كافيا، وعما إذا كان حكمه حرا. وهنا تتدخل روح النقد، أي روح الدقة
esprit de finesse
التي تحدث عنها باسكال، والتي هي نوع الذكاء الذي يقتضيه تفسير الإنجيل في نظره. وللنقد التاريخي مهمتان: (أ)
المقارنة أي التأكد من صحة وثيقة عن طريق وثيقة أخرى مستقلة عن الأولى. (ب)
التفسير النفسي والنقدي، أي التحليل الذي ننتقل به من الوثيقة إلى مقاصد الكاتب، ومن مقاصده إلى الصورة التي كونها لنفسه من الأحداث، ومن هذه الصورة إلى الأحداث ذاتها.
وهكذا تتضح معالم الوقائع التاريخية. ومن المهم هنا أن نشير إلى أهمية الصبر، أعني الحماس الذي يحاول به بعض الباحثين (ولنلاحظ أن التاريخ في أصله الاشتقاقي اليوناني يعني البحث) أن يلقوا ضوءا على دقائق معينة من الماضي، وعلى تفاصيل صغيرة إلى أقصى حد في بعض الأحيان، فيكرس أحد الباحثين في الوثائق مثلا عدة سنوات كي يتتبع أثر دير في العصر الكاروليني، وتقوم بعثة معينة بحفر منطقة من أجل التنقيب عن رسوم مدينة اندثرت منذ خمسة آلاف سنة. وفي حب الاستطلاع هذا عنصر تلقائي عميق، فالإنسان يهتم بالإنسان أشد الاهتمام، ووعيه بالإنسانية لا يكف عن الامتداد والتوسع، منذ العهود البدائية التي ينظر فيها إلى أي شخص غريب عن القبيلة على أنه من نوع مخالف.
ولكن يجب أن نلاحظ أيضا أن متابعة الوقائع على هذا النحو لا تخلو من بعض الافتراضات السابقة التي تتدخل على الدوام. فالمرء لا يرجع من الحاضر إلى الماضي فحسب؛ بل يستدل أحيانا بالحاضر على الماضي، وهكذا يفترض المرء وجود تجانس أساسي في مراكز الناس، ووحدة أساسية للطبيعة البشرية، لا يمكن الوصول إلى فهم دونها. ومن جهة أخرى، ينتقل المرء من واقعة معينة إلى أخرى، وهكذا يفترض اتصالا للتاريخ، ومنطقا معينا لتعاقب الأحداث. (ب) التركيب التاريخي
وهذا يفضي بنا إلى المهمة الكبرى الثانية التي يأخذها المؤرخ على عاتقه، والتي كانت توجد بصورة ضمنية في مهمته الأولى فليس يكفي أن نميط اللثام عن الوقائع؛ بل ينبغي أن ندمجها في مجموع حضاري شامل، وفي الوقت ذاته ندرجها في السياق الزمني، وهذا ما يسمى بالتركيب التاريخي. حقا إن الواقعة المجردة - كقرار أحد الحكام، أو معركة معينة، أو عملية تجارية، أو تشييد مدينة ما - أمر لا غنى عنه، فدونها لا يكون التاريخ إلا أوهاما، والواقعة هي على الدوام المحكمة العليا لكل تركيب تاريخي. ولكن لنلاحظ من جهة أخرى أن الواقعة إذا ما نظر إليها في ذاتها لم تكن تعني شيئا؛ إذ لا يكون لها معنى إلا باعتبار أنها حدث إنساني وقع لأناس وعاش فيه هؤلاء الناس، وباعتبار أنها تحتل مكانا في مجموع، وفي إطار عام، وفي لحظة محددة، وفي مدينة معينة وتعاقب محدد؛ أي تحتل، على وجه الدقة، مكانا في التاريخ، فكيف ننظم هذا التاريخ؟
هنا يتداخل الفهم والتفسير، ولكن هنا يصادف المؤرخ مشاكله؛ بل يصطدم التاريخ ذاته بحدوده التي لا يتعداها. (4) التداخل بين الفهم والتفسير
يستعين التاريخ بالفهم، أي بالمعرفة التي نكونها عن نشاط الإنسان وأفعاله بطريقة مباشرة تتغلغل بها في باطن هذا النشاط، لأن التاريخ يتخذ الإنسان موضوعا له، أو بتغيير أدق، لأن التاريخ يدعونا إلى أن ندرك من جديد نفس الطريقة التي عاش الإنسان بها التاريخ. ففهم الماضي ليس معناه أن نفهمه بوصفه ماضيا؛ بل بوصفه حاضرا لأولئك الذين عاشوا فيه، وعاشوا كما نعيش نحن في حاضرنا، جاهلين به وغير واثقين منه، لا ندري إلى أين نسير، وما إذا كانت الدلالة التي نحددها لهذا الحاضر ستتأيد في المستقبل، الذي نحاول أن نتنبأ به ونصنعه في آن واحد. ومن هنا كانت الواقعة التاريخية فردية، إذ تطابق في كل مرة تجربة فريدة، ومن هنا أيضا كان من المستحيل استيعابها كاملة، إذ إن كل من قام بدور فيها قد عاشها بناء على وجهة نظر معينة. وحسبنا أن نتأمل معركة «ووترلو» ومن وجهة نظر فابريس
Fabrice
ومن وجهة نظر نابليون، وأحد قواد التحالف.
على أن الفهم هو أيضا تفسير، وهو بحث عن دلالة واقعة خارج هذه الواقعة ذاتها، أي في سياقها، وكذلك في أسبابها ونتائجها، ففيه إذن اعتراف بحتمية تاريخية أو منطق للتاريخ. والواقع أن هذين الطريقين (الفهم والتفسير) يرتبطان دائما في عمل المؤرخ الذي يحاول أن يحتفظ للواقعة بملامحها الخاصة وطابعها الأصيل الحي، وفي الوقت ذاته يدمجها في سلسلة متصلة الحلقات، ويميط اللثام عن أسبابها ونتائجها، ويكشف عن القوانين العامة التي تعمل عملها في هذه الواقعة. وكما قلنا من قبل، فإن لكل واقعة إنسانية مثل هذا الوجه المزدوج. فمن الممكن أن ينظر إليها على أنها مظهر لابتكار إنساني، تفسره دوافع، لا أسباب، كما يمكن أن تعد واقعة طبيعية تخضع لضرورة خاصة بها، فتكوين الرايخ
Reich
الألماني يمكن أن يفهم على أنه من عمل بسمارك، وكذلك من عمل الألمان العديدين الذين أسهموا معه في هذه المهمة، كما يمكن النظر إليه على أنه حادث أصبح من المحتم وقوعه بناء على منطق الحركة القومية في القرن التاسع عشر والظروف الخاصة المحيطة بها، ولو عبرنا عن هذه الفكرة على نحو أعم، لقلنا إن الإنسان، والإنسان العظيم بوجه خاص، يمكن أن يفسر التاريخ، وبالعكس يفسر التاريخ الإنسان، وليس على علم التاريخ أن يختار بين هاتين الوجهتين من النظر. وقد أكد ماكس فيبير
Max Weber
بوجه خاص ضرورة الجمع بينهما؛ فالسببية هنا أيضا تعبر عن الفهم كما في قولنا إن قرارا لبسمارك قد أدى إلى حادثة معينة، والفهم يوضح السببية كما في قولنا إن الحركة الوطنية ترتبط بتغيير في التركيب الاقتصادي والاجتماعي، وبظهور أفكار جديدة في الوقت نفسه، إن كل علم يود أن يبرر نفسه تبريرا سببيا، وفي علوم تقترن هذه العلاقة السببية بعلاقة دلالة
relation significative . (5) موضوعية التاريخ
إن الصعوبات التي يلقاها علم التاريخ ترجع إلى تطبيق هذين المنهجين. ولنتساءل أولا: إلى أي حد يكون الفهم ممكنا، أعني إلى أي حد تكون المعرفة التاريخية خلوا من كل غرض؟ وإذا كان علم التاريخ يشهد بقدرة الإنسان على إدراك الماضي إدراكا واعيا، وبرغبته في تحديد مستقبله وفقا لهذا الماضي، فلنا أن نتساءل في هذه الحالة: ألا يؤدي حرص الإنسان حاليا على مستقبله إلى توجيه الفكرة التي يكونها لنفسه عن الماضي توجيها معينا؟ إن الثورة الفرنسية إذا ما درست في عهد عودة الملكية، تبدو في صورة مختلفة كل الاختلاف عنها إذا ما درست في عهد الإمبراطورية الثانية، أو الجمهورية الثالثة، كما تختلف أيضا باختلاف شخصية المؤرخين. إن الاتفاق بين الناس على واقعة مادية أمر ممكن لأنها لا تهم أحدا منهم بطريق مباشر على الأقل. وصحيح أن المرء قد يتخذ منها موقفا معينا، ولكنها في ذاتها لا تستأثر باهتمام إنسان دون آخر، ولا تتضمن نموذجا يحتذى، أو حكما أو قرارا، أما في حالة الواقعة التاريخية، فنشعر بأننا ننفعل ويطلب إلينا أن نحدد موقفنا منها.
12
ولابد أن تؤدي مشاغل الحاضر أو تحيزاته إلى تشويه فكرتنا عن الماضي، أن فهم الماضي هو، في نهاية المطاف، محاولة منا لكي نحياه من جديد، ولكن هذا حد نهائي لا نملك إلا أن نحاول الاقتراب منه، إذ إننا لا نتصل بالماضي اتصالا كاملا. وفضلا عن ذلك، فبم نتصل لو وجد هذا الاتصال؟ أعني أننا إذا تحدثنا عن «ووترلو»، فهل نتصل بفابريس أم بنابوليون؟ إن الحادثة التاريخية لا تستوعب استيعابا كاملا. وليس في وسعنا أن نحياها مرة أخرى بحذافيرها. لهذا كان الجهد الذي يجب على المؤرخ أن يبذله للخروج عن الموقف الحالي والتعاطف مع الماضي جهدا لا حد له. (6) الحتمية التاريخية
ولكن ما دام رجوعنا إلى الماضي أمرا لا مفر منه، أفلا نستطيع الإفادة من ذلك للسيطرة عليه، وترتيبه وتنظيمه؟ تلك هي المهمة التي تحاول الحتمية التاريخية القيام بها، على أن لهذه المهمة حدودا، وإن كانت هذه الحدود لا تغض من قيمة هذه الحتمية بحال.
وترجع هذه الحدود أولا إلى أن الواقعة التاريخية البشرية وأفعال البشر مما يصعب التنبؤ به، ففي بعض الأحيان نلاحظ الجغرافيا البشرية؛ أن مدينة ما تبنى في موقع غير ملائم، على حين أن موقعا أنسب يظل مهجورا، ولكن لو سلمنا بحرية الذين يحتلون أدوارا تاريخية، فإن هذا لا يعني رفض أية محاولة للتفسير. وكل ما في الأمر أنه يجب علينا أن نستبدل بحتمية الأسباب الطبيعية، تحديدا عن طريق الأسباب العقلية، أو نضيف الثانية إلى الأولى، أي أن السببية العقلية تحل محل السببية الطبيعية. وفضلا عن ذلك، فالبحث عن الأسباب يرتبط بمواقف أو بحوادث تبلغ في معظم الأحيان حدا من الاتساع يؤدي بالفرد إلى التراجع إلى المرتبة الثانية، ومعه كل إشارة إلى الحرية.
وإذن، فالأصح أن يقال إن ما يحد من الحتمية هو تعقيد الواقعة، وبالتالي كثرة السلاسل السببية التي تقابل كل واحدة منها وجها لهذه الواقعة، فالحرب مثلا يمكن أن تعزى لأسباب متعددة. ولكن، كيف يتسنى لنا أن نميز هذه العلاقات السببية المختلفة إن لم يكن ذلك بإقحام ضرب من التفرقة يرتاب المرء دائما في أنها اعتباطية، فضلا عن أنها تفصم وحدة الحادثة؟
ومن جهة أخرى، فكيف نقيس أهمية كل من هذه الأسباب؟ هنا تظهر صعوبة جديدة، وهي أن الواقعة التاريخية لا يمكن تكرارها. ومن ثم لا تخضع للتجريب. وإنما نتمكن من تقدير الأسباب العميقة والأسباب العرضية عن طريق تجربة عقلية. وكما قال «ماكس فيبير». إذا أردنا أن نقدر أهمية إحدى المقدمات، فعلينا أن نتصورها بالذهن، مختلفة عما هي عليه أو غير موجودة. فما الذي كان يحدث لو كان جروشي
Grouchi
قد حل محل بلوشر
Bluecher
في موقعة ووترلو، أو كان نابليون قد كسب تلك الموقعة؟ على أن هذه التصورات فرضية بلا شك، حتى لو استطعنا أن نجعلها ترتكز على المنهج المقارن، بأن نستشهد بما حدث بالفعل بعد أحد انتصارات نابليون. ولذا كانت السببية التي توحي بها هذه الفروض سببية احتمالية على الدوام. ونقول بعبارة أخرى إن الحتمية هي حتمية غير مؤكدة، وهي كذلك جزئية غير متكاملة، إذ إن معرفتنا بالتعاقب التاريخي تنطوي دائما في فجوات لا تبرز فيها إلا حوادث خاصة، ولا تستبقي معرفتنا من الواقع سوى بعض مظاهره الخاصة، على حين أن علاقة السببية لا تربط لحظة كلية من لحظات الصيرورة بلحظة أخرى كلية مثلها، وإنما تربط حادثا بآخر.
ومع هذا، فالبحث في الحتمية ليس عقيما، ففي خلال هذا البحث تظهر ضروب من الاطراد، واتجاهات ثابتة تسمح بإدراك الخاص من خلال العام، فنحن نعلم، بصورة مجملة، آثار الحرب في شعب من الشعوب، وما العلاقة بين النظم الدينية والأشكال الجمالية، وبعبارة أخرى، فالمؤرخ - كما سنذكر فيما بعد - يصبح عالم اجتماع مثلما يصبح عالم الاجتماع مؤرخا بدوره. وحتى لو ظل المؤرخ متعلقا بالتفاصيل، وبفردية الأحداث، وهي الأمور التي يتركها عالم الاجتماع عادة جانبا من أجل البحث عن القوانين العامة، فإنه في حاجة إلى المعاني العامة أو القواعد التي يقترحها عليه عالم الاجتماع، إن لم يكن في حاجة إلى القوانين التي يقررها له، أو هو يضطر إلى أن يصبح عالم اجتماع حتى يضع هذه القواعد والقوانين بنفسه. (7) فلسفة التاريخ
لكن المؤرخ قد يكون متعجلا، ولا يقنع بهذه النظرة المجزأة غير اليقينية إلى الماضي، فيبدي رغبة في إدراك الصيرورة التاريخية في حلقاتها المتتابعة وفقا لحتمية لا تتخلف، وعندئذ يستند إلى فلسفة التاريخ، أو يلجأ إلى حل مماثل لهذا، يعتمد على مذهب طموح في علم الاجتماع، كي يقفز به طفرة واحدة إلى الحد النهائي لبحثه، ويؤكد نظرية عامة في الصيرورة الإنسانية.
فلنفحص بإيجاز بعض المذاهب المشهورة في هذا الصدد:
يرى «أوجست كونت» أن تطور العقل يتحكم في تقدم البشرية. وهذا التطور ينتقل من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الميتافيزيقية ثم إلى المرحلة التي يسميها «أوجست كونت» المرحلة «الوضعية». وذلك هو قانون المراحل الثلاث (1830م)
13
وهي المراحل التي يقتضي كل منها نوعا معينا من أنواع التفسير. ففي المرحلة اللاهوتية، يفسر العقل البشري عالم الواقع بقوى سحرية، ثم بالآلهة (وديانة التوحيد تمثل أعلى مركب في هذا النوع من الفهم)، وتتصف المرحلة الميتافيزيقية، قبل كل شيء بأنها مرحلة نقدية، تعقب مرحلة عضوية وتبشر بمرحلة عضوية أخرى. وفيها تنبذ البشرية المعتقدات القديمة، ولكنها لا تلمس في نفسها القدرة على أن تستبدل بها تفسيرا يقبله كل الأفراد. فالميتافيزيقيا ذاتية، أعني أنها تنحصر في تفسيرات يسميها أوجست كونت «باللفظية» ويستخلصها كل فيلسوف من أعماقه الباطنة. وهذه الفوضى العقلية التي تتصف بها تلك الكثرة المحتومة من المذاهب الميتافيزيقية تؤدي إلى فوضى اجتماعية وسياسية. على أن ظهور العلوم الخاصة - من علم الفلك إلى علم الاجتماع - يسمح للعقل البشري بأن يستبدل البحث الوضعي في القوانين بالبحث في العلل. ويقوم آخر العلوم، وهو علم الاجتماع، بوضع حد للفوضى، عندما يحقق اتفاق العقول على سياسة وضعية. وهكذا يفسر أوجست كونت تغيرات التركيبات الاجتماعية والسياسية للإنسانية عن طريق إصلاح عقلي يقوم على أساس من تطور العلوم.
أما هيجل (1770-1831م) فيرى أن فيلسوف التاريخ يكتشف في التاريخ تطورا ذا دلالة. وهو يطلق على المعنى الذي يتبدى تدريجيا في تعاقب الأحداث اسم «الفكرة
idée » ويبدو أن صانعي التاريخ ينقادون على غير علم منهم نحو تحقيق هدف لم يريدوه، ومع ذلك فهو هدف زاخر بالمعنى (وهذا ما يسميه هيجل «بدهاء العقل» الذي يحل في نظره محل العناية الإلهية). هذا التطور للفكرة، الذي هو صراع وتجاوز لذلك الصراع، يكون الديالكتيك التاريخي، الذي يفضي إلى الشعور بالحرية ضد كل اغتراب.
14
وقد تتبع هيجل هذا التطور الديالكتيكي في التاريخ السياسي، وفي التاريخ الديني، وفي تاريخ الفنون كما تتبعه في تاريخ الفلسفة. لكنه اتهم بأنه لا يحرر الإنسان إلا من الوجهة النظرية، وبأنه تصور أنه قد تغلب على الاغتراب عن طريق الوعي به، كما لو كانت الفلسفة هي هدف التاريخ. وقد اتخذت الهجلية اليسارية هذا النقد نقطة بدء لها، فسارت بفلسفة التاريخ في اتجاه عملي انتهى إلى الفلسفة الماركسية في التاريخ.
فإذا كان «أوجست كونت» قد استخلص طرقا «للتفسير»، وهيجل قد رأى الفكرة «تتحقق» في التاريخ خلال مظاهر الصراع والمقاومة، فإن كارل ماركس (1818-1883م) يرمي إلى فهم التاريخ دون أن يفصل هذا الفهم عن المسلك العملي للإنسان، الذي يهدف به إلى السيطرة على الطبيعة وتحقيق الاعتراف المتبادل بين «الناس». لهذا بدأ كارل ماركس بأن ربط الاقتصاد السياسي والفلسفة، ووجد في العلاقات بين الإنسان والطبيعة، وفيما ينجم عنها من علاقات بين الطبقات الاجتماعية بوجه خاص، أسس الديالكتيك التي كان هيجل ينسبها إلى «الفكرة».
فالمادية التاريخية هي تفسير التطور التاريخي ابتداء من هذه العلاقات الأساسية التي تحمل في ثناياها وجود الإنسان، ومختلف الآراء التي يكونها لنفسه عن موقفه الخاص. وعندئذ يكون من المحال أن نفصل طريقة فهم هذا الموقف ذاته. على أن آخر الطبقات الاجتماعية في الظهور، وهي الطبقة العاملة (
Le prolétariat ) لا تكتفي بفهم موقفها، وإنما تستطيع، بناء على هذا الفهم، أن تدرك مواقف الطبقات الاجتماعية الأخرى وحركة التاريخ. وهكذا يحاول كارل ماركس أن يعرف «بطريقة عملية»، لا نظرية، ما أسماه هيجل وعي الإنسان بذاته. (8) وضعية التاريخ
تمثل فلسفة التاريخ إغراء مستمرا يجتذب التاريخ ذاته. وربما كان كل مؤرخ يخضع لهذا الإغراء بطريقة ضمنية تتفاوت في درجاتها. وتعبر هذه الفلسفة في نهاية المطاف، عن الدلالة التي يضفيها المؤرخ على حاضره، وعلى الماضي، من خلال المستقبل الذي يؤمله أو يتنبأ به. وربما كان من المحتم على المؤرخ أن يشعر بأنه قد «حدد موقفه» على هذا النحو، وارتبط بالماضي في الوقت ذاته، وذلك حتى يتسنى له أن يولي الماضي اهتمامه، وحتى يكون لبحثه التاريخي معنى. ومع ذلك، فالواقع أن خير ما ينطوي عليه إنتاج المؤرخ هو ما يقوم به من دراسات مضنية حول لحظات معينة في التطور، وهذا الجزء يقتضي جهدا لكشف الحقيقة التاريخية في تعقيدها؛ بل في فجائيتها أحيانا، وذلك في مقابل فلسفة التاريخ التي تقتل التاريخ بسبب غلوها في تبسيطه، وفي هذا الصدد يقدم علم التاريخ، الذي يظل ناقصا واحتماليا على الدوام، خير مثال لما يمكن أن تكونه الروح العلمية، التي تلهمها مشاغل قد لا تكون من مجال العلم دائما، ومع ذلك فإنها تؤدي إلى أن تتغلب فيه روح احترام الحقيقة وتقديرها.
علم الاجتماع (1) مهمة علم الاجتماع
إذا أردنا أن نكون لأنفسنا فكرة عن كنه علم الاجتماع أي علم الظواهر الاجتماعية، وجب علينا أن نبدأ بأمثلة غاية في البساطة. فلنتصور أحد الفصول التي تدرس فيها الفلسفة، والتي تكون مجتمعا صغيرا في معهد علمي؛ مثل هذا الفصل قد يثير عددا من المشاكل: فما مكانة هذا الفصل في المدرسة الثانوية، أو في الجهاز الجامعي، وفي نظام التعليم العام في البلاد؟ وكيف يؤدي هذا الفصل مهمته؟ أي ما تركيبه حسب أعمار طلابه، وعقيدتهم الدينية، وميولهم السياسية، والمراكز الاجتماعية لآبائهم؟ وهل له سمات خاصة به، وتقاليد ومعايير، ونوع من روح الجماعة، وإنتاج معين؟ وما التيارات التي تمر به، من علاقات للأستاذ بطلابه، وللطلبة فيما بينهم، أهو متجانس، أم مجزأ إلى جماعات متميزة ومتعارضة؟ كل هذه المشاكل تنتمي إلى كل مجال علم الاجتماع. ولنضرب مثلا آخر، عن المدينة التي توجد بها هذه المدرسة: ما تاريخها، وفي أي الظروف الجغرافية نمت، وما تأثير هذه الظروف في تركيبها، وفي هندستها المعمارية، وفي أعمال سكانها؟ وما وظيفتها في الاقتصاد الإقليمي أو القومي؟ وما المؤثرات التي تلقتها من العاصمة، أو التي تمارسها هي على الضواحي المحيطة بها؟ وما عدد سكانها، وكيف يوزعون في المكان تبعا للأحياء؟ وإلى أي الطبقات؟ وإلى أي الجماعات من الأجناس تنقسم، وما أهمية هذا التقسيم؟ وهل يتصف هؤلاء السكان بطابع خاص في اللهجة أو العادات أو الفنون الشعبية ... إلخ؟ وما هو بوجه أعم، سلوك سكانها، من حيث المهنة والآراء واللهو؟ تلك أيضا مشكلات يعالجها علم الاجتماع وتقتضي أبحاثا متعددة ينبغي أن يكون لها طابع علمي، وذلك لأن هذه المشكلات تثار على أساس معطيات يمكن تحديدها وبحثها بطريقة موضوعية، ومن هنا كان تعبير دوركيم المشهور: «ينبغي أن تدرس الظواهر الاجتماعية كما لو كانت أشياء.» وهي عبارة لا يعني منها القول بأن الظواهر الاجتماعية أشياء، إذ إن هذا إنكار لما تتصف به الظواهر الاجتماعية والإنسانية من خصائص مميزة؛ بل يقصد منها الإشارة إلى أن من الممكن اتخاذها موضوعا لمعرفة وضعية فحسب. (2) أوجست كونت
يرجع الفضل إلى أوجست كونت في إدراك هذه الحقيقة، وأعني بها أن الظاهرة الاجتماعية، من حيث هي كذلك، ومن حيث أنها مضادة للظاهرة الفردية، يمكن أن تكون موضوعا لعلم وضعي. ولقد انتهى إلى هذه النتيجة بناء على اعتبارات أخلاقية وسياسية (وهي الاعتبارات التي يصعب فصلها من كل بحث في العلوم الإنسانية). فقد لاحظ ما تركته الثورة الفرنسية من فراغ في النظم والعادات، بعد أن أتمت هذه الثورة القضاء على نظام منحل ، دون أن تنجح في أن تستبدل به غيره. وعندئذ تساءل كونت عن الطريقة التي يمكن بها إعادة الوحدة والنظام - وهما أساس كل تقدم - إلى العالم وإلى الأمم الأوربية بوجه خاص، فرأى أن ذلك التنظيم الأخلاقي العقلي والسياسي الذي حققته العصور الوسطى في ظل المسيحية - والذي انحل بالتدريج طوال العصر الميتافيزيقي - لا يمكن الشروع في تحقيقه من جديد إلا بشرط أن يتم تحت لواء العلم، حتى يعود التوازن مرة ثانية ولكن، لأي العلوم ستكون الصدارة عندئذ؟ لذلك العلم الذي ظهرت بوادره عند كل من مونتسيكو وكوندورسيه في القرن الثامن عشر، والذي أصبح في الوقت الحالي ممكنا بفضل تقدم العلوم الأخرى ؛ ويعني به علم الاجتماع. وسرعان ما استنبط كونت النتائج الأخيرة لهذه الفكرة؛ فعلم الاجتماع يمتلك أفضل الوسائل لمعرفة كل ما يتعلق بالإنسان، والسبب في ذلك أولا هو أن الظاهرة الإنسانية تتجلى في الظاهرة الاجتماعية أكثر مما تتجلى في الظاهرة الفردية، ما دامت الظاهرة الاجتماعية أشبه بالتكبير الواضح، في حين أن الظاهرة الفردية، التي لا تخضع في نظر أوجست كونت إلا للاستيطان، لا مكان فيها إلا للملاحظة الفجة المشوبة بالغموض. والسبب الأهم هو أنه لا وجود للظاهرة الفردية حقيقة إلا بوجود الظاهرة الاجتماعية؛ فالفرد فكرة مجردة كما يقول كونت، وكل ما ينطوي عليه من أفكار وعواطف وميول، وكل ما يجعله إنسانا، ويرفعه فوق مستوى الحيوان، إنما يأتيه من قبل الحياة الاجتماعية، والتركيب الداخلي للفرد إنما هو ميراث يستمده من الإنسانية، والإنسانية هي مجموع النظم والأفكار الأخلاقية والدينية، والقواعد العقلية، والعادات العملية التي تميز الإنسان، والتي لم يكن إعدادها ممكنا إلا بفضل الجماعة الإنسانية، وتضامن الجماعات البشرية في المكان وفي الزمان. (3) دوركيم وتعريف الظاهرة الاجتماعية
شقت الفكرة التي تقدم بها أوجست كونت طريقها، وبعد بضع عشرات من السنين توارت فيها هذه الفكرة، عادت فأثمرت عدة مدارس اجتماعية. وأبحاثا تتزايد وفرة، وسار المفكر الذي اعترف الجميع بزعامته للمدرسة الفرنسية، أعني دوركيم، في طريق يكاد يكون نفس الطريق الروحي الذي سلكه كونت، فالأساس الخفي لفكره هو أيضا الحرص على معالجة الفوضى التي تهدد المجتمع الغربي، وذلك بتأكيد علو الاجتماعي على الفردي، وإمكان ازدهار الفردي بوساطة الاجتماعي وداخله. فالتربية الأخلاقية يجب أن تقوم على أساس المعرفة الوضعية للظواهر الاجتماعية، وهذه هي فكرة كتاب «قواعد المنهج في علم الاجتماع»، الذي يعرف الظاهرة الاجتماعية وشروط دراستها.
وتعرف الظاهرة الاجتماعية بأنها خارجة على الفرد، ولها في ذلك طابع مزدوج، فهي أولا جماعية، أعني أنها تنتمي إلى الجماعة من حيث هي كذلك، ولا تتوقف على اختراع الفرد أو موافقته. ومن الأمثلة الواضحة في هذا الصدد اللغة، أي مجموع الكلمات وقواعد التركيب اللغوي. ولكن هناك أمثلة أخرى، كالعادات، والتقاليد والقواعد التشريعية (والمثل الأخير محبب إلى نفس دوركيم). ويجد الفرد هذه الأسس الاجتماعية موجودة من قبله، ولذا كان لزاما عليه أن يكيف نفسه تبعا لها، ولا ريب في أنه سيقال إن الفرد يستطيع تعديلها على أقل تقدير، وذلك بأن يقف تجاهها موقف الرفض أو حتى موقف القبول، فضلا عن أن في وسعه أن يبتكرها (كما في حالة نسبة مجموعة معينة من القوانين إلى مشرع معين). ولكن لو نظرنا إلى الأمر عن كثب، لأدركنا، من جهة، أن الابتكار يفترض حالة معينة للفكر الجماعي، تمهد له، وتستدعيه ومن جهة أخرى فهذا الابتكار لا تكون له أهمية أو معنى إلا بقدر ما يعترف به، ويقبل، وينتشر؛ أعني إذا خرج من أيدي صاحبه، وفقد طابعه الفردي، ودخل مملكة الظواهر الاجتماعية.
15
وفي المقام الثاني توصف الظاهرة الاجتماعية بأنها قاهرة
coercitif . ويرجع ذلك، على وجه الدقة، إلى أنها خارجة عن الأفراد، والقهر الذي تمارسه الجماعات يمكن أن يتشكل بصورة متباينة: (1)
فقد يكون نوعا من القوة المادية، كما في الحتمية الطبيعية: وعلى هذا النحو تفرض قيمة سلعة أو قطعة من النقود. (2)
وقد يكون جزاءات منظمة (تقننها وتقضي بها محكمة تم تأليفها) أو جزاءات غير رسمية (كالتمجيد أو التحقير، وهما جزاءان ليس لهما قانون ثابت؛ يصدران عن الرأي العام). (3)
السخرية التي تلحق بمن يخالفون العادات دون قصد، أو يستهينون بقواعد الذوق الشائعة. (4) موضوع علم الاجتماع (أ) التصورات الجماعية
les représentations collectives
مم تتكون الظاهرة الاجتماعية التي نعرفها على هذا النحو؟ تتكون أولا - على حد قول دوركيم - من «التصورات الجماعية» أي من أساليب التفكير والشعور والسلوك التي تبدو في تصرف الفرد على أنها تعبير عن سيطرة الجماعة. وأوضح الأمثلة لذلك هي استجابات الفرد عندما يندمج في جماعة «في حالة انفعال قوي» كما يحدث بمناسبة احتفال أو عيد أو اجتماع سياسي. فهنا يتبلور «الشعور الجماعي» مؤقتا على الأقل، ولكن إلى جانب هذه الاستجابات الانفعالية، يرى دوركيم، أن أسمى أنواع نشاط الوعي تتوقف هي الأخرى على شروط اجتماعية؛ فتأمل المفكر المنعزل يفترض تراثا ثقافيا معينا، واعتمادا على مفاهيم يعجز الفرد وحده عن تكوينها. وهذه الثقافة ينبغي أن تنسب إلى الشعور الجماعي الذي يتميز به مجتمع معين في عصر معين.
ويمكن دراسة هذه التصورات الجماعية دراسة وضعية. فكما أن المدرسة السلوكية في علم النفس قد اعتزمت فيما بعد أن تدرس في الفرد ما يمكن ملاحظته عليه من الخارج، أعني سلوكه، دون أن تلح في التساؤل عما يحدث في «أعماقه الباطنة»، فكذلك ركز «دوركيم» انتباهه، في كتاب «تقسيم العمل» بوجه خاص، على بحث الظواهر التي يمكن ملاحظتها على نحو أكثر يسرا، أعني الظواهر التي يتجلى فيها طابع الخارجية والقهر الذي تتميز به الظاهرة الاجتماعية بأوضح صورة، كالظواهر التشريعية. فقانون العقوبات بوجه خاص، يكشف في طريقة صياغته وتطبيقه عن الوعي أو الضمير الجماعي للجماعة. ومع ذلك، فما كان هذا ليمنع دوركيم من أن يقوم بتحليل نفساني دقيق للمعتقدات الدينية، كما فعل في كتابه «الصور الأولية للحياة الدينية»
les formes elémentarines de la vie religieuso
ذلك لأن موضوع التصورات الجماعية يمكن أن يطرق من زوايا متباينة. (ب) النظم
على أن هذه التصورات، من ناحية أخرى، تستمر في البقاء وتتوارث، عن طريق إدراجها في نظم اجتماعية؛ فالتصورات التشريعية مثلا تقنن في سجلات من القوانين تقتضي دراسة للقانون، ويطبقها قضاة، ويحميها رجال الأمن ... إلخ. وبهذا المعنى يكون علم الاجتماع هو علم النظم الاجتماعية. والذي لا شك فيه أن تعريف النظام
intitution
ليس بالأمر الهين. ومع ذلك فمن الممكن التعرف عليه، كما يقول «مالينوفسكي» بناء على ما ينطوي عليه من مثل عليا أو معايير يرمي إلى تطبيقها، ومن ميثاق يقوم على أساسه، ومجموعة من الأشخاص يستخدمها النظام، ومادة يستعملها، ولكن الأساس هو أن النظام ينظم، أعني أنه يخلع على الحياة الاجتماعية صورة محددة، ويضفي عليها الطابع الذي يمكن وصفه بأنه رسمي، جماعي، متعارف عليه، والذي تتميز به الظواهر الاجتماعية.
والبحث في النظم يسمح بتقسيم العمل في مجال علم الاجتماع: فمن الممكن في الواقع تقسيم النظم إلى طوائف كبرى معينة، كالنظم السياسية، والاقتصادية، والتشريعية، والفنية، والدينية ... إلخ، وكل هذه المجالات يسمح بقيام دراسة خاصة (هذا، بطبيعة الحال. على شرط ألا نغفل أبدا ما بين هذه النظم من علاقات متبادلة في كل مجتمع معين، وندرك ما بين العادات الخلقية، والدين، والاقتصاد مثلا، من سببية متبادلة تؤثر بها كل منها في الأخرى دائما). وهكذا يمكننا أن نتحدث عن علم اجتماع ديني، وعلم اجتماع اقتصادي، وعلم اجتماع جمالي ... إلخ؛ بل نستطيع المضي في هذا التقسيم إلى أبعد من ذلك ونلمح «سمات حضارية» كما في الأساليب العملية للأخلاق، والمعتقدات الدينية، واستخدام أداة ما، وغيرها، ونتابع تاريخها في الزمان وتوزيعها في المكان خلال ظواهر الاقتباس والانتشار. (ج) بحث الأشكال الاجتماعية
la morpholgie social
وأخيرا فإن دوركيم لم يغفل عن هذه الحقيقة، وهي أن الظاهرة الاجتماعية، والتصورات الجماعية والنظم التي تتجسد فيها، تقوم في أساسها ومبدئها على ظاهرة التجمع، والشكل الذي يتخذه هذا التجمع من الوجهة المكانية. فعلم الاجتماع هو أولا دراسة للأشكال الاجتماعية، وذلك لأن سمات المجتمع والتصورات التي تعبر عنه وتدعمه تتوقف إلى حد بعيد على الظواهر الخاصة بالسكان: أي على عدد السكان وحجمهم وكثافتهم، والطريقة التي يمكن بواسطتها تحقيق الازدهار والتداول في السلع والأفكار. ويؤدي البحث في التركيب المادي للجماعة، والشروط المادية لحياتها، إلى البحث في السكان من جهة الديموجرافيا
démographie
من جهة، وإلى البحث في علم البيئة
ecologie
أي دراسة طريقة توزيع السكان على التربة، وتوزيعهم في المدن والأرياف، كما يؤدي إلى الجغرافيا البشرية التي تدرس العلاقات المتبادلة بين الإنسان وبيئته الطبيعية، وهي الدراسة التي تعد الجغرافيا الطبيعية مقدمة ضرورية لها. (د) علم الاجتماع السكوني (الاستاتيكا الاجتماعية) وعلم الاجتماع الحركي (الديناميكا الاجتماعية)
وهكذا تتكون لدينا فكرة معينة عن مدى اتساع المجال أمام علم الاجتماع. ولكن يجب أيضا أن نشير إلى اتجاهات أخرى في البحث، فلنبدأ بكلمة عن التمييز الحاسم الذي نبه إليه من قبل أوجست كونت، بين السكوني والحركي. فالدراسة تبحث في «التضامن الاجتماعي»، وفي شروط وجود مجتمع معين في لحظة معينة من تاريخه، وفي تركيبه، أعني في العلاقات المتبادلة بين النظم التي تظهر فيه، والجماعات الخاصة التي تكونه . وفي هذه الدراسة يبدو المجتمع العام، بحضارته الخاصة، كأنه كل «شبيه إلى حد ما» بالكل الذي يكونه الكائن العضوي.
16
وقد حددت النظرية الوظيفية هذه الفكرة وألحت في بيان ضرورة دراسة كل حضارة وكل مجتمع أنه قائم بذاته.
أما الدراسة الحركية فتتعلق بتاريخ المجتمعات من الوجهة الزمنية، وهي في ذلك ترتبط بالتاريخ في علاقات وثيقة. والصفة الغالبة على هذا البحث في معظم الأحوال هي الميل إلى التحليل. فالباحث يستطيع تتبع التطور الزمني الذي يمر به نظام معين، كالأسرة، أو سمة حضارية خاصة كالصلاة، أو إحدى الأدوات، أو الأساليب الفنية، داخل مجتمع معين، أو في مختلف المجتمعات التي يتمثل فيها. وقد يعن له أن يبحث عن منطق هذا التطور خارج النطاق التاريخي، فيفحص نظما متعاصرة، ولكنها توجد في مجتمعات مختلفة، كالأساليب الزراعية المختلفة التي تتبع اليوم لدى شعوب أفريقية معينة، وفي مزارع فرنسية، وفي مزارع جماعية روسية، ويرى فيها أمثلة لمراحل مختلفة في تطوير يحاول إعادة تركيبه. ولكن من الواجب أن نكون على الدوام حذرين في حالات إعادة التركب هذه، حيث لا يعمل العنصر الزماني على تحقيق العنصر المنطقي. (ه) علم الأجناس البشرية
éthnologie
وعلى كل، فإن هذه الرغبة في تتبع تطور ذي طابع عقلي، هي التي أضفت مثل هذه الأهمية على الدراسات المتعلقة بالمجتمعات المسماة بالبدائية، وهي الدراسات التي حاول الباحثون أن يتبينوا خلالها الصور الأصلية والأولية للحياة الاجتماعية. ومعظم العلماء يطلقون اسم «علم الأجناس البشرية»
éthnologie
على ذلك الفرع من علم الاجتماع الذي يخصص لدراسة مثل هذه المجتمعات. ومن مزايا هذه الدراسة أيضا أن المجتمعات البدائية، بما تتميز به من ضيق نطاقها، تقدم إلى الباحثين موضوعات أقل تعقيدا، وأصغر حجما من المجتمعات الحديثة؛ بل موضوعات أكثر استقرارا، وذلك لأنها لما كانت في عزلة نسبية وأقل تعرضا للمؤثرات الخارجية، ولا تعرف فكرة التاريخ ولا فكرة التقدم، وتبث في الفرد احترام التقاليد والأساطير، فإنها تتطور على نحو بطيء جدا. كما أن من مزاياها أنها تكشف بوضوح عن الطابع المميز للظواهر الاجتماعية وعن مدى سيطرتها . فالمطالبة بحقوق الفرد، ومحاولة الابتكار، وممارسة التفكير الشخصي، كل هذه الأمور لا تتبدى فيها على الإطلاق، إذ يستوعب الجماعي الفردي تماما. وأخيرا يمتاز علم الأجناس بأنه يلفت الأنظار إلى ما تتصف به الحضارات من تعدد، ومن تعرض للزوال، وهي الصفات التي تحدث عنها منتني
Montaigne
من قبل.
ومع ذلك، فالاتجاهات الأخيرة في علم الأجناس البشرية تميل إلى: (1)
أن تؤكد، على حد سواء، كلا من أوجه التشابه، وأوجه الاختلاف، بين البدائي والمتمدين. وهذا ما قام به ليفي بريل؛ فإنه لما بين الطابع «قبل المنطقي» (
) الذي تتسم به «العقلية البدائية» في مقابل العقلية المنطقية التي تسود المجتمعات الحديثة، أكد أن التضاد ليس حاسما، كما بين باحثون آخرون التفكير السحري، الذي يبدو في الظاهر سمة تنفرد بها العقلية البدائية، قد ظل قائما في المجتمعات الحديثة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يتنافى مع وجود تفكير عقلي يتمثل في الأساليب العملية وفي العلاقات الإنسانية. (2)
أن تكشف في أبسط المجتمعات البدائية عن نوع من التعقيد يمنعنا من الحكم عليها بالبساطة (إذ نجد فيها مجموعات تنتمي كل منها إلى عمر معين، كما نجد فيها نوادي وجمعيات سرية ... إلخ) ومن جهة أخرى تتمثل فيها آثار ماض يمنعنا من أن نعدها أقدم صورة للمجتمعات الإنسانية. (3)
وأخيرا تميل هذه الاتجاهات الأخيرة إلى القول بإمكان تطور هذه المجتمعات، وخاصة إذا ما اتصلت بالبيض
17
كما يتبين من الدراسات المتعلقة بظاهرة «التكيف الحضاري
acculturation ». (و) علم الاجتماع التحليلي
ما دام كل مجتمع شامل يوصف بأنه معقد، فمن واجب علم الاجتماع أيضا أن يعمل على تحليله، وأن يميز على تعبير جرفتش
Gurvitch
بين الجماعة - المنظمة - التي تكون المجتمع، وبين صور قابلية التجمع
Formes de sociabilité
أعني الطرق المختلفة التي يرتبط بها الأفراد على نحو يؤدي إلى تكوين وحدة اجتماعية تنظمهم جميعا، ولقد أدى هذا البحث الأخير إلى فروع عديدة من الأبحاث المتشبعة.
ففي ألمانيا حاول «زمل
Simmel » ومن بعده «فون فيزه
Von Wiese » تصنيف «العلاقات الاجتماعية» تبعا لعمليات التقارب أو التباعد بين الأفراد، ففي وسع علم الاجتماع أن يهتدي دائما إلى عمليات «اجتماعية» تتم في المكان الاجتماعي
l’espace social (وهو مجال العلاقات الاجتماعية، الذي ينبغي التمييز بينه وبين المكان الطبيعي، ما دمنا لا نخلط بين المسافة الاجتماعية والمسافة المادية) وتتبلور في «مجموعات اجتماعية
ensembles sociaux » يشعر بها الأفراد عن وعي، ويحددون تصرفهم تبعا لها، وهي المجموعات التي يجب أن نميز فيها بين الجماهير، والجماعات التي يغلب عليها روح التكتل، وبين المجموعات «الجماعات المجردة» التي تبعث في النفوس التبجيل والرهبة في آن واحد، كالهيئات الدينية، والدولة والمهنة ... إلخ.
ويظهر لدى «تونيس
Toennies » تتميز آخر شهير وإن يكن مفرطا في بساطته، وهو التمييز بين صورتين من صور قابلية التجمع: الجماعة
Communauté
والمجتمع. فالجماعة أشبه بوحدة الكائن العضوي الحي، إذ تقوم على التضامن الوثيق الناشئ عن اتفاق عاطفي، والمثل النموذجي له هو الأسرة، أما المجتمع، فهو أشبه بالآلة، إذ ينبني على نظام تشريعي وعقلاني في آن واحد، وينمو هذا النظام عندما يضعف تعارض الأهداف والمصالح قوة التضامن الحيوي، واشتراكية الدولة هي آخر صورة للمجتمع المنظم عقلانيا.
وفي فرنسا يمكن المقارنة بين هذه التفرقة وتفرقة أخرى قال بها دوركيم عن تقسيم العمل الآلي وتقسيم «العمل العضوي»، وكذلك التفرقة التي قررها دافي
Davy
بين اللائحة
Statut
والعقد
contrat . ومن ناحية أخرى واصل «جرفتش» هذه الأبحاث فقال بما يسمى «علم اجتماع الأعماق
Soc. des profondeurs ».
18
الذي عزا إليه مهمة التفرقة بين الطبقات المختلفة للواقع الاجتماعي، وهي الطبقات التي تعبر عن مختلف المظاهر التي يبدو بها هذا الواقع، ابتداء من سطح المجتمعات باعتبار شكله وتوزيع سكانه حتى الرموز والأفكار والقيم الجماعية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد قال بما يسمى «علم الاجتماع المصغر
microsocilogie » ونسب إليه مهمة كشف الصور المختلفة لروح التجمع، وهي الصور التي تعبر عن مدى كثافة الحياة الاجتماعية، وتنظيم البناءات الاجتماعية من خلال مقدمات عامة، هي: «الجمهور
masse
والجماعة المحلية
Communauté
والتجمع
Communion ».
أما في أمريكا، فلنا أن نقول إن الدراسات النظرية للعناصر الاجتماعية، وإن لم تكن قد بلغت هذا الحد من التقدم، فقد أولى الباحثون أهمية كبرى للدراسة التجريبية للجماعات الخاصة وعلى هذا الأساس نرى القياس الاجتماعي
Sociométries
الذي وضع أسس مورينو
Moreno
يدرس تماسك الجماعات الاجتماعية، وإمكانيات إنتاجها، وذلك عن طريق قياس علاقات التجاذب والتنافر التي تقوم بين مختلف أعضائها. (5) منهج علم الاجتماع
إن كثرة المجالات التي يعالجها علم الاجتماع توحي بوجود كثرة من المناهج غير أن مما يؤدي إلى ازدياد تباين هذه المناهج، اضطرار علم الاجتماع إلى مواجهة المشاكل التي يثيرها كل علم للإنسان، ومن هنا كانت كثرة المدارس، وهي ظاهرة تشهد بحيوية التفكير في علم الاجتماع. فلنوضح هنا بعض الخطوط الرئيسية في هذه المناهج. (أ) علم الاجتماع الموضوعي
في البداية، يمكننا أن نتصور إمكان قيام علم للاجتماع ببحث في الظواهر الاجتماعية كما لو كانت ظواهر طبيعية. وذلك ما كان يطمح إليه طلائع المفكرين في هذا العلم. فإن الطابع الخاص المميز للمجال الاجتماعي، الذي يعرف بأنه جماعي
collectif
يقتضي الخروج بهذا المجال عن نطاق الفردية، وليس بالضرورة عن مجال الإنسانية، بحيث يمكننا البحث عن القوانين دون أن نثير احتجاج الوعي والحرية الفرديين. ففي انتقالنا من الميدان النفسي إلى الاجتماعي يتغير المجال والمنظور على نحو يسمح بتجاهل ذاتية الفرد. وهكذا يدرس علم السكان توزيع السكان أو الاتجاهات التي تتبدى في الظواهر السكانية (كالمواليد والوفيات والزيجات)، وذلك دون أن يعبأ بمعرفة من الذي يتزوج أو يموت، وإنما يرجع الفرد دائما إلى طوائف معينة من حيث العمر، والجنس، والطبقة الاجتماعية، والموطن ... إلخ، دون أي اكتراث بما يعنيه الزواج أو الموت بالنسبة إلى أي فرد بعينه. كذلك يدرس الاقتصاد السياسي مدى الإنتاج أو توزيعه في بلد معين مثلا، دون أن يهتم بمسلك منتج معين أو برأيه. وإذا اهتم بمثل هذا الرأي - كأن يهتم مثلا بحركات الشك التي يثيرها التهديد بالتضخم، وهو الشك الذي ينشط الطلب في القوت الذي يقل فيه الإنتاج - نقول إذا اهتم بهذه الظواهر النفسية، فإنما يكون ذلك بوصفها جماعية لا فردية. والحق أن دراسة الرأي العام تعمل أيضا على إغفال الطابع الفردي. فهي تهدف إلى قياس المعتقدات والتيارات الفكرية والعواطف التي تساور الجماعة، دون بحث في الطريقة التي يتلقى بها الفرد الرأي ويقره أو يرفضه، وإنما هي تفصل الرأي عن الفرد الذي يعبر عنه ... وتضفي عليه وجودا اجتماعيا بالمعنى الصحيح، والمنهج المفضل في هذه الحالة هو المنهج الأخصائي.
ويكشف الإحصاء، أحيانا بصفة حاسمة، عن اطراد الظواهر الاجتماعية. على أنه ليس من الواجب - بلا شك - أن نثق بالأرقام ثقة عمياء، ويرجع ذلك أولا إلى أن الإحصاء لا يستمد قيمته إلا من المعطيات التي يتخذها مادة له، والتي يستمدها من مصدر آخر؛ فتقدير الرأي العام تقديرا حسابيا يستمد قيمته من طريقة اختيار «عينات» السكان، ومن المعلومات التي يجمعها القائمون بالبحث. ثم إن مظاهر الاطراد التي يقررها الباحث قد ترجع أحيانا إلى نقص المعلومات التي جمعها، وأخيرا لأن الإحصاء في ذاته لا يستنتج شيئا، وهو يحتاج دائما إلى التفسير، ومع كل ذلك فلا شك في أنه يلقي ضوءا على الطابع الجماعي للظواهر الاجتماعية، ويساعدنا إلى حد كبير في التعبير عنه بدقة رياضية.
ويتعلق هذا العلم الاجتماعي الموضوعي بظواهر جماعية بالمعنى الصحيح، حيث لا يظهر الفرد إلا على اعتبار أنه أحد عناصر حقيقة أسمى فيه، فلا يعدو إنتاجه أو فعله أن يكون مجرد مثل أو «عينة». ولكن ينبغي أن نلاحظ أن استبعاد العنصر الفردي ليس معناه استبعاد العنصر الإنساني، أعني النفسي؛ فعلم الاجتماع الاقتصادي لا ينفق جهده عبثا عندما يقوم بدراسة نفسية للعمليات الاقتصادية، على غرار ما قام به علم الأجناس البشرية بالنسبة إلى الصور البدائية للتبادل، كذلك لا يتنافى البحث الإحصائي في تأدية الشعائر الدينية بحال مع تحليل صور الإيمان أو درجاته. ولكن ألا يتجه التحليل النفساني، كلما ازداد دقة، إلى العودة إلى الفردي؟ ألا ينتهي، على أية حال، إلى التناقض مع الهدف الأول لعلم الاجتماع الموضوعي؟ (ب) علم الاجتماع وعلم النفس
لسنا نخوض هنا غمار الجدل الذي ثار حول علاقة علم النفس بعلم الاجتماع. وحسبنا القول بأن التعاون يزداد قوة بين هذين العلمين دائما، فهناك علم اجتماعي نفسي ينمو جنبا إلى جنب مع علم الاجتماع الموضوعي. وهذا العلم الاجتماعي النفسي لا يأبى الاعتراف بالخصائص النوعية للظاهرة الاجتماعية، ولكن لابد من تأكيد الطابع الجماعي في الظاهرة الاجتماعية، نجده يحاول كشف النقاب إما عن السلوك الفردي الذي يعد أصلا للظاهرة الاجتماعية، وإما عن الطريقة التي يتلقى بها الفرد هذه الظاهرة ويحياها، وذلك دون أن يرى في بحثه في العنصر الفردي في الظاهرة الاجتماعية إخلالا بصفة الموضوعية. كذلك نرى أن «علم الاجتماع المنهجي
Soc. systématique » عند زمل
Simmel
وفون فيزه
Von Wiese - الذي يحاول تحديد العلاقات البشرية الأساسية المكونة للجماعات - يبدأ هو الآخر بعلم النفس. غير أن الحرص على الإفادة بعلم النفس دون الإبقاء على التضاد بين الجماعي والفردي يتجلى بوجه خاص في مبحثين: (1)
أولهما «علم النفس الاجتماعي»، وهو يدرس سلوك الفرد تجاه الظواهر الاجتماعية. فيبحث مثلا في الطريقة التي ينضم بها الفرد إلى جماعة، والدور الذي يلعبه فيها، والمركز الذي يشغله فيها، وكيف يبعث الحيوية في هذه الجماعة ويوجه نشاطها (وخاصة إذا كان يشغل فيها وظيفة القائد). وكيف يخضع الفرد، في مقابل ذلك، لتأثير الجماعة، ويقبل معاييرها ويتأثر بأحكامها، وأي الآراء والمشاعر تنمو لديه بسبب تأثير الجماعة، وكيف تنطبع شخصيته بأسرها بطابع الجماعة. وعندئذ يجب التنبيه إلى وجود تأثير متبادل من الجماعة في الفرد يمكن التعبير عنه بفكرة السببية، بشرط أن تكون هذه السببية على شيء من المرونة، وتدمج بها مفاهيم مثل مفهوم الدوافع، والتكيف، والتأثير. (2)
وثانيهما ذلك المبحث الذي أطلق عليه في أمريكا اسم «الأنثروبولوجيا الحضارية» وله موضوعه الخاص به، وهو دراسة حضارة مجتمع معين، أعني دراسة الطابع الاجتماعي حسبما يتمثل في الأفراد، وحسبما يحياه هؤلاء الأفراد، ومن هنا كان يتطلب دراسة علم النفس. ذلك لأن الحضارة، التي تفهم بهذا الفهم الواسع، يمكن دراستها بدراسة المنتجات المادية للصناعة البشرية، من أدوات وسلع وأعمال فنية ... إلخ، كما يمكن دراستها بدراسة النظم (السياسية والتشريعية والتربية ... إلخ). غير أن هذه الأعمال وهذه النظم ذاتها ينبغي أن تفحص من جهة علاقتها بالأفراد، فالحضارة تتكون في نهاية الأمر مما يفكر فيه الأفراد وما يشعرون به وما يفعلونه، أعني أنها تتكون من سلوكهم بقدر ما يقوم هذا السلوك على أساس اجتماعي، وبقدر ما هو مكتسب من المجتمع، وخاضع لقواعد معينة فيه، وبقدر ما ينقل إلى أفراد آخرين. فبملاحظة هذا السلوك نلاحظ الحضارة، وبتحليل هذا السلوك نهتدي إلى تفسير، جزئي على الأقل، لهذه الحضارة. والحق أن الأنثروبولوجيا، كما يقول «كاردنر
Kardiner » تقتبس إحدى الأفكار الرئيسية لعلم النفس الاجتماعي مع التوسع فيها بحيث تمتد إلى المجتمع بأسره؛ فهناك نظم تسمى بالأولية
primaires - وخاصة التربية، التي تتباين مناهجها ومضمونها من مجتمع إلى آخر - وتؤدي هذه النظم إلى تكوين تركيبة نفسية معينة في الأفراد، تتكون منها «شخصية أساسية» لهم، أو سمها إن شئت «شخصية قومية»، وفي مقابل ذلك تؤدي هذه الشخصية الأساسية إلى قيام نظم تسمى بالثانوية، وتعكس التأثير الذي تباشره النظم الأولية عليها. وهنا يكون للتحليل النفسي بوجه خاص، أهميته لأنه يعين أولا على توضيح الطريقة التي تتكون بها الشخصية في مرحلة الطفولة عند قيامها بالتجارب الاجتماعية الأولى، فضلا عن أنه يكشف عن العمليات النفسية التي توضح العلاقات بين نظام أولي ونظام ثانوي.
وهكذا يساعد علم النفس على فهم الحضارة، فهو لا يكتفي بوصف الطريقة التي تطبق بها الحضارة تطبيقا عمليا؛ بل يفسر العلاقة التي تربط النظم أو الأساليب العملية فيما بينها، والطابع الشامل للحضارة الذي يؤكد المذهب الوظيفي
Le fonctionnalisme
على أن هذا لا يعني بطبيعة الحال أن علم الاجتماع يقف عند هذا الحد، وأن الدراسة الموضوعية الخالصة للأشكال الاجتماعية أو للظواهر الجماعية، دراسة عميقة؛ بل الواجب أن تتآزر أكثر الدراسات تباينا، وأن تتضافر بدلا من أن تتنافر. (ج) علم الاجتماع والتاريخ
وكذلك الحال في الاتجاهات الأخرى للبحث في علم الاجتماع، أعني تلك التي تسير في طريق التعاون مع التاريخ، فعلم الاجتماع الذي يستعين بعلم النفس هو أساسا علم الاجتماع السكوني، الذي يبحث في موقف الفرد من الجماعة أو في تركيب مجتمع ما أو حالة حضارة معينة. وفي مقابل ذلك نجد أن علم الاجتماع
dynamique
الذي يبحث في تطور سمة حضارية معينة، أو نظام أو مجتمع ما، يستعين - بداهة - بالتاريخ قبل كل شيء، وفي هذا الصدد ظهرت، في أوائل هذا القرن، مدرستان متعارضتان؛ المدرسة القائلة بالتطور
évolutionnisme
وهي تبحث في التاريخ عن الوسيلة التي يؤدي بها التطور العام إلى تحديد للمجتمعات أو النظم، ومن ثم تحقق آمال فلسفة التاريخ من الوجهة العلمية، والمدرسة الانتشارية
diffusionnisme
التي تؤكد أن تسلسل الحوادث التاريخية محدود ونسبي، وتقتصر على دراسة انتشار سمة حضارية معينة في إقليم جغرافي معين، وفي فترة زمنية محددة. وهكذا إنحاز علماء التاريخ إلى أحد الرأيين الشائعين في التاريخ اللذين يؤكد أحدهما استمراره واتصاله، ويؤكد الآخر ما فيه طابع «عرضي» تتحكم فيه الصدف والأحداث العرضية. ففي الحالة الأولى يجتذب علم الاجتماع التاريخ إليه، وفي الثانية يجتذب التاريخ علم الاجتماع إليه.
وأيا كان الأمر، فمن الواجب أن نؤكد ضرورة تقارب العلمين كما أومأنا إلى ذلك عند الكلام عن التاريخ. والحق أن العلمين يتجهان إلى الاندماج رغم ضروب الجدل التي نشبت بينهما في مستهل هذا القرن. ويشهد على ذلك الجدل الذي وقف فيه «سنيوبوس
Seignobos
المؤرخ الراوي
historien historisants » في مقابل «سيميان
Simiand
المؤرخ الاجتماعي
historien sociologue »؛ فالأول يعرف المنهج التاريخي بأنه «لا ينطوي على ظواهر كاملة، وإنما على أشتات متفرقة، بقيت بمحض الصدفة من حطام الماضي، فعمل المؤرخ أشبه بمهنة جامع الخرق.» ويضيف إلى ذلك «أن كل حالة خاصة تقتضي تفسيرا خاصا.» أما الثاني فيؤكد أن لا قيمة للتفسير إلا إذا «طبقت على حالة علاقة عامة هي علاقة السبب بالنتيجة.» وأننا حتى عندما نؤكد الطابع الفريد لفعل ما، ونرده إلى فرد معين، فإن ذلك لا يكون إلا عن طريق عوامل سببية عامة، يمكن صياغتها في قضايا عامة.
19
واليوم، وبسبب تأثير علم الاجتماع، قل اهتمام التاريخ بالرواية وبالسرد، وأصبح أقل حرصا على التفاصيل، وفي مقابل ذلك أصبح علم الاجتماع بتأثير التاريخ، أقل جزما، وأقل ميلا إلى التعميم. وهكذا أخذت حدة التعارض بين الخاص والعام تخف. فالتاريخ يتعلق حقا بالحادث من حيث هو فردي وحيد، ولكنه لما كان يتجه إلى تفسير الحادث بعد تحققه، فإنه يفطن إلى وجود اتجاهات منتظمة، ويميز الشيء الاتفاقي من الشيء الضروري، والعرضي من الاحتمالي، فهو يفهم الخاص بالعام مثلما يفهم علم الطبيعة الظاهرة بناء على القانون. وقد لاحظ «بوجليه
Bouglé » ذلك فقال: «إن لانجلوا
langlois » مع حرصه على استبعاد التعميمات التي تكمن، كما يقول، كالجراثيم في مفاصل البحث التاريخي، يتحدث مع ذلك عن «التطور الطبيعي» الذي حول البرلمانات إلى «برلمان»، أو عن اكتمال نظام ملكي عن طريق «القانون الطبيعي» في تقسيم العمل ... ولكي يثبت براءة جماعة فرسان المعبد
Templiers
20
نراه يستعين بالدراسة النفسية للطوائف الدينية التي يندفع أفرادها إلى الاستشهاد.
21
وعلى العكس من ذلك فإن علم الاجتماع، إن كان يبحث عن تسلسلات سببية، وإن كان يعمم، فما ذلك إلا ليفهم ما قد يكون في الظاهرة الاجتماعية من عنصر فردي، أي ما تنفرد به حضارة معينة مثلا، وكذلك ما هو عرضي في تطور هذه الحضارة، أو في تطور نظام ما، ولا تستطيع الأنثروبولوجيا الحضارية أن تؤكد كثرة الحضارات، ما لم تبين الطابع الخاص الذي تنفرد به كل منها؛ بل إن المذهب التطوري ذاته لا يمكنه أن يستخلص قانون تطور نظام أو مجتمع معين، إلا بشرط بناء الجانب الحركي على الجانب السكوني، ومن ثم كان عليه أن يبين أن لكل لحظة من لحظات التطور طابعا فرديا، وأنها لا يجب أن تدرس إلا على هذا الأساس.
وإذن فالتقدم الذي يحرزه علم الاجتماع في مختلف ميادينه يتجه إلى حشد علوم الإنسان وتعبئة كل مناهجها. ولهذه الكثرة من وجهات النظر ما يبررها في نهاية الأمر، لأن الظاهرة الإنسانية لا يمكن استيعابها تماما، كما أنها متعددة الأوجه في الوقت نفسه، ثم إن الظاهرة الاجتماعية، كما قال كونت، هي أكثر الموضوعات وضوحا للأذهان، وأكثرها تعقيدا في الوقت ذاته. وأخيرا، لأن الإنسان طبيعة وحرية في آن واحد كما تنبئنا الفلسفة.
الفصل العاشر
النظريات الحالية في الفيزياء الرياضية النسبية الخاصة والعامة1
في التفسير العلمي لظاهرة من الظواهر، لا نكتفي بذكر القانون المعبر عنها، وبيان الطريقة التي تحدث بها؛ بل نكشف أيضا عن علتها، ونبين سبب ظهورها، أي أن هذا التفسير لا يمكننا من التنبؤ بها، وذلك هو هدف النظريات العلمية.
والنظريات أعم من القوانين فهي تعبر عن المبدأ العام لهذه القوانين، وهي تأتي بمنهج في التفسير والبحث، وتكشف بوجه خاص عن علة الظواهر أو سببها.
وأشهر وأهم النظريات الحالية في الفيزياء الرياضية، نظرية النسبية الخاصة والعامة.
وقد ظهرت هذه النظرية في عام 1901م، بعد سلسلة من التجارب التي بدأها قبل ذلك بعشرين عاما، العالمان ميكلسون
Michelson
ومورلي
Morley
حول موضوع سرعة الضوء. ولما أراد أينشتين تفسير نتيجة هذه التجارب، اقترح أن نتصور المكان الذي ينتشر فيه الضوء على أنه وسط يفرض على الضوء نوعا من الانحراف الذي يمكن حسابه مقدما، وبتأثير هذا الوسط، يدرك مختلف القائمين بالملاحظة - أعني علماء الفلك الذين يتأملون السماء من كواكب أو نجوم يتغير موقع كل منها بالنسبة إلى الباقين - نقول يدرك كل منهم سماء مختلفة.
كذلك يتحكم تأثير المكان في ساعاتهم، بحيث إن الوقت الذي يقرؤه كل منهم يختلف في اللحظة الواحدة، وليس هذا فحسب؛ بل إن كلا منهم يقدر مرور الزمن تبعا لسرعة مختلفة.
بل إن هذا التأثير يمتد إلى حد تعديل كتلة الأشياء، لأن هذه الكتلة ليست ثابتة، وإنما تزيد بمقدار محدد مع زيادة سرعة هذه الأشياء.
والجاذبية الكونية هي نتيجة هذا التأثير، الذي لا يؤدي إلى انحراف الضوء فحسب؛ بل إلى انحراف حركة الأجسام أيضا . وهذا هو الذي يبدو لنا في صورة الجاذبية. لأنه عندما يقال إن كوكبا «يدور منجذبا» حول الشمس، مثلا، فمعنى ذلك أن حركته تنعطف نحو الشمس، ولولا هذا التأثير لسارت في خط مستقيم وفي اتجاه مطرد. ونحن نعلم أن الثقل حالة خاصة لهذه الجاذبية، وأن الجسم الذي يسقط يجتذب، أو يمكن أن يجتذب حول مركز الأرض.
ليس التفسير هو القدرة على التنبؤ بالظواهر وإثبات ضرورتها؛ بل هو على الأخص جعلها معقولة
لكي نفهم ما النظرية، ينبغي علينا أن ندرك، على وجه الدقة، ما الذي نتطلبه من العلم، وما الذي يتسنى للعلم أن يقدمه إلينا.
إنا نطلب من العلم أن «يفسر لنا الظواهر » فما التفسير؟ (1)
إن تفسير ظاهرة هو القول بإمكان التنبؤ بها، بحيث يقضي على ذلك الشعور الأليم الذليل بالانتظار القلق، الذي يسبق الظاهرة، حين يكون المرء جاهلا بالعوامل التي تؤدي إلى وجودها حتما، أو تلك الدهشة المؤلمة التي تصاحبها إذا ظهرت دون مقدمات سابقة. والأهم من ذلك أننا نستطيع في بعض الأحيان أن نأمل في إحداث الظاهرة أو منع حدوثها إذا ما علمنا شروط حدوثها، وكان من الممكن التأثير فيها، وعلى هذا الأساس يمكن التنبؤ بحدوث الخسوف، أو تحقيق الشفاء. (2)
ونحن نعلم أن حتمية أية ظاهرة تصاغ في صورة قانون. فالتفسير إذن هو تحديد صيغة «القانون» الذي يكشف عما فيها من «ضرورة». (3)
ولكي يصل المرء إلى القانون، يضطر في معظم الأحيان إلى المثابرة على ملاحظة التعاقب المعتاد للظواهر، وهذا ما يسمى قانونا «تجريبيا
empirique » فمثلا: يعمد المرء إلى وصف المراحل المتعاقبة التي يمر بها مرض خلال تطوره: كالحمى الشديدة أو الخفيفة الدائمة أو المتقطعة، ثم الطفح، وأخيرا ظهور القشور، غير أن المرء لا يقنع بهذا. أولا لأنه لا يستطيع التنبؤ عن يقين طالما كان يقتصر على الملاحظة التجريبية لتعاقب الحوادث، وقد لفت ليبنتز
2
الأنظار إلى أن تعاقب الليل والنهار على نحو ما يلاحظ تجريبيا، ليس أمرا مضمونا على الإطلاق، فهناك خطوط عرض يقضى فيها على الليل في خلال جزء من السنة ، بينما يحدث العكس خلال جزء آخر. وأورد لتوضيح فكرته مثال «نوفازمبلا
Nova Zembla » (زمبلا الجديدة التي تقع جنوب الدائرة القطبية الشمالية). فالمرء لا يمكنه التنبؤ عن يقين، طالما ظل في مستوى «القانون» التجريبي وفضلا عن ذلك، فإن رسالة الإنسان العليا تقتضي منه ألا يقتصر على «التنبؤ» بل أن يسعى إلى «الفهم»، فتفسير الظاهرة هو جعلها مفهومة ومعقولة.
التفسير بالقانون يجب إكماله بمعرفة السبب
إذا أردنا أن نفهم فمن الواجب معرفة السبب. ففي الطلب مثلا لا تكتمل دراسة الأمراض (
Nosologie ) ولا دراسة الأعراض (
Sémiologie ) إلا إذا ارتبطتا بدراسة الأسباب (
Etiologie )، ولكلمة السبب في مناهج البحث العلمي معنيان مختلفان كل الاختلاف، نرى أن نطلق عليهما اسم «المعنى الأكبر » والمعنى الأصغر. فبالمعنى الأصغر يكون السبب عنصرا في القانون؛ فهو الظاهرة السابقة التي لا بد «من وجودها» لحدوث الظاهرة التي يدور حولها البحث، فسبب النزلة الشعبية مثلا هو التعرض للبرد، أما بالمعنى الأكبر، فالسبب هو عملية كيميائية تغير أنسجة الشعبتين أو الرئتين، وتؤدي إلى الإكثار من جراثيم معينة، فتثار عندئذ مجموعة عمليات منعكسة تؤدي إلى الحمى (وإن يكن الرأي لم يستقر بعد هذا التعليل). وبعبارة أخرى، فالسبب بالمعنى الأصغر يقف في نفس مستوى الظاهرة المراد تعليلها، وكل ما في الأمر يسبقها ويرتبط بها القانون أما بالمعنى الأكبر، فهو يكمن وراء الظاهرة، وينتمي إلى مستوى من مستويات الواقع أبعد غورا وأكثر خفاء، ولكنه أقرب إلى العقل. وهكذا نفهم لماذا كانت المناطق القطبية تتمثل فيها تلك الظاهرة المزدوجة ظاهرة «الليالي البيضاء» في التعامد (الاعتدال) الصيفي، وظاهرة الليل ذي الساعات الأربع والعشرين، في التعامد (الاعتدال) الشتوي، وهي ظواهر يعللها ميل المدار الشمسي نحو خط الاستواء.
ونقول بعبارة أخرى أن سبب الظاهرة بالمعنى الأصغر، هو إجابة عن السؤال «كيف تحدث الظاهرة؟» وبالمعنى الأكبر. هو إجابة السؤال «لم؟» وهو السؤال الحقيقي.
ولنوضح هذه الفكرة مرة ثانية بتعبير آخر فنقول إن السبب (الأصغر) يتركنا في مستوى الظواهر أي «المحسوس»، والسبب «الأكبر» يدفعنا إلى الدخول في ميدان «المعقول». وفي المثال الأخير الذي عرضناه، كما في أمثلة أخرى عديدة تستمد من البحث الكوني والفلكي، يكون الطابع العقلي رياضيا فحسب. وهو ينحصر كما كان يقول أنصار فلسفة ديكارت في أن نستبدل بالشمس المحسوسة، التي تدفئ وتضيء، والتي لا تزيد في حجمها عن حجم منزل يبعد عنا بضع فراسخ، شمسا معقولة، رياضية خالصة، أكبر من الأرض بكثير وتقع على مسافة هائلة منها، وليست في حقيقة الأمر حارة ولا مضيئة، وإنما تبعث إشعاعات تختلف أطوال موجاتها، وتبعث فينا «إحساسا» بالحرارة والضوء.
فتفسير ظاهرة ما، هو بيان سببها، والدخول، عن هذا الطريق إلى ما أسماه أفلاطون «بالعالم المعقول». ولقد كان أفلاطون يقول إن المعقول هو «الحقيقة» التي لا يعدو المحسوس أن يكون «مظهرا» لها. أما المحدثون فيميلون إلى التعبير عن هذه الفكرة بطريقة مختلفة بعض الاختلاف مؤداها أن المعقول هو «التركيب الباطن» للمحسوس، وهو أساس حقيقته.
النظريات العلمية هي تفسيرات عن طريق السبب
ظل العلماء، طوال ما يقرب من قرنين من الزمان (القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) يمتنعون عن التفسير بالسبب، ويقتصرون على التفسير بالقانون. وهذا هو ما أسماه «أوجست كونت» بالوضعية.
3
فقد امتنع الفلاسفة عن الإجابة عن السؤال: لم؟ ولم يسمحوا إلا بالإجابة عن السؤال: كيف؟
وهاك السبب: فمن المعروف أن نيوتن قد كشف عن قانون الجاذبية العامة في 1687م أي في السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر، وكان في هذا الكشف أنموذج رائع للمنهج الرياضي في علم الطبيعة،
4
غير أن هذا الكشف ذاته كان يبعث في الأذهان سؤالا ملحا هو: لماذا تتجاذب «كل» الأجسام تبعا لهذا القانون؟ ومن أين اكتسبت المادة، إلى جانب صفاتها المعروفة والتي تبدو في نظرنا معقولة تماما كالامتداد، والحركة أو القصور الذاتي، تلك القدرة على الجذب من بعيد، وفي الحال؟ إنها قدرة عجيبة، تذكرنا بالرغبة، وبالحب وتقرب المادة من الروح. ولقد أدرك نيوتن هذه المشكلة بوضوح، ولكنه «أبى» أن يحلها، وهكذا كتب في «الاستنتاج العام» الذي ختم به كتاب «المبادئ» يقول: «إنني لم أستطع الوصول حتى الآن إلى استنتاج سبب صفات الجاذبية هذه من الظواهر ، ولست أود أن أخمن فروضا
hypotheses non fingo
إذ إن كل ما لا يستنتج من الظواهر يعد فروضا، والفروض ... لا مكان لها في الفلسفة التجريبية.»
5
ولنلاحظ أن نيوتن يقول: لم أستطع «حتى الآن». مما يدل على أن المشكلة كان لها معنى في نظره، على أن تلاميذه المباشرين وبخاصة «روجر كوتس
Roger Cotes »، ثم تلاميذه الأبعد من هؤلاء، وهم رجال الموسوعة مثل (دالمبيير
D. Alembert ) والأبعد من الآخرين (في القرن التاسع عشر)، مثل أوجست كونت «والوضعيين» قد بالغوا كثيرا في تأكيد فكرة نيوتن، فقالوا: إن المشكلة لا معنى لها، وليس لها وجود. فليس ثمة سبب للجاذبية؛ بل هي خاصة أولى للمادة، وليس لهذا النوع من المشاكل معنى علمي؛ فالعلم يستبعد الفروض، ولقد كان أوجست كونت ينهى العلماء عن الخوض في النظريات المتعلقة بالتركيب الداخلي للمادة؛ بل في النظريات المتعلقة بالتركيب الكيميائي للنجوم.
على أن العلم المعاصر، منذ نهاية القرن التاسع عشر، قد أحل لنفسه كل هذه «المحرمات» واتخذ «النظريات» أساسا له.
والمقصود بالنظرية (وهي ما يسميه نيوتن «بالفرض»)
6
تركيب علمي تتمثل فيه الخصائص الآتية: (1)
أنها عامة؛ فهي تنتظم علما أو عدة علوم، كالطبيعة والكيمياء بأسرها مثلا، أو علم الحياة بأكمله. (2)
أنها أشبه بالمبدأ (وذلك هو معنى الكلمة اليونانية) الذي تخرج منه سلسلة من القوانين. (3)
أنها تأتي بمنهج للتفسير وللبحث.
7
وقد بدت هذه المسائل الثلاث كافية لمدرسة كاملة من العلماء والفلاسفة المحدثين، تجمعهم النزعة الوضعية (
positivistes ) أو كما يقال، النزعة «الاسمية»، بدرجات متفاوتة. ففي رأي هؤلاء أن التقدم الذي ننتقل به من القانون إلى النظرية ليس إلا تقدما في العرض، وفي «التعبير» عن القوانين وليس تقدما في التفسير مطلقا فالقوانين والنظريات صيغ ملائمة تشير إلى حقائق، ولها قيمة «التعريفات» على نحو ما. وذلك هو الرأي الذي نجده لدى بيير دويم
8
وهنري بوانكاريه
H.
.
9
ولكن وجهة النظر «الاسمية» لا تضفي على الدور التنظيمي للنظريات في علم الطبيعة ما يستحقه من قيمة. فهذه النظريات تأتي أيضا بأساس القانون، أو «بالسبب» كما قلنا من قبل.
وتقدم إلينا نظرية النسبية الخاصة والعامة سبب الجذب الذي لم يكن نيوتن قد اهتدى إليه بعد. كما أن نظريات الانفصال
discontinuité
تعرفنا بالتركيب الداخلي للمادة والطاقة.
نظرية النسبية الخاصة امتداد لمبدأ النسبية
سبق أن أوضحنا معنى النسبية في العلم، كما فحصنا فكرة النسبية من قبل، فلنعد ذكر الجزء الثاني من مبدأ النسبية، وهو الجزء الذي يهمنا وحده في هذا الصدد. ففي الملاحظة يجب أن نحسب حسابا للملاحظ، وبعبارة أخرى فالملاحظة ترتبط بالملاحظ، وهي ترتبط بوجه خاص بموقع مكان الملاحظ وحركته، ومكان الملاحظة بالنسبة إلينا هو الأرض في كل الأحوال.
وليس بديهيا أن الذي يلاحظ وهو مرتبط بالأرض يستطيع أن يجري نفس الأقيسة الفلكية التي يجريها ملاحظ يرتبط بكوكب آخر، إذ إن هذين الملاحظين تدفعهما حركتان مختلفتان، فالواجب إذن أن ندرس عن كثب كيف تؤثر حركتهما النسبية في ملاحظاتهما.
ولقد قلنا إن تطبيق الرياضيات على علم الطبيعة قد سمح بالتعبير عن هذا الارتباط، وكان ذلك بصور عديدة: ففي حالات معينة. الملاحظة ذاتها، ولكن في حالات أخرى - وهي التي تهمنا في هذا المقام - لم يسمح هذا التطبيق إلا بالتنبؤ بالطريقة التي تبدو بها الظاهرة الملاحظة لو تأملناها من مكان آخر للملاحظة. ويبدو هذا النوع من التحديد في الإدراك الحسي ذاته. فعندما نرى مكعبا موضوعا على منضدة، يمكننا أن نتكهن، بناء على مناهج هندسية خاصة، كيف سيراه جار يوجد في وضع بعيد، أو في مكان يرسم زاوية قائمة مع مكاننا. وفي الفلك، تسمح الرياضيات بتصور السماء كما يشاهدها أحد سكان المريخ أو عطارد. وبالاختصار، فإن فرض «كبرنك» ينحصر في أنه يستند إلى الرياضيات لكي يؤكد أنه لو وجد في الشمس ساكن لرأي الكواكب، ومنها الأرض تدور حول ذلك النجم في مدارات مغلقة بسيطة تماما، هي دوائر كما يصفها «كبرنك» وبيضاويات كما يؤكد «كبلر» على نحو أدق.
فمن الذي يكون على صواب، ويرى الحقيقة خيرا من الآخر، ساكن الأرض أم ساكن الشمس؟ لقد تطور موقف العلم في هذه المسألة. ففي وقت كبرنك وكبلر، كان العلماء من أتباع كبرنك يقولون: إنه ساكن الشمس. على أن السبب الوحيد لقولهم هذا هو أن رؤيته أبسط وأكثر إرضاء للذهن، ولم يكن لديهم أي برهان آخر على هذا الرأي؛ بل لقد اضطروا في واقع الأمر إلى وضع مبدأ يعبر عن استحالة إيجاد أي برهان آخر، هو مبدأ «القصور الذاتي
interite ». والتعبير الشائع عن هذا المبدأ هو: الجسم الذي لا تعترضه أية قوة أخرى، فالتعبير الصحيح عن مبدأ القصور الذاتي هو: الملاحظ الذي يتخذ له موقعا داخل نسق معين، لا سبيل له إلى معرفة ما إذا كان النسق ساكنا أو متحركا حركة مستقيمة مطردة، ويترتب على ذلك أن الملاحظ الذي يسكن الأرض ليس ملزما بإدراك أن الأرض متحركة،
10
فهو إذن على حق حين يعدها ساكنة. ولكن جميع الملاحظين الآخرين الذين ينتمون إلى الكواكب الأخرى، الشمسية منها والتابعة، محقون بدورهم إذ يعدون أنفسهم ساكنين، ويؤكدون أن الأرض متحركة. فينبغي أن نبحث في الرياضيات عن وسائل تحويل الوصف الذي يقدمه أحد الملاحظين إلى لغة تعبر عما يمكن أن يراه ملاحظ آخر، وذلك مثلما نحول التوقيت المحلي لمدينة باريس إلى التوقيت المحلي لمدينة نيويورك.
فإذا ما سلمنا بهذا، كان لزاما علينا، وفقا لمبدأ القصور الذاتي، أن نقول عندئذ إنه ليس هناك ملاحظ مميز، وليس هناك مكان مطلق للملاحظة، أعني مكانا يرى فيه المرء المظاهر الحقيقية للسماء. فجميع المظاهر لها أساس على الأقل، إن لم تكن كلها صحيحة، وذلك وفقا لمبدأ القصور الذاتي نفسه. ذلك هو «مبدأ النسبية عند نيوتن».
ولم يتيسر وضع هذا المبدأ إلا بعد تقدم ملحوظ في الرياضيات ساعد على الترجمة المتبادلة للمظاهر التي تبدو لملاحظين مختلفين؛ وهي الترجمة التي تبلغ حدا عظيما من الصعوبة.
غير أن جميع مفاهيم الحركة النسبية والمطردة، ومبدأ القصور الذاتي، قد بنيت على تصور مكان مطلق وزمان مطلق. وهذه المفاهيم هي التي ينبغي إعادة النظر فيها؛ لأنها لا تسمح بتفسير تجربة فيزيائية تثير الدهشة، وهي تجربة ميكلسون ومورلي، التي لعبت دورا حاسما في تطور العلم، وإنه لمن الغريب حقا أن يصبح لهذه التجربة التي أجريت في علم الطبيعة، مثل هذا الأثر الهائل في أفكارنا عن المكان والزمان. وفي نظرياتنا الفلكية والكونية. (1) تجربة ميكلسون ومورلي
انتهى الأمر بنظريات الضوء إلى الاستقرار على النظرية التموجية، التي تؤكد أن الضوء «موجة»، أي أنه اهتزاز ينتشر في دوائر ذات مركز واحد هو مصدر الضوء. ولكن، كما قال عالم إنجليزي بتعبير ساخر: لا بد من فاعل لفعل «التموج»، أي من الضروري أن يحدد الفرض «ما الذي» يتموج. وهكذا سلم الباحثون بأن الموجة هي اهتزاز ينتقل في وسط سيال إلى أبعد حد، وغير مادي تقريبا، يسمى «بالأثير» وهنا يعرض لنا سؤال: إذا ما صدرت إشارة ضوئية من نقطة متحركة، فما مركز الكرة الذي ينبعث منه الضوء؟ أهو النقطة المتحركة؟ أم هو مكان معين في الأثير كانت هذه النقطة فيه عندما أطلقت الإشارة؟ يبدو أن الحكم السليم يدفع إلى الجواب بأنه مكان معين في الأثير، ولكن هذه الإجابة تؤدي إلى النتيجة التالية: عندئذ يمكن معرفة الحركة «المطلقة» للنقطة وقياسها؛ لأن سرعة الضوء تزداد أو تنقص، بالنسبة إلى الملاحظ المرتبط بالنقطة تبعا لمدى اقتراب الملاحظ من نقطة الأثير التي انبعثت منها الإشارة، أو ابتعاده عنها.
على أن تجربة «ميكلسون» و«مورلي» قد أسفرت عن ضرورة التخلي عن هذا الافتراض الذي يبدو طبيعيا تماما في نظر الذهن المعتاد. ولقد أمكن تفسير النتيجة السلبية لهذه التجربة عن طريق «مبدأ النسبية» الذي وضعه أينشتين، ألا وهو أن: أية تجربة فيزيائية - سواء أكانت مغناطيسية كهربية أم ميكانيكية
11 - تجرى داخل إطار نسق من النوع المنسوب إلى جاليليو (أي تتحرك فيه نقطة مادية حرة حركة مستقيمة مطردة، أو تظل ساكنة) لا تسمح بتوضيح حركة هذا النسق بالنسبة إلى نسق آخر من نفس النوع. (2) فلنصف إذن تجربة ميكلسون ومورلي
مبدأ التجربة: لنفرض أن مصدرا للضوء م يبعث شعاعا ضوئيا في الاتجاه م ع ويصادف هذا الشعاع في ع عدسة زجاجية مائلة بزاوية قدرها 45 درجة على الاتجاه م ع، فيخترق جزء من الشعاع العدسة ويواصل سيره في الاتجاه ع ك، وينعكس جزء آخر بزاوية قائمة في الاتجاه ع ك، وفي ك، ك توضع مرآتان تعيدان الضوء إلى ع.
فلنتأمل الجزء ع ز، وهو الجزء المخترق للعدسة من ك ع، والجزء ع ز، وهو الجزء المنعكس على العدسة من ك ع. هذان الجزآن.
يتطابقان أي أنهما يتداخلان ونتلقاهما في «جهاز لقياس التداخل
interférométre » يسمح بملاحظة حافات الضوء المتداخلة
Franges d’interférence
وبتحديد موضع هذه الحافات بدقة، وقياس بعد كل منها.
وينظم طول الذراعين ع ك، ع ك في الجهاز بدقة، بحيث إن الحافات تمثل إضافة للموجتين، وتبين بذلك أن المسارات ع ك، ع ز، ع ك، ع ز تحدث في وقت واحد.
عندئذ يدار الجهاز ربع دورة في المستوى الأفقي ، بحيث إن الفرع ع ك مثلا، الذي كان متجها من قبل من الجنوب إلى الشمال، يصبح متجها من الشرق إلى الغرب، والعكس إلى الفرع ع ك.
فما الذي يحدث في هذه الحالة؟
لنفرض أن الأرض، وبالتالي الجهاز، ساكنة بالنسبة إلى الأثير، أي ساكنة سكونا «مطلقا» عندئذ يظل المساران، بعد تنظيمهما بحيث يحدثان في وقت واحد، مقترنين في الزمان، وتظل الحافات الضوئية المتداخلة في نفس مواضعها.
ولكن، لنفرض على العكس من ذلك، أن الأرض والجهاز - كما تقول نظرية «كبرنك» - متحركان، أي أن موقعهما بالنسبة إلى الأثير يتغير، ولنفرض مثلا أن الأرض والجهاز يتحركان في اتجاه السهم س. فخلال الوقت الذي يستغرقه الضوء ليسير من ع إلى ك، ثم من ك إلى ع، تكون النقطة ع قد انتقلت بالنسبة إلى الأثير؛ فلا يكون المسار الذي يقطعه في الأثير الشعاع الراجع إلى ع هو ع ك، ع، وإنما ع
1
ك ع
2
بحيث تمثل النقطتان ع
1 ، ع
2
الموقعين اللذين يحتلهما ع في الأثير في بداية ونهاية مسار الشعاع ويكون شكل الضوء الذي يرسمه الأثير غير مطابق للشكل المادي للفرع ع ك في الجهاز. فالثاني خط مستقيم، والأول مثلث متساوي الساقين ارتفاعه هو هذا الفرع.
أما الشعاع ع ك، فيتقدم خلال هذا الوقت في اتجاه السهم، وإن تكن حركته أسرع بكثير من الجهاز فيقابل المرآة ك على مسافة «أبعد قليلا» في الأثير من تلك التي كان ينبغي أن يقابلها فيها. وفي العودة يقابل ع في نهاية مسار «أقصر قليلا».
على أنه يتضح بالحساب أن المسار المتعامد على السهم «يزداد تغيرا» بالنقلة عن المسار الآخر الذي يحدث في اتجاه السهم. فلكي يصل الضوء من العدسة ع إلى المرآة ك ثم يعود، يسير في طريق أطول منه حين يصل من القطعة ع إلى المرآة ك ويعود، وذلك إذا افترضنا أن الذراعين متساويان «من الناحية الهندسية».
وإذن، فإذا نظم الجهاز بحيث يقوم بربع دورة في الاتجاه الأفقي، فإن عدم تساوي هذين الذراعين لن يعوض عدم تساوي المسارين، ولن يستطيع المساران الاقتران في الزمان، ولن يعود التداخل بعد ذلك بالطريقة السابقة. وهذا ما سوف يسجله جهاز قياس التداخل.
فلنلخص هذه المناقشة: إذا كانت الأرض تتحرك بالنسبة إلى الأثير تبعا لما يقضي به فرض كبرنك، فمن الواجب أن تكشف تجربة ميكلسون ومورلي عن هذه الحركة بتغيير موضع خطوط الأشعة في كل مرة يكون الجهاز فيها قد نظم بحيث يتفق الوقت بالنسبة إلى اتجاه معين، ونجعل اتجاهه عموديا.
12
نتيجة التجربة: على أن التجربة
13
التي أجريت على هذا النحو لم تؤد أبدا إلى تغير موضع الخطوط، وهكذا تجري الأمور كما لو كانت الأرض ساكنة في الأثير. ولتفسير هذه النتيجة الغريبة جرب بعضهم فرضا قديما جدا، وهو التقلص
(
Cantraction ) الذي قال به فتزجرالد
Fitzgerald
ولورنتز
Lorentz . فالتجربة تخطئ بالقدر المناسب الذي يؤدي إلى عدم إدراك تغير السرعة، والأدوات تتقلص بهواء الأثير الذي تحدثه حركة الأرض.
ويكمل فرض تقلص الأطوال هذا فرض آخر هو تمدد الزمان؛ فانكماش الأطوال وتمدد الزمان يبدوان نتيجتين لمعادلات لورنتز التي سوف نتحدث عنها الآن.
التفسير الذي اقترحه أينشتين: غير أن «ألبرت أينشتين»
14
هو الذي تقدم، في مستهل هذا القرن، بتفسير شامل بالمعنى الصحيح لهذه الفروض المختلفة، وذلك حين وضع نظريته في «النسبية». ونقطة بداية هذه النظرية هي: من المحال أن نفاضل، بوسائل فيزيائية، حتى لو كانت هذه الوسائل تجارب في الضوء، بين ملاحظات يقوم بها ملاحظون يتحرك كل منهم بالنسبة إلى الآخرين. بل الكل على حق. ولنعبر عن هذه الفكرة بالتعبير الرائع الذي وصفها به الفلكي الإنجليزي جينز. فكل ملاحظ يجر أثيره معه، وذلك شبيه تماما بمن يلاحظ قوس قزح، فإنه يرى قوس قزحه الخاص ويجره معه.
وعلى هذا النحو يمكن الإبقاء على مبدأ النسبية، وفي الوقت ذاته، تصبح الظواهر قائمة على أسس مشروعة، ولكن ذلك يفضي إلى تعقيد هائل للصيغ الرياضية الخاصة بالميكانيكا التقليدية، مما أوجب إدخال مناهج رياضية جديدة.
المفارقات الناجمة عن هذا التفسير: أدت هذه الآراء إلى نتائج مفرطة في غرابتها، في نظر التفكير العادي، أهمها ما يلي: (1)
نسبية التزامن
Relativite de la simultaneite
نحن نقر بأن الحادثين يكونان متزامنين إذا كانت الأشعة المضيئة التي تنبئ عن وجودهما، والتي يفترض اتحاد طولها، تصل معا إلى الملاحظ، على أن الحادثين المقرنين «في نظر» ملاحظ معين، ليسا كذلك «في نظر» ملاحظ آخر بالنسبة إليه، إذ إن أحدهما يذهب لمقابلة الضوء، أو يبتعد عنه، أما الآخر فينتظره. ولقد كان الرأي القديم هو أن أحدهما مخطئ والثاني مصيب، ولكن الحق أن كليهما على صواب «فسرعة الضوء واحدة بالنسبة إلى الاثنين معا». (2)
نسبية المسافة: إن قياس المسافة يفترض التزامن، لأن قياس مسافة ما، هو العمل على انطباق طول «محدد من قبل» على طول «معطى لنا». على أن هذا يفترض أنه متى انطبق الطولان في طرف فإنما ينطبقان في الأطرف الأخرى في نفس اللحظة، وإذن فالمسافة نسبية هي الأخرى باعتبار الملاحظين، وذلك على الأقل بالنسبة إلى المسافة «الطولية» أي في اتجاه حركتهما النسبية، فالموضوع إذن يتغير شكله بالنسبة إلى الملاحظ الذي يراه من مركز خارجي، وينكمش في نظره في اتجاه الطول. وهكذا نهتدي مرة أخرى إلى التقلص الذي قال به فتزجرالد ولورنز، في صورة «المظهر الذي يبدو للملاحظ الخارجي». (3)
نسبية الزمان. نظرية «الزمان المحلي»: ليس موضوع بحثنا هذا هو ما يسميه الفلاسفة بالزمان، وإنما هو الزمان الذي يقيسه علماء الفيزياء. هذا «الزمان الفيزيائي» يقاس بوساطة «الساعات» في علاقتها بظواهر محددة بدقة (كحركات، الأفلاك، واهتزازات ضوء ذي لون واحد). فكل «ساعة» تتخذ الثانية مثلا وحدة زمانية، والثانية هي الوقت الذي يعبر فيه الضوء 300000 كيلو متر. ولما كانت المسافة نسبية باعتبار الملاحظين، فإن الثانية نسبية هي الأخرى، فعندما يكون أحد الملاحظين متحركا بالنسبة إلى الآخر، فإن الثانية التي يعترف بها تبدو أطول من اللازم في نظر الملاحظ الآخر. ولما أراد لانجفان
Langevin
أن يبين إلى أي مدى يستطيع البحث النظري الاستمرار في هذه المسألة، اقترح مثلا غريبا، أصبح فيما بعد مثلا مشهورا؛ فالمسافر الذي يغادر الأرض في قذيفة سرعتها 29975 كيلو مترا في الثانية، ويقفز في طريقه بعيدا، ثم يعود بعد سنتين، يجد أن الأرض قد انقضى من عمرها مائتا عام.
15 (4)
نسبية السرعات: وهي نتيجة لنسبية الزمان، فالملاحون المختلفون لا يقيسون الزمان بطريقة واحدة، ولا يحددون للسرعات نفس القيمة. وهذا يؤدي إلى هدم دعائم الميكانيكا بأسرها، إذ إنه عندما يؤلف المرء بين السرعات، فإن تقديرها لا يكون راجعا إلى ملاحظ واحد، فالصائد بالسنارة يقدر سرعة السفينة بالنسبة إلى الشاطئ، والملاح يقدر سرعة البحارة بالنسبة إلى السفينة التي يظل الملاح ساكنا عليها، ويعيد الصياد تقدير النتائج من جديد فيعمل على إحداث «نقصان» فيها؛ إذ لما كان الملاح متحركا بالنسبة إليه، فإنه يبدو له أن ساعته أكثر بطئا مما ينبغي، أي أنه يغلو في تقدير السرعة، ويزداد مقدار النقصان الذي يفرض عليه بازدياد سرعة السفينة. (5)
تغير الكتلة مع السرعة: لنفرض أن عاملا ثابتا من عوامل العجلة قد أثر في كتلة ما. عندئذ تضاف سرعة ثابتة إلى هذه الكتلة في نهاية كل وحدة زمنية، ولكن، نتيجة لما قلناه منذ برهة يصبح الناتج في كل مرة أقل من مجموعات السرعات (والحساب يثبت أنه يزداد قلة بالتدريج). وتضعف عجلة السرعة
accélération
بالتدريج، ويثبت الحساب أنها تنعدم تماما عندما نصل إلى سرعة الضوء. على أن كتلة الجسم هي سبب نقصان السرعة التي تعطى له. ومن هنا كانت هذه الكتلة تتزايد مع السرعة، وتصبح لا نهائية عندما يبلغ الجسم سرعة الضوء.
16
ولنقدم هنا إلى القراء الذين اعتادوا البحوث الرياضية، ما يقابل هذه النتائج المتعاقبة للنسبية من تعبيرات جبرية.
فلنفرض حادثا تحدده أربعة إحداثيات س، ص، ك، ل، وذلك تبعا لنظام معين في الإشارة، ولنفرض أن إحداثياته الجديدة س ص ك ل، في نظام آخر متحرك على طول المحور س للنسق الأول بالسرعة ع، هذه الإحداثيات تحدد بوساطة مجموعة ذات أربعة معادلات، ويطلق اسم «مجموعة جاليليو» على هذه المعادلات كما كانت تصاغ قبل نظرية النسبية بينما يطلق اسم مجموعة لورنز على صورتها الجديدة.
وفضلا عن ذلك، فبينما نجد في نظام جاليليو أن السرعة الناتجة هي الحاصل الموجه
Somme vectorielle
للسرعات المكونة
نجد في نظام لورنز أن السرعة الناتجة هي:
17
نظرية النسبية الخاصة تثبتها التجربة، كما ينبغي أن يحدث في كل نظرية
تبلغ النظريات حدا من العموم ومن البعد عن الوقائع قد يؤدي بالمرء إلى الظن بأنها لم تعد خاضعة للإثبات التجريبي. غير أن هذا خطأ، فالنظريات تجريبية شأنها في ذلك شأن القوانين، أي أنها تخضع للتجريب. وهذا ما يضفي عليها طابعها العلمي، وينبغي أن تتخذ صورة من شأنها أن يكون من الممكن تصور وجود ظاهرة واحدة تستطيع تكذيبها. وبعبارة أخرى، يجب ألا تتشكل بصورة من شأنها أن تكذب مقدما الظواهر المضادة لها، وتلك إحدى الصفات التي تميزها من المعتقدات الخرافية، إذ إن الخرافة تتمثل دائما على صورة من شأنها، إذا ما كذبتها التجربة، أن نستشهد باستثناء مفهوم ضمنا، أو بسوء فهم يقضي على تفنيد الواقع لها؛ فالعدد 13 مثلا يجلب الحظ السيئ، ولكنه قد يجلب حظا سعيدا في بعض الظروف التي لا تحدد بدقة، وقد توجد حركات أو طقوس غير محددة تسمح بالتغلب على شؤمه. غير أن الأمر ليس كذلك في النظرية العلمية، فلا بد أن يكون في وسع المرء أن يتصور مقدما تجربة تخطئها على نحو قاطع. وذلك ما يعنيه «شوستر
Schuster
بكلمته التي اقتبسها الكيميائي ديكلو
Duclaux » إن النظرية لا تساوي شيئا إذا عجز المرء عن إثبات فسادها.
18
فإذا كانت نظرية الزمان المحلي صحيحة، وإذا كانت الأشعة المضيئة هي ساعات، فلا بد أن الضوء الآتي من نجم يتمثل فيه الفرق بين الزمان المحلي للنجم والزمان المحلي للأرض، وذلك عن طريق تغيير طفيف في ذبذبته. ويجب التعبير عن هذا التغيير بوساطة «تغير موضع الخطوط الضوئية» التي تكون طيف هذا الضوء. ولقد أمكن ملاحظة هذا التغيير وحسابه، والاهتداء إليه طبقا لما تقول به النظرية النسبية.
وإذا كانت الكتلة تزداد مع السرعة فلا بد أن يلاحظ ازدياد في الكتلة عندما تصبح السرعات مرتفعة بالمقدار الكافي، على أن الأمر قد انتهى بالتجربة إلى إعطائنا سرعات عظيمة إلى حد أنه يمكن التحقق منها؛ فالأشعة السالبة
Cathodiques
وأشعة بيتا
B
في الأجسام ذات الطاقة الإشعاعية هي جزيئات مادية. وقد أمكن قياس سرعتها، فإذا بها من 1000 إلى 50000كم في الثانية. وهكذا أمكن قياس كتلتها وتبين أنها تزداد مع سرعتها وفقا لما تقول به نظرية النسبية.
وإذا كانت الميكانيكا الجديدة، التي نشأت عن نظرية النسبية صحيحة، فإن السرعة الناتجة عن جذب جسم يجب ألا تكون معادلة للحاصل الجبري لسرعة الجسم وسرعة الجذب؛ بل هي أقل من هذا الحاصل بمقدار يمكن حسابه، وبالفعل استخدم كل من «فيزو
Fizeau » (1819-1896م) ومن بعده زيمان
Zeeman (المولود في 1865م)
19
طريقة تجريبية لتحديد سرعة الضوء في الماء المتحرك، وكشفا عن هذا الأمر العجيب؛ فهذه السرعة تظل أقل من سرعة الضوء، في الماء مضافا إليها بالحساب الجبري سرعة التيار. وتفسر نظرية النسبية الفارق القريب الذي نلاحظه تفسيرا دقيقا.
ففي وسعنا القول إذن بأن نظرية النسبية الخاصة قد حققت تجريبيا.
نظرية النسبية العامة، وهي تطبيق النظرية السابقة على حركات الجذب، تفسر الثقل
لم تكن الصورة الأولى لنظرية النسبية الخاصة تصدق إلا على حيز محدود من الظواهر (والمقصود بالخاصة، أنها تختص فقط بدراسة الحركات المطردة التي تسير في خط مستقيم). وفي 1916م تقدم أينشتين بنظرية «النسبية العامة» التي تنطبق على كل الحركات أيا كان مسقطها وعجلتها.
ومن المبادئ الأساسية للنسبية العامة، مبدأ التكافؤ بين أي مجال للجاذبية وأي مجال للقوة راجع إلى حركة ذات عجلة. وقد صاغ «أينشتين» هذا المبدأ عندما تأمل المعنى المزدوج لكلمة الكتلة. ففي حالات معينة ينظر إلى الكتلة على أنها معامل للجذب (الكتلة ذات الثقل)، وفي حالات أخرى على أنها معامل للقصور الذاتي
inertie (الكتلة ذات القصور الذاتي
masse inerte ).
وفي الحالة الأولى تربط المفاهيم الأساسية بالعلاقات الآتية:
القوة = الكتلة ذات الثقل × كثافة مجال الثقل.
وفي الحالة الثانية، تربط بالعلاقة الآتية:
القوة = الكتلة ذات القصور الذاتي × العجلة.
وبمقارنة هذين التعبيرين عن القوة، نصل مباشرة إلى العلاقة الآتية:
العجلة = × كثافة حدة المجال.
ولكن التجربة تثبت أن عجلة الجسم، في مجال الثقل الواحد، لا تتوقف على طبيعته (وهذا ما يعبر عنه القانون المعروف، القائل إن كل الأجسام تسقط في الفراغ بسرعة واحدة) فلا بد إذن أن تكون: العلاقة بين
علاقة ثابتة مستقلة عن طبيعة الجسم. فإذا اخترنا الوحدات الطبيعية بحيث تكون هذه العلاقة مساوية لواحد صحيح، أمكن القول بأن الكتلة ذات الثقل تساوي الكتلة ذات القصور الذاتي.
ومن هنا، فما دامت = 1، ففي وسعنا أن نصوع العلاقة التصويرية الآتية:
العجلة = كثافة المجال.
وقد لاحظ علم الفيزياء التقليدي منذ عهد بعيد تكافؤ الكتلة ذات الثقل مع الكتلة ذات القصور الذاتي، ولكنه اكتفى «بتسجيل» هذا التكافؤ دون «تفسيره» على حد تعبير جان بكرل
Jean Becquerel ، وهاك التفسير الذي تقول به نظرية النسبية العامة: إن الصفة الواحدة للجسم تبدو، تبعا للظروف، إما على صورة قصور ذاتي، وإما على صورة ثقل. وبعبارة أخرى فقوة الجاذبية هي قوة قصور ذاتي.
ولقد ضرب أينشتين نفسه مثلا يقرب إلى ذهننا هذا التكافؤ بين الجاذبية والقصور الذاتي. فلنتصور حجرة منعزلة، ساكنة بالنسبة إلى المكان المحيط بها، ولنفرض أن هذا المكان قد خلا من كل مادة، إلى حد لم يعد فيه أي أثر للجاذبية. عندئذ لن تكون هناك قوة للجذب. وفي هذه الحجرة يوجد عالم يقوم بالتجربة ومعه أجهزته، ولنفرض أن هذه الحجرة قد جذبت إلى أعلى بقوة ثابتة. عندئذ نقذف الأشياء التي تحتوي عليها الغرفة (التي كانت متوازنة من قبل في أي موضع، ما دامت لا تخضع لأي تأثير من الثقل) نحو أرضية الحجرة بعجلة ثابتة، فكيف يفسر القائم بالتجربة هذه الملاحظات؟
قد يعتقد أن الحجرة تخضع لعجلة مطردة موجهة إلى أعلى، مما يفسر سقوطه نحو أرض الحجرة بعجلة مطردة.
ولكنه قد يعتقد أيضا أن الحجرة لا تزال ساكنة، وأن الأشياء هي التي أصبحت تخضع فجأة لمجال جاذبية.
هذان التفسيران الممكنان يثبتان تكافؤ التعليلين. وتتوقف المسألة كلها على نظام الإشارة الذي نختاره لفهم الظاهرة.
فإذا كانت التغيرات في طريقة إرجاع الظواهر إلى نظم الإشارة تؤدي إلى تفسيرات تبلغ هذا القدر من الاختلاف، أدركنا دون عناء أنه قد أصبح من الضروري أن نتأمل عن كثب القوانين الرياضية التي تعبر عن تغير الأساس الذي نعتمد عليه من الوجهة المكانية والزمانية.
وعندئذ يجب أن نفترض أن المكان الزماني ليس في كل الأحوال إقليديا، وأنه يعبر عن خط منحن تجاه كتل المادة. ومن هنا كانت الهندسة التي تعرض النظرية النسبية بوضوح هي هندسة المكان اللاإقليدي، وأعني به مكان «ريمان
ruemann » تكون لدى المرء فكرة عن مكان «ريمان» هذا إذا ما تخلى في دراسة هندسة السطح الكروي عن كل مقياس يخرج عن السطح ذاته.
في هذا المكان الزماني الذي وصفه «ريمان» لا يسير شعاع الضوء في خط مستقيم؛ بل يسير في خط يسميه علماء الرياضة «خطا مساحيا
géodésique » والخط المستقيم هو الخط المساحي في مكان بلا منحنيات (أي في المكان الإقليدي).
وفي عام 1919م عند حدوث كسوف كلي للشمس، سنحت الفرصة للتحقق من هذه الظاهرة الأخيرة؛ فقد أخذت صور للسماء تبين فيها أن النجوم التي تمر إشعاعاتها بحافة الشمس تعطي على اللوحة الفوتوغرافية صورا يبعد موقعها قليلا عن المكان المرسوم في خريطة السماء. وكان الانحراف ضئيلا ولكن كان مطابقا لما قال به أينشتين.
وجاء تأييد آخر لنظرية النسبية العامة لأينشتين من جانب علم الفلك. فلقد كان علماء الفلك يلاحظون أن الكوكب عطارد لا يسير في مدار بيضاوي تماما، كما يقضي قانون الجاذبية الذي وضعه نيوتن. فقد كانت قمة الشكل البيضاوي، المسماة بنقطة القرب من الشمس
périhelie
تتقدم في كل دورة تقدما طفيفا. ولقد كان تقدم قمة عطارد موضوعا لدراسات عديدة، وكان لوفرييه
Le Verrier
أحد من تصدوا لبحث هذا الموضوع، فكتب في عام 1845م يقول: «لم يتطلب كوكب آخر من الاهتمام ومن العناء ما تطلبه عطارد، ولم يكافئ كوكب آخر الباحثين على اهتمامهم وعنائهم بذلك القدر من الحيرة والقلق، الذي كافأهم به عطارد.» ولقد أخذ لوفرييه على عاتقه القيام بحسابات مطولة ليحدد موقع كوكب جديد افترض وجوده ليفسر انحرافات حركة عطارد، وبذلك كان يأمل أن يكرر التنبؤ الذي جلب له شهرة عندما كشف عن الكوكب نبتون.
ولكن لم توجد أية ملاحظة تحقق تنبؤات لوفرييه على الإطلاق، ولا شك في أن هذا «الإخفاق» خليق بأن يلفت انتباه الفيلسوف، فها نحن أولاء نرى منهج التفسير ينجح تارة ويخفق تارة أخرى، وذلك في ظروف تبدو متساوية تماما.
وبعد هذا الإخفاق حاول بعض العلماء إدخال تعديل طفيف على قانون الجاذبية الكونية القائل بالتناسب العكسي مع مربع المسافات، ومع ذلك لم يتفق هذا التعديل مع الملاحظات اتفاقا كاملا.
ولما عدلت النسبية العامة قانون نيوتن تعديلا أساسيا استطاعت إثبات شذوذ عطارد.
ومع ذلك ينبغي أن ننبه الأذهان إلى أن البرهانين اللذين أتينا بهما الآن يتعلقان بظواهر تبلغ من الضعف حدا يجعلنا نشك في إمكان الحصول على تفسير آخر لها.
20
وأيا كان الأمر، فليس لأحد أن يغفل عن مذاهب النسبية العامة تتمثل في أفق عقلاني جديد. فإذا جعلنا التنظيم العقلي لعلم الفلك لدى «نيوتن» نقطة بدء لنا انتهينا إلى تحديد القيم العلمية على مرحلتين: (1)
في المرحلة الأولى يؤيد المرء مذهبا عقليا بسيطا يحدد القوانين الأساسية خلال مدارات بيضاوية (وهي صور للهندسة الأولية). (2)
وعند التطبيق، يستعين المرء بفكرة الانحراف، لكي يعلل وجود فرق طفيف بين القانون الأساسي والملاحظة.
أما إذا بدأنا بالتنظيم العقلي للنسبية، فإنا ننتهي مباشرة إلى الصورة المعقدة للقانون، فلا نهتدي إلى قوانين نيوتن البسيطة إلا في المرحلة الثانية، وعلى سبيل التبسيط، وعندئذ ينظر إلى هذه القوانين كما لو كانت صورا متدهورة للقانون المعقد.
ويبدو أن الفارق بين الانحرافات وضروب التدهور هو فارق في التوجيه بالنسبة إلى فلسفة الروح العلمية، وهذا موضوع سنعود إليه في ختام الفصل التالي.
وهناك ظاهرة ثالثة فسرتها النسبية أيضا، وهي تحول ألوان الطيف التي تبعثها النجوم البعيدة إلى اللون الأحمر.
فقد أدى هذا التحول إلى ظهور آراء غريبة في مجال الكونيات؛ إذ تبين أن هذه الظاهرة، التي لوحظت أولا في أشعة مضيئة يبعثها «رفيق سيريوس
Sirius » وهو نجم مجاور لسيريوس ويدور حوله)، يمكن ملاحظتها بالنسبة إلى كل سديم، وأنها تزداد أهمية كلما ازداد السديم بعدا. وفي هذه الحالة تكون ظاهرة تحول ألوان الطيف إلى الأحمر «ظاهرة مكبرة» وتصبح الألوان فوق البنفسجية ألوانا زرقاء.
ولما كانت كل السدم البعيدة تتمثل فيها هذه الظاهرة الطيفية، فلا بد من الاعتراف بأن كل السدم البعيدة تتباعد عن الأرض. وإذن فالكون يكبر بلا انقطاع. وتلك هي الفكرة المعروفة باسم الكون المتزايد في امتداده، ولقد كان أول من توسع في تحديد الصيغ الرياضية لهذه الفكرة هو الفلكي الإنجليزي «إدنجتن»، ثم توسع فيها من بعده البلجيكي الأب لومتر
Lemaitre .
وسرعان ما ظهرت فروض أخرى حول تركيب الكون، ولكن يجب أن نلاحظ أنها تنطوي جميعا على عمليات رياضية معقدة، وإذا لم يتذكر المرء أن الصورة التي نكونها عن الكون إنما هي تعبير عن آراء رياضية شيدت بدقة عظيمة، ورتبت فيما بينها بإحكام هائل. كان في هذا ما يهدد بضياع قيمة هذه الصورة.
ومع ذلك فلزام علينا أن ننبه إلى أن هذه النظريات وإن كانت محكمة الترابط في ذاتها، إلا أنها متعددة، وإن كثرتها وتباينها لكفيلان بأن ينبها الفيلسوف إلى أن يقف منها موقف الحذر، فلا ينسب إليها حقيقة نهائية. والحق أن تطور النظريات الكونية منذ نصف قرن يثبت بوضوح كاف أن هذه النظريات تمثل آراء تركيبية يلخص بها العالم معرفة عصر ما.
الفصل الحادي عشر
النظريات الحالية في العلوم الفيزيائية
تطور المذهب الذري - ميكانيكا الكم
الميكانيكا التموجية - الروح العلمية الجديدة
إذا تتبعنا تاريخ العلم، أمكننا أن ندرك الأهمية المتزايدة للدور الذي تلعبه النظريات الفيزيائية. ولقد كانت النظرة القديمة إلى هذه النظريات هي أنها مجرد «فروض» تمهد للبحث، أي هي إجراء مؤقت يساعد على تنظيم التجارب. على أنها قد أخذت تندمج بالتدريج في التفكير العلمي، إلى حد أنه لم يعد من الممكن فهم المعنى العميق للتجارب المعملية دون إلمام بالنظريات العلمية. فينبغي إذن أن تسعى كل عقلية فلسفية إلى إجادة فهم دور النظريات في العلوم الفيزيائية الحديثة. وتلك مهمة عسيرة يجب أن يستعين أستاذ الفلسفة فيها بأستاذ علم الفيزياء.
ولقد أخذنا على عاتقنا أن نلخص في هذا الفصل عدة نظريات هامة. فإذا أحس القارئ، بصعوبة أقسام من هذا الفصل، فحسبه أن يقرأ الملخص التالي.
فلنفحص أولا النظريات الخاصة بالذرة. إن فكرة الذرة فكرة موغلة في القدم، ومن الضروري أن يكون كل فيلسوف قد عرفها في صورها التقليدية (المذهب الذري عن ديمقريطس وأبيقور) وللقارئ أن يرجع أيضا إلى القصيدة الشعرية الرائعة التي كتبها لوكريس في طبيعة الأشياء
de rerum natura .
يمكننا القول بأن النظرة الفلسفية المبدئية إلى الذرة لم تتغير حتى ظهرت بحوث الكيميائي الإنجليزي دالتن
Dalton . ولكن عندما جاء دالتن (1766-1844م) أمكن تنظيم المذهب الذري بحيث يتسنى استخدامه في تفسير الصلة الوثيقة المتبادلة بين مختلف الأجسام البسيطة في الكيمياء. وإذن ففي مستهل القرن التاسع عشر، عبرت الكيمياء عن قوانين التركيب الخاصة بهذه الأجسام، وبنت آراءها في ذلك على «الفرض الذري». وقد لخصنا في هذه المسألة معلومات لا غنى عنها في فهم أقدم المذاهب الكيميائية. لهذا لا ينطوي القسمان الثالث والرابع على صعوبة كبرى. ومن الممكن أن نجد في هذين القسمين وحدهما صورة لما يسمى ب «النظرية العلمية».
وسنرى بعد ذلك كيف تحولت هذه النظرية «الكيميائية» في العصر الحديث إلى نظرية «في الفيزياء». وذلك ما يحدث في علم الفيزياء الذي يبحث في «المنفصل»
physique du discontinu
وهو العلم الذي يلجأ إلى فكرة «الجسيم»
corpuscule
بدلا من فكرة الذرة (القسم السادس). فلقد اتضح أن الذرة الكيميائية مركبة؛ فهذه الذرة (التي كانت تعد جزءا لا يتجزأ بحسب أصلها الاشتقاقي) تبدو تنظيما معقدا مكونا من نواة ومجموعة من الإلكترونات.
ولقد قارن بعضهم الذرة بالنظام الشمسي، وتحدث عن الأنموذج الكوكبي، الذي اقترحه «بور
Bohr ». (وهنا أيضا يجد القارئ مثلا ثانيا لفكرة النظرية الفيزيائية) القسمان السابع والثامن.
وبقية الفصل أكثر صعوبة؛ لأنه يتعرض للعلم المعاصر. وللقارئ عندئذ أن يقتصر على متابعة الطريقة التي أدخلت بها الأفكار الجديدة التي أحدثت انقلابا في علم الفيزياء، وينظر إلى هذه الأفكار على أنها وقائع تاريخية.
كانت فكرة «حبيبة الطاقة
grain d’énergie » هي التي أدت أولا إلى القول بالانفصال؛ بل إلى القول به في مجال مختلف تماما عن مجال الوجود، ما دامت الطاقة فكرة ديناميكية في أساسها، وتتضمن تبعا لذلك فكرة تقدير العامل الزمني (القسم التاسع).
ثم تأتي بعد ذلك فكرة «الفوتون
photon
حبيبة الطاقة المضيئة في القسمين الحادي عشر والثاني عشر».
وتزداد الصعوبات بعد ذلك عندما يجد الفيلسوف لزاما عليه أن يفسر «الميكانيكا التموجية» بأفكارها التي تثير الدهشة، وهي النظرية التي اقترحها لوي دوبرليي
Lusi de Broglie
منذ ربع قرن من الزمان. ويبدو أن فكرة «النظرية» تتبدى عندئذ بكل ما لها من أهمية. ولكن مثل هذه النظرة لا تنفصل عن صيغتها الرياضية. لذا اقتصرنا على استخلاص أغرب جوانبها الفلسفية (القسم الثالث عشر).
وفي مقابل الميكانيكا التموجية ظهرت في الوقت ذاته ميكانيكا الكم
quantique . التي بنيت على مبدأ هيزنبرج
Heisenberg
هذا المبدأ المسمى بمبدأ اللاتعين، أو «اللاحتمية
idetérminisme »، فقد أثار كثيرا من الجدل بين الفلاسفة.
ولقد حاولنا أن نبين على وجه الدقة مجال تطبيقه، ونشير إلى الأخطار التي تنجم عن استنباط نتائجه الفلسفية التي تتجاوز نطاق الفيزياء الذرية (القسم الرابع عشر).
وفي القسم الخامس عشر، الخاص بالنشاط الإشعاعي، يبدأ البحث باتخاذ وجهة أخرى، ويستطيع القارئ أن يجد سلسلة جديدة من الأمثلة. فبعد أن ننبه إلى ما أثاره كشف النشاط الإشعاعي في أواخر القرن التاسع عشر (على يد بكرل
Becquerel
وبيير وماري كوري) من دهشة، نقدم لمحة موجزة عن الفيزياء النووية (القسم السادس عشر) وهو مجال جديد كل الجدة، يحقق به عالم الفيزياء «تغيرات» تحول عنصرا كيميائيا إلى آخر؛ بل يخلق أجساما كيميائية جديدة: هي عناصر ما بعد الأورانيوم
transuraniens (القسم الثامن عشر). والطاقات التي تنطلق بتحطيم هذه النويات الجديدة (وهذا التحطيم يسمى بالانشطار
fission ) لها قوة هائلة، ولتكن هي الطاقة المستخدمة في القنبلة الذرية.
وفي ختام الفصل، حاولنا أن نوضح أن الظواهر التي بلغت هذا الحد من الجدة، والنظريات التي بلغ تنظيمها هذا الحد من الإحكام، تقتضي فحصا جديدا للمثل الأعلى الذي يوجه الروح العلمية، وتأكيدا «لقيم» التفكير العلمي المعاصر.
المذهب الذري الفلسفي
من المفيد جدا أن نتتبع بإيجاز تاريخ المذهب الذري منذ المذهب الذري الفلسفي حتى المذهب الذري المعاصر، مارين بالمرحلة الوسطى، وهي المذهب الذري قبل العلمي. ونقول إن تتبع هذا التاريخ مفيد، لأنه يطلعنا على تطور فكرة الفرض، ويحدد بدقة الدور الذي تؤديه النظريات الكبرى في العلم الحديث. ومثل هذا التاريخ، إذا كتب في العصر الحديث، فإنه يبين كيف ظهرت فكرة الذرة بالتدريج، وكيف استخدمت في تفسير أكثر الظواهر تباينا: كالظواهر الكيميائية، وظواهر علم الطبيعة، والكهرباء. وفي أيامنا هذه، ارتبطت الكيمياء الذرية بفيزياء جسيمية
physique corpusculaire ، وظهرت فكرة المنفصل
le discontinu
بالتدريج بوصفها حقيقة عميقة توجد من وراء «الاتصال» البادي للظواهر.
ولكن إذا كان المجال لا يسمح لنا برواية تفاصيل هذا التاريخ، فحسبنا هنا أن نشير إلى أهم مراحله.
ففي القرن الخامس قبل الميلاد، أكد الفيلسوف العبقري ديمقريطس بصورة واضحة، انفصال أشكال الوجود، وكثرتها، فكل الظواهر في رأيه ينبغي أن تفسر عن طريق فكرة جزيئات مادية تبلغ حدا هائلا من الصغر، لا تتغير أشكالها ولا تتجزأ (ومن هنا كان اسم الذرة
atomos
أي الجزء الذي لا يتجزأ). وجميع هذه الذرات تتحرك في فراغ مطلق. وعلى ذلك يكون الأساس الوحيد لتفسير الظواهر هو الهندسة التي تبحث في الأشكال الذرية والميكانيكية التي تبحث في حركاتها، وعلينا هنا أن نلاحظ أن فكرة «الفراغ المطلق» ستظل على الدوام مرتبطة بالنظريات الذرية.
ولنلاحظ أن المذهب الذري عند ديمقريطس هو صورة واضحة المعالم من صور مذهب حتمية الظواهر.
واقتبس أبيقور (320-270ق.م.) هذه الفكرة، وأدخل عليها تغييرا هاما ؛ فقد عزا إلى الذرة قدرة على الانحراف دون أن تكون هناك علة خارجية لانحرافها، ودون أن تصطدم الذرة بشيء، وقد أدى هذا الانحراف (
clinamen ) إلى إدخال نوع من اللاحتمية على حتمية ديمقريطس.
وأخيرا عرض لوكريس (99-55ق.م.) في قصيدته الشعرية الرائعة: في طبيعة الأشياء (
de rerum natura ) صورة عامة لفلسفة طبيعية تقوم على أساس مذهب أبيقور الذري.
المذهب الذري قبل العلمي
عندما عاد المذهب الذري إلى الظهور في العصور الحديثة على يد جاسندي
Gassendi (1592-1655م) وعلى يد علماء الكيمياء في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان ظهوره دائما على صورة ضروب من الحدس الهندسي نستطيع اليوم أن ندرك مبلغ سذاجتها. والواقع أن المفكرين في ذلك الحين لم يكونوا يترددون في أن ينسبوا إلى الذرة كل المدركات الحسية المباشرة، بحيث إن الصورة الخاصة لذرات المادة تفسر إحساسات الذوق والرائحة واللون. وهكذا قيل إن ذرة البرد مدببة، لأن البرد قارس، ويصف الكيميائي نيكولاس ليميري
Nicolas Lémery (1645-1715م) تأثير الأحماض في الأجسام القاعدية بأنه أشبه باختراق الطرف المدبب في الأحماض لمسام القلويات. كذلك تصور الكيميائي هومبرج
Homberg (1652-1715م) حين أراد أن يفسر تحول الزئبق إلى مسحوق زئبقي
cinabre ، أن الدقائق الكروية للزئبق تتشقق بفعل النار، مثل قشرة «القسطل» وتختلط كل هذه القشور المتشققة، حتى «يصبح الزئبق جافا كالحجر».
وهناك أمثلة عديدة للتفسيرات التي تلجأ إلى التشبيهات. ولا شك في أنه ليس لمثل هذه التشبيهات أية قيمة علمية؛ بل إنها لا تصور لنا الظواهر تصويرا جيدا.
المذهب الذري في الكيمياء
كان العالم الإنجليزي دالتن (1766-1844م) هو الذي استخلص النتائج العلمية الدقيقة لفرض ديمقراطيس الخاص بالذرة التي لا تتجزأ. فإذا سلمنا بأن لكل مادة كيميائية بسيطة ذرة خاصة، ومن ثم فلها وزنها الخاص، فلا بد أن تتجمع الذرات المتعددة كيميائيا تبعا لعلاقات محددة. وإذن فمن الممكن الوصول إلى براهين دقيقة عن صحة الفرض القائل بالذرة وذلك بمقارنة مقاييس وزنية.
وهكذا ينقلنا دالتن إلى عصر يصبح فيه الحدس الفلسفي فرضا علميا.
فلنعد إلى الأذهان إذن القوانين التي تبنى عليها الكيمياء الحديثة، وهي القوانين التي لا يكون لأي تعليم للكيمياء معنى بدونها: (1)
قانون النسب المحددة (قانون بروست
) ويؤكد أن كل تجمع للذرات يتم في ظروف محددة بكل دقة. وهذا القانون هو ذاته نتيجة لفكرة عدم انقسام الذرة. فإذا اتحد «مليار» من ذرات جسم معين، بمليار «من ذرات جسم آخر»، فإن النسب الوزنية تظل في هذه الحالة كما هي في حالة اتحاد ذرة من الجسم الأول بذرة واحدة من الجسم الثاني. (2)
قانون النسب الكثيرة: تثبت التجربة أن المادتين الكيميائيتين يمكن أن تؤديا إلى نوعين متباينين من التركيب، وفي هذه الحالة إذا وحدنا بين وزن معين في إحدى المادتين وبين أوزان من المادة الأخرى التي تتجمع من الأولى بصورة مختلفة، وصلنا إلى علاقات يعبر عنها بحاصل ضرب للتجمع الأبسط. وهذه الصيغة التي تبدو مجردة في الظاهر، تصبح عظيمة الوضوح إذا ما ترجمت إلى لغة الفرض الذري. ففي الحالة الأولى، تتحد ذرة من المادة الثانية بذرة من الأولى، وفي الحالة الثانية، تتحد ذرتان، أو ثلاث ذرات، أو أربع ... من المادة الثانية، بذرة «واحدة» من الأولى.
فإذا ما فكرنا مليا في هذا القانون الذي تقدمه إلينا التجربة، اتضحت لنا فورا القيمة التفسيرية لفرض علمي منتج. (3)
قانون ريشتر
Richter : إذا اتحد جسمان، كل على حدة، مع جسم ثالث، فإن العلاقات الوزنية التي يكشف عنها التحليل في الحالتين تمكن من التعبير عن العلاقات الوزنية لتجمع هذين الجسمين. وهنا أيضا نجد أن التعبير - الذي يبدو مجردا في ظاهره - عن هذا القانون، قد اتضح من تلقاء ذاته إذا ما ترجم إلى لغة الفرض الذري.
وعلى أساس هذه القوانين الثلاثة، يمكننا أن نعزو إلى كل من العناصر عددا يسمى الوزن الذري. وبهذه الطريقة نحصل على قائمة من الأعداد النسبية عن التجمعات، تبين العلاقات الوزنية التي تتحد العناصر الكيميائية فيما بينها تبعا لها.
ولنؤكد هنا أن «الأوزان الذرية» التي نحصل عليها بهذه الطريقة ليست في حقيقة الأمر «أوزانا»، وإنما هي «نسب» بين أوزان، أي هي «أعداد مجردة». ومن المحقق أن من أكبر مظاهر التقدم التي أحرزها العلم المعاصر، الانتقال من هذه الأعداد المجردة المعبرة عن نسب، إلى أعداد عينية تعبر بالفعل عن «وزن» الذرات.
فرض أفوجادرو
Avogadro
ونقطة البدء في هذا النجاح الكبير ترجع إلى الفرض الجريء الذي تقدم به عالم إيطالي في مستهل القرن التاسع عشر. فقد أعجب أفوجادرو بما تتسم به القوانين التي وضعها جيه لوساك
Gay-Lussac
عن تجمعات «أحجام» الأجسام في صورتها الغازية من بساطة هائلة. فبدلا من العلاقة الوزنية المعقدة: 1 إلى 35,5، وهي العلاقة التي تعبر عن اتحاد الهيدروجين بالكلور، وجد «جيه لوساك» أن لترا واحدا من الهيدروجين يتحد بلتر واحد من الكلور، فيؤدي ذلك إلى تكوين لترين من حامض الكلور هيدريك.
ولما فكر «أفوجادرو» في هذه البساطة، صاغ فرضه على النحو التالي: «إن الفرض الذي يخطر بالذهن أولا، بل الذي يبدو أنه هو وحده المقبول، هو أن عدد الجزيئات المتكاملة في الغازات يظل دائما دون تغيير إذا تساوى الحجم».
وهكذا لا تكون للخواص الكيميائية التي تتميز بها الجزئيات الغازية أية أهمية في فرض «أفوجادرو». ويمكن القول بأن هذا الفرض ينتمي إلى مجال علم الطبيعة لا الكيمياء، على أن العلاقة بين الكيمياء وعلم الطبيعة قد تحددت عن طريق فكرة تبعث الحيرة في معظم الأحيان في نفوس المبتدئين، وهي فكرة «الجرام الجزيئي
Molécule-gramme
فحجم الجرام الجزيئي هو الذي يشغله وزن م معبرا عنه بالجرامات، على اعتبار أن م هي ذاتها الوزن الجزيئي؛ وهو بالنسبة إلى كل الأجسام 22 لترا ونصف.
ومن الواجب أن يبذل كل ذهن فلسفي جهدا لفهم هذه المعاني التي هي في حقيقتها معقدة، ولكنها تكون بالفعل الأساس الذي تبنى عليه الثقافة العلمية الأولية.
ومن المعلوم بالطبع أن أفوجادرو لم يتصور، لا هو ولا معاصروه، الوسائل الكفيلة بتحديد «عدد» الجزيئات التي يحتوي عليها حجم معين من الغاز. فظل «قانون» أفوجادرو يستخدم طوال قرن بأكمله، على أساس هذا «الفرض» الأوحد، القائل بأن أعداد الجزيئات تكون واحدة بالنسبة إلى كل الأحجام المتساوية من الغازات المختلفة.
وتم هذا التحديد التجريبي العجيب لعدد الجزيئات التي يحتوي عليها لتر من الغاز في مستهل هذا القرن عن طريق الجمع بين أساليب طبيعية وكيميائية. وكان ذلك على يد العالم الفرنسي الكبير «جان بيران
Jean Perrin » (1870-1942م) فبعد أن درس «جان بيران» ظواهر عظيمة التباين، مثل توازن المحاليل، وزرقة السماء، والحركة البرونية،
1
وجد أن عدد الجزيئات التي يحتوي عليها جرام جزيئي يمكن أن يحدد، بتقريب معقول، بالمقدار 60 × 10
22
وأدت به دراسة الظواهر الأربع عشرة التي قام بها إلى نتائج تعادل هذا المقدار نفسه. ولنذكر أن عددا يوضع على صورة 10
22 (أي عشرة أس 22) عدد لا يمكن تخيله. وهذه الصورة التي اختار وضع العدد بها تمكن من فهمه، ولكنها لا تمكن من تخيله، وعلى ذلك فالعدد 60 × 10
22
يمثل عدد جزيئات الغاز التي يحتوي عليها 22,4 لترا في ضغط 760سم، وفي درجة الصفر، وذلك هو «عدد أفوجادرو». ويتدخل «عدد أفوجادرو » في تفسير ظواهر عديدة، وهو كما يقول علماء الطبيعة في أيامنا هذه، من الثوابت الشاملة.
وبقسمة الوزن الجزيئي، معبرا عنه بالجرام، على عدد أفوجادرو، نحصل على الوزن الفعلي للجزيء الواحد، ومنه نحصل على وزن مختلف الذرات.
وهكذا أصبح «فرض» أفوجادرو في خلال القرن التاسع عشر، «قانونا» يستخدم في حل مسائل الكيمياء. وبتطبيق هذا القانون على تجارب متعددة ومتنوعة، أمكن تحديد الوزن الحقيقي للذرة، بوصفه «حقيقة» ملموسة، وذلك فيما بعد، أي في القرن العشرين. وهذا مظهر من أوضح مظاهر النجاح الذي أحرزته «النزعة الواقعية» للعلم المعاصر. وسوف نرى أن هذه النزعة الواقعية تزداد تأكدا عند دراستنا للفكرة الحديثة عن الجسيم.
فكرة الجسيم
Corpuscule
اتخذت الفكرة العلمية عن الذرة، التي لعبت خلال القرن التاسع عشر دورا متزايدا في الكيمياء، صورة جديدة بفضل جهود علماء الطبيعة. والحق أن فكرة الذرة قد فرضت نفسها على تفسير الظواهر الكهربية، وأدت إلى فكرة الجسميات الكهربية.
فلنستعرض إذن مختلف الجسيمات التي اهتدى إليها العلم المعاصر، وبذلك نقدم عرضا موجزا «للفلسفة الجسمية» الجديدة.
الإلكترون: يبعث انطلاق الشحنات الكهربية في الفراغ أشعة سلبية، وفي أواخر القرن التاسع عشر أثبت علماء عديدون، ومن بينهم «جان بيران» أن هذه الأشعة هي انبعاثات من جسيمات محملة بشحنات كهربية سالبة. وسميت هذه الجسيمات باسم «الإلكترونات». وعن طريق فكرة الإلكترون تم إدخال فكرة الذرة في الكهرباء، ولقد أمكن تحديد كتلة هذا الجسيم الكهربي وشحنته بدقة، وسوف تسنح لنا خلال هذا الفصل فرص توضيح أهمية هذا الجسيم، وإدراك ما يؤديه من دور في تقدم النظريات (الكيمياء الإلكترونية، الميكانيكا التموجية)، وكذلك في أشد المستحدثات العلمية تباينا (كالخلايا الضوئية الكهربية، وصمامات المذياع، والتليفزيون، والآلات الحاسبة). ولا شك في أن العلم المعاصر المعروف باسم السيبرنطيقا
Cybernétique ، ما كان ليوجد لولا العلم الإلكتروني. وهكذا أثبت الإلكترون وجوده بالفعل في ميدان الصناعة، وهذا ما يتضح للمرء جليا إذا اطلع على مؤلف كتبه أحد المهندسين واسمه زلبشتين
Zelbstein ، وهو التطبيقات الصناعية للمقاييس الإلكترونية».
2
ولكن، لنعد إلى عرض الجسيمات الجديدة في علم الطبيعة واحدا بعد آخر.
البروتون: لم يستغرق العلم زمنا طويلا في البرهنة على أن الإلكترونية جسيم يدخل في تركيب المادة، فكل الذرات الكيميائية تحتوي على إلكترونات، ولكن الذرات الكيميائية متعادلة من الوجهة الكهربية، فلا بد إذن أن هناك جسيما آخر «يعوض» الطابع السلبي للإلكترون، ذلك الجسيم الآخر المشحون بطاقة موجبة هو البروتون.
ولقد كان يظن أولا أن البروتونات هي المكونات الحقيقية لكل الذرات الكيمائية، وهذا ما يعبر عنه بالقول بأن المادة ذات طبيعة كهربية في أساسها.
وعن طريق هذه الجسيمات توصل العلماء إلى مذهب ذري أعمق. فلم تعد ذرات الكيميائي «أجزاء لا تتجزأ» بالمعنى الصحيح. بل إن الأساليب التكنيكية الكهربائية استطاعت تحطيم ذرات الكيمياء. وهنا يجب أن نحذر من الفكرة التي تخطر بسهولة على الأذهان، والقائلة بأن هناك وسائل أخرى تستطيع تحطيم الإلكترونات والبروتونات بدورها، فليس أبعد عن الفلسفة العلمية السليمة من استخدام الخيال لاستباق الشروط الفعلية التي تثبت فيها صلاحية العلم.
وأكثر من ذلك، فإن فكرة الإلكترون لم تتعارض مع معارف علماء الكيمياء؛ بل كانت على العكس من ذلك سببا في ازدهار الكيمياء ازدهارا ملحوظا، ولكي نعطي القارئ فكرة عن تعاون علمي الطبيعة والكيمياء المعاصرين، ينبغي علينا أن نرجع خطوة إلى الوراء، ونعرض بسرعة لأحد الآراء التركيبية الكبرى عند مجموع الظواهر الكيميائية.
قائمة مندليف
منذ بداية عهد الكيمياء الكلاسيكية في القرن التاسع عشر، حاول «فوركروا
Fourcroy » وتينار
Thénard
ثم «ديما
Dumas » في 1828م أن يصنفوا العناصر الكيميائية إلى عائلات غير أن تصنيفاتهم أضفت أهمية مفرطة على خصائص خاصة، إلى أن جاء كيميائي روسي، هو مندليف
Mendéléeff
فاقترح في سنة 1869م تصنيفا منهجيا مبنيا على فكرتين أساسيتين: الوزن الذري، والتكافؤ الكيميائي؛ فالأوزان الذرية تزداد منذ الهيدروجين (ووزنه الذري 1008) حتى الأورانيوم (ووزنه الذري 23707)، أما من حيث التكافؤ الكيميائي فإن هذا العدد يتكرر ظهوره دوريا إذا ما سرنا حسب ترتيب الأوزان الذرية. وهكذا رسم «مندليف» قائمة مربعة صنف فيها كل العناصر الكيميائية المعروفة في زمنه إلى سطور وأعمدة، بحيث توضح الأعمدة العناصر ذات التكافؤ الواحد (وبالتالي ذات الخواص الكيميائية المتقاربة).
على أن مندليف لما أراد الوصول إلى تحديد أعمدة تنتمي إلى عائلة كيميائية واحدة على هذا النحو، اضطر إلى ترك «خانات» خالية، بل اضطر مرتين أو ثلاثا، إلى قلب النظام الذي تحدده الأوزان الذرية المتزايدة بالتدريج، مما ينطوي على مخالفة لمبدأ قائمته ذاته، وهكذا كانت هذه الطريقة تعطي انطباعا بأنها عشوائية، ولكن «مندليف» أكد أن هذه «الخانات» الخالية تحدد مكان عناصر مجهولة، ولم يتردد في تقديم بعض الإيضاحات المتعلقة بخواص هذه الأجسام المجهولة، ومنذ ذلك الحين حتى أيامنا هذه، أخذت فراغات «القائمة الدورية» تملأ سنة بعد أخرى، وتحققت نبوءات «مندليف». والحق أن قائمة «مندليف» - بما أدخل عليها من تعديلات قليلة - تعد، في أيامنا هذه، حقيقة من أروع الحقائق في ميدان فلسفة المادة.
وهاك الموضع الذي يظهر فيه دور الإلكترون في تصنيف مندليف. إن حالات التكافؤ الكيميائي تتدخل في ظواهر التحليل بالكهرباء (قوانين فارادي). وما دامت حالات التكافؤ هذه على صلة بالكهرباء فلا بد أنها على صلة بالإلكترونات، وهكذا أصبحنا نشهد ظهور كيمياء إلكترونية، لا كيمياء كهربية، والحق أن كل نوع من الذرة يحتوي على عدد مميز من الإلكترونات، والترتيب الحقيقي الذي وضعه «مندليف» هو ترتيب «إلكتروني»؛ فالكيمياء الحديثة في حاجة إلى مفهوم جديد، وهو مفهوم «العدد الذري» (أي عدد الإلكترونات التي تحتوي عليها الذرة الواحدة)، والعدد الذري، لا الوزن الذري، هو الذي يصلح متغيرا أساسيا يبنى عليه ترتيب مندليف؛ فإذا كان مندليف قد استطاع تحديد قائمته بطريقة صحيحة إلى حد ما، رغم جهله بهذه الفكرة، فإنما يرجع ذلك إلى أن الأوزان الذرية والأعداد الذرية تتزايد، في وقت واحد، فيما عدا استثناءات قليلة هي بعينها الاستثناءات التي تركها مندليف «اعتباطا» مخالفا بذلك مبدأه الخاص.
وعلى ذلك فجميع العناصر الكيميائية تتميز بالعدد الذري الذي يتراوح ما بين «1» في حالة الهيدروجين و«92» في حالة الأورانيوم، (وسنرى فيما بعد كيف أمكن تصور عناصر «بعد الأورانيوم» لها أعداد ذرية أعلى منه).
ولكن، مادامت الخواص الكيميائية للعناصر المختلفة تعود إلى الظهور «بطريقة دورية» على حين أن الوزن الذري يزداد بطريقة منتظمة، فلا بد أن نتصور «تنظيما دوريا» للإلكترونات المتجمعة في الذرة الخاصة. وهكذا فرضت على الأذهان فكرة «الطبقات» المتعاقبة من الإلكترونات في تركيب الذرات. فقائمة مندليف لها ثمانية أعمدة. وطبقات الإلكترونات في الذرة لا يمكن أن تحتوي على أكبر من ثمانية إلكترونات. فعندما تحتوي طبقة على ثمانية إلكترونات تكون كاملة. أما الطبقات غير الكاملة فإليها ترجع الخواص الكيميائية. على أن التجمعات الكيميائية تتجه إلى تكوين طبقات ذات ثمانية إلكترونات، بأن تجمع في طبقة واحدة إلكترونات طبقتين سطحيتين غير كاملتين من العناصر المكونة.
وهكذا نرى كيف تتجه أشد الظواهر اختلافا في العلم الحديث نحو نقطة واحدة. وسنأتي لهذا التقارب ببرهان آخر كفيل بإيضاح القيمة التركيبية للتفكير العلمي الحديث.
فمن الخواص المميزة للأجسام الكيميائية، خاصة «الأطياف المضيئة»، أعني مجموع الألوان الضوئية التي يكشف عنها التحليل الطيفي في إشعاع مادة وصلت إلى حالة التوهج.
وهذه الألوان الضوئية ترتبط بتغيرات في تركيب طبقات الإلكترونات، وعن طريق تفسير الصيغة الرياضية التي توضح توزيع ألوان طيف الهيدروجين (صيغة بالمر
Balmer ) تمكن العالم الدنمركي «نيلز بور
Niels Bohr » (المولود في 1885م)
3
من اختراع الكيمياء الكمية
Chimie quantique
وعلى يد «بور» بدأ عهد جديد في العلم، له أهمية فلسفية كبرى، مادامت كل الأبحاث المتعلقة بالمادة، والطاقة والضوء (أو بوجه عام، المتعلقة بالأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، وأشعة إكس) قد اتسقت كلها في نظرية جديدة.
ونظرية بور في صورتها الأولى تنسب إلى الإلكترونات في الذرة حركات حول النواة؛ فالإلكترونات ترسم مدارات كتلك التي ترسمها الكواكب حول الشمس، ومن هنا كان اسم «الأنموذج الكوكبي» الذي أطلق على نظرية «بور» غير أن هذه الحركة الكوكبية ليس لها أي أثر خارج الذرة، ولا يؤدي الإلكترون إلى حدوث ظاهرة إلا إذا تغير مداره فجأة، وذلك هو ما سمي «بالوثبة الكمية
Saut quantique » هذه الوثبة الكمية تطلق كمية من الطاقة
Quantum
هي بعينها كمية الطاقة التي نجدها في الإشعاع، والمقصود بالكمية كطاقة مقدار محدد من الطاقة لا يمكن تجزئته؛ وإذن فالطاقة لا تتغير دائما بطريقة مستمرة.
وهكذا أدخل «بور» في النظرية الذرية الكيميائية فكرة الطاقة التي اقترحها العالم الألماني «مكس بلانك
Max
» قبل ذلك بعشر سنوات؛ ومن هنا أصبحنا نشهد تقاربا جديدا لخطوط تطور الفلسفة العلمية، وعلينا أن نعود إلى المصدر الأصلي لفهم هذه الفكرة الجديدة كل الجدة، وأعني بها فكرة «كمية الطاقة
Quantum d’énergie ».
كمية الطاقة
le quantum d’énergie
كانت الصيغ الرياضية التي اقترحت في أوائل القرن التاسع عشر لتفسير ظواهر الإشعاع العامة متناقضة تناقضا تاما مع «الرسوم البيانية» التي تمثل نتائج التجربة تمثيلا حسيا. ونظرا إلى أن النظريات الحديثة ليست مجرد وسائل للتعبير، كما قيل أحيانا بل تستخدم بالفعل للتفكير في التجربة، فإن وجود مثل هذا التناقض الواضح بين الصيغ النظرية والرسوم البيانية التجريبية يقتضي تعديلا شاملا للأسس النظرية.
ولكن في أي مستوى من العمق كان ينبغي العمل؟ لم يتردد «ماكس بلانك» في صبغ الطاقة بصبغة ذرية، أي في تسجيل الانفصال في فكرة تخضع لحدس الاتصال خضوعا واضحا، فأي شيء يبدو أكثر اتصالا من تغيرات الطاقة التي تعبر عنها قوة شديدة صيغتها 1 /2 ك س2؟
4
ألا تتغير هذه الطاقة على نحو «متصل» كالتغير المتصل في السرعة، التي يمكن أن تكون لها «كل» القيم فيما بين سرعتين؟
هذا القول الغريب بنوع من الانفصال في الطاقة قد أتاح لبلانك أن يقضي تماما على التعارض بين النظرية والتجربة في مجال الإشعاع فكمية طاقة الإشعاع يعبر عنها بالصيغة اليسيرة ج = ت × ه (حيث ج هو جزيء الطاقة، وت هو التردد
fréquence
وه ثابت أصبح يسمى بثابت بلانك.
وثابت بلانك ضئيل جدا (ه = 6,55 × 10
27
إرج/ثانية حيث يعني الأس السالب إمكان الحصول على قيمة ه بأن نقسم 6,55 على القوة السابعة والعشرين للعدد 10).
ولقد أصبح لثابت «بلانك» دور في أشد مجالات علم الطبيعة والكيمياء تباينا فهو من الثوابت الشاملة، مثله في ذلك مثل ثابت أفوجادرو، بل إن باستطاعتنا أن نقول بأنه هو العلامة المميزة لكل ظواهر علم الطبيعة، كذلك يصدق قانون الانفصال في الطاقة، كما صاغه بلانك على الإشعاع، على المادة في صورتها الذرية.
إن من واجب العقل الفلسفي أن يتدبر مليا في مدى خصوبة ودقة هذه المركب المتسع، الذي يجمع الضوء والمادة معا في قانون مشترك.
فعندما يقفز إلكترون من مدار إلى آخر في الذرة، يحدث تغير كمي في الطاقة، ولكن هناك أسبابا أخرى لتغير الطاقة في الديناميكا الإلكترونية، وهكذا ينتهي المرء إلى تحديد تغيرات الطاقة في الذرة تحديدا كميا. وللقيام بعملية «التحديد الكمي» هذه بما لها من أوجه متعددة تنسب أعداد كمية إلى مختلف الحالات التي تتعرض للتغير السريع.
ولقد تبين ضرورة استخدام أربعة أعداد كمية
nombres quantiques
لتفسير كل تفاصيل ظواهر الطيف، كما ظهرت معان تدور حول فكرة الطاقة، وفرضت نفسها على الباحثين مع أنها لم تخطر ببال أحد في بادئ الأمر. فمثلا اضطر الباحثون إلى أن ينسبوا طاقة محورية
énergie de pivotement
إلى الإلكترون، يحدد لها عدد كمي خاص، هو الذي يطلق عليه أولنبك
Uhlenbeck
وجوند سمث
Gondsmit
اسم «شبين
Spin ».
ولقد أمكن التوصل إلى تحديد «الشبين». هذا بعد تنظيم نظري قوي قام به العالم الإنجليزي «ديراك
Dirac » فقد بدأ «ديراك» بأبحاث رياضية مجردة إلى أبعد حد، ثم أدرك أنه من الضروري إيجاد تماثل كامل بين عنصر في الحساب وبين دوران الإلكترون حول ذاته. وهكذا تم على يد «ديراك» تحقيق تعاون متبادل بين المبادئ العقلية للميكانيكا الكمية، وبين التحديدات التجريبية.
وفضلا عن ذلك، تخضع الأعداد الكمية الأربعة التي يتميز بها الإلكترون لمبدأ غريب، تتأيد صحته في كل الأحوال التي ينظر فيها إلى الإلكترون داخل نسق منظم (كما في إحدى الذرات أو إحدى الجزيئات مثلا). فعندما تكون عدة إلكترونات أجزاء من «تنظيم واحد» (أي عندما يكونون داخل ذرة واحدة مثلا) فليس لنا أن ننسب إلى الإلكترونين نفس المجموعة من الأعداد الكمية الأربعة؛ إذ ينبغي أن يختلف واحد على الأقل من الأعداد الأربعة المميزة للإلكترون عن الأعداد الأربعة المميزة للإلكترونات الأخرى. وهذا هو مبدأ الاستبعاد
principe d’exclusion
الذي حدده «باولي
».
هذا المبدأ الذي لا يدرك المرء له سببا منطقيا، يفرض على كل النظريات في علم الطبيعة الذرية. وهو يصلح مثلا لمبدأ يتحقق بعديا
a posteriori
عن طريق التجربة، ولكنه لما كان يصدق «دون أي استثناء » في علم الطبيعة الكمية، ففي استطاعتنا أن نصفه بأنه مبدأ عقلي في تنظيم علم الطبيعة الذرية.
الأثر الضوئي الكهربي
5
عندما تصدم حزمة من الأشعة المضيئة أو من الأشعة فوق البنفسجية سطحا معدنيا، تخرج إلكترونات من المعدن. وهذا ما يسمى بالظاهرة الضوئية الكهربية، وهذه الظاهرة هي التي تتجلى في الخلايا الضوئية الكهربية التي تستخدم - ضمن ما تستخدم فيه - في بعث حركات آلية معينة، وتلعب دورا هاما في التلفزيون وفي قياس الكثافة الضوئية.
فإذا ما درس المرء هذه الظاهرة الضوئية الكهربية بإمعان تبين له أن انبعاث الإلكترونات لا يحدث إلا لأشعة يتجاوز تردد موجاتها قدرا معينا؛ فهناك عتبة لا يمكن دونها أن يحدث أي ضوء، أي تأثير ضوئي كهربي، مهما كانت كثافة هذا الضوء.
وفي مقابل ذلك نجد أن أي ضوء، مهما قلت كثافته، يؤدي مباشرة إلى خروج الإلكترونات إذا كان يتجاوز هذه «العتبة». فإذا ظل المرء يسلم بأن الطاقة الضوئية تنتشر بصورة مطردة على سطح الموجة بأسرها، فلن يتسنى له أن يفهم كيف أن ضوءا بلغ مثل هذه الدرجة من الضعف في كل نقط الموجة يكفي لانتزاع الإلكترونات من المعدن. وإذن يجب أن نفترض أن الطاقة الضوئية تتكاثف في «نقط معينة» من سطح الموجة، وعلى ذلك فالظاهرة الضوئية الكهربية تقتضي وجود حبيبات للطاقة الضوئية وجسيمات للضوء.
الفوتون
كان ألبرت أينشتين أول من أدرك هذه الضرورة. وقد قدم إلينا الصيغة الأساسية الآتية لهذه الظاهرة:
hv = a + 1/2 m u
2 (ه ذ = ط +
1/2
س
2 )
وهى صيغة يسهل فهمها على أنها تطبيق لمبدأ بقاء الطاقة على ه ذ
hv (حاصل ضرب ذبذبة الضوء
v
في ثابت بلانك
hv ) إن ه ذ هو طاقة جسم الضوء وعندما تصطدم هذه الطاقة بالمعدن، نستخدم في انتزاع الإلكترون من المجال الكهربي الذي يوجد فيه (الطاقة = ط (
a )) وفي إعطاء الإلكترون القوة الكبيرة 2/1 ك س
2
حيث هي كتلته و س هي سرعة خروجه.
وتسمى كمية الطاقة المضيئة (
quantum ) في هذه الحالة بالفوتون. والفوتون هو الجسيم في كل إشعاع. فهناك فوتونات لأشعة إكس، وفوتونات للأشعة تحت الحمراء، وفوتونات لأشعة هوتز .
وللفوتون خواص تختلف عن خواص جسيمات المادة، فبينما يكون «الشبين»
Spin
لمختلف جسيمات المادة هو 2/1، فإن الشبين لمختلف الفوتونات هو «واحد صحيح». والكتلة التي تنسب إلى الفوتون أقل بكثير من كتلة الإلكترون، أي أنها كتلة تكاد تكون منعدمة.
الميكانيكا التموجية
وهي مذهب يدعو إلى الدهشة. طرأ لأول مرة منذ ربع قرن، على ذهن لوي دي بروليي
Louis de Broglie .
ولقد كان تفكير «لوي دي بروليي» في البداية فلسفيا بحق، ذلك لأن أينشتين حين وضع النظرية التي شرحناها منذ قليل، كان قد قرر «ثنائية» مذاهب علم الضوء: إذ إن الظاهرة الضوئية الكهربية إذا كانت تقتضي تفسيرا جسيميا، فإن علم الضوء الكلاسيكي كان يدرس ظواهر تقتضي القول بالنظرية التموجية (كظاهرة التداخل). وبعبارة أخرى، فإن نوع التفسير الذي كان ينبغي الأخذ به، أعني التفسير الجسيمي أو التموجي، يختلف باختلاف الظواهر الضوئية الخاصة.
على أن «لوي دي بروليي» قد تساءل: أليس من الأقرب إلى الروح الفلسفية أن نكرر الثنائية نفسها بالنسبة إلى الجسم الكهربي، أي بالنسبة إلى الإلكترون؟ ذلك لأنه قد عرفت عن الإلكترون خواص «جسيمية» عديدة، فلم لا تكون للإلكترون خواص تموجية أيضا؟
ولقد تجلت عبقرية «لوي دي بروليي» في صياغة هذا الرأي الفلسفي في معادلات . فهو يعرف مبدئيا الخواص التموجية للإلكترون، ثم يؤلف بين هذه التعريفات في فرض نظري ضخم، هو الميكانيكا التموجية.
ولقد قطع ذلك العالم الفرنسي شوطا بعيدا في بيان التوازي بين الميكانيكا المعتادة، التي تدور حول المحرك المادة، وبين الميكانيكا التموجية، وكشف في ذلك عن التناظر بين مبدأ «فيرما
Fermat » (القائل بأن الضوء يسير بين نقطتين في المسافة التي تستغرق أدنى حد من الزمان وبين مبدأ موبرتويس
Moubertuis ) القائل إن المحرك المادي، بين نقطتين يتبع دائما المسافة التي يبلغ تفاوت التأثير بالنسبة إليها حده الأدنى).
وبعد ذلك بعامين، كشف عالمان أمريكيان هما دافيسون
Davisson
وجيرمر
Germer
عن ظواهر التموج التي تنبأ بها «لوي دي بروليي». فالموجات المرتبطة بالإلكترون تؤدي، شأنها شأن الموجات الضوئية، إلى حدوث تداخلات.
وهكذا تجددت في عام 1927م، بالنسبة إلى الإلكترون، ثنائية الموجة - الجسيم، التي ثبتت في عام 1917م بالنسبة إلى الضوء.
وسرعان ما عرفت الأساليب التكنيكية التي تمكن من استغلال هذه الكشوف النظرية والتجريبية. فاستخدمت الموجات الإلكترونية مثلما تستخدم الموجات الضوئية في المجهر التقليدي.
على أنه ينبغي بالطبع، ألا نتصور المجهر الإلكتروني على مثال المجهر المعتاد؛ بل يبدو جهازا آليا كهربيا معقدا.
ولا تقف الميكانيكا التموجية عند حدود ما يبدو أنه القوة الدافعة الأولى لها (أي الإلكترون)، بل إننا نصادف الظواهر التموجية في كل الحركات السريعة للجسيمات. فالميكانيكا التموجية لا تقتصر على دراسة الموجات الإلكترونية، بل تدرس أيضا الموجات المادية (أي الموجات المرتبطة «بكل» العناصر الجسيمية في المادة)، ومثال ذلك، صنع مجاهر بروتونية.
ولا شك في أن قوة التكبير التي توصل إليها هذه الأجهزة الجديدة أعظم بكثير من المجاهر المعتادة، وهكذا تمكننا الموجات المادية من ملاحظة تركيب المادة ملاحظة أدق.
ولقد تردد الناس وقتا ما في بحث طبيعة الموجات المادية، وكانوا في ذلك متأثرين بالفكرة التقليدية القائلة بموجات ضوئية يتصورونها - نقلا عن فرينل
Fresnel - على أنها انبعاث لحركة متذبذبة في وسط مرن (هو الأثير في علم الضوء التقليدي). ومن هنا كان القول بموجة مرشدة
onde pilote
توجه جسم الضوء. ولكن سرعان ما أدرك العلماء أنه لا يوجد ما يبرر ذلك الطابع الواقعي الذي نسب سذاجة إلى الموجات. وهكذا انتهوا إلى تحديدها «احتماليا». وعلى وجه الإجمال فإن كثافة الضوء ترجع إلى عدد الفوتونات الماثلة في منطقة من الموجة. وهذا العدد يتفاوت تبعا «لاحتمال» وجود فوتونات. فالموجة التي افترضها «لوي دي بروليي» هي توزيع لاحتمال وجود الفوتونات على المكان وهكذا يتضح أن فكرة الاحتمال هنا أساسية.
مبدأ هيزنبرج
وإذن يبدو أن الارتكان إلى «صور» للموجة كان في بداية الأمر ينم عن كثير من التسرع. ولذا دعا عالم الطبيعة الألماني هيزنبرج
Heisenberg
إلى تنظيم للمفاهيم المعروفة في مستوى الظواهر المدروسة في المعمل ذاته. فما كشفت عنه دراسة الأطياف الضوئية، هو وجود فروق في الطاقة بين حالتين لذرة واحدة. ويمكن مقياس تحليل الطيف من وضع جدول للحدود يشير فيه كل حد إلى حالة ممكنة من حالات الطاقة. وبعد ذلك ينبغي أن يحسب حساب للاعتبارات الاحتمالية، التي توضح احتمال الانتقال من حالة إلى أخرى. ويمكن قواعد التجمع (التي تمنع من القيام بتجمعات معينة استنادا إلى مبادئ مختلفة) من الاهتداء إلى القوانين الضوئية للقياس الطبقي. وكلما زادت المناهج دقة، زاد نجاح هذا المنهج في التفسير.
وفي ظل هذا المثل الأعلى نفسه للظاهرية الخالصة
phénoménisme
وضع «هيزنبرج» مبدأ أصبح أساسيا في علم الطبيعة الذرية، هو مبدأ اللاتعين؛ ففي رأي هيزنبرج أنه ليس للمرء أن يدخل في علم الطبيعة إلا أفكارا يحددها عن طريق تجربة إيجابية.
6
فعندما يتحدث المرء مثلا عن موقع الإلكترون في نسق، يجب أن يحدد تجربة لتعيين هذا الموقع. فهل يمكن أن تؤدي هذه التجربة إلى نتيجة دقيقة بمعنى مطلق، دون أي لاتعين؟ كلا، فمثل هذه التجربة تجرى في فوتون، أي على جسيم «متحرك». ومهمة تجربة تحديد الموقع هي أن تعين اصطدام الفوتون بالإلكترون. وعلى ذلك فالإلكترون سيترك المكان الذي حاولنا أن ننسبه إليه، وهكذا يكون من المحال الوصول إلى تحديد مطلق.
ومثل هذه الاستحالة نصادفها لو حاولنا تحديد حركة الإلكترون بقياس كمية حركته، وهو ما يشيع تسميته بعزم الحركة
moment (العزم = الكتلة في السرعة: ).
وأخيرا أكد «هيزنبرج» وجود «لا تعين تكميلي» بين المعلومات الهندسية والمعلومات الديناميكية. ويعبر عن مبدأ اللاتعين عند هيزنبرج على النحو التالي:
حيث
هي الخطأ في المكان،
هي الخطأ في عزم الحركة،
h
هو ثابت بلانك فإنقاص
يعني زيادة
والعكس بالعكس.
وهكذا يتبين لنا أن أساس مقاييس علم الطبيعة الذرية يفتقر إلى التحديد. ولهذا كان يطلق على مبدأ اللاتعين اسم آخر، هو مبدأ اللاتحدد
indeterminisme .
على أن مبدأ اللايقين هذا (أو مبدأ اللاتعين) لا ينبغي أن يفهم بمعنى يدل على التحقير. فهو في الحق يمكن من الربط بين عدد كبير من الظواهر. والحقيقة أنه أساس لعلم الطبيعة الذري. وفي وسعنا أن نعده - من نواح عديدة - إحدى «مصادرات» الميكانيكا الكمية.
كذلك ينبغي الحذر من استخلاص نتائج فلسفية منه تتجاوز مجال تطبيقه (وهو علم الطبيعة الذري ). فعندما نكون إزاء أجسام في مستوى ملاحظتنا العادية، يكون من الخطأ تطبيق مبدأ اللاتعين عليها. فكتلة هذه الأجسام أكبر من أن تضطرب مواقعها بسبب حركة الموجات المكتشفة (ولو كانت هذه الكتلة لا تتجاوز عدة ملليجرامات).
ولنلاحظ أخيرا أنه لو كان ثابت بلانك
h = صفرا، لأمكننا الوصول إلى أقصى حدود الدقة، سواء في التحديدات المكانية أو في التحديدات الحركية، فثابت بلانك
h
يمثل هنا، كما في سائر الميادين، الحد الذي يفصل بين الطبيعة في مجالنا وبين الطبيعة الذرية.
وفي مبدأ الأمر كأن تطور كل من الميكانيكا التموجية (عند لوي دي بروليي) وميكانيكا القوائم الكمية
matrices quantiques (عند هيزنبرج) مستقلا عن الآخر. ولكن سرعان ما أثبت «شرودنجر
Schrodinger » إمكان التعبير عن نظريات العلم الأول بناء على نظريات الثاني، والعكس بالعكس. وهكذا نهتدي مرة أخرى إلى ذلك التقارب في النظريات الذي يبين لنا أن وحدة العلم تظل هي المثل الإيجابي الأعلى للروح العلمية.
النشاط الإشعاعي
كان من نتيجة حرصنا على تتبع سلسلة من الحوادث تتميز بالترابط المحكم، وتبلغ في ذلك حدا قل أن نجد له مثيلا في بحث العلم الحديث في المادة، أن تركنا جانبا كشفا كبيرا ظهر في نهاية القرن الماضي، وهو كشف تتأكد خصوبته من يوم إلى آخر، وأعني به النشاط الإشعاعي.
وسنوضح باختصار كيف أتاح لنا النشاط الإشعاعي توسيع نطاق معرفتنا بالمادة، وأسهم في وضع أسس علم جديد، هو الفيزياء النووية.
ففي نهاية القرن التاسع عشر، لاحظ هنري بكرل
H. Becquerel (1825-1908م) أن مواد معينة (أملاح الأورانيوم) تنطبع في اللوحات الفوتوغرافية في الظلام التام. وقد تمكن «بيير كوري» (1876-1934م) بعد دراسة منهجية لهذه الإشعاعات الغامضة، من عزل مادة أنشط بكثير من الأورانيوم، هي الراديوم.
وسرعان ما أصبحت تنسب إلى النشاط الإشعاعي صفتان أساسيتان: (1)
أن قوة الإشعاع لا يمكن زيادتها أو إنقاصها بأية وسيلة، فمن العبث مثلا أن تسخن المادة ذات النشاط الإشعاعي أو تبرد، أملا في تغيير نشاطها الإشعاعي. (2)
والإشعاع في حالة الراديو بطيء؛ فقد تبين بالحساب أنه لا بد من مرور 1590 سنة حتى يفقد نصف ذرات الراديوم الذي نلاحظه نشاطه الإشعاعي. وبعد فترة قصيرة أمكن عزل عناصر مشعة أخرى (الثوريوم
thorium
والأكتينيوم
actinium
والبولونيوم
polonium ). وجد الوقت الضروري لكي يفقد نصف المادة في كل من هذه العناصر، قوته الإشعاعية، وسميت هذه الفترة الزمنية، بالنسبة إلى كل مادة، باسم «متوسط الحياة». ولكن يحب الحذر من أن ننسب إلى هذه التسمية معنى يذكرنا - من قريب أو من بعيد - بفكرة الحياة؛ ففي هذا أكبر قدر من الخطأ. والواقع أننا هنا بإزاء تناقص له قدر ملحوظ من الثبات، وليست له أية صفة من صفات ظواهر الحياة. ويبلغ هذا التناقص حدا من الانتظام أوحى إلى البعض باتخاذه «مقياسا للزمن» يمكن أن ينافس المقاييس الفلكية.
ولكن، ما قوام هذا الإشعاع؟
أمكن منذ البداية تمييز ثلاثة أنواع من الأشعة، رمز لها في بادئ الأمر (عندما لم تكن طبيعتها قد عرفت بعد) بالحروف الثلاثة الأولى من الأبجدية اليونانية: (1)
أشعة «ألفا»
التي قد تنحرف في اتجاه كاليسار مثلا بوساطة مجال مغناطيسي. (2)
أشعة بيتا
التي تنحرف بواسطة هذا المجال ذاته إلى اليمين. (3)
أشعة جاما ، وهي لا تنحرف.
ولقد تبين أولا أن أشعة بيتا
لم تكن سوي سيال من الإلكترونات. ثم تبين أن أشعة ألفا
تتكون من ذرات من الهليوم حللتها الكهرباء. أما أشعة جاما فهي إشعاع من نوع الضوء المنتشر الذي تزيد ذبذبته عن ذبذبة أشعة إكس. فهو تيار من فوتونات خاصة، هي فوتونات جاما.
وأخيرا أدرك الباحثون أن هذه الأشعة الثلاثة لا يرجع مصدرها إلى المناطق السطحية للذرة، وإنما تأتي من منطقة أعمق، هي نواة الذرات نفسها. وبعبارة أخرى، فالنشاط الإشعاعي لا يتعلق بالعلم الكيميائي بالمعنى الصحيح؛ بل هو الفصل الأول في علم جديد، هو علم الطبيعة النووي.
والواقع أن الطبيعة النووية هذه لم تتطور إلا عندما أمكن إثارة ظواهر في هذا الجزء المركزي للذرة، أي النواة. ومع ذلك فأبعاد هذه النواة ضئيلة جدا إذ قطرها يتراوح بين 0,5 × 10
12
سم في حالة الهيدروجين وبين 3 × 10 −12
سم في حالة الأورانيوم.
والنواة بدورها جسم معقد، ويسلم الباحثون اليوم بأنها تتكون من نوعين من الجسيمات : البروتون والنيوترون. والنيوترون جسم جسيم كتلته تقرب من كتلة البروتون، ولكن ليست له شحنات كهربية كالبروتون. فهو محايد من الوجهة الكهربية ومن هنا كان اسمه.
7
ولقد كشفه عالم الطبيعة الإنجليزي تشادوك
Chadwick
في عام 1923م.
وهناك فرض له أهمية فلسفية كبرى، يفسر ظواهر عديدة. وينحصر هذا الفرض في القول بإمكان تحويل بروتون إلى نيوترون، والعكس. وفي هذه الحالة تجمع البروتونات والنيرترونات تحت اسم عام هو النويات
nucléones «ويقال إن هذه النويات يمكن أن تتخذ حالتين: الحالة البروتونية، والحال النيوترونية.
فإذا مرت نوية من الحالة النيوترونية إلى الحالة البروتونية، طردت النواة إلكترونا. على أن هذا الإلكترون لم يكن له وجود في النواة قبل طرده منها، وإنما تولد نتيجة لتحول النيرترون إلى بروتون.»
وفي التحول المقابل، تطرد النواة إلكترونا موجبا (بوزيتون
positon
أي المويجب) وهو جسيم جديد، مواز تماما للإلكترون ولإيضاح هذه الموازاة بصورة جلية، سمي الإلكترون في كثير من الأحيان باسم النيجاتون
negaton (السويلب) ولقد تم كشف البوزيتون في 1932م على يد عالم الطبيعة الأمريكي أندرسن
C. D. Anderson .
التحولات النووية
عندما أطلقت قوة كبيرة في جسيمات متعددة (كالبروتونات والنيوترونات ونوايا الهليوم ...) بفضل أجهزة خاصة كالسيكلوترون
cyclotron
أمكن إدخال هذه الجسيمات في ذلك الحيز الضيق الذي هو نواة الذرة. وعندئذ تطرأ عليها تحولات
transmutations .
وبالفعل يؤدي تغيير عدد البروتونات إلى تحويل جسم كيميائي إلى آخر، ما دام عدد البروتونات في النواة يحدد، هو وعدد الإلكترونات في محيطها الكيميائي، مكان العنصر المادي في قائمة «مندليف».
هذه التحولات النووية تعبر عنها صيغ تذكرنا بالصيغ التي تلخص التفاعلات الكيميائية. وهناك صيغة لتحول نووي:
ومعناها أن نواة الأزوت
N
التي تحتوي على 14 نوية (7 بروتونات و7 نترونات) إذا ما قذفت بنواة الهليوم
He
التي تحتوي على 4 نوايات (2 بروتونات و2 نترونات) تتحول إلى نواة الأكسجين
O
التي تحتوي على 17 نوية (8 نروتونات و9 نترونات)، وفي هذا التفاعل النووي تطرد نواة من الهيدروجين
H (أي بروتون واحد).
ولنلاحظ أن مثل هذه المعادلة تنطوي على دلالتين: فإذا جمعنا أسس طرفي التفاعل، وجدنا أن عدد النوايات يظل ثابتا.
14 + 4 = 17 + 1
وإذا جمعنا الأعداد الموجودة في أسفل الرموز، وجدنا أن عدد البروتونات يظل ثابتا (أي أن الشحنات الكهربائية تظل ثابتة).
7 + 2 = 8 + 1
واليوم يعرف العلماء مئات من التفاعلات المماثلة لهذا التفاعل.
وفي هذه التفاعلات يظهر كثير من الأجسام الجديدة ذات النشاط الإشعاعي. ولقد اكتشف هذا «النشاط الإشعاعي الصناعي» في 1934م على يد «جوليو كوري
Joliot-Curie » وزوجته. فقد توصلا إلى تكوين فوسفور مشع لا وجود له في الطبيعة. وهذا الفوسفور هو النظير المشع
isotope
للفسفور المعتاد. ويطلق اسم النظير المشع على مختلف العناصر التي تحتل نفس الموقع في قائمة «مندليف» ولكل النظائر المشعة للجسم الواحد عدد واحد من البروتونات، ولكنها تختلف بينها في عدد النيترونات.
هذه الأجسام ذات القدرة الإشعاعية الصناعية تقوم إلى جانب الراديوم بدور كبير في العلاج بالأشعة.
بل إن الأساليب العلمية النووية قد استطاعت تكوين أجسام تتجاوز حدود قائمة «مندليف» ذاتها، أعني أجساما يزيد عددها الذري عن 92، وهو العدد الذري للأورانيوم، ولهذا السبب سميت تلك الأجسام «بما بعد الأورانيوم» وهناك أسماء العناصر الجديدة، ورمزها وعددها الذري.
النبتونيوم
Neptunium (93:
N.P ) والبلوتونيوم
(94:
) والأمريكيوم
Americium (95:
Am ) والكوريوم
Curium (96:
Cm ) والبركليوم
Berkelium (97:
Bk ) والكليفورنيوم
Californium (98:
Cf ) وأخيرا السنتوريوم
Centurium (100:
Ct ) أما العنصر 99 فلم يكون بعد.
8
وبعض النظائر المشعة لعناصر ما بعد الأورانيوم هذه غير مستقرة، وكذلك الشأن بالنسبة إلى نظائر الأورانيوم ذاته. فهي قد تشطر وتنقسم إلى عنصرين أو عدة عناصر كيميائية ذات عدد ذري صغير. وهذا الانقسام أو الانفلاق يؤدي إلى إطلاق طاقة هائلة هي التي تستخدم في القنبلة الذرية.
والحق أننا في هذا العرض العاجل لجسيمات المادة، لم نتأمل عن كثب خواص «الطاقة» للظواهر النووية. فإذا تذكرنا أن للطاقة كتلة، أدركنا أنه من الممكن أن توجد طاقات ينبغي حسابها ضمن عدد الجسيمات ذاتها. ولقد نبه أحد كبار علماء الطبيعة النووية، وهو جاموف
Gamov
في آخر طبعة لكتابه،
9
إلى أن الطاقة التي تتدخل لربط النويات معا في نواة، يمكن أن تتجاوز كتلة النوية، وبالتالي يؤدي ذلك إلى تعديل نظرتنا إلى النويات من حيث هي أشياء صغيرة لا يمكن تحطيمها.
وتلك ملاحظة يجب أن تلفت انتباه الفيلسوف؛ فهنا نرى مثلا عمليا للتعادل العميق بين الطاقة والكتلة - في مستوى الوجود ذاته - وهو التعادل الذي كان إحدى النتائج الانقلابية الكبرى لنظرية النسبية عند أينشتين.
ولقد سبق الاعتراف بهذا التعادل في مستوى الجسيمات الخفيفة (مثل الإلكترونات الموجبة والسالبة) وهناك ظواهر معينة تفسر بأنها تجسيم للفوتون (حبيبة الطاقة) في جسمين لهما شحنتان متضادتان وظواهر أخرى تفسر بأنها انتفاء صفة الجسمية عن «زوج» من الجسيمات. وتوحي ملاحظة جاموف بوجود الجسمية وانتفائها في مستوى الجسيمات الأكثر ثقلا.
على أن هذه الملاحظات تؤدي بنا إلى الدخول في مجال العلم الذي ما زال يتكون، ولا زلنا إلى اليوم نفتقر إلى نظرة تركيبية إلى مجموع النوايات الذرية. ومن هنا كان هيسينسكي
Haissinsky
على حق حين ختم محاضرته التي أشرنا إليها من قبل، بقوله: إن النواة تنتظر لنفسها «مندليف آخر». •••
ومن الجلي أن مثل هذه التغيرات العميقة في المفاهيم التي يبنى عليها التفكير العلمي، تقتضي فحصا جديدا للمثل الأعلى الذي يوجه الروح العلمية، وتأكيدا جديدا «لقيم» الفكر النظري والتجريبي.
فالروح العلمية، في صورتها الحديثة، لا يسعها أن تكتفي بتتبع نموها عبر العصور فقط فلقد رأينا التفكير القائم على منهج البديهيات قادرا على الإكثار من نقط البداية، أعني قادرا، بعبارة أخرى على إصلاح أصوله. كما وضعت مذاهب ديالكتيكية تنكر المصادرات التي كانت تبدو ذات بداهة مطلقة، ورأينا كيف تكونت هندسات لا إقليدية لا تقل إحكاما عن الهندسة التقليدية.
وبالمثل يمكن تفسير الميكانيكا النسبية، والميكانيكا التموجية، والميكانيكا الكمية، بأنها كلها مواقف ديالكتيكية تجاه ميكانيكا نيوتن. كل هذه الاتجاهات الديالكتيكية تستدعي بلا شك - كما أوضح بول موي
10
في الكتاب الحالي (الفصل الثالث، قسم 18) - تجديدا للروح العلمية، وقد عرض جاستون باشلار
G. Bachelard
في كتابه «الروح العلمية الجديدة» صورة عامة لهذا التجديد، وقدم في كتابه «فلسفة اللا
La philosophie du Non » عرضا جدليا لهذه الكثرة من نقط البداية.
والحق أن هذا العرض السريع الذي أوضحنا به تقدم علمنا بالمادة (من وجهة نظر الكيمياء ومن وجهة نظر الطبيعة النووية معا) يبين لنا بوضوح أن الفلسفات التقليدية، من تجريبية وعقلية، لا بد من إعادة النظر فيها في هذه المجالات. فإذا تأملنا درجة تعقيد الظواهر الإلكترونية والنووية، وجدناها تقدم إلينا خواص ديناميكية «خلقت من جديد»، وتنسب في الأغلب إلى مواد «تكونت» بعد أن لم يكن لها وجود. فهناك إذن نوع من العلوم على الواقع، لا يكون فهمه دون القيام بثورة في الفلسفات التي تتفق مع ما يقع تحت حسنا مباشرة من ظواهر.
فكيف يمكن إذن أن تتردد الفلسفة - كما يحدث في العصور الفلسفية الكبرى - في العودة إلى دراسة العلوم؟ أيرجع ذلك إلى أن العلم قد أصبح أكثر صعوبة؟ ولكن متى كانت الصعوبة عائقا في وجه الفلسفة؟ الأمر الذي لا شك فيه، على أية حال، هو أن هذا التقدم الرائع للتفكير النظري والعملي، لا يسمح للمرء بأن يقر بصحة الانتقادات التي توجه دون انقطاع إلى «قيمة العلم» منذ مستهل هذا القرن، فكيف يجوز لأحد أن يتحدث عن «إخفاق العلم» - مثلما «فعل فردينان برونتيير
F. Brunertiere » - إذا كان العلم يساهم بنصيب في رفاهية البشر، ولا يقتصر على ذلك؛ بل يلقي على حياتنا ضوءا روحيا ساطعا (وهذا هو الأهم من وجهة نظر الفيلسوف)؟ لقد كان هذا أيضا هو الباعث لنا على ألا نلح في هذا الفصل على تأكيد مظاهر التقدم المادي والعملي للعلم - مع أنها واضحة كل الوضوح - بقدر إلحاحنا على تأكيد الأفكار النظرية التي تقلب دعائم المعرفة رأسا على عقب.
فإذ كنا نعترف بأن الإنسان كائن مفكر. ألن يكون توسيعه لتفكيره على نطاق هائل هو الذي يجعله واعيا، لا بطبيعته فحسب؛ بل بأنه رسالة رفيعة؟
الفصل الثاني عشر
العمليات العامة للتفكير الاستنباط
والاستقراء
تطبق الروح على العالم الواقعي، في العلم، وفي الإدراك الحسي، وفي العمليات الفنية التطبيقية؛ أساليب واحدة في كل الأحوال، وترجع هذه الأساليب كلها إلى عمليتين: الاستدلال الباحث
investigatif
والاستدلال الاستنباطي
déductive .
والاستدلال الاستنباطي أو الاستنباط
déduction
يتنقل من المبدأ إلى النتائج. وقد رده أرسطو إلى أبسط صوره، أي القياس، وهو استنباط يستخلص نتيجة من مقدمتين، ويجمع بين حدين بتوسط حد أوسط. ولقد استخلص «المدرسيون» من القياس الأوسط فكرة «منطق صوري». وعمم المحدثون هذه الفكرة فجعلوا منه «منطقا رياضيا
logistique » يتمثل على صورة حساب منطقي؛ بل يزعم أنه هو منطق الحساب.
أما الاستدلال الباحث فهو الاستقراء، الذي ينتقل من الوقائع إلى القوانين: وهو يفترض مبدأ خاصا به، هو مبدأ الحتمية. فإذا ما توسعنا في هذا المبدأ، وجدنا فيه ثلاثة مبادئ أخرى هي التي أسماها «كانت» بمبادئ «علاقات التجربة
analogies de l’expérience » والتي تبررها «المثالية الترنسندنتالية».
التفكير العلمي مشترك بين كل المناهج
أوردنا في موضع سابق
1
الفقرة الرائعة التي ذكر فيها «ديكارت» أن وحدة العلم هي وحدة العقل البشري. وعلينا الآن أن نكشف عن هذه الوحدة، بأن نبين أن مختلف المناهج العلمية ترجع إلى منهج واحد، وأن هذا المنهج الواحد يعبر عن خطوات التفكير ومراحله العامة. وبعبارة أخرى، علينا أن ننتقل من «البحث في المناهج
n methodolgie » إلى «البحث في نقد المعرفة
épistmologie » لنعود أخيرا إلى المنطق.
بل إن علينا أن نبين أن هذه الخطوات نفسها ليست مشتركة بين العلوم كلها فحسب وإنما تمتد أيضا إلى «كل» تفكير، سواء أكان ذلك تفكير الإنسان الذي يدرك العالم الخارجي، والصانع الذي يؤلف بين أساليب فنية، والفيلسوف الذي يحاول فهم الأخلاق والدين، والعالم الذي يعمل ويفكر أمام سبورته السوداء أو في معمله. ونحن نعترف بأن أنواع التفكير هذه ليست جميعها على مستوى واحد، أو متساوية من حيث القيمة، ومع ذلك يجب أن تنطوي على عنصر مشترك، وأن تتشابه أساليبها من حيث الجوهر.
وسنبدأ أولا بإرجاع التفكير العلمي إلى صوره العامة، ثم ندرس كل عملية من العمليات العامة المكونة له على حدة.
وقد حدد كلود برنار بدقة بالغة خصائص المراحل الأساسية للروح العلمية، وقارنها بمراحل المشي؛ «فكما أن الإنسان في مشيته الطبيعية لجسمه، لا يستطيع أن يخطو إلى الأمام إلا إذا قدم رجلا على الأخرى، كذلك لا يستطيع الإنسان في السير الطبيعي لعقله أن يتقدم إلا إذا وضع فكرة أمام الأخرى.» وهو يحدد ما يعنيه بالفكرة فيقول إنها «هي حقيقة أو مبدأ يعيه العقل».
2
والحق، إن المرء ليعجز عن فهم الشيء، أيا كان، إلا إذا أدمج فيه «فكرة». فالفكرة مجموعة منسقة من العلاقات التي تجمع بين مختلف أوجه الشيء أو أجزائه أو تجمع بين أشياء مختلفة؛ فالصورة المدركة لشيء مثلا، هي فكرة تبدأ بربط مظاهره المرئية المتعاقبة، وفكرة الدائرة تربط المظاهر التي تتشكل بها الدائرة، وهي مظاهر بيضاوية عادة، إذ إن الشكل البيضاوي صورة منحرفة للدائرة، كذلك تربط الفكرة بين المظاهر البشرية واللمسية لهذا الشيء، ولنضرب لذلك مثلا آخر؛ فموضوع القطعة المسرحية أو الرواية أو الشريط السينمائي هو الخيط الذي يجمع بين مراحله ويبررها. والأمثلة العلمية أكثر وضوحا من ذلك: ففكرة المثلث هي سبب خصائصه، وهي تلقي ضوءا على النظريات الخاصة بالمثلث. وقانون نيوتن أو فكرة الجاذبية تفسر الثقل، وحركة الكواكب، والمد والجزر.
ولكن الفكرة لا تؤدي دورها إلا إذا كشفنا عنها أولا، ثم أجرينا التجارب عليها، فمراحل التفكير العلمي تشبه مراحل المشي في أنها تتكون من خطوتين أطلق عليهما كلود برنار اسم «الاستدلال الباحث» «والاستدلال البرهاني»، وأضاف إلى ذلك أن هذين النوعين من الاستدلال يوجدان في كل العلوم.
الاستدلال أو الأسلوب التدريجي في التفكير
يطلق اسم الاستدلال على العملية العقلية المركبة، التي يمكن التعبير عنها على هيئة جملة نجمع فيها بين عدة تأكيدات أو قضايا (مقدمات)، ونستخلص منها ناتجا يسمى «بالنتيجة» والاستدلال مقالي أو تدريجي أي أنه ينحصر في «سلسلة من البراهين» كما يقول ديكارت، أي أنه سلسلة من العمليات التي يمكن أن تتطور إلى «مقال
discours ».
هذه البراهين أو الحجج هي حدود وسطى، أو وسائط، تربط العناصر التي تظهر متضامنة في النتيجة.
الاستدلال «البرهاني» أو الاستنباط
سوف نبدأ بهذا النوع من الاستدلال لأنه يمدنا بأوضح الأمثلة دلالة على الطريقة التدريجية في التفكير.
ولقد قلنا أنه يبدأ «بفكرة» أعني «بحقيقة» أو «مبدأ»، وإذن فهو الاستدلال الذي ينتقل من المبدأ إلى نتائجه.
أرسطو يصف الاستدلال الاستنباطي بأنه قياس
كان أرسطو أول من شعر «بالضرورة المنطقية» التي تربط المبادئ بالنتائج في الاستدلال الاستنباطي. فخلال دراسته لعمليات «الديالكتيك»، أي للجدل المنظم، حدد معالم استدلال «يرغم» السامع، إذا ما اعترف بمبادئ معينة تسمى «بالمقدمات»، على قبول النتيجة ، بحيث لا يكون المرء في حاجة - كما يقول - إلى «طلب النتيجة»، كما يفعل أصحاب الديالكتيك وإنما تفرض النتيجة بضرورة مطلقة. وهذا النوع من الاستدلال يسمى في أبسط مظاهره باسم «القياس» وهذه صورته الكاملة.
كل إنسان فان (مقدمة أولى، تسمى بالكبرى)
وسقراط إنسان (مقدمة ثانية، تسمى بالصغرى)
إذن سقراط فان (نتيجة)
ويدل حرف العطف في المقدمة الصغرى ولفظ «إذن» بوضوح على أننا هنا بإزاء نظام عقلي ذي مراحل متميزة.
ومن السهل أن ندرك أن هذه العملية تنحصر في ربط الحدين «سقراط» و«فان» وهما الحدان اللذان يكونان موضوع النتيجة ومحمولها، بوساطة الحد «إنسان» الذي يتمثل في المقدمتين، والذي يختفي إذا ما انتهى دوره، ولا يظهر بعد ذلك في النتيجة، وهو يسمى «بالحد الأوسط»، وذلك راجع إلى وظيفته المتوسطة هذه. وكان أرسطو يقول إنه هو سبب النتيجة أو علتها: ويسمى موضوع النتيجة (سقراط) بالحد الأصغر، ومحمولها (فان) بالحد الأكبر وتسمى المقدمة التي تحتوي على الحد الأكبر بالمقدمة الكبرى، وتلك التي تحتوي على الحد الأصغر بالمقدمة الصغرى. (1) المنطق الصوري
وضع المدرسيون، في العصور الوسطى
3
دعائم «منطق صوري» مسترشدين في وضعه بتعاليم أرسطو ، ويطلق هذا الاسم على نظرية للقياس يرد فيها الاستدلال إلى «صورته»، وإلى عمليته العقلية المجردة، مستقلا عن «المادة» المتضمنة فيه، وتستخلص النتيجة فيه «بقوة الصورة
Vi Formae » وبفضل هذه العملية ذاتها، بحيث يمكن أن نستبدل بالحدود «سقراط» إنسان فان، حروفا كما في الجبر:
كل أ هي ب
على أن كل ب هي ج ∴
كل أ هي ج
فإذا نظرنا إلى «ماصدق» الموضوع، وجدنا أن معنى المقدمة الماصدق ومن حيث المفهوم.
فإذا نظرنا إلى «ماصدق» الموضوع، وجدنا أن معنى المقدمة الكبرى هو: أن جماعة الناس هي جزء من جماعة الفانين. أما إذا نظرنا إلى مفهومه كان معنى الكبرى هو: أن صفات الإنسان تشتمل على الفناء. أو «فان» صفة من الصفات المكونة للإنسان. وعلى ذلك، فإذا ترجم القياس إلى لغة الماصدق، كان معناه هو: لما كان الناس جزءا من الفانين، ولما كان سقراط جزءا من الناس، فسقراط إذن جزء من الفانين. أما إذا ترجم إلى لغة المفهوم، كان معناه بعكس ذلك، أن الفناء لما كان صفة للإنسان، ولما كان سقراط إنسانا فإن الفناء صفة تدخل في مفهوم سقراط.
وفي القياس «الكامل» الذي تحدثنا عنه يكون الحد الأوسط متوسطا من جهتين؛ فقد رأيناه من جهة يربط الحد الأكبر بالحد الأصغر، ومن جهة أخرى نجد أن ماصدقه «متوسط» بين ماصدق الحدين. ولكنه إذا كان متوسطا دائما بالمعنى الأول، فمن الممكن جدا ألا يكون كذلك بالمعنى الثاني.
ووظيفة الحد الأوسط (أعني كونه موضوعا أو محمولا) هي التي تحدد «الأشكال». فالأشكال تختلف باختلاف مكان الحد الأوسط في المقدمات:
فالشكل الأول يتميز بأن الحد الأوسط فيه موضوع في الكبرى ومحمول في الصغرى.
والشكل الثاني يتميز بأن الحد الأوسط فيه محمول الصغرى.
والشكل الثالث يتميز بأن الحد الأوسط فيه محمول في الكبرى وموضوع في الصغرى.
والشكل الرابع يتميز بأن الحد الأوسط فيه محمول في الكبرى وموضوع في الصغرى.
ومن الممكن حفظ هذه الأشكال الأربعة بسهولة، بفضل الأبيات، التذكارية اللاتينية الآتية:
Sub-Prae, tum prae-prae, tum sub-sub, denique prae-sub (ويلاحظ أن الحروف
sub
معناها
subjectum
أي الموضوع، والحروف
prae
معناها
praedicatum
أي المحمول ).
فهناك إذن أربعة أشكال. ولكنا نرى أنه من الممكن رد الشكل الرابع إلى الأول بتبديل موضع الكبرى والصغرى، والحد الأكبر والحد الأصغر، ولهذا السبب رفض بعض المناطقة هذا الشكل الرابع، ولم يعترفوا إلا بالأشكال الثلاثة الأولى.
فإذا ما جمعنا بين صفتي الكم للقضية (كلي، جزئي)
4
وصفتي الكيف لها (موجب، سالب) حصلنا على أربعة أنواع من القضايا:
قضية كلية موجبة، يرمز إليها عادة بالحرف ك (
A ).
قضية جزئية سالبة، يرمز إليها عادة بالحرف س (
E ).
قضية جزئية موجبة، يرمز إليها عادة بالحرف ج (
I ).
قضية جزئية سالبة، يرمز إليها عادة بالحرف ب (
O ).
وتختلف التأليفات التي يطلق عليها اسم «ضروب» القياس إذا كانت القضايا التي يتكون منها القياس هي ك أو س أو ج أو ب.
ومن الممكن أن تكون القضايا الثلاث (الكبرى والصغرى والنتيجة) في كل شكل من أشكال القياس؛ إما ك أو س أو ج أو ب. فهناك 4
3 = 64 ضربا ممكنا من الوجهة النظرية، وإذا علمنا أن هناك أربعة أشكال، كان المجموع 64 × 4 = 256 ضربا.
غير أن هناك قواعد للقياس تمنع تجمعات معينة، هذه القواعد عددها 8. ولن نذكر منها إلا واحدة على سبيل المثال:
المقدمتان الموجبتان لا تنتجان نتيجة سلبية.
Ambae affirmantes nequeunt generare negantem.
إذن فهذه القاعدة تؤدي إلى استبعاد الأقيسة من نوع ك ك س، ك ج س، ج ك س، ج ج ك، ك ك ب، ك ج ب، ج ك ب، ج ج ب، ولا يبقى من ال 256 ضربا الممكنة نظريا سوى 19 لا تخالف قواعد القياس، منها أربعة من الشكل الثاني، وستة من الثالث، وخمسة من الرابع.
ولما كان الشكل الرابع قد أثار إشكالات، فلن نبحث إلا الأشكال الثلاثة الأولى.
قياس الشكل الأول يضع شرطا كافيا
في الشكل الأول، يكون للحد الأوسط ماصدق متوسط بالفعل؛ فالإنسان أخص من الفاني من جهة الماصدق، وسقراط أخص من الإنسان في ماصدقه (بل إن سقراط ليس له ماصدق على الإطلاق)، ما دام (فردا) فمعنى الكبرى في الواقع هو: إن الشرط الكافي في فناء الكائن أن يكون إنسانا.
ويكون الاستدلال من الشكل الأول إذا حددنا فيه قاعدة، وذكرنا الشرط الكافي لتطبيقها ثم أكدنا بعد ذلك أن هذا الشرط قد تحقق.
لهذا كانت المقدمة الكبرى في الشكل قضية كلية دائما (أي قاعدة) والصغرى قضية موجبة.
ومن الأحكام القضائية ما يوضع في صورة أقيسة من الشكل الأول؛ فالمشرع يضع المقدمة الكبرى، مثل: القتل مع سبق الإصرار يعاقب عليه بالسجن أو بالأشغال الشاقة إلخ (تبعا لنوع الحالة)، ويضع المحلفون المقدمة الصغرى: على أن المدعو «م» قد ارتكب جريمة القتل مع سبق الإصرار، ونستخلص النتيجة «بالحكم»، بل ربما كانت جميع الأحكام القضائية نتائج لأقيسة، ما دامت تطبق قوانين، ولكن العلاقة الوظيفية بين المحلفين والمحكمة لا تظهر فيها صراحة على الدوام.
كذلك يستدل المرء في الأخلاق عن طريق قياس من الشكل الأول، عندما يستنتج من القانون الأخلاقي الذي يدعو إلى واجب معين، إلزاما بأداء هذا الواجب في حالة معينة، أو يستنتج من القانون الذي يصم فعلا معينا بمنافاته للأخلاق (كالكذب أو السرقة)، أن فعلا معينا تم أداؤه بالفعل مناف للأخلاق.
وقد ذكر أرسطو مثالا لقياس الرغبة.
فالرغبة تقول: إنني عطشان.
ويقول الإحساس، أو الخيال، أو العقل: «هذا شراب»، فيشرب الحيوان في الحال.
5
وفي حياتنا المعتادة نقدم أو نقترح أقيسة مختصرة، تظل مقدماتها الصغرى ونتيجتها محذوفتين، ويطلق عليها المناطقة اسم «الأقسية الناقصة
enthymémes » فالإعلانات مثلا تظهر غالبا على صورة أقيسة ناقصة، مثل: كل ربات البيوت البارعات يستعملن السلعة س، (على أن قارئات هذا الإعلان ربات بيوت بارعات ... إلخ).
قياس الشكل الثاني يقدم شرطا ضروريا
يتميز القياس من الشكل الثاني بأن الحد الأوسط ماصدقه ينطوي على الحد الأكبر والحد الأصغر فإذا ما فسرنا القياس تبعا للماصدق، كما فعل أرسطو، أي إذا كانت كل قضية تذكر أن الموضوع جزء من الفئة التي يدل عليها المحمول، وجب أن يكون الحد الأوسط محمولا في المقدمتين. وعلى ذلك فإذا قلت:
كل فيلسوف نزيه
واتخذنا من هذه القضية مقدمة كبرى في قياس من الشكل الثاني، فيجب أن يكون محمول الصغرى بدورها هو الصفة «نزيه». ولكن من اليسير أن ندرك أن هذه المقدمة الصغرى لا يمكن أن تكون قضية موجبة، إذ لو كانت كذلك لكان معناها أن موضوعها ينتمي إلى نوع الكائنات «النزيهة»، فماذا عسى أن نستدل عليه من هذا، بشأن علاقاته بالموضوع «فيلسوف»؟ لا شيء ألبته، وهناك مثال لقياس باطل يتخذ صورة مغالطة شائعة جدا:
كل فيلسوف نزيه
وس نزيه ∴
س فيلسوف
إذن يجب أن تكون الصغرى سالبة، وكذلك النتيجة.
كل فيلسوف نزيه
وس ليس نزيها ∴
س ليس فيلسوفا
فالشكل الثاني يتميز بأن إحدى مقدمته ونتيجته سالبتان على الدوام، وهذا راجع إلى أن مقدمته الكبرى لا تعبر عن شرط كاف كما هي الحال في الشكل الأول القائل: «إن الشرط الكافي في غناء الكائن هو أن يكون إنسانا.» وإنما تعبر عن شرط ضروري: «الشرط الضروري في أن يكون المرء فليسوفا هو أن يكون نزيها.»
على أنه متى تحقق شرط ضروري، فليس في وسعنا أن نستدل منه على شيء، ولا نستطيع استخلاص نتيجة إلا في الحالة التي لا يكون الشرط الضروري قد تحقق فيها.
ولنلاحظ أن القضية «الكلية الموجبة» يمكن أن تفهم بمعان مختلفة، فإما أن تعني: الشرط الكافي في فناء الكائن هو أن يكون إنسانا، أو تعني: الشرط الضروري في إنسانية الكائن هو أن يكون فانيا؛ ففي الحالة الأولى تكون القضية هي المقدمة الكبرى الممكنة لقياس من الشكل الأول، وفي الحالة الثانية، لقياس من الشكل الثاني.
ولنلاحظ أيضا أن الشرط الضروري قد يعد «علامة مميزة» فكل فيلسوف «نزية» تعني: النزاهة علامة يتعرف بها على الفيلسوف، على أن وجود هذه العلامة لا يسمح باستخلاص نتيجة، عن طريق قواعد الشكل الثاني، ما لم يسلم المرء مما يقول جوبلو
Goblot
6
بنتيجة احتمالية:
كل فيلسوف نزيه
س نزيه ∴
س قد يكون فيلسوفا
ونحن في الحياة العملية «نتعرف» على الشخص أو الشيء بوساطة سلسة من العلامات، ولكنا دائما مهددون بالوقوع في الخطأ، ولا نستطيع أن نستدل من العلامات على شيء إلا إذا كانت تكون مجموعا ذا دلالة واحدة؛ وهو ما لا يتفق مطلقا مع منطق الاستنباط وإنما مع منطق الاستقراء.
قياس الشكل الثالث يفيد عدم التنافي بين صفتين
في الشكل الثالث يبلغ «ماصدق» الحد الأوسط أدنى حد ممكن. فهو إذن موضوع في المقدمتين. فما الذي يمكننا أن نستدل عليه من مقدمتين لهما موضوع واحد؟ يمكن الاستدلال على أن المحمولين «لا يتنافى أحدهما مع الآخر».
الحوت حيوان له رئتان.
والحوت حيوان بحري.
إذن فمن الحيوانات البحرية ما له رئتان.
والصيغة المنطقية لهذه النتيجة هي «بعض الحيوانات البحرية لها رئتان»، فنتيجة القياس من الشكل الثالث قضية جزئية دائما. وبالاختصار فالقياس من الشكل الثالث يستدل من «الواقع» على «الممكن»، فالحوت «يحقق» حالة الحيوان البحري ذي الرئتين، أي أن مثل هذا الحيوان ممكن.
ولا يمكننا أن نذهب إلى أبعد من هذا إذا نحن اعتمدنا على الاستنباط وحده، فهنا أيضا يقوم الاستقراء بما عجز الاستنباط عن القيام به : إذ إنه - كما سنرى فيما بعد - ينتقل من «الواقع» إلى «الضروري»، مرتكزا على حالات اختيرت على أساس صحيح ومخاطرا لذلك بالوقوع في الخطأ.
7
المنطق الصوري القديم، والمنطق الصوري الحديث
لم يكن بد من الانتظار قرونا من الزمان حتى نهتدي إلى الوجهة الجديدة التي سار فيها المنطق الصوري. فحتى عام 1770م، حين كتب «كانت» مقدمة الطبعة الثانية من «نقد العقل الخالص» كنا لا زلنا نقرأ كلمات كهذه: «لم يضطر المنطق، منذ أرسطو، إلى التراجع خطوة واحدة إلى الوراء ... وهذا أمر ينبغي أن نذكره له بالإعجاب، إذ إنه لم يتمكن أيضا، حتى الوقت الحالي، من أن يخطو خطوة واحدة إلى الإمام، حتى لتدل كل الشواهد على أنه علم قد تم واكتمل.» والحق أن منطق أرسطو كان يمتاز بمحاولة تحليل تركيب الفكر في ذاته، بغض النظر عن مضمونه، وقد حدد بوضوح مبادئ تكفل صحة الفكر، ويمكن أن تستخلص منها قوانين عامة له.
غير أن منطق أرسطو لا يبحث إلا في حالات خاصة جدا للاستدلال الاستنباطي، وقد تصادفنا مجموعات من القضايا مختلفة كل الاختلاف عن القياس. ثم إن المنطق في كتابات أرسطو لا يكاد يتميز عن الأنطولوجيا «مبحث الوجود»، وبالتالي يظل مرتبطا بآراء ميتافيزيقية. والحق أن المنطق - كما لاحظ «دوب
Dopp » في كتابه عن المنطق
8 - كان طول التفكير القديم والوسيط «مبحثا ذا طبيعية فلسفية، أعني أنه ينظم طريق تحليل فلسفي للصفات المميزة لتفكيرنا.» فإن كان على المنطق ألا يكون مجرد فن للتفكير الذي يتكيف مع اللغة والتفكير الشائع فحسب. وإن كان عليه أن يكون علما للعلم، فمن الواجب أن يتجه في المرحلة الحالية نحو مثال الوضعية الذي تضعه العلوم الحديثة نصب أعينها. وعليه أن يحدد بدقة العمليات الفعلية للتفكير في المجالات التي وصل هذا التفكير فيها إلى أكمل درجات التنظيم. فإذا ترك الجدل الميتافيزيقي جانبا، وجب عليه أن يحقق دراسة وضعية لأدق أساليب الاستدلال الاستنباطي، على نحو ما نجده في الرياضة مثلا.
ولنتابع «دوب»
9
في ملاحظة أخرى له، إذ يقول: «لقد تعاقب في التاريخ فهمان للمنطق يختلفان فيما بينها أشد الاختلاف، فالمنطق القديم يمكن أن يوصف بأنه منطق فلسفي، والمنطق الحديث (الذي لا ترجع آثاره الأولى إلى أكثر من نصف قرن من الزمان) يمكن أن يوصف بأنه منطق «وضعي»، والموضوع الذي تدرسه هاتان الفئتان الكبيرتان من المنطق واحد في أساسه: فهدفهما الدائم هو البحث في شروط صحة الاستدلالات ... غير أن المنطقين يقدمان إلينا معرفة منظمة بهذه الشروط تخضع لمثالين في المعقولية مختلفين أشد الاختلاف: إحداهما معقولية نصفها بأنها فلسفية، والأخرى معقولية يمكن وصفها بأنها وضعية.»
الجبر المنطقي
ولنتساءل هنا بوجه خاص: كيف تسنى للمنطق الصوري أن يتلاءم مع موضوع الاستدلال الرياضي ومناهجه؟ إذا لاحظنا دور الرموز في ظهور التفكير الرياضي، أدركنا أهمية إدخال الرمز بطريقة منظمة في المنطق. حقا أن المنطق المدرسي كان يستخدم نوعا من الرمزية، ولكنها كانت رمزية ساذجة إلى حد بعيد، ثم إن الذي أدى إلى استحداث تجديد شامل في المنطق، لم يكن مجرد إدخال الرمز، وإنما الاستعمال المنظم للرمز تبعا لقواعد فنية بالغة الدقة. ويرجع الفضل إلى عالم منطقي إنجليزي هو «بول
Boole » (1815-1864م) في القيام بأول محاولة متسقة جدية لإيجاد منطق يسير في هذا الاتجاه، ويشيع إطلاق اسم «الجبر المنطقي» على منطق «بول» هذا.
ولقد لاحظ «بول» أننا إذا كنا نستخدم في عمليات الجبر رموزا لها خصائص معينة، فمن الممكن استخدام رموز مشتقة من الرمزية الجبرية للتعبير عن العمليات الفكرية.
فلنتأمل مثلا عملية الجمع في الجبر الأولي، هذه العملية لها خصائص شكلية معينة، أعني خصائص مستقلة عن طبيعة الكيانات الرياضية التي تجري عليها. ولنضرب لهذه الخصائص مثلا بصفة «التبديل
Commutativité » ويعبر عن التبديل في الجمع بالعلامة س + ص = ص + س. ومعناها أن مجموع عاملين من س، ص يمكن قلبه، أي «تبديل» ترتيب الحدود، مهما كانت قيمة س، ص.
فلنتأمل الآن العملية الفكرية التي تجمع أو تضم مجموعتين من الأفراد - ويسميها المنطقي فئتين - وهي العملية التي يعبر عنها مثلا بالصيغة: «الفرنسيون والإنجليز» ففي هذا الجمع بين الحدين: الفرنسيين - الإنجليز، بوساطة العملية المنطقية «و» يمكننا أن نعكس ترتيب الحدين، فنقول: «الإنجليز والفرنسيون» وهنا نجد صفة مستقلة كل الاستقلال عن الحدود التي تجمعت، ويمكننا القول بأن هذا التجمع، الذي نعبر عنه بحرف العطف هو تجمع «قابل للتبديل» مثله في ذلك مثل الجمع في الجبر الأولي. فالعملية المنطقية للعطف (أي الواو) - حين ينظر إليها من وجهة النظر الشكلية الخالصة هذه، وبغض النظر عن «معنى» الحدود التي تربط بينها - لها بدورها خصائص جديدة مماثلة تماما للخصائص المميزة للجمع الجبري الأولي. وعلى ذلك ففي وسعنا أن نرمز لعملية الضم هذه برمز الجمع: +.
غير أن حرف العطف (الواو) قد يشير إلى عملية أخرى للفكر. فعندما نقول «الأشخاص الذين يسكنون إنجلترا» و«الذين ينتمون إلى جنس الذكور» لا نكون بإزاء عملية جمع أو ضم لفئتين من الأفراد، وإنما بإزاء نوع من التأليف، أو «الضرب» بين فئتين: فنحن نرمي في هذه العملية إلى الإشارة إلى الأفراد الذين ينتمون إلى طائفتين في آن واحد، ويمكننا التحقق من أن هذه العملية المنطقية لها خصائص شكلية مشابهة لخصائص الضرب المنطقي - باستثناء خاصية واحدة سنذكرها فيما بعد. وعلى ذلك نرمز لهذه العملية المنطقية بعلامة الضرب ×، ونسميها بالضرب المنطقي.
ولنلاحظ أن اللغة المتداولة تستخدم حرف الواو ذاته في وظيفتين مختلفتين، أما المنطق فيقضي على هذا الخلط، هو يدفع الذهن إلى المضي في التحليل إلى أقصى درجاته. ففي حالات معينة تؤدي الواو وظيفة علامة الجمع + وفي حالات أخرى تؤدي وظيفة علامة الضرب × فإذا ما عبرنا عن الفئة بدائرة، أمكننا تصوير هاتين الحالتين بالشكلين الآتيين:
فالتعبيران: «سكان إنجلترا»، و«الذين ينتمون إلى جنس الذكور»، تدل عليهما عندئذ حروف س، ص ... كما في الجبر. ويعبر عن الهوية بعلامة التساوي، وعلى أساس هذه الرموز يمكننا بالفعل أن ننشئ «حسابا» من نوع الحساب الجبري، لا يتسع المجال هنا لإيضاح تفاصيله. فمثلا نعبر عن تساوي التعبيرين «الأشخاص الذين يسكنون إنجلترا وينتمون إلى جنس الذكور» و«الأشخاص الذين ينتمون إلى جنس الذكور ويسكنون إنجلترا» بقانون في صورة جبرية هو س × ص = ص × س: أي أن الضرب المنطقي قابل للتبديل مثله في ذلك مثل الضرب الجبري.
وحين وضع بول هذا الحساب المنطقي لم يدع أن ماهية المنطق جبرية، وإنما أراد فقط أن يؤكد أنه «إذا أمكن التعبير عن العمليات الجبرية والمنطقية برمز واحد، فإن تعبيراتهما الرمزية تخضع لقوانين واحدة.»
10
ومن الممكن دائما أن يصطلح على تصور عملية منطقية معينة عن طريق رمز خاص بعملية جبرية معينة، ولكن ليس هناك ما يضمن أننا متى ارتضينا رموز الجبر للتعبير عن العمليات المنطقية فإن التفسير المنطقي لهذه الرموز يفضي إلى قوانين مشابهة لقوانين الجبر. غير أن هذا هو ما حدث بالفعل، فقد استعرنا من الجبر المادة الرمزية: كالحرف س، ص والعلامات +، ×، = ... إلخ. ولما عبرنا عن خاصية منطقية بوساطة هذا النظام الرمزي، أي حين عبرنا مثلا عن قابلية الضرب المنطقي للتبديل، اهتدينا إلى علاقة هي بعينها العلاقة الجبرية: س × ص = ص × س.
غير أن هناك استثناء نبهنا إليه من قبل، فإذا كنا في المنطق نضرب فئة في ذاتها فسيكون الناتج هو هذه الفئة ذاتها.
وهو ما تعبر عنه علاقة س × س = س (فإذا قلنا «الأشخاص يسكنون إنجلترا ويسكنون إنجلترا في الوقت نفسه» كان هذا مجرد تكرار)، ومن هنا لم يكن في الجبر المنطقي أسس.
على أن الصيغة س × س = س لا تصح في الجبر إلا إذا كانت س هي صفر أو 1. وعلى ذلك فالجبر المنطقي يختلف عن الجبر الأولي في أنه يعترف بأن الصيغة س × س = س صحيحة على الدوام.
ولكن مثلما أن الرياضيات الحديثة تحتوي على «هندسات». كذلك يحتوي الجبر على نظم مختلفة، تتكون عن طريق تغيير نسق البديهيات الأساسي فحسب. ومن هذه الأنواع الحديثة في الجبر يوجد نوع هو النظرية التي وضعها بول، ولهذا السبب يسميه الرياضيون «جبر بول» وهذا الجبر يتميز عن الجبر الأولي بأنه لا يقبل أسسا، وإذا كان «بول» قد استخدم الرمزية الجبرية لوضع دعائم منطق جديد فإنه في الواقع قد خلق جبرا جديدا.
المنطق الرياضي
Logistique
بلغ الطموح بالمنطق الأرسطي حدا جعله يهدف إلى أن يكون نظرية منظمة في الاستنباط بوجه عام، لكنا لاحظنا من قبل أن هذه التنظيم كان يفتقر إلى الأساليب الفنية والمناهج التي تستخدمها العلوم الاستنباطية. وهكذا لم يعرض المنطق الأرسطي ذاته في صورة استنباطية، أما الجبر المنطقي فيعرض في صورة استنباطية بالفعل، ولكن ليس له أن يدعي أنه علم للاستنباط بوجه عام، فهو يمثل تفسيرا منطقيا لعلم استنباطي خاص، هو «جبر بول». والمثل الأعلى للجبر المنطقي يظل «حسابا» يسمح بحل المسائل المنطقية ومع ذلك، فالجبر المنطقي، يفتقر إلى ذلك الاتساع والشمول الذي تتصف به «النظرية» المنهجية في الاستدلال. وهكذا لم يصل المناطقة إلى ذلك العلم المنهجي للاستدلال إلا عن طريق «المنطق الرياضي» وهو (علم جديد خلف الجبر المنطقي).
وقد ظهر «المنطق الرياضي» وهو مشتق من اللفظ اليوناني
Logistiché (techné)
أي (فن) الحساب - ظهر في بداية القرن العشرين، على يد عالمين منطقيين إنجليزيين، هما: برتراند رسل
B. Russell
وألفرد نورث هوايتهد
A. N. Whitehead
اللذان نشرا من 1910م إلى 1913م ثلاثة أجزاء كبيرة عنوانها «المبادئ الرياضية
mathematica » وهذا المؤلف هو المرجع الأساسي في المنطق الرياضي، ومنذ ذلك الحين تكونت مراكز دراسية في ألمانيا، وبولندا، وأمريكا، وسعت في أبحاث المنطق الرياضي توسعا كبيرا، حتى أصبح المنطق الرياضي في الوقت الحاضر علما له فروع عديدة، ومنافسا للعلوم الرياضية في دقة الصياغة.
والمنطق الرياضي، الذي يدرس الاستدلال الاستنباطي على نحو ما يتمثل في التفكير الشائع، وفي النظريات الرياضية أيضا، يحتاج إلى نظام رمزي يلائم تفكيرا بلغ هذا الحد من التخصص؛ فليس في وسع الذهن أن يتابع عملية الاستنباط في مجالات فكرية تصل إلى هذا الحد من التجريد، دون معونة الرمز الذي يضفي عليه دقته وإحكامه، ولا يكتفي الحساب المنطقي باستخدام رموز؛ بل إن عليه أن يوضح بطريقة دقيقة محددة قواعد استخدام هذه الرموز ومعالجتها، كما كان يحدث في الجبر المنطقي. ولكن لننبه هنا إلى ما لاحظه «فيز
Feys » في مؤتمر عقد حديثا، من أن «معنى أي رمز من هذه الرموز لا يفترض مقدما قبل طريقة استخدامه.» على عكس المحاولات الأولى في الجبر المنطقي، فالمنطق الرياضي ليس في حاجة إلى الرجوع إلى معنى الرموز لتكوين نظرية في استخدام هذه الرموز «بل إن صفته الرمزية لا ترجع إلى استخدام الرموز الفنية فحسب، إنما ترجع إلى أن كل ما ينطوي عليه من يقين مرده إلى استخدامنا لهذه الرموز فحسب.»
هذا العلم العام الذي يدرس الاستدلال الاستنباطي من حيث صورته، لا يهتم بالرجوع إلى المحتوى الخاص للاستدلال؛ بل يدرس أي الصور تصلح في الاستدلال، دون أية إشارة إلى الطبيعة العينية للأحكام، وعلى هذا النحو يستخلص تركيب الاستدلالات، فإذا أراد الكشف عن كنه هذا التركيب، قام أولا في الجزء المبدئي منه، بدراسة كل الارتباطات الممكنة بين الأحكام أي بين القضايا. فهو يتخذ هذه القضايا بدلا من الفئات نقط بدء له. وعندئذ ينظر إلى هذه القضايا مؤقتا على أنها عناصر ووحدات لكي يركز الانتباه على طريقة ربط هذه القضايا فيما بينها فحسب، ويسمى هذا الجزء من المنطق الرياضي «منطق القضايا»، ما دامت الموضوعات التي يستدل عليها قضايا، وبعد أن تتم هذه الدراسة ينتقل منها إلى دراسة التركيب الداخلي للقضية (الموضوع، والمحمول) وتفضي به هذه الدراسة إلى منطق للمحمولات وللفئات وللعلاقات.
ولقد ذكرنا من قبل أن المنطق الرياضي كان يتطور بوصفه علما استنباطيا، ومعنى ذلك أن نقطة بدايته بديهيات - بالمعنى الحديث لهذا اللفظ بالطبع - وهي في حقيقتها قضايا يسلم بها دون برهنة، وتصلح أساسا للبرهنة على النظريات المنطقية. ومعناه أيضا أن المنطق الرياضي ينطوي على معاني تعريف، وتستخدم في تعريف المعاني المنطقية الأخرى، ومن قبيل هذه المعاني: الانفصال بين قضيتين باستخدام «أو» واللزوم بين قضيتين. وقد اصطلح على التعبير عن القضايا برموز مثل أ، ب، ج وعن الانفصال بالرمز
v (وهو الحرف الأول من كلمة
Vel
وتقابل في اللاتينية «أو» التي لا تفيد الاستعباد وعن اللزوم بالرمز.
11
تعبر إحدى البديهيات عن علاقة بين هذه الأفكار، مثل البديهية التالية (أ
V
ب) (ب
V
أ) (وهذا تعبير عن قابلية علاقة الانفصال للتبديل). وإذا بدأنا من هذه البديهيات أمكننا مواصلة تقدمنا، بفضل «قواعد» للاستنباط تمكننا من استخلاص نتيجة صحيحة من قضية معينة متى سلمنا بصحة هذه القضية، وهكذا ننتهي إلى نظريات منطقية تؤلف قواعد المنطق. وبفضل عملية التعريف، يمكننا أن نصل من المعاني الأولى إلى معان جديدة، ويتضمن المنطق الرياضي إذن «حسابات» لها نفس طبيعة الجبر المنطقي، غير أنه يزيد عنه في أنه يبين «تدرج» هذه الحسابات، ويربطها في نظرية للاستنباط، تماما كما ترتبط الحسابات الرياضية في نظرية رياضية. وهكذا تتمثل في هذه النظرية الاستنباطية كل مزايا النسق؛ من تفكير في نقط البداية وفكر موجه.
وطبيعي أن ينطوي المنطق الرياضي على دراسة تثبت عدم التعارض بين بديهياته، واستقلالها كل عن الأخرى، فقد يبحث هذا الحساب عن أضيق نقط البداية حدودا، أو عن أبسط قواعد استخدام الرموز ... ويطلق على هذه الدراسة اسم خاص، هو «ما بعد المنطق
métalogique » أي التفكير الواعي في المنطق، ولا شك في أن هذا الجزء من المنطق يفضي بنا إلى إدراك واع لأسس المنطق وقيمته، وهكذا يمكننا أن نتصور كيف أن أحد المناطقة قد قال: «إن المنطق الرياضي ذاته يؤدي إلى تكوين فلسفة للمنطق الرياضي».
12
مذاهب المنطق كثيرة
ولكن مثلما أن بديهيات الرياضة ليست بطبيعتها غير قابلة للبرهنة عليها (كما أوضحنا في الفصل السادس) كذلك نجد في المنطق الحديث نفس النسبية في اختيار البديهيات والمعاني الأولى، فإلى جانب المنطق الرياضي الذي يمكن أن يعد الآن «تقليديا» توجد أنواع أو مذاهب من المناطق، مثلما توجد «هندسات» إلى جانب الهندسة الإقليدية.
والواقع أن تعبيرا مثل «أنواع المنطق» قد يبعث الدهشة في نفس الفيلسوف الذي اعتاد النظر إلى المنطق على أنه علم واحد لا كثرة فيه، ولكن لنستمع إلى المنطقي «فيز
Feys » وهو يرد على دهشة الفيلسوف قائلا: «ليس لأحد أن يدهش عندما يسمعنا نتحدث عن أكثر من منطق حديث واحد، فكل تغير في البديهيات يولد مذهبا صوريا جديدا، وهذه الكثرة من مذاهب المنطق لا تتناقض فيما بينها؛ بل تظل كلها في مستويات مختلفة للتفكير وكان من الممكن أن تتناقض لو كانت تضفي معنى واحدا على الرموز التي تستخدمها، وتدعي مع ذلك إخضاعها لمصادرات مختلفة».
وهكذا تختلف البديهيات من منطق إلى آخر، وكذلك التفسير الذي يمكن أن تفسر به المعاني التي تمهد لها هذه البديهيات، فمن بديهيات المنطق التقليدي، مبدأ الثالث المرفوع (وصورته في المنطق الحديث: أ
V
، أي أ أو لا - أ) - أي علينا إما أن نثبت القضية أو ننفيها، ولا يوجد احتمال ثالث. على أن منطقيا هولنديا هو «هينتج
Heyting » قد أقام دعائم منطق لا يضع هذا المبدأ ضمن بديهياته، ولا يعترف أيضا بعكسه: ذلك هو المنطق الحدسي
Logique intuitionniste
الذي تتطلبه الرياضيات الحدسية عند بروفر
Brouwer .
13
أما بقية بديهيات المنطق الرياضي التقليدي فيعترف بها المنطق الحدسي. وأما المعاني أو المفاهيم فإن رفض بديهية الثالث المرفوع يغير معناها، ولكنا نستطيع التعبير عن نظريات المنطق الرياضي الحدسي من خلال نظريات المنطق الرمزي التقليدي، وذلك عن طريق نظام معين في الترجمة، مثلما يمكن ترجمة نظريات هندسة لوباتشفسكي إلى نظريات الهندسة الإقليدية عن طريق القاموس الذي اقترحه بوانكاريه.
فكرة قيم الحقيقة في المنطق الرياضي
عندما يعرض المنطق التقليدي في صورة استنباطية (أعني باستنباط النظريات المنطقية من البديهيات) فإننا لا نرجع إلى قيم الحقيقة التي يمكن أن تتصف بها قضية ما. غير أنه من الممكن دراسة المنطق الرياضي التقليدي من وجهة النظر الجديدة هذه؛ فمن الممكن أن يكون للقضية قيمتان فتكون صادقة أو كاذبة، ولما كان المنطق الرياضي التقليدي لا يعترف إلا بهاتين القيمتين، فقد سمي منطقا (ثنائي القيمة
bivalente ). على أن في وسعنا القول بأن معنى الصدق والكذب يقحمنا في مجال عيني، وعندئذ يكون علينا أن نكتفي بالقول إننا سنعزو إلى كل قضية قيمتين: القيمة 1 والقيمة 2 مثلا. ولكننا سوف نستبقي التعبيرين: صادق وكاذب، من أجل تيسير الفهم، فكيف ندرس المنطق الرياضي من وجهة النظر هذه؟ لنضرب بضعة أمثلة. فها هي ذي الطريقة التي نعبر بها عن الجمع بين قضيتين (أو ب) وتكون
صادقة إذا كانت أ صادقة وب صادقة (فنحن لا نستطيع أن نؤكد صدق مجموع القضيتين إلا إذا كانت كل من هاتين القضيتين صادقة). أما الانفصال غير الاستبعادي بين قضيتين: (1 أو ب) فيعرف بأنه يصدق إذا كانت «واحدة على الأقل» ومن القضيتين أ، ب صادقة، فإذا كانت أ كاذبة وب كاذبة، فعندئذ لا نستطيع تأكيد . وهكذا نرى أن قيمة مركبة مثل
لا تتوقف إلا على القيمة التي تعزى إلى القضايا التي تكون عناصرها، وهي أ، ب. وهذه ليست سوى أمثلة بسيطة للغاية، غير أن كل التعبيرات المنطقية، مهما كان تعقيدها يمكن دراستها من وجهة النظر هذه ... والنظرية أو المبرهنة
theorém
المنطقية بوجه خاص، هي تعبير صادق دائما أيا كانت القيمة التي تنسب إلى القضايا أ، ب، ج ... المكونة لها، وهذا ما يطلق عليه اسم «تحصيل الحاصل
Tautologie » بمعنى جديد كل الجدة لهذه الكلمة.
ويمكننا أن نصل إلى أنواع أخرى من المنطق إذا ما أدخلنا قيما جديدة غير الصدق والكذب، كالقيم التي تحدد «درجات للصدق» مثلا. وهذه الأنواع من المنطق تسمى «بعديدة القيم
».
وهكذا قام منطقي بولندي، هو لوكاشيفتش
Lukasiewicz
بتشييد ودراسة منطق ذي ثلاث قيم يمكن الرمز لها بأرقام مثل صفر، 1، 2. ويمكننا تفسير هذه القيم الثلاث بأنها: ما لا يصدق على الإطلاق، وما يصدق كل الصدق، وما هو صادق فحسب. غير أن التفسير العيني لهذه القيم هو الذي يثير صعابا عسيرة، وهي صعاب لا يتسع المجال هنا لبحثها.
المنطق والرياضة
المشكلات الخاصة بالعلاقات بين المنطق والرياضة لها أنواع مختلفة فلنعرض بإيجاز لبعض هذه المشكلات. (1)
هل يجب على مناهج المنطق الصوري أن تستوحي المناهج الرياضية؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال قد أصبحت واضحة كل الوضوح في أيامنا هذه؛ فعن طريق المنطق الرياضي، أصبح النطق بالفعل علما له نفس وضعية العلم الرياضي، وبعد أن أصبح المنطق علما مضبوطا بدقة، اتضح لنا مدى النجاح الذي يستطيع تحقيقه. (2)
أراد بعض المناطقة إرجاع الرياضة للمنطق، والتعبير بوجه خاص عن مفاهيم رياضية خالصة، كمفهوم العدد مثلا، وذلك باستخدام معان منطقية محضة، وتعرف هذه المحاولة لرد المعاني الرياضية إلى المعاني المنطقية باسم «النزعة المنطقية
logicisme » غير أن هذا ليس إلا أحد الاتجاهات الكثيرة في المنطق. (3)
يدرس المنطق مجموعات البديهيات الرياضية، وطريقة صياغتها، وصفات عدم التناقض والاستقلال فيها ... إلخ، ولكن إذا كان المنطق يدرس «أسس» الرياضة، فهل معنى ذلك أن من الواجب أن يسبق تركيب النظريات الرياضية ذاتها؟ علينا أن نعترف بأن مهمة المنطق تتصف بوجه خاص بأنها «راجعة أو ارتدادية
retrospective »؛ فهو يحدد طبيعة العمليات الرياضية وقيمتها بعد وجودها فعلا، فالمنطق وسيلة إلى التبرير أكثر مما هو منهج للإبداع.
على أنه من العسير أن نحكم على ما حققه المنطق الحديث دون دراسة عميقة لأساليبه الفنية، لهذا فنحن مضطرون إلى أن ندع جانبا مشكلات المنطق الحديث لنعود إلى آفاق البحث التي كانت معروفة في القرن الماضي ...
الاستنباط يفترض الاستقراء الذي يزوده بمقدماته الكبرى
إذا كان حقا أن الاستنباط - كما يعرفه المنطق الصوري التقليدي ويصفه - ينطوي بوجه عام على فقدان للماصدق، فمن الضروري أن يوجد نوع آخر من الاستدلال يزود الاستنباط الشكلي بالماصدق الذي يحتاج إليه، وبعبارة أخرى، يجب أن يتلقى المنطق الاستنباطي المقدمات الكبرى التي يبدأ منها، من نوع آخر من الاستدلال. وهذا المنطق الآخر هو «الاستقراء». وكلمة «الاستقراء
induction » هي المقابل اللاتيني للكلمة اليونانية
epagogé (التي كان الأحرى أن تترجم بقولنا «إضافة
adduction » أو «استيراد
importation »).
والاستقراء استدلال يبدأ بعدد معين من القضايا الشخصية (المتعلقة بواقعة واحدة أو فرد واحد) أو من القضايا الجزئية (المتعلقة ببعض الوقائع أو الأفراد) لينتهي إلى قضية كلية (تتعلق بكل الوقائع أو الأفراد من جنس معين). ويعرفه أرسطو بقوله إنه هو الاستدلال الذي ينتقل من الخاص إلى العام.
ويمكننا تعريفه أيضا. كما قال «لاشلييه» - بأنه: «العملية التي ننتقل بها من معرفة الظواهر إلى معرفة القوانين المحكمة فيها».
14
ويتميز تعريف لاشلييه بأنه يوضح الاستخدام العلمي للاستقراء.
الاستقراء يمكن إرجاعه في حالات معينة إلى الاستنباط
وضع «أرسطو» الاستقراء في صورة قياسية، وهذا هو ما يسمى بقياس «الحيوانات التي لا مرارة لها
acoun » ولو كان هذا القياس معادلا للاستقراء حقا، لكان المنطق الصوري هو كل المنطق، وإليك هذا القياس.
الإنسان والفرس والبغل يعيشون طويلا.
على أن كل الحيوانات التي لا مرارة لها هي الإنسان والفرس والبغل. ∴
فكل الحيوانات التي لا مرارة لها تعيش طويلا.
15
وهو قياس منتظم تماما، من الشكل الأول، وكل ما في الأمر أن حده الأوسط متعدد، فهو «الإنسان والفرس والبغل» على أن هذا استقراء من نوع خاص جدا، حتى إن أرسطو ذاته لم ينخدع في قيمته الحقيقية، إذ أننا نلاحظ أولا أن «الإنسان والفرس والبغل» ليسوا أفرادا، وإنما هي أسماء فئات استخلصت صفاتها باستقراء حقيقي يفترضه قياس (الحيوانات التي لا مرارة لها)، ويجمعه في كل موحد. ثم إن هذا القياس لا يفسر ميزة طول العمر التي تتصف بها الحيوانات التي لا مرارة لها، وهي الميزة التي يفسرها أرسطو في موضع آخر فيقول: إن هذه الحيوانات لها كبد أكثر نقاء، وبالتالي دم أنظف، ولهذا كان عمرها أطول.
16 (1) الاستقراء الصوري
ومع ذلك فالاستقراء، على نحو ما وصفناه، لا يعدم أن يجد له استعمالا. وهو يسمى «بالاستقراء الكامل» أو «الاستقراء الصوري» وسبب هذه التسميات واضح، وهو يستخدم في التصنيفات؛ فإذا وجد جنس معين يحتوي على عدد معين من الأنواع، وتحققنا من وجود صفة معينة في كل من هذه الأنواع، كانت هذه الصفة منطبقة على الجنس بأكمله، أو قد يشتمل نوع معين (كالكواكب مثلا) على عدد معين من الأفراد، ويتصف كل من الأفراد بالصفة التي نحن بصددها (كأن يحتوي على جسم كيميائي معين مثلا). ويظهر الاستقراء الكامل أيضا في تلك العمليات الشائعة المسماة في اللغة الدارجة بعمليات «التتميم
pointages »؛ فالطالب «أ» قد سلم بحثه، وكذلك الطالب «ب» ... إلخ. إذن فكل طلبة الفصل قد سلموا أبحاثهم.
ومع ذلك يجب الاعتراف بأن مثل هذه التطبيقات محدودة، وأننا تناولناها بالبحث فإننا لا نعرض لمشكلة الاستقراء الحقيقية. (2) الاستقراء التعميمي
amplifiante
إن الاستقراء الحقيقي هو ذلك الذي وصف بأنه استقراء تعميمي؛ فهو يعمل في آن واحد على زيادة الحكم كما وجهة، أما باعتبار الكم فذلك بانتقاله من الجزئي إلى الكلي، وأما باعتبار الجهة فذلك بانتقاله من العرضي (أي من المعطى، ومن الواقعة من حيث هي واقعة) إلى الضروري (أي القانون).
ولقد حاول «فرانسيس بيكن» وضع نظرية في «الاستقراء الحقيقي
inductio vera » على حد تعبيره، ولم يخف طموحه في المضي إلى أبعد بكثير مما ذهب إليه أرسطو، وقد أطلق على مؤلفه الكبير الذي لم يتمه، اسم الأورجانون الجديد
Novum Organum
أي المنطق الجديد؛ إذ كان المدرسيون يطلقون اسم
organon (أي الأداة) على مجموع المؤلفات المنطقية التي وضعها أرسطو. (3) نظرية بيكن في الاستقراء
وصف بيكن العمل الذي يجب على العالم القيام به في بحثه عن «السبب الحقيقي
vera causa » وصفا رائعا، وبلغة طريفة حافلة بالتشبيهات والصور، فهناك أولا ما يطلق عليه اسم «صيد بان
» وهو الجمع المنهجي للتجارب العظيمة التنوع، التي يجب على العالم إجراؤها أو جمعها. وعلى العالم أن ينوع التجربة، ومعنى ذلك أن يستخدم الوسائل المعروفة تقليديا، ولكن بحيث يحاول الوصول بواسطتها إلى نتائج أخرى؛ فيستخدم المرايا القوية لا في تركيز ضوء الشمس بل ضوء القمر، أو تركيز الحرارة في مصدر أرضي، وعليه أن يطيل التجربة، كأن يواصل التقطير مثلا إلى مدى أبعد من المدى الذي يمضي إليه المرء عادة ... إلخ.
ثم تأتي مهمة التنظيم المنهجي للأمثلة (
instantiae ) في قوائم (
tabulae ) مقارنة توضح ما بينها من أوجه الشبه والاختلاف: وهي قائمة الحضور (
tabula praesentiae ) وتكاد تكون هي طريقة الاتفاق عند «جون ستورت مل» وقائمة الغياب
tabula abséntiae (وتكاد تكون هي طريقة الاختلاف) وقائمة التدرج
tabula granduum (طريقة التغير النسبي).
وقد أثنى ديكارت على بيكن، الذي كان أسبق منه، ثناء عاطرا، واعترف له بفضل التوجيه والابتكار في المنهج الذي يمكن من إجراء تجارب نافعة، فقال: «ليس لدي ما أزيده في هذا الموضوع على ما كتبه فيرولاموس.» (وهو الاسم الذي كان يطلق على بيكن، الذي كان لوردا لفيرولام
Verulam ).
17
والحق أن بيكن كان يسعى، مثل ديكارت إلى أن يهتدي من وراء الوقائع إلى ما يسميه «بالتركيب الدقيق الباطن
Schematismus » أو «العملية الكامنة
preocessus latens » وذلك من أجل تفسير هذه الوقائع. (4) الفرض والاستقراء
على أن منطق بيكن يفتقر إلى أمرين؛ فهو أولا لم يوضح على الإطلاق أن كشف «التركيب الدقيق» أو «العملية الكامنة» هو نتيجة استدلال ينبغي تبريره منطقيا. وبعبارة أخرى ، فالمشكلة المنطقية للاستقراء لم تطرأ على ذهنه، ثم إنه لم يوضح بجلاء تلك الفكرة الأساسية، وهي أن هذه النتيجة إنما هي فرض. وكلمة الفرض هذه تنطوي على معنيين، فالفرض تخمين وهو لا يعدو أن يكون احتماليا وغير يقيني ثم إن الفرض مبدأ، يستخلص الاستنباط منه نتائج يجب التحقق من صدقها بطريقة تجريبية. وفي هذه الصفة الثانية يستبقي الفرض شيئا من وظيفته الرياضية، كما أوضحنا من قبل.
ولقد حاول «هاملان
Hamelin » وضع الاستقراء الذي قرر به كبلر قانونه الأول في صورة استدلال - ويذكر هذا القانون أن «الكواكب ترسم حول الشمس مدارات بيضاوية تكون الشمس في أحد مركزيها»
18
وعندئذ تكون هذه القضية نتيجة لاستدلال لا يمكن أن يكون قياسا بطبيعة الحال، ومع ذلك تتمثل فيه صفة الانتقال عن طريق حد أوسط، والحد الأوسط هنا هو: أن المواقع المتعاقبة للكواكب يمكن أن تضم كلها بوساطة مدار بيضاوي. وفضلا عن ذلك فقد أوضح «هاملان» الأساس الخفي للاستدلال، وهو فكرة الاحتمال التي تتمثل في النتيجة. فالنقط لا تقع على مدار «اعتباطا»، وإنما نهتدي إلى المدار الحقيقي لأنه من «غير المحتمل» أن تبدو النقط التي تحدد مواقع الكواكب منتمية إلى مدار بيضاوي، وتكون في الوقت ذاته منتمية في حقيقة الأمر إلى مدار آخر، ويزداد احتمال كوننا قد اهتدينا إلى المدار الصحيح كلما ازداد عدد النقط التي كشفناها. وبعبارة أخرى، فنقطة ارتكاز الاستقراء هي اعتقاد وإيمان، أي الاعتقاد بوجود منحنى، وبوجود قانون، وبوجود حتمية. فأساس الاستقراء هو الإيمان بالحتمية.
الطبيعة الحقيقية للاستقراء
والآن يمكننا أن نعرف كنه الاستقراء على نحو أدق. فهو أولا تخميني، وهو يفترض ابتداعا حرا ترشده المعطيات وتلهمه، دون أن تقهره على شيء، فعندما بحث كبلر عن القانون الهندسي الذي تخضع له الكواكب، فكر أولا في الدائرة، ولكن تبين له أن هناك انحرافا ضئيلا جدا في الواقع بين الدائرة والمدار الحقيقي، فجرب 19 مدارا مختلفا قبل أن يصل إلى المدار الحقيقي. وقد استخلص هذه المدارات التسعة عشر من المعلومات الهندسية التي كونها علماء الهندسة، خلال أبحاثهم في عهد طاليس، وإقليدس، وفي أثناء قيامهم بالكشف وبتحسين كشوفهم.
ثم إن الاستقراء يفترض الإيمان بالحتمية، ولقد كان كلود برنار على حق عندما قال إن من الواجب على العالم أن «يحتفظ بحرية كاملة تستند إلى الشك الفلسفي» ولكنه أضاف: «ومع ذلك فيجب عليه ألا يكون شكاكا؛ بل يجب أن يؤمن بالعلم، أي بالحتمية، وبالعلاقة المطلقة والضرورية بين الأشياء.»
19
وأخيرا فالاستقراء ينتهي إلى «فرض» أي إلى مبدأ احتمالي يصلح أساسا لاستنباط يمكن التحقق من صدقه.
فإذا كان الأمر كذلك، فليس لنا في الواقع أن نعد الاستقراء استدلالا موازيا للاستنباط. فالاستنباط «يرغم» ولا يترك أي مجال للاختيار. وفضلا عن ذلك، فالاستنباط هو على نحو ما «جزء» من الاستقراء، فلنقل إذن، بالأحرى، إن الاستقراء منهج، أي أنه مسلك معين في الاستدلال.
20
مبدأ الحتمية أساس الاستقراء
قلنا إن الاستقراء يفترض الإيمان بالحتمية، أي اعتقاد خضوع الطبيعة لقوانين، ومن هنا كانت الحتمية أساس الاستقراء. (1) المبادئ الثلاثة لعلاقات التجربة
إذا ارتضينا في هذه المسألة ما ذهب إليه «كانت» قلنا إن البحث عن القوانين يفترض ثلاثة مبادئ يسميها «كانت» «مبادئ علاقات التجربة
Analogies de l’éxperiencé » وهو يرمي من هذه التسمية إلى بيان أنها تمكن العالم من تفسير العلامات التي تكشف له عنها التجربة والتي تنم عن وجود علاقات بين الظواهر.
21
والواقع أن مبدأ العلاقة ليس إلا هوية في العلاقات تمكننا، إذا وجدت حدود ثلاثة، من التكهن بالرابع على أساس أن علاقته بالثالث مماثلة لعلاقة الثاني بالأول، ولقد أوضح «كانت» بجلاء في هذا الصدد أن عمل العالم الذي يفسر التجربة ينحصر في التنبؤ بالعلاقات تبعا لعلامات خاصة: ففي المثال الذي قدمناه من قبل (نقلا عن هاملان) يكون «الحد الأوسط» في الاستقراء هو العلامة التي تمكن من التكهن بوجود المدار البيضاوي الخفي، سواء أكان ذلك التكهن هينا أم شاقا.
وقد حدد «كانت» صيغة مبادئ علاقات التجربة الثلاثة كما يلي: (أ) مبدأ الجوهر
يظل الجوهر على حالة وسط تغير كل الظواهر دون أن تزيد كميته في الطبيعة أو تنقص. فمهمة العالم تنحصر إذن في إيضاح طبيعة هذا الجوهر وتحديد كميته. وذلك هو موضوع تلك القوانين الكبرى المسماة ب «مبادئ بقاء المادة والطاقة».
العلم والجوهر
قد يظن المرء أن العلم الاستقرائي المعاصر ليس في حاجة إلى مبدأ الجوهر؛ بل قد يخيل إليه أنه ينبذه: هو ليس في حاجة إليه، لأنه يكتفي بصياغة قوانين سببية أو وظيفية تعبر عن علاقات بين الظواهر المتعاقبة، أو بين العناصر المتلازمة للظاهرة، أو بين الظواهر المتلازمة. ومن جهة أخرى فهناك ظواهر تناقض مبدأ بقاء المادة، لأنها تبين لنا أن بعض أجزاء المادة تفقد أو تختفي بلا رجعة. وفضلا عن ذلك فالمادة هي الكتلة التي تتغير تبعا للسرعة، كما تقول بعض النظريات المعاصرة. ولكن يلاحظ أن كل فقدان أو ظهور للكتلة، يصحبه ظهور أو اختفاء للطاقة يتناسب معه، بحيث تكون إحدى صور الطاقة. وإذا كانت الكتلة تتغير تبعا للسرعة، فمن المؤكد أن الكتلة لن تعود هي الباقية؛ بل إن ما يبقى هو علاقة خاصة معقدة بين الكتلة والسرعة. فهناك إذن على الدوام مبادئ للبقاء، وكل ما في الأمر أن تحديد صيغة هذه المبادئ قد أصبح أكثر تعقيدا وتجريدا.
أما أن العلم في حاجة إلى هذه المبادئ، فذلك ما توضحه الملاحظة الآتية:
إن القوانين تعبر عن العلاقات، غير أننا نظرنا إلى هذه العلاقات من وجهة النظر العلمية، فوجدناها تربط حدودا «وأشياء» متضايفة.
ومن هذه الأشياء ما لا يتصف بالثبات، وما يستمر في البقاء، كالطاقة الكهربية مثلا. ولكن ينبغي في نهاية الأمر أن يكون منها ما هو دائم، حتى يكون العلم منصبا على حقيقة واقعة.
وإذن فقد كان «كانت» محقا عندما عد مبدأ الجوهر ضمن مبادئ علاقات التجربة، فهذا المبدأ يعني كما لاحظ ميرسون
Meyerson - مثلا - أن الروح العلمية تنطوي على قدر معين من الواقعية، أي من الإيمان بالواقع. ولا شك أن هذه الواقعية مؤقتة، وأن العلم مثالي في أساسه، ولكن العلم يرتكز، في مرحلة معينة من مراحل البحث، على واقعية مؤقتة، يعبر عنها مبدأ الجوهر. (ب) مبدأ السببية «كل التغييرات تحدث تبعا لقانون الارتباط بين الأسباب والنتائج» وعلى هذا المبدأ تبنى «القوانين السببية» ومن أمثلتها القوانين التي ترجع مرضا معينا إلى تأثير جرثومة معينة. (ج) مبدأ التأثير المتبادل
يوجد تأثير متبادل عام بين الجواهر بالقدر الذي تكون فيه متزامنة في المكان. وبعبارة أخرى، فكل الأشياء المتزامنة في الكون يؤثر بعضها في بعض، وهذا التأثير المتبادل يخضع لقوانين. وهذه القوانين «ارتباطية»، فهي تبين أن الحوادث المشار إليها «ترتبط» بعضها ببعض. وهذه القوانين لا تسري فقط على «الجواهر» - على حد تعبير «كانت» - أعني على الحقائق المادية؛ بل تسري أيضا على الحوادث، أعني على تغيراتها وعلى صفات الحقائق أو الحوادث وعناصرها والعوامل المتحكمة فيها. وهكذا نجد قانون «ماريوت» يحدد حجم كتلة من الغاز من حيث «ارتباطها» بالضغط وقانون «أوم
Ohm » يمكن من حساب القوى الكهربية المحركة لتيار كهربائي من حيث «ارتباطها» بالمقاومة والشدة.
أساس الاستقراء عند «كانت» هو إمكان التجربة
والآن نعرض لمشكلة أدق، هي مشكلة «أساس» الاستقراء. فالأساس هو الدعامة المتينة، وهو الحجة التي يدعيها العالم لنفسه عندما يستقرئ. ونقول إنه يدعي لنفسه حجة، لأنه ينتقل من مجال إلى آخر ، فينتقل من الواقعة إلى القانون. فلم يكن كبلر يستطيع أن يرى المدار البيضاوي الذي أكد أن الكواكب تتحرك فيه، وهو لم ير إلا «بضع» مواقع لكوكب «واحد» فافترض أن هذه المواقع نقط في مدار بيضاوي. وذلك المدار يضم عددا «لامتناهيا» من المواقع الماضية والحاضرة والمستقبلية «لأي» كوكب. وقد افترض كبلر أن كل الكواكب «مضطرة» بمعنى ما إلى التحرك في مدار بيضاوي، وأنها ترسم «بالضرورة» وعلى الدوام، مدارات بيضاوية. ومن هنا ندرك مدى «الوثبة» التي يقوم بها المرء عندما يستقرئ. وهذه الوثبة تحدث في كل الأحوال، ولا يتحقق أي علم دونها.
ومن المحال أن نبرر هذه الوثبة عن طريق الاستنباط. فليس هناك أي «تحصيل حاصل» في حركة التفكير التي نستقرئ بها. ذلك لأن أساس المنطق الاستنباطي هو «مبدأ الهوية»، وتبعا لهذا المبدأ لا يجوز للمرء متى أكد صدق قضية ما، أن يؤكد صدق قضية أخرى تناقضها ؛ بل إنه متى أكدها، وجب عليه أن يستمر دائما في تأكيدها، هي وما تستتبعه من نتائج. فهل يحق للمرء أن يمد هذه القضية ويعممها، وينتقل من تأكيد ظاهرة إلى تأكيد قانون؟ إن مبدأ الهوية لا يرفض هذا الحق، ولكنه عاجز تماما عن أن يمدنا به، بل الحق أنه لا يذكر عنه شيئا. (1) الإدراك الحسي والعلم
لكن الأمر الذي يطمئننا هو أن «الوثبة» التي نقوم بها عندما نستقرئ، هي وثبة نقوم بها بالضرورة ما دمنا «نفكر». وفي هذه المسألة نجد أن الإدراك الحسي لا يقل تعجلا عن العلم؛ بل إنه ينطوي على نوع من العلم. فهو لا يصوغ قوانين بالمعنى الصحيح، وإنما يقرر أشياء وحقيقة واقعة، بطريقة ضرورية، ويدعي لنفسه صفة الحقيقة، ولو تخلى عن صفة الحقيقة، لتخلى عن وجوده ذاته. على أن إقرار حقيقة واقعة، معناه تأكيد أن لنا الحق في الاعتراف بوجود يتقرر خارج الفرد الذي يقرره، أعني الاعتراف بوجود ضروري شامل؛ ضروري بمعنى أنه يتمثل ويوجد ضمنا في كل الإدراكات الحسية للشخص الذي يدرك، ويتحكم في هذه الإدراكات على نحو ما، وشامل بمعنى أنه متضمن، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في جميع الإدراكات الحسية لكل الموجودات القادرة على الإدراك الحسي، وإذن فالإدراك الحسي ذاته يتجاوز نطاق التجربة المباشرة في تأكيد عمومية الوجود وضرورته.
وفي وسعنا أن نقرب بين الإدراك الحسي والعلم بطريقة أعمق من هذه. فليس ثمة إدراك حسي دون وجود هندسة تلقائية، لأننا لا نستطيع رؤية شيء أو لمسه دون أن نحدد له شكلا. غير إن هذا الشكل هو ذاته «القانون». وكما أن كبلر قد جمع في المدار البيضاوي سلسلة من مواقع الكواكب، فإن المدرك الساذج يجمع في دائرة مثلا، لمسات يده لمائدة مستديرة، أو الصور التي ترسمها هذه المائدة في عينيه، وفي معظم الأحيان لا يمكن أن تكون هذه الصورة دائرية؛ بل تكون بيضاوية بدرجات مختلفة، وإنما تكون فكرة الدائرة المتضمنة في رؤية المائدة المستديرة نتيجة لنوع من الاستقراء التلقائي الساذج، وهذا الاستقراء بدوره يمكن من القيام بنوع من الاستنباط الذي يشبههه في تلقائيته وسذاجته، إذ إن الدائرة التي نفكر فيها عن طريق الإدراك الحسي للمائدة المستديرة تتشكل ذهنيا بعدد لا متناه من الدوائر أو من الأشكال البيضاوية الممكنة، فتسمح بالتنبؤ بكل الصور التي يمكن أن تبعثها المائدة المستديرة في أعين جميع من يدركونها، أو بالتكهن بسلسلة الاتصالات اللمسية التي تقدمها الدائرة أو يمكن أن تقدمها لهم. (2) الفلسفة الترنسندنتالية
علينا أن نبحث عن أساس الاستقراء في الإدراك الحسي، أي في أكثر التجارب تلقائية وبساطة وضرورة. وهذا ما تعنيه الفلسفة الترنسندنتالية «عند كانت» وقد عرض «كانت» نفسه الفكرة الأساسية لهذه الفلسفة في مقدمة «نقد العقل المحض» (الطبعة الثانية) فقال «إن الأمر هنا لأشبه بالفكرة الأولى عند كبرنك فهو حين ألفى نفسه عاجزا عن الوصول إلى تفسير لحركات السماء على أساس القول بأن جميع الأجرام السماوية تدور حول المشاهد، بدا له أنه قد يحرز نجاحا أكبر لو جعل المشاهد ذاته يدور، ويترك النجوم ساكنة، وفي الميتافيزيقيا يمكننا أن نقوم بمحاولة مماثلة، وبالنسبة إلى إدراكنا الحسي للأشياء. فإن كان من الواجب أن ينظم هذه الإدراك تبعا لطبيعة الأشياء، فلست أدري كيف يمكننا معرفة شيء عنه قبليا
à
أما إذا كان الشيء (من حيث هو موضوع للحواس) هو الذي ينظم تبعا لطبيعة قدرتنا على الإدراك الحسي، فعندئذ أستطيع أن أتصور هذا الإمكان بكل وضوح.»
22
وبعبارة أخرى، فقد أحدث «كانت» في الفلسفة انقلابا مماثلا لانقلاب كبرنك في علم الفلك؛ إذ بدد الفكرة الوهمية التلقائية التي تدعو المرء إلى اعتقاد أن الواقع الخارجي يفسر الإدراك الحسي تفسيرا كاملا، وينطبق عليه انطباقا تاما، كأن يظن المرء مثلا أن النجوم تدور حول المشاهد لأنه «يراها» تدور حوله، وقد بين «كانت» أن هذا الإدراك الحسي تمثل
representation
أي تدخل من جانب الذهن الذي يحدد الموضوع، ويقرره على نحو ما، كما أكد أن هذا التمثل تدخل إيجابي للذهن الذي يفهم الأشياء لكي يتعرف عليها باعتبارها حقيقة واقعة في الوقت ذاته، وهذا ما فعله كبرنك عندما حمل على المذهب التلقائي القائل بمركزية الأرض، واستبدل به مذهبا عقليا يقول بمركزية الشمس. وهذا المنهج يسمى «بالمثالية». فالمثالية هي تفسير الحقيقة الخارجية عن طريق الحكم الواقعي، وتفسير الحكم الواقعي بالعقل الذي يريد أن يفهم.
ويطلق «كانت» على هذه الفلسفة اسم «الترنسندنتالية». ولقد كان المدرسيون يطلقون هذا الاسم على المحمولات التي تنطبق على كل الموجودات، مثل صفة كون الشيء «واحدا» أي كونه يكشف عن وحدة داخلية، أما «كانت» فيطلق اسم «الفلسفة الترنسندنتالية» على تلك الفلسفة التي تفرض على الوجود «شروطا قبلية» مصدرها العقل. ولنلاحظ أن هذه الفلسفة ليست في أساسها جديدة كل الجدة، وذلك لأن «ديكارت» عندما بدأ تأملاته بالشك المنهجي، ووضع «الكوجيتو» أنا أفكر إذن أنا موجود، قد قال في الواقع نفس ما قاله «كانت». فالشك تكذيب للواقعية الساذجة في الإدراك الحسي التلقائي، والكوجيتو تعريف للحقيقة، وأنموذج كل حقيقة، فليست هناك حقيقة سوى ما أفكر فيه بوضوح وما أفهمه، بل إن في وسعنا الاهتداء إلى أقدم أصول الفلسفة الترنسندنتالية في مثالية أفلاطون.
برهان الحتمية
وإذن ف «كانت» يسمي البرهان على مبدأ ما برهانا ترنسندنتاليا، إذا كان يثبته عن طريق الشروط القبلية للتمثل، فهو بعبارة أخرى، البرهان الذي يؤكد وجود الحقيقة الخارجية عن طريق ضرورة الفهم. (1) الجوهر
يأتي مبدأ الجوهر بالشرط الأول الذي ينبغي توافره لكي يدرك الذهن أي تغير، وهذا الشرط هو أن يظل شيء ما «ثابتا» وسط التغير، إذ لو كان التغير كاملا، لقضى على نفس المعيار الذي يمكن من إدراكه. (2) السببية
مبدأ السببية شرط يتطلبه العقل لكي يتصور حقيقة تعاقب الحوادث، والتعاقب الحقيقي هو التعاقب الذي لا يمكن عكس اتجاهه، ولا يمكن تصوره بالترتيب العكسي دون خلف، كما هي الحال لو تصورنا - على سبيل المثال - نهرا يتجه تياره نحو منبعه. فللواقع اتجاه، لأن الزمان الذي نتصوره فيه له اتجاه المثال، ولو وجدت سلسلة من التصورات تسمح بأن تعبر في أي الاتجاهين حسبما نريد، لما كانت حقيقة، ولكنا نعبر بالفكر أو بالحواس مجموعة من الأشياء هي في حقيقة الأمر مقترنة زمانيا ، كحجرات البيت الواحد مثلا. ولكننا لا نستطيع أن نتصور موت لويس السادس عشر قبل مولده، لأن هذا الموت وهذا الميلاد واقعيان، وحادثان. فالحوادث لا يمكن أن ترجع على أعقابها. وتصور صفة عدم القابلية للرجوع هو ذاته السببية، إذ إن السبب يحدد النتيجة، لا العكس، ولنقل بتعبير آخر، أعمق من الأول، إن المرء لا يستطيع أن يوقن بأن الحادثين متعاقبان إلا إذا أدرك أحدهما بوصفه سببا للآخر. (3) التأثير المتبادل
وكما أن السببية هي أساس التعاقب، فإن التأثير المتبادل هو أساس التزامن، فالحادثان المتزامنان ليسا مجرد حادثين غير متعاقبين؛ بل هما حادثان يؤثر كل منهما في الآخر تأثيرا متبادلا، ومتساويا، فهما يكونان معا جزءا من عالم واحد، وهما مرتبطان، ولو عن طريق الضوء الذي يتبادلانه، والإشعاعات التي تنبعث من كل منهما نحو الآخر، ولقد كان تفكير ديكارت عميقا عندما قال إن الضوء هو الحقيقة الأساسية للكون المادي، وأثبت تقدم العلم فيما بعد أنه كان محقا في قوله هذا. فالضوء (بمعناه العام، أي بمعنى الإشعاع) هو الذي يمثل ماديا وحدة الكون.
أساس الاستقراء عند لاشلييه
فلنفحص الآن الحجج الرئيسية لرأي مشهور في أساس الاستقراء
23
دافعت عنه فلسفة جول لاشلييه في 1871م.
فقد أكد لاشلييه، من وجهة نظر يمكن تقريبها من وجهة نظر «كانت» أن «شروط وجود الظواهر هي نفس شروط إمكان التفكير» (ص41) ولكن أصالة رأي لاشلييه إنما تنحصر في قوله بأن «المبدأ الذي ترتكز عليه معرفتنا القبلية للطبيعة مبدأ مزدوج» (ص69). ويتكون هذا المبدأ من قانون العلل «الفاعلة» وقانون العلل «الغائية» فالقانون الأول ينص على أن كل «ظاهرة متضمنة في سلسلة يتحكم وجود كل حد منها في وجود الحد الذي يليه» ص42، ولكنا ندرك، وسط كثرة الظواهر، وحدة تربط بينها (ص55) وعلى ذلك فهناك قانون ثان «تدمج فيه كل ظاهرة في نسق تتحكم فيه فكرة «الكل» في وجود الحد الذي يليه» (ص42) ولكنا «ندرك وسط كثرة لا يمكن أن تنتج إلا من اعتماد كل جزء منها على «الكل»، فلا بد إذن أن تكون فكرة «الكل» في الطبيعة قد سبقت وجود أجزائها وتحكمت فيه، وإذن ففي الجملة يجب أن تكون الطبيعة خاضعة لقانون العلل الغائية.» (ص79).
ويستخدم لاشلييه القانون الأول ليفسر ما تتصف به سلاسل الظواهر من ترتيب وانتظام بوساطة قانون «الآلية الشاملة»
mécanisme univrsel
وقد يبدو أن مثل هذا التفسير الآلي لصحة الاستقراء يتنافى مع أية طريقة أخرى للتفسير، وأن المرء لا يستطيع أن يسلم في آن واحد بالآلية الشاملة، وبالغائية. ولقد نبهنا برجسون فيما بعد، في كتابه «التطور الخالق» (ص43) إلى أن «الفلسفة الآلية إما أن تقبل أو ترفض بحذافيرها، وينبغي رفضها لو كانت أصغر ذرة من التراب تبدي أي نوع من التلقائية بانحرافها عن المسار الذي تتنبأ به الميكانيكا.» وإذن فكيف نعترف بقانون العلل الفاعلة وقانون العلل الغائية في آن واحد؟ يحدد لاشلييه نفسه هذا الاعتراض بدقة فيقول: «... إن الوجود الموضوعي للظواهر ذاتها يبنى على تسلسلها الضروري فهل يتسنى لنا أن نبحث لهذا الوجود ذاته عن أساس جديد، وهلا تكون الظواهر أكثر حقيقة وموضوعية لأن وحدة السلسلة، التي تؤدي إلى ظهور كل حركة من الحركة السابقة عليها ، تضاف إليها وحدة النسق، التي تؤدي إلى توجيه حركات متعددة نحو هدف واحد مشترك؟ أليس من الواضح، على عكس ذلك أن هذه الوحدة الثانية زائدة تماما، وأن العقل، بدلا من أن يدمجها في الأشياء، يضطر عندئذ إلى انتظارها، كما لو كانت مصادفة سعيدة، ومنحة تتكرم بها الطبيعة.» (ص47).
ولكن الواقع أنه يوجد بين الظواهر نوعان من العلاقات: «علاقات السبب بالنتيجة» وفيها تكون الظواهر سلسلة متصلة في الزمان، وعلاقات الوسيلة بالغاية، وعليها ترتكز الوحدة المتجانسة المنظمة للطبيعة (ص80) ففي الطبيعة ذاتها مستويان من مستويات الوجود، مما يبرر البرهان الفلسفي الذي أتى به لاشييه. ففي وسعنا القول إن الظواهر «توجد» من حيث إنها تعتمد على سبب يسبقها في الزمان ... كذلك يمكننا القول بأن الظاهرة «توجد» من حيث أنها تساهم في تحقيق غاية هي أيضا مثالية ... بل إن هذا التعريف الثاني للوجود يتمشى، خيرا من الأول، مع الفكرة التي نكونها عموما عن أحد الموجودات؛ لأن ما يسمى بهذا الاسم، ولاسيما إذا كان كائنا حيا، هو على وجه الدقة مجموعة من الظواهر التي تدور - على نحو - حول غاية مشتركة. وعلى ذلك فللطبيعة نوعان من الوجود، يقومان على القانونين اللذين يفرضهما التفكير على الظواهر: وجود مجرد، يتحد ذاتيا مع العلم الذي هو موضوعه، ويرتكز على القانون الضروري للعلل الفاعلة، وقانون عيني، يعادل ما يمكن تسميته بالوظيفة الجمالية للتفكير، ويرتكز على قانون عرضي للعلل الغائية) (ص80-81).
وهذه الغائية هي التي تكشف عن سمة تتميز بها بوضوح فلسفة جول لاشلييه.
الفصل الثالث عشر
العمليات العامة للفكر «تكملة»
التحليل والتركيب - الحدس
الاستنباط والاستقراء صورتان كيفيتان، وغير متميزتين، للتحليل والتركيب، فهذان الأخيران هما المنهج الحقيقي لعلم الطبيعة الرياضية الحديث.
والتحليل هو الحركة التي يصعد بها الذهن من شروط إلى شروط، حتى يصل إلى العنصر العقلي، الذي هو «سبب» المعطى، وقد ابتدعه الرياضيون (التحليل الباحث
Zététique
والتحليل البرهاني
poristique ). ولكن هناك أيضا تحليلا طبيعيا وكيميائيا.
أما التركيب فهو الحركة العكسية، وهدفه إعادة تركيب المعطى عقليا بغية البرهنة عليه أو تحقيقه. وهو قابل للتعميم.
فالاستنباط والاستقراء، والتحليل والتركيب، هي العمليات المقالية المتدرجة (
discursives ) للعقل البشري. ويجب إكمالها بالحدس، وهو معرفة مباشرة تنصب على ما هو فردي. ولكن هل الحدس معرفة عقلية؟ هناك فلسفات للحدس تؤكد أنه خارج عن مجال العقل، ومن قبيلها الميتافيزيقا المسيحية عند باسكال، وفلسفة برجسون. أما نحن فنعتقد بالأحرى، مسايرين في ذلك النزعة العقلية، أن الحدس هو الصورة العليا للعقل، وأن الإدراك العميق للتفكير العلمي كفيل بأن يهتدي فيه إلى الروح مكتملة، وفي أرفع صورها.
التحليل أفضل صور الاستقراء، وهو المحرك الخفي له
درسنا في الفصل السابق العملية التي نصل بها من الوقائع إلى القوانين. وهناك قوانين «كيفية» خالصة، تنتهي إلى القول بأن للشيء خاصية مميزة، كالقول بأن من خواص الحرارة أن تؤدي إلى تمدد الأجسام، وتصهرها وأن الأثير يذيب المواد الدهنية، وأن الأفيون مخدر. وقبل أن يضع جاليليو وديكارت أسس علم الطبيعة الرياضي، ولافوازييه أسس الكيمياء الرياضية، كان العلم كيفيا. وكان قوامه قضايا كيفية أيضا، وكان الاستقراء الذي ينتهون به إلى القوانين «استقراء كيفيا» ومع ذلك، فالعلم لم يتخلص تماما من هذا الطابع. فإلى جانب الطبيعة الرياضية بمعناها الصحيح، يوجد دائما علم للطبيعة يسمى «بالتجريبي»، بمعنى خاص لهذه الكلمة؛ لأن قوامه أساسا تجارب تهدف إلى الكشف عن الخواص، وإثباتها وإظهارها، فالطبيعة التي تدرس لتلاميذ لم يتعمقوا العلوم الرياضية بعد، هي طبيعة «تجريبية»، وعندما يبدءون في التعود على معالجة المعادلات، ولا سيما معادلات التفاضل، بعد دراسة الرياضة في الفصول العالية، يمكنهم الانتقال إلى بحث الطبيعة الحديثة والكيمياء الحديثة بمعناهما الصحيح، وهما العلمان اللذان يحتل الحساب الرياضي فيهما مكانة أهم بكثير من مكانة التجربة. غير أن الطبيعة «التجريبية» ليست فقط صورة من الطبيعة أقرب إلى عقول الناشئين، بل هي أيضا صورتها الأولى التمهيدية. فلزام على علم الطبيعة أن يكون في البدء تجريبيا.
ونتيجة ذلك أن هناك نوعين من استدلال البحث: نوعا كيفيا، تمهيديا، هو الاستقراء بمعناه الصحيح، ونوعا كميا، رياضيا، يستخدم في إضفاء مزيد من الصبغة الرياضية على العلم التجريبي، ويسمى بالتحليل .
فلنقل إذن إن التحليل بالنسبة إلى الطبيعة الرياضية هو بمثابة الاستقراء بالنسبة إلى الطبيعة التجريبية.
ولنضف إلى ذلك أنه إذا كان التحليل عملية مادية، فهو في البدء عملية رياضية، وفي هذه المسألة نجد أن التحليل المادي مكمل للتحليل الرياضي.
وفضلا عن ذلك، فالتحليل تقابله عملية مكملة، هي التركيب الذي يقف إزاء التحليل نفس موقف الاستنباط إزاء الاستقراء.
وأخيرا، فإذا كان علم الطبيعة الرياضي هو أعلى وأكمل صور علم الطبيعة وأقربها إلى العقل، فإن التحليل والتركيب ينبغي أن يكون أقرب صور الاستقراء والاستنباط إلى العقل أيضا، وهذا ما ستوضحه الدراسة التي سنقوم بها، وكما يحدث دائما في المجال العقلي، فالأكمل هو سبب الأقل كمالا، والأعلى هو سبب الأدنى، فالتحليل هو الروح الخفية للاستنباط، والحق أن للاستقراء أنواعا يعلو بعضها على بعض تباعا؛ فالاستقراء الشكلي ليس إلا تلخيصا والاستقراء التعميمي فيه انتقال من الخاص إلى العام. غير أن هذا التعميم كان يصبح مستحيلا لو لم يكن «ابتداعا» للقضية العامة، ووثبة حقيقية ننتقل بها من المحسوس إلى المعقول. وما كان الكشف عن المعقول ليكون ذا أهمية لو لم يكن هو سبب المحسوس أو شرط وجوده. على أن حركة العقل، التي تنتقل نحو سبب الشيء المشار إليه أو شرطه، هي بعينها التحليل. وسنرى فيما بعد أن التركيب هو نفس بناء البرهان الرياضي، والاستنباط، كما تبين لنا من دراسة المنطق الرياضي، يزداد كمالا باقترابه من البرهان الرياضي، الذي يعد صورته المثلى.
ومن المهم أيضا أن نلاحظ أن الرياضة قد بدأت بالاستقراء. فبه تمكن المساحون المصريون القدماء من إثبات أن المثلث الذي أبعاده 3، 4، 5 هو مثلث قائم الزاوية. وقد حلل الرياضيون اليونانيون في مدرسة فيثاغورس هذه الخاصية، «واكتشفوا سببها» وهو أن 3
2 + 4
2 = 5
2 ، ولما مضوا في التحليل أبعد من ذلك، توصلوا إلى مقابل النظرية المسماة بنظرية فيثاغورس، وهو: المثلث الذي يكون مربع أحد أضلاعه مساويا لمجموع مربعي الضلعين الآخرين، هو مثلث قائم الزاوية، ثم توصلوا إلى نظرية فيثاغورس ذاتها: مربع وتر المثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين .
وقد اكتشفت نظريات كثيرة في الهندسة، أقرب إلينا من هذه، عن طريق الاستقراء. فما يروى عن جاليليو أنه لما أراد معرفة العلاقة بين مساحة القوس الدائري وبين مساحة الدائرة التي اقتطع منها، وهي العلاقة التي تكهن بأنها بسيطة وثابتة، قطع السطحين على لوح تام متجانس تماما ومصنوع من النحاس، ووزنهما. وبعده بفترة وجيزة، سار ديكارت ثم باسكال في طريق التحليل، واكتشفا البرهان بطريقة منظمة، وكذلك الحال في نظريات عميقة في الحساب، فقد ذكر الرياضي فيرما
Fermat (1601-1665م) بعض القضايا المتعلقة بأعداد من أنواع خاصة، ولم يأت لها ببرهان - ومنها ما لم يهتد أحد إلى البرهنة عليه حتى الآن. ولكن منها ما أثبت التحليل العددي، الذي مضى فيه الباحثون بصبر وأناة بقدر كاف، أنه باطل، وعلى ذلك فإن «فيرما» لم يكن يعرف البرهان عليها؛ بل اكتفى بالاهتداء إليها عن طريق استقراء ثبت بطلانه.
ديكارت وضع الخطوط العامة لمنطق التحليل والتركيب
كان ديكارت هو الذي أدرك، في نفس الوقت الذي كشف فيه عن نظرية علم الطبيعة الرياضي، أن هذا العلم الجديد يقتضي منطقا جديدا، أو كما يقول «منهجا» جديدا. وقد صاغ ديكارت هذا المنهج أولا في كتابه. «قواعد لإرشاد العقل
Regulae ad diréctioném ingenii »، الذي كتبه لنفسه، ووجد بعد وفاته ضمن كتاباته (ولا بد أن تاريخ كتابته كان عام 1628م) كما صاغها بعد ذلك بمزيد من الإيجاز في «المقال في المنهج
Discours de la méthode »
1
الذي نشر في عام 1637م.
والأمر الجدير بالإعجاب في «القواعد» هو أن ديكارت قد أخذ على عاتقه فيها أن يعالج الرياضة وعلم الطبيعة معا، ناظرا إلى علم الطبيعة على أنه امتداد للرياضة أو إحدى حالاتها الخاصة، أو بعبارة أدق، حالة خاصة من حالات «الرياضة الشاملة
mathesis universalis » التي أشار إلى فكرتها في القاعدة الرابعة، والتي تبحث بوجه عام في النظام والقياس، ذلك لأنه يرى أن كل علم إنما هو رياضة، بمعنى أن كل علم، كما يقول، هو معرفة يقينية واضحة. ومن جهة أخرى، لأن «الحساب والهندسة هما وحدهما، من بين سائر العلوم المعروفة، اللذان يتخلصان من كل بطلان وشك». (القاعدة الثانية). والفارق الوحيد بين الرياضة بمعناها الصحيح وبين علم الطبيعة، أن المشاكل في الرياضة محددة تحديدا كاملا، بينما هي في الطبيعة غير محددة جزئيا، أو لنقل بالأحرى إنها تنطوي على قدر من التخمين. وبعبارة أخرى، فليس ثمة فارق أساسي بين حركة العقل الذي يضع به الرياضي معادلة ويحلها، وبين العملية التي يكشف عالم الطبيعة بها قانونا ويحققه. وقد كرس ديكارت للمشكلات «المحددة تحديدا كاملا» القواعد من 13-21، وكان ينتوي أن يوضح فيما بعد معالم المنهج الذي يمكننا من حل المشكلات غير المحددة جزئيا، مثل سبب خواص المغناطيس، بناء على الظواهر التي اهتدى إليها جلبرت
Gilbert ، أو سبب خواص الأوتار المتذبذبة، بناء على أبحاث «مرسن
Mersenne » غير أن هذا الجزء من «القواعد» ناقص، وربما لم يجد ديكارت لديه من الفراغ ما يمكنه من المضي إلى هذا الحد من بحثه، بعد ان اضطرته سلطة الكاردينال دي بيرول
de Bérulle
إلى إكمال مذهبه في الميتافيزيقا وفي الطبيعة وإعادة كتابته.
أما عن كتاب «المقال في المنهج » فسوف نشير إلى النصوص التي تعالج موضوع التحليل والتركيب فيه.
التحليل ينتقل من الواقعة، ومن المعطى، إلى أسبابها المسماة بالعناصر
تدل كلمة التحليل، في أصلها الاشتقاقي على «التفكيك». ولكن يجب أن نميز بين أنواع من التحليل، تبعا لطبيعة الشيء الذي يفكك، وللنتائج التي نتوصل إليها. (أ) التحليل المادي: وهو تفكيك كتلة من المادة إلى أجزائها المكونة لها، سواء أكانت هذه الأجزاء متجانسة (كما في التجزئة البسيطة للكتلة) أم غير متجانسة (للتمييز بين هذه الأجزاء في نفس الوقت الذي تفككها فيه، ولكي نكشف عن واحد منها له خواص تهمنا، كما يفعل الصيدلي). والحق أن كلمة «التحليل» بمعناها الصحيح، لا تستخدم إلا بالمعنى الثاني. (ب) التحليل التصوري: وهو تفكيك تصور إلى «صفاته» لتحديد مفهومه والتوصل إلى تعريفه. وكثيرا ما يساعد على القيام بهذا التحليل، تفكيك «اللفظ» على نحو يكشف عن أجزاء المعنى، عن طريق نهاياتها وأصلها، وصورها المتغيرة. (1) الأحكام التحليلية والأحكام التركيبية
هذا النوع من التحليل هو الذي كان يفكر فيه «كانت» عندما وصف أحكاما معينة بأنها «تحليلية».
2
وتلك هي الأحكام التي ينطوي موضوعها على محمولها
praedicatum inest subjecto
على حد تعبير ليبنتز وفي هذا يقول «كانت».
عندما أقول مثلا: كل الأجسام ممتدة، فهذا حكم تحليلي، إذن أنني لست في حاجة إلى الخروج عن المفهوم الذي أربطه بكلمة: جسم، للوصول إلى الامتداد المرتبط به؛ بل يكفيني أن أفككه، أي أن أستحضر عناصر المتباينة التي أتصورها دائما فيه، لكي أهتدى دائما إلى هذا المحمول. فالأحكام التحليلية في أساسها أحكام تقوم على تحصيل الحاصل. وهي لا تحتاج كما يقول «كانت» إلى أي مبدأ آخر سوى مبدأ الهوية.
وفي مقابل الأحكام التحليلية، يقول «كانت» بالأحكام التركيبية التي عرفها بأنها «تلك التي يكون محمولها خارجا تماما عن موضوعها، مع ارتباطه به». وبعبارة أخرى فهي تلك التي «نتصور فيها ارتباط المحمول بالموضوع دون هوية بينهما. فمثلا، عندما أقول: كل الأجسام لها وزن يكون المحمول شيئا مختلفا تماما عما يطرأ على ذهني بصدد مفهوم الجسم وحده بوجه عام.»
والأحكام التركيبية تدخل ضمنها أولا كل أحكام التجربة: والمثال الذي يضربه «كانت» هو في الواقع، على نحو ما، نص قانون نيوتن. ولكنه أضاف قائلا
3 «إن الأحكام الرياضية كلها تركيبية.» وبرهن على قضيته هذه بتفسير أبسط قضية حسابية كالقضية 7 + 5 = 12، بأنها قضية لا نصل إليها عن طريق تحليل التصورات، وإنما عن طريق «تركيب» أو عملية معينة.
وهكذا يبدو أن التحليل عند «كانت» غيره عند ديكارت، لأن هذا التحليل عند الأخير مستمد من الرياضة، بينما الرياضة كلها تركيبية عند «كانت»، وإذن فلا بد أن يكون هناك نوع ثالث من التحليل، إلى جانب التحليل المادي، الذي نستطيع أن ندرك بوضوح أنه ليس المقصود هنا، وإلى جانب التحليل التصوري (أو تحليل الحاصل، أو التحليل المنطقي) الذي يشير إليه «كانت» وهذا النوع الثالث هو: (ج) التحليل العقلي بمعناه الصحيح: وهو البحث عن أسباب ظاهرة أو قضية. وهو يدور حوله البحث في هذا المقام، لأنه هو لب الاستقراء، وهو يصل إلى العنصر بمعناه الصحيح (
stoichéion ) الذي هو الفكرة. وكلمة العنصر هنا مرادفة «للمبدأ» وللأساس العقلي، ويمكننا الاهتداء إلى معناه في تعبيرات مثل «عناصر أو أركان الهندسة».
4
وقد استخدمت كلمة «التحليل» بهذا المعنى لأول مرة عند علماء الرياضة اليونانيين، كإقليدس مثلا: (1)
فإقليدس يطلق هذا الاسم على عملية غريبة، تنحصر في افتراض قضية لم نبرهن عليها، واستخدامها في البرهنة على قضية سبق البرهنة عليها، عن طريق الارتداد، (القضية الخامسة من الباب الثالث عشر لكتاب «العناصر»). (2) التحليل الباحث
Analyse Zététique
وبناء على هذا المعنى، أطلق علماء الهندسة اليونانيون اسم التحليل على كل عملية مرتدة
processus régressif
في الهندسة، وعلى رأسها العملية التي تبحث عن أساس قضية من القضايا السابقة لها. ويطلق عليها الشارح «جيمينوس
Géminus » اسما دقيقا كل الدقة، هو «اختراع البرهان» فنظرية فيثاغورس مثلا تنص على أنه في مثلث أ ب ج، القائم الزاوية في ب، تكون أ ج
2 = أ ب 2 + ب ج 2 على أن مربع أحد الأطوال هو المتوسط النسبي بين طولين آخرين، لأنه إذا كان ط2 =
5
فيجب إذن أن نقيم نسبا بين أ ج، أ ب، ب ج ومن ثم نكتشف في الشكل «مثلثات متشابهة». (د) كذلك يعد حل أي مسألة تحليلا. فلنفرض أننا نريد رسم دائرة تمر بثلاث نقط. عندئذ أقول: «لنفرض أن المسألة قد حلت». وهذا التعبير المألوف يعني أن «المسألة ستحل على شرط أن» أجد مركز الدائرة، (إذ إن هذا يوصلني إلى نصف القطر، ما دامت لدي ثلاث نقط من المحيط). ف «شرط» الوصول إلى نصف القطر هو أن تكون لدي نقطة تبعد عن النقطة المعطاة بمسافة متساوية ... إلخ، وهكذا ندرك كيف يتقدم التحليل من شرط إلى شرط.
وتسمى العمليتان ب، ج بالتحليل الباحث. (3) التحليل البرهاني
Analyse
(ه) في القرنين السادس عشر والسابع عشر، رأى علماء الهندسة مثل فييت
Viète
وفيرما
Fermat
وديكارت، أن التحليل هو السر الأكبر للرياضيين اليونانيين، وهو مصدر قوة الرياضة. وفي «القاعدة الرابعة» يقول ديكارت: «لقد لوحظ أن علماء الهندسة الأقدمين كانوا يستخدمون تحليلا معينا، اهتدوا به إلى حل المشكلات، وإن كانوا قد ضنوا بعلمهم هذا على الأجيال التالية.» ولكن السر قد كشف . وكما يقول ديكارت: «ألسنا نستخدم نحن أنفسنا نوعا من الحساب، المسمى بالجبر، ينحصر في أن نجري على العدد ما كان الأقدمون يجرونه على الأشكال؟» فالتحليل عند القدماء، أي عند أرشميدس وأبولونيوس
6
مثلا، كان قاصرا على الهندسة، والمثال الذي ذكرناه منذ قليل بكشف عن أهم ما فيه، وكان الاهتداء إلى سر أبولونوس وأرشميدس هو الشغل الشاغل للرياضيين منذ عصر النهضة والقرن السابع عشر. والغريب في الأمر أن هؤلاء الرياضيين قد اهتدوا، أثناء محاولتهم تحقيق هذا الهدف، إلى كشوف لم تخطر ببال أرشميدس أو أبولونيوس. فقد وضعوا منهجا للتحليل (التحليل البرهاني) يمكن من المضي صعودا وهبوطا بين القضايا، ولتحقيق ذلك كشفوا عن وسيلة أساسها أنه مادام الشرط الضروري هو في الوقت ذاته الشرط الكافي، فيكفينا أن نهتدي إلى البرهان لكي يتحقق بالفعل، ويكفينا أن نكشف عن عناصر المسألة لتكون قد حلت. وهذا التحليل البرهاني هو مبدأ الجبر الحديث، حيث يكفي وضع معادلة، ثم حل هذه المعادلة، للبرهان على حل المسألة ذاتها. (4) التحليل الديكارتي
عمم «ديكارت» فكرة التحليل، وكان ذلك التعميم هو أهم عناصر المنهج الديكارتي. ولا ينطبق التحليل عند ديكارت على «الجبر عند المحدثين» (على حد تعبيره) فحسب، بل ينطبق أيضا على العلوم التجريبية والميتافيزيقا.
وهو يعرض رأيه في التحليل بإيجاز شديد في القاعدة الثانية من المقال في المنهج، فيقول إنه «تقسيم كل الصعوبات التي سأبحثها إلى أكبر عدد ممكن من الأقسام، على النحو الذي يمكنني من إجادة حلها، والذي تقتضيه إجادة هذا الحل.» والمقصود هنا هو التحليل البرهاني. وفضلا عن ذلك فقد نبهنا ديكارت، قبل ذلك ببضع صفحات، إلى أنه لما أراد وضع دعائم منهجه، قد ألف بين «تحليل الأقدمين وجبر المحدثين».
فلنبادر إذن إلى القول بأن قوام الميتافيزيقا الديكارتية هو في الارتقاء من الإدراك الحسي - عن طريق الشك المنهجي - إلى تأكيد وجود الذات المفكرة (أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود)، ثم تأكيد وجود الله، ثم ما أسماه ديكارت ب «الصدق الإلهي»، أي حقيقة هذا الإلهام الباطني الذي هو العقل، والوصول تبعا لذلك إلى إدراك قيمة علم الطبيعة الرياضي، وفي هذا تعميم للتحليل البرهاني. (5) التحليل التجريبي والتحليل البرهاني (و) هناك تحليل تجريبي، يشبه التحليل الرياضي، وهو يبدأ منذ مشاهدة الظاهرة، إذ إن الانتقال من الظاهرة العلمية هو في ذاته تحليل. «فقياس» الظاهرة معناه في الواقع إضفاء صورة رياضية عليها، لكي تدخل فيما بعد ضمن الصيغ التي تعبر عن قوانين؛ ومعنى ذلك وضعها في معادلة. كما أن تفسير الملاحظة وتصحيحها معناه التقدم بالعملية نفسها، بإدماج الظاهرة كما نقرها ضمن مجموعة المعارف العلمية التي اكتسبت من قبل. مثال ذلك أن تفسير تجربة متعلقة بالكهرباء، هو إدماج نتيجة تلك التجربة ضمن النتائج التي اكتسبت في مجال معرفتنا العملية بالتيار الكهربائي، وتصحيح ملاحظة فلكية هو التوفيق بينها وبين ما تعلمناه في علم الضوء عن طبيعة الضوء وسرعته وانكساره، وجميع هذه العمليات تعين على وضع الظاهرة في صورة معادلة.
أما الانتقال من الظاهرة إلى القانون، فذلك هو حل المعادلة. والدالة الرياضية التي تعبر عن القانون هي مجهول المعادلة. وهي تستخلص بعملية لا يمكن أن تبلغ من الدقة مبلغ العمليات الجبرية؛ إذ إننا نستخدم في الجبر أفكارا هي من إنتاج الذهن الخالص، أما في علم الطبيعة، فنحن نخرج - على نحو ما - عن العالم الذي يجب الكشف عنه، والذي لا ننفذ إليه إلا عن طريق التخمين. (ز) والبعض يقول بنوع آخر من التحليل، هو «التحليل الكيميائي»، ولهذا القول ما يبرره. غير أن كلمة التحليل تستخدم في الكيمياء بمعنى أقل دقة منه في الطبيعة، لأننا عندما «نحلل» جسما مركبا، نؤثر في الأفكار وفي المادة معا. فمن جهة نحاول الوصول ذهنيا إلى «عناصر» الجسم، أي إلى أجزائه التي تفسره، والتي تشتمل خواصها على «أساسها» الخواص المتمثلة في الجسم، ولكننا نحاول من جهة أخرى أن نفكك الجسم ماديا، أي أن نفصل أجزاءه المادية، التي تختلف فيما بينها اختلافا كيفيا. وفضلا عن ذلك، فهذه العملية الثانية تتم في معظم الأحيان بطريقة غير مباشرة تماما، فنادرا ما ينجح المرء في إجراء هذه العملية، بحيث تنفصل العناصر المكونة انفصالا ملموسا، وتكون في صورتها الخالصة. فمثلا لم يستطع «لافوازييه» فصل الأكسجين في جانب والأزوت في جانب آخر، بل اضطر إلى تثبيت الأوكسجين على زئبق، ولم يستطيع إطلاقه خالصا، وتحديد خصائصه، إلا بوساطة تجارب مكملة. أما الأزوت، فقد كان عليه أن يعرفه من خلال خواصه، بأن يخضعه هو الآخر لتجارب أخرى؛ وإذن فأهم ما في هذا النوع من العمل التجريبي هو العملية التي تتابع بها العناصر في عدوها ورواحها. وبالاختصار، فالعنصر لا يعطى في التجربة، وإنما هو فرض، ومجهول، يستخلص بمجهود عقلي هو ذاته تحليل. (6) التحليل العملي والفني (ح) يطبق التحليل عمليا في الحالات التي نبحث فيها عن وسائل توصل إلى غاية، وعندئذ تكون الغاية هي النقطة التي نبدأ السير منها لنكشف الوسائل «بالتحليل» وذلك بأن نفترض أن المسألة قد حلت - كما هي الحال في الرياضيات - ونبحث عن الشروط التي أمكن أن تحل بها، حتى تصل خطوة إلى شروط يمكن تحقيقها، وهذه هي الطريقة المتبعة عندما يريد المرء أن يحدد مراحل طريق، أو يحب جدولا للمواعيد، وهي أيضا الطريقة التي يستدل بها المهندس حيث يهدف إلى صنع رسم لشيء مصنوع، والطبيب حين يصف أدوية أو نظاما في الأكل.
التركيب أو الاستنباط غير القياسي هو الحركة المضادة للتحليل
التركيب هو الاستدلال الذي يتمثل - في أنقى صورة - في البرهان الرياضي. فهو إذن نوع من الاستنباط ولكن ينبغي عندئذ القول إنه استنباط غير قياسي؛ أعني ليس له نفس تركيب القياس، أو الاستنباط الصوري أو المنطقي. وإليك الفروق الأساسية بين النوعين: (1)
فهو كما أوضحنا من قبل تعميمي
amplifiante . أي أنه يعمم، أو قادر على التعميم والمناطقة يقولون إن الماصدق والمفهوم (في الألفاظ أو في القضايا) يتناسبان تناسبا عكسيا. أما في الرياضيات فالأمر على العكس من ذلك، إذ إن التعميم يتحقق بازدياد التعقيد. (2)
والتركيب لا ينصب على صفات، وإنما على «علاقات». فالقضايا التي يربط بينها التركيب لا تعبر عن تلازم، أعني عن تعلق صفة بموضوع، وإنما تنبئ عن علاقات، كعلاقة مساواة أو لا مساواة علاقة ارتباطية.
ونتيجة ذلك أن التركيب هو تأليف بين علاقات. ففي الاستنباط الصوري أو المنطقي، نضم صفات (تتصف بها فئات) أو فئات (تتمثل فيها صفات معينة)، ومثال ذلك، أن الصفة «إنسان» تتضمن صفة «الفناء» وتمكننا من أن ننسب إلى الموضوع «سقراط» صفة الفناء، أو فئة الفنانين تنطوي على فئة الإنسان وبالتالي على الموضوع «سقراط». أما في التركيب فنحن نؤلف بين علاقات التشابه والتناسب، لنصل إلى تحديد العلاقة بين مربعات الأضلاع مثلا. (3)
التركيب ليس صوريا. فهو ليس عملية يمكن فصلها عن محتواها. وفي هذه المسألة يجب ألا نخدع باستخدام الحروف، الذي يستعيره المنطق الصوري من الجبر، والذي قد يوهم بأن الجبر منطق صوري. فالحروف في المنطق الصوري، تعبر عن صفات أو فئات نأبى النظر إليها في ذاتها لأننا لا نهتم إلا بعملية الاستدلال ذاتها، أما في الجبر فالحروف تمثل أعدادا نأبى النظر إليها في ذاتها، لأننا لا نهتم إلا «بالعمليات الرياضية» لا بالاستدلال. والعمليات هي المادة الحقيقة للاستدلال. فمثلا (أ + ب)
2
تعني «مربع حاصل جمع».
فالتركيب هو إذن العملية المقابلة للتحليل، وهو يستخدم في حالتين: ففي الحالة الأولى يبرهن على مشروعية التحليل إذا كان التحليل للبحث فقط، لا للبرهان، فبعد أن يثبت المرء أن البرهنة على نظرية فيثاغورس تقتضي الارتكاز على النظريات المتعلقة بخواص المثلثات المتشابهة، نبدأ البرهان سائرين بالترتيب العكسي. وكذلك، بعد أن نثبت أن رسم دائرة تمر بثلاث نقط يقتضي مد المنصفات إلى المستقيمات التي تصل بين هذه النقط، نبرهن على أن نقطة تقاطع هذه المنصفات هي ذاتها مركز الدائرة، فالتحليل قد استخلص الشرط الضروري والتركيب يثبت أن هذا «الشرط» هو الكافي.
وإلى هذه الحالة الأولى أيضا ينتمي التحقيق التجريبي فالقانون يتخذ مبدأ، والتركيب يستخدم لإعادة بناء الظاهرة التي ينبغي أن نجرب عليها بعد ذلك.
أما في الحالة الثانية، فالتركيب عملية للعرض وللتعميم في الوقت نفسه فالكتب الدراسية في الرياضة، تعرض بالطريقة التركيبية التي قدم إقليدس أول نموذج لها. وهذا العرض يؤدي إلى اقتناع أكيد ، يتميز به البرهان الرياضي. وفضلا عن ذلك فالتركيب الرياضي يمكن من تعميم النتائج التي نحصل عليها علميا. وذلك هو هدف هذه الكتب الدراسية. ففي كتب الهندسة الأولية مثلا، يبدأ البحث بتحديد مساحة المربع، ثم مساحة المستطيل ثم المثلث، للوصول إلى نظرية المساحات بوجه عام، والعملية دائما واحدة، فالرياضية تبدأ على الدوام بحالة بسيطة، هي حالة فردية، ثم تزداد تعقيدا بالتدريج حتى تصل إلى أعم الحالات، وفي هذه يقول ديكارت في الجزء الثاني من المقال في المنهج «... أن أمضي في أفكاري بالترتيب، بادئا بأبسط الأشياء وأيسرها معرفة، لأرتقي منها رويدا رويدا، وبخطوات تدريجية إلى معرفة أكثر الأشياء تركيبا.» والمثال الذي يورده ديكارت في كتاب «الهندسة» هو الانتقال من معادلة من الدرجة الأولى إلى معادلة من الدرجة الثانية. فأكتب معادلتين من الدرجة الأولى س = 2، س = 3 أو س − 2 = صفر، س − 3 = صفر، ثم اضرب كل طرف في الآخر، فتكون المعادلة الجديدة هي س
2 − 5س + 6 = صفر، وهي المعادلة التي ترجع جذورها إلى المعادلتين الأوليين. فالتحليل هو الانتقال من الدرجة العليا إلى الدرجة الدنيا، والتركيب هو العملية العكسية. (1) أرشميدس والرافعة
يقدم إلينا أرشميدس مثلا رائعا للتركيب في بحثه «اتزان المسطحات أو مراكز ثقلها». فهدف أرشميدس هو إثبات الخصائص العامة وللوصول إلى هذا الهدف يبدأ بحالة بسيطة؛ فالميزان رافعة يتساوى ذراعاها، ويحملان أوزانا متساوية.
فلنفترض ميزانا أ ب يحمل ذراعاه المتساويتان أ ج، ج ب، أوزانا متساوية موزعة باطراد على طول الذراع بأسرها، ثم أجمع في الذراع ج، وفي نقطة منها د، جزءا من الثقل الذي تحمله تلك الذراع.
ويظل الجهاز كله متزنا إذا كان مركز ثقل الأوزان المتجمعة، أي د في وسط أ ج، الذي يعبر بوحدات الطول، عن قيمة وحدات الوزن المتجمعة. وعندئذ أجمع بقية الأوزان، التي يعادل مجموعها ه ب فإذا حرصت على تركيزها في مركز ثقلها، أعني في و، وهي منتصف ج ب. فإن الذراعين د ج، ج و يظلان متزنين، على أنهما عندئذ يحملان أوزانا تعادل النسبة بينهما النسبة بين ج و ، د ج. وبالتركيب تكون هذه النسبة معادلة لنسبة أ ه إلى ه ب. على أن أ ه = أ ب − ه ب أي 2 ب ج، − 2 ب ه أو 2 (ب ج − ب و) أي 2 ج و.
و ه ب = أ ب − أو 2 أ ج − 2 أو 2 (أ − أ د) أو 2 د ج. وهكذا نصل إلى تساوي النسب الآتية:
وبهذا نكون قد برهنا على النظرية العامة في الرافعة من خلال حالة فردية هي الميزان.
وهذا البرهان المشهور هو المثال النموذجي للتركيب. وقد استخدم أنموذجا لعلم «الاستيتيكا» التقليدية التي تكونت عندما توصل المهندس البلجيكي سيمون ستيفن
Simon Stevin (1548-1620م) إلى رد توازن ثقل على مستوى مائل إلى توازن واضح بالتماثل، وعندما أكمل ديكارت بحوث أرشميدس وستيفن، فقدم برهانا عاما على توازن الأثقال في الآلات البسيطة، بأن أعلن ببساطة أن «نفس القوة التي تستطيع رفع ثقل وزنه 100 رطل مثلا إلى ارتفاع قدمين، يمكنها أيضا أن ترفع ثقلا وزنه 200 رطل إلى ارتفاع قدم واحدة، وآخر وزنه 400 رطل إلى ارتفاع نصف قدم ، وهكذا دواليك.»
7 (2) الاستنباط والتركيب
التركيب هو الصورة الكاملة للاستنباط والاستنباط القياسي، كما قلنا، يمكن تفسيره تبعا للماصدق أو تبعا للمفهوم، غير أن الماصدق هو نتيجة المفهوم وعلامته الخارجية، ذلك لأن اللفظ لا «يصدق» على فئة معينة من الأفراد، تؤلف مجموعة متميزة بخصائص معينة، إلا لأنه يعبر عن «مفهوم» هذه الخصاص. وإذن فتفسير القياس على أساس المفهوم يبدو أقرب إلى الصواب، وهو الذي يعبر عن دلالته الحقيقة خير تعبير. على أن الصفات التي تكون المفهوم هي محاولات لتحديد علاقات؛ فصفة «الإنسان» إذا ما أجيد فهمها، كانت «طبيعة» أي مجموعة معينة من «القوانين»، وبالتالي من «العلاقات» فالعلاقة ( (rapport) ) هي عصب الاستدلال.
وإذن فالاستنباط القياسي هو مجموعة من العلاقات، أي هو تركيب، والشيء الذي ينقصه حتى يبلغ كمال التركيب الرياضي هو تكوين فكرة واضحة عن هذه العلاقات.
ولم يفت ديكارت أن يستلهم القياس المدرسي في بناء منهجه. وكل ما في الأمر أنه عاب عليه كونه عملية للعرض لا تفترض حتى مجرد المعرفة الحقة للأشياء التي يتحدث عنها المرء، لهذا كان يفضل التركيب على القياس.
ولكنه كان يؤثر على التركيب، التحليل الذي أسميناه (على حد تعبير فيت
Viètè ) بالتحليل البرهاني
وهو كما يقول ديكارت، يدل على الطريق الذي ابتدع به الشيء منهجيا؛ أي على نشأته العقلية. ولقد كان كتابه «التأملات» الذي عرض فيه ميتافيزيقاه، كتابا تحليليا كما قلنا على أنه قد عرض التأملات عرضا تركيبيا أيضا، في الإجابات على الاعتراضات الثانية بناء على طلب نقاد معينين وإن يكن هذا العرض أقل قيمة من الأول بكثير، كذلك كان التنظيم التركيبي هو الذي اتبعه اسبينوزا
8
في كتاب الأخلاق.
9
وهو الكتاب الذي عرض فيه مذهبه والذي كان من مؤلفاته المخلقة، فهو يبدأ من الله، وهو الموجود المطلق، والجوهر الذي لا تكون بقية الأشياء سوى تعبيرات عنه، أو كما يقول هو، أحوال له (القسم 1) ثم يأتي بعد ذلك العقل (قسم 2) ثم الانفعالات (قسم 3) التي تفسر بها عبودية الإنسان (قسم 4)، وأخيرا يعرض الكتاب وسائل تحرير الإنسان ونتيجته (قسم 5). ولكن مما يريح المرء أن يهتدي من آن لآخر إلى «تعليقات» أن ملحوظات تقطع التنظيم التركيبي، وتوضح ما أراد المؤلف أن يفعله والهدف الذي اتجه إليه.
الحدس
وهنا تواجهنا مشكلة معرفة ما إذا كان التفكير العقلي لا يخرج عن الاستدلال، وما إذا كان هذا التفكير بأكمله مقاليا متدرجا.
أليست هناك وظيفة ذهنية أخرى لها خصائص مضادة لخصائص الاستدلال؟ مثل هذه الوظيفة، لو وجدت تسمى «بالحدس» وهي تتسم بالصفات الآتية: (1)
الاستدلال «توسط»؛ فهو يسير بناء على ما كان أرسطو يسميه «بالحد الأوسط» والاستدلال يتقدم ويبرر دائما عن طريق روابط مثل «لأن» أو «ما دام». أما الحدس فيكون عندئذ «مباشرا»، أي ينطوي في ذاته على ما يبرره، بحيث «يرى» المرء (في اللاتينية
intueri ) مباشرة علة الشيء نفسه، ويكفيه أن يرى الشيء ليفهمه ويؤكد وجوده. (2)
وإذا كنا قد ذكرنا من قبل أن الاستنباط الرياضي ليس «صوريا»، بمعنى أنه لا يمكن فصل العملية التي يتكون بها عن مضمونه، فإن الاستدلال صوري دائما، بدرجات متفاوتة، بمعنى أنه ينطوي على عملية آلية، وبالتالي له درجة معينة من «الشمول». أما الحدس فأساسه «النوعية» و«الفردية»، أي أنه ينطبق تماما على موضوعه، ويعبر، تبعا لاختلاف طبيعته، عن اختلاف الأشياء (وهو في هذا أيضا يشابه النظرة التي تضفي على الأشياء صبغة فردية). (3)
والاستدلال مقالي متدرج، كما قلنا. فهو محدد الأجزاء، يقبل التفكيك، ويمكن التعبير عنه بالكلام. أما الحدس فلا يمكن التعبير عنه بل لا يمكن ترجمته بالألفاظ إلا على نحو غير مباشر، وبالمجاز أو الرموز، مثله في ذلك مثل الموضوع الخاص بالإبصار، وهو اللون الذي لا يمكن تعريفه أو تفسيره، بالنسبة إلى من ولد أعمى على سبيل المثال، إلا عن طريق المجاز.
والمشكلة التي تعرض لنا الآن هي أن نعرف إن كان الحدس، بالمعنى الذي عرفناه، هو حقا إحدى عمليات التفكير. ولهذا السؤال وجهان: فهل يوجد حدس؟ وهل للحدس طبيعة عقلية؟ (1) حقيقة الحدس
السؤال الأول يستدعي جوابا سريعا بالإيجاب. فإذا كنا قد استطعنا تحديد خصائص الحدس بمثل هذه الدقة، فهناك احتمال كبير في أن يكون نوعا من أنواع المعرفة الفعلية. ولا بد أن يكون الاستدلال في حاجة إلى أن تتضافر معه وظيفة مضادة له، تعوض نواحي النقص فيه.
أما السؤال الثاني فهو الشائك حقيقة. وإجابتنا عنه تتوقف على تحديدنا لكنه العقل، ولما يعرف بأنه «معقول». فمن أيسر الأمور أن نعرف العقل بأنه الاستدلال، وعندئذ يكون الجواب بالنفي ضرورة، والأفضل أن يعرف العقل بأنه ملكة المعرفة التي تجد في العلم أنقى وأكمل تعبير عنها.
ولنذكر، بوجه خاص من الفلاسفة الذين أجابوا عن السؤال الثاني بالإيجاب، اسبينوزا: ولقد كان اسبينوزا في هذه المسألة مخلصا لتعاليم ديكارت، فديكارت لم يكن ينظر إلى الاستدلال (الذي كان يسميه بالاستنباط، وأحيانا بالاستقراء) إلا على أنه تنمية أو اكتساب للحدس، وبالعكس كان الحدس عنده تركيزا للاستدلال.
على أن سبينوزا يميز بين أنواع ثلاثة للمعرفة، وقد ضرب لشرحها مثلا، فلنفترض أننا نبحث عن حد رابع في تناسب، أعني عن الطرف الأخير في نسبة نعرف حدودها الثلاثة الأولى: أ، ب ، ج ونريد العثور على الحد الرابع س، (1)
فالمعرفة من النوع الأول التي يبدأ اسبينوزا بوصفها، ويسميها بالظن (مثل أفلاطون) أو بالخيال (مثل ديكارت) تنحصر في أن نستقرئ بناء على أمثلة سبق أن مرت بنا (وتسمى بالتجربة التائهة
expériéncé errante
وهو تعبير بيكن) أو بترديد قواعد محفوظة عن ظهر قلب، ومنقولة عن المعلمين (وتسمى بالمعرفة السماعية) وعندئذ ندرك، بعد أن تعلمنا (أو اكتشفنا العملية بعد محاولات) أن الحصول على قيمة س يكون عن طريق ضرب ب في ج وقسمة الناتج على أ. (2)
أما «المعرفة من النوع الثاني» فيسميها اسبينوزا
ratio
أي العقل، أو على الأصح الاستدلال، فنحن نعلم «برهان» النظرية القائلة أنه في التناسب يكون حاصل ضرب الطرفين مساويا لحاصل ضرب الوسطين، وهي القضية التاسعة عشرة من الكتاب السابع لإقليدس وإذن فإن أ س = ب ج إذن س = (ب ج)/أ وتلك هي نفس العملية السابقة ولكننا نعرفها بطريقة مختلفة، أو أننا نعرفها فحسب. (3)
وأخيرا، «المعرفة من النوع الثالث» التي يسميها اسبينوزا بالمعرفة الحدسية
scientia intuitiva
وهي معرفة لا يمكن أن تنطبق على المسألة التي اتخذناها مثالا إلا إذا كانت هذه المسألة تنطوي على أعداد بسيطة.
فلنفرض أننا نبحث عن العدد الرابع المتناسب مع الأعداد الثلاثة 1، 2، 3. فإذا ما وضعت المسألة على هذا النحو 2/1 = 3/س استطعت أن أدرك مباشرة و«بالحدس» دون أن أمر بالاستدلال، أن س = 6. فالحدس هنا هو المعرفة النوعية، الفردية، بالعلاقة 1 / 2 وهي تمكن من تكملة الكسر 3 /6 بطريق مباشر.
ومن هذا نرى أن الحدس عند اسبينوزا هو الوظيفة العقلية الكبرى، وأن العقل يجد في الحدس أعلى صورة وأكملها.
باسكال يضع الحدس والقلب مقابل العقل والذهن
ولكن من الفلاسفة من يعدون الحدس طريقة للمعرفة خارجة عن مجال العقل. وأساس رأيهم هذا هو التمييز الشائع بين «العقل» والقلب. فالقلب نوع من المبدأ الباطن الذي يتميز عن العقل أو الذهن، وهو مع ذلك مبدأ للمعرفة. فعندما نقول عن شخص «إن قلبه دليله.» نعني أنه يفهم أشياء معينة أو أشخاصا معينين بطريقة أخرى غير العقل. وفي هذا يقول «فوفنارج
Vauvenargues » إن أعظم الأفكار «تأتي من القلب».
وهذا التمييز الشائع يوضح لنا مذهب الفلاسفة الذين يقابلون بين العقل والحدس. وسنضرب لهما مثلا بباسكال
فكلمته المشهورة: «للقلب أسبابه التي لا يعرفها العقل.»
10
تجري على كل لسان. وليس معنى هذه الكلمة أن الانسياق وراء العاطفة، عند ذوي الانفعالات العنيفة والمشاعر الحساسة، يخرس نداء العقل، وإنما تعني أن القلب مصدر لمعتقدات لها براهينها الخاصة، التي تخرج عن نطاق العقل.
ذلك بأن العقل؛ أي الاستدلال، يستخلص استنباطاته وبراهينه من مبادئ معينة. فما مصدر هذه المبادئ؟ يقول باسكال «إنه القلب». فنحن لا نعلم الحقيقة بالعقل وحده، بل بالقلب أيضا، وبهذا المصدر الأخير نعرف المبادئ الأولى.
فعلى هذه المعارف القلبية والغريزية يجب أن يرتكز العقل، وعليها (يجب أن يبني كل مقالة أو بعبارة أخرى الحلقات التي يتدرج بها تفكيره المقالي) ويضيف باسكال إلى ذلك قوله: «إن القلب يحس أن للمكان أبعادا ثلاثة، وأن الأعداد لا متناهية.»
11
والقول إن للمكان ثلاثة أبعاد هو من مصادر الهندسة في المكان كما أن الرياضيين يقولون إن الأعداد الصحيحة يمكن تكوينها إلى ما لا نهاية، وكذلك الجذور الصماء، التي تحسب بالصيغة العشرية، تنطوي على عدد لا متناه من الحدود. فالرياضيات إذن تفترض ما يمكن أن يسمى شعورا باللامتناهي. وهذا الشعور لا يأتي من العقل. وقد اهتدى باسكال إلى حل مسائل في حساب اللامتناهيات دون إيضاح الأسس العقلية لهذا الحساب: «فنحن نعلم بوجود اللامتناهي ونجهل طبيعته.»
12
فأساس المعرفة العلمية إذن وظيفة يجب أن تنسب إلى القلب. وهذا يصدق، بالأحرى، على المعرفة الميتافيزيقية. لهذا كان باسكال يعتقد أنه ليس ثمة ميتافيزيقا سوى الدين، وأن الإيمان وحده هو الذي يوصل إليها، بل إننا لا نستطيع أن نبني أبسط أحكام الواقع على العقل. ومن هنا لم يكن الشكاك البيرونيون (نسبة إلى بيرون
) على خطأ حين شكوا في وجود العالم الخارجي. ومع ذلك، فعلى الرغم مما يقولون: «فإننا نعلم أننا لا نحلم.» وهذا اليقين مصدره «القلب والغريزة». فإذا «كنا نعجز عن البرهان، بحيث لا يخلصنا من هذا العجز أي مذهب توكيدي (والمقصود بهذه الكلمة، المذهب العقلي عند ديكارت مثلا) فإن لدينا فكرة عن الحقيقة، لا يزعزعها لدينا أي مذهب شكي.»
13
ومن هنا كانت المعرفة العقلية عاجزة بالأحرى عن أن تكشف لنا «مجال الفضل الإلهي» «فالمسيح والقديس بولس ينتميان إلى مجال الفضل الإلهي، لا إلى مجال العقل، إذ إنهما أرادا بعث الحرارة، لا تلقين التعاليم. كذلك كان القديس أوغسطين؛ وأساس هذا هو الرجوع في كل مسألة ردها إلى الغاية النهائية من أجل إيضاحها.»
14
وكما أن القلب «يثيرنا» نحو الإحساس، فهو يؤدي بنا أيضا إلى الحب الإلهي: «إن القلب هو الذي يستشعر الله، لا العقل. وحقيقة الإيمان هي تكشف الله للقلب لا للعقل.»
والأمر الجدير بالملاحظة أن النزعة العقلية قد تخطت العقبة التي تصورها باسكال عقبة كأداء، إذ إنها صبغت اللامتناهي بصبغة عقلية، وبذلك أدمجت اللامتناهي في العقل. فقد أدت جهود ليبنتز ونيوتن (حوالي 1670-1675م) إلى إدماج حساب التفاضل والتكامل في المذهب الديكارتي، وإلى القضاء على الطابع اللامعقول الذي كان يضفى على اللامتناهي في الصغر، حين كان يضرب في عدد لا متناه، فيكون الناتج كمية متناهية. وهذه العملية الممتنعة يحل محلها حساب الحدود المتغيرة في المعادلات، والدالة الأولية. والحد المتغير هو القيمة الحدية لنسبة ما، وهي القيمة التي تظل صحيحة في كل صورها المتعاقبة.
مذهب برجسون، فلسفة للحدس
والآن سندرس فلسفة أخرى للحدس، تكاد تكون معاصرة، وهي فلسفة برجسون (1859-1941م) التي تأبى أن تعزو إلى المذهب العقلي في علم الطبيعة الرياضي القدرة على فهم اتصال الظواهر النفسية والحيوية وتطورها، وتقصر معرفتها على الحدس الخارج عن مجال العقل. (1) العقل في رأي برجسون
يرى برجسون أن العقل طريقة للمعرفة أساسها التدرج المقالي. وهو يقتطع الواقع إلى أجزاء، تدخل عليها ألفاظ عامة مجردة، يجمعها العقل بإرشاد التجربة. ففي الإدراك الحسي مثلا يدرك العقل أشياء. أو على الأصح نماذج لأشياء يهتدي إليها فيما بعد على صورة تكاد تكون مماثلة لها (كالقلم أو الورق) ويمكن استخدامها من جديد لتفسير إدراكات حسية أخرى، وهو يجمعها في مجموعات يعبر عنها بأحكام مثل: أكتب بالقلم على الورق، ولعملية الاقتطاع والجمع الذهني هذه هدف نفعي وعملي، لأن من يدرك حسيا يهدف إلى التعرف على الأشياء ليستطيع الإفادة منها.
فالهدف الأساسي للعقل البشري إذن هو المعرفة النفعية. وهو إنما يميز القلم والورق حسيا لكي يتمكن من التدوين بالقلم على الورق، وقد بين برجسون أن الإنسان عاقل
homo sapiens
بقدر ما يستطيع الإفادة من أشياء بوصفها أدوات له، وأنه عاقل بهذا المعنى ذاته. والأهم من ذلك أنه يستطيع صنع أدوات: فهو إنسان صانع
homo faber
وهذا هو بعينه ما يميزه عن الحيوان. وإذا كانت بعض الحيوانات تقترب منه في عقلها فما ذلك إلا لأنها تستطيع أن تميز أدوات، وأن تستخدمها في حالات معينة بسيطة.
وإذن، فدور العقل ورسالته هي قبل كل شيء وظيفة الصنع
fonction fabrcatrice
أي تشكيل الأدوات واستعمالها، ووظيفة التفكير المقالي المتدرج تنتج عن هذه؛ فهي إدراك أشياء ينطوي تركيبها على نوع من التشابه، وقدر من الدوام، ويمكن استخدامها والانتفاع منها. ففي الدرجة الأولى يأتي صنع الأدوات واستخدامها . وفي الدرجة الثانية تأتي الأفكار المجردة العامة، والتفكير اللغوي، وجمع الكلمات في قضايا وجمل.
والعقل العلمي هو أعلى صور هذه الملكات العملية المتواضعة، إذن ما العلم؟ إنه معرفة قوانين الطبيعة. على أن القانون هو تعاقب للحوادث يدركه المرء وسط التيار المعقد للظواهر الطبيعية، وهنا نجد فكرة عامة عن التجربة العلمية، متشابهة تماما لفكرة جون ستيورت مل.
15
فإدراكنا لقانون ما، هو أن «نستقرئ».
واستقراؤنا لا يعني إلا أن نجرد، أي أن نقتطع بالفكر تعاقبا محددا من تصورنا المعقد للظواهر؛ فقولنا مثلا إن الماء يغلي في درجة 100o تحت ضغط 76سم من الزئبق، معناه أن نعزل بالفكر المجموع الذي يكونه الوعاء الممتلئ ماء فوق الموقد، ومقياس الحرارة وأنبوبة الضغط الجوي.
وبالمثل يدل «الاستنباط» على التعميم أي أن ننقل بالخيال تجمعا فكريا سبق عزله إلى مجموع جديد. فالبرهنة على نظرية فيثاغورس مثلا معناها أن ندرك، في المثلث القائم الزاوية الذي نسقط فيه عمودا من الزاوية القائمة على الوتر، مثلثات داخلية قائمة الزاوية نعرف على التو أنها مشابهة للمثلث الأصلي والبرهنة على هوية ما، هي أن ندرك فيها هويات أخرى سبقت البرهنة عليها.
ومن هذا ينتج أن الذكاء ليس إلا القدرة على التجريد والتعميم. وأن المعرفة العلمية لا تتجاوز تكوين التصورات. فهو بأسره آلي وفني عملي أو صناعي إن جاز هذا التعبير. وهو يدع جانبا كل ما هو رفيع، وجريء، وتجديدي ومنزه، أعني أنه يغفل كل ما يتصف به «التفكير» الصحيح من عمق وإنكار الذات.
ذلك لأن التفكير ليس هو الذكاء، ومهمة الحدس الحقيقية هي أن يملأ الهوة بين التفكير والذكاء. فالحدس هو العنصر الذي يتجاوز العقل في التفكير. (2) الحدس والشعور
الحدس، كما يقول برجسون هو «رؤية الروح للروح مباشرة، فالحدس إذن يعني الوعي المباشر أولا، والرؤية التي لا تكاد تتميز عن الشيء المرئي، والمعرفة التي هي وعي، بل في اندماج.»
وإذن فبينما يظل العقل خارجا عن التفكير بمعناه الصحيح، ومتجها بأسره نحو المادة، ومتكيفا معها، فإن الحدس هو معرفة للتفكير الصحيح وهو شعور حقيقي أساسي .
وهو يصل في لمحة واحدة إلى تفكير الآخرين، ويتعاطف معه، ويواصل برجسون وصفه للحدس قائلا: «ألا يمضي الحدس إلى أبعد من ذلك؟ أليس هو حدسنا لأنفسنا؟ الحق أن الفارق بين وعينا ووعي الآخرين أقل حدة من الفارق بين جسمنا وأجسام الآخرين، إذ إن المكان هو الذي يحدث التقسيمات الحاسمة. وأن التعاطف أو التنافر التلقائيين، اللذين تصدق نبوءتهما في الغالب، يشهدان بإمكان تداخل الوعي بين مختلف الناس.» (3) الحدس والحياة
وفي موضع آخر يقول برجسون: «إن العقل يتصف بأنه عاجز بطبيعته عن فهم الحياة.»
16
فنحن نعلم أن الحياة هي «تقدم في السن»، أي أنها ترتبط بالزمان ارتباطا وثيقا.
17
ولقد أطلق برجسون على هذا النوع الخاص من العلاقة بالزمان اسما مميزا، هو «الديمومة
durée » ففي حين أن الزمان بمعنى الكلمة لا سلطان له على المادة الغفل التي لا تخلق شيئا ولا تفقد شيئا، ولا يتقدم بها السن، فإن الديمومة من صفات الحياة، لهذا يتطور الأحياء، أي يتغيرون تغيرات أساسية تبعا للزمان، وهذا التطور «خالق» بمعنى أنه يجدد ويأتي بجديد، وينتهي إلى صور جديدة في جوهرها. على أن العقل والمعرفة العلمية للحياة، لا يدرك كنه هذا التطور الخالق، وهو لا يلاحظ منه إلا شروطه المادية ونتائجه، على حين أن الحدس، الذي يدرك زماننا الوجودي، والتفكير الفعال المجدد، لديه استعداد طبيعي لفهم الحياة. لهذا واصل برجسون كلامه قائلا: «ولكن هل يقتصر تعاطفنا على الأذهان الواعية وحدها؟ وإذا كان كل كائن حي يولد، وينمو، وإذا كانت الحياة تطورا، وإذا كانت الديمومة تعد حقيقة في هذا المجال، أفلا يكون هناك أيضا حدس بما هو حي، وبالتالي ميتافيزيقا للحياة، تكون امتدادا لعلمنا بالحياة؟»
ومن هنا كان تقريب برجسون بين الحدس والغريزة. فالغريزة عنده تفكير يجهل ذاته، ولكن يحاكيه الحدس، بمزيد من الوعي على الأقل. ذلك لأن في الغريزة ما يعادل المعرفة العميقة بالحياة، وبالحياة في مجموعها، ما دام الأحياء - كما تقول النظرية التطورية - ليسوا إلا كائنا حيا واحدا بمعنى ما.
18 (4) الحدس والروحية
هذه المقارنة بالغريزة لا تهدف بالطبع إلى تمجيد الغريزة؛ بل ترمي إلى بث الثقة في نفوسنا بقوة الحدس، ويستخدم الحدس هذه القوة في غايات روحية، إذ إنه لما كان شعورا بالتفكير فإنه يدرك الروح في جوهرها، الذي هو «الخلق». فالعقل «يتمثل الجديد عادة على أنه تنظيم لعناصر موجودة من قبل فلا شيء يفنى أو يخلق في نظره، أما الحدس فيرى، ويعلم أن الروح تستخلص من ذاتها أكثر مما فيها، وأن هذا الأمر بالذات هو قوام الروحية.»
19
وإذن فلن يدهشنا أن نرى أن الحدس هو جوهر الشعور الجمالي والشعور الديني.
20
ذلك لأن الانفعال الجمالي إنما هو تعاطف، والشعور الديني هو الشعور بالاتحاد مع المبدأ الخالق للعالم، فهو «متعة في المتعة، وحب لما لا يكون إلا حبا.»
21
وبالاختصار، فبينما يبني العقل الأساليب الفنية العملية والعلم، فإن الحدس هو الملكة المميزة للفن، وللميتافيزيقا، وللأخلاق وللدين.
النزعة العلية والبرجسونية
لن يتسنى لنا أن نعالج في هذا المجال المشكلة الضخمة التي أثارها برجسون، أعني مشكلة العلاقات بين العقل والقلب، إن جاز هذا التعبير. ولن نبحث هنا إلا في التفكير العلمي. والوجه الوحيد الذي يهمنا في المشكلة هو: هل التفكير العلمي في حاجة إلى نوع من المعرفة الحدسية؟ وإن كان الأمر كذلك فهل هذا النوع أعلى من المعرفة العقلية؟ (1) حقيقة الحدس
لن نجد صعوبة كبيرة في الإجابة عن السؤال الأول، ويمكننا أن ندرك، دون مشقة الدور الذي يؤديه الحدس في العلم.
ومن المفهوم بالطبع أن كلمة الحدس يجب ألا تدل، في هذا الصدد، على الإدراك الحسي والخيال، كما يحدث في أحيان كثيرة، ومن هذا القبيل تفرقة هنري بوانكاريه بين طائفتين من علماء الرياضة: أولئك الذين هم منطقيون بفطرتهم وأولئك الذين هم «حدسيون»، أي يحتاجون إلى «رؤية» الأشكال، في الواقع أو في الخيال، فليس هذا هو المعنى الذي نقصده.
وهاك الطريقة التي نعتقد أنها توصل إلى الكشف عن الحدس، وذلك بالتساؤل عما يعنيه «فهم استدلال»، كالاستدلال الرياضي مثلا، فيبدو لنا الإدراك العقلي لأي استدلال ينطوي على أربعة أفعال متميزة: (أ)
تتبع خطوات الاستدلال، والتأكد دائما من أن المرحلة الجديدة تتلو المرحلة السابقة. (ب)
تأمل تركيبه وشكله العام، وتصميمه الأصيل الفريد. (ج)
إدراك هدفه، والغاية المقصودة منه. (د)
الوقوف على علاقته بالموضوع، بحيث يدرك المرء، ولو على نحو غامض، الاستدلالات الأخرى الممكنة التي تتعلق بالموضوع.
على أن العملية الأولى هي وحدها التي تعد مقالية متدرجة بحق، أما الأخريات فهي عمليات حدسية بالمعنى الصحيح. ففي الرياضيات مثلا، يستطيع أي شخص أن يقوم بالعملية الأولى، ولكن هؤلاء الذين توافر لديهم «الحس الرياضي» و«الذكاء» في الرياضة، هم وحدهم القادرون على القيام ببقية العمليات. والذي لا شك فيه أن «الحس الرياضي» إنما هو حدس لأن من الجلي أنه صورة خاصة من صور الذكاء.
وإذن فلكي يفهم الاستدلال على حقيقته، يقتضي نوعا من أنواع الذكاء ليس استدلاليا بالمعنى الدقيق، وهذا النوع هو الحدس.
وواضح أن مثل هذا يمكن أن يقال عن وضع الاستدلال أو اختراعه.
ومن الجلي أيضا أن للحدس من الصور بقدر ما له من الموضوعات؛ فكما أن هناك حسا رياضيا، كذلك يوجد حس بيولوجي، ونفسي وجمالي وميتافيزيقي. وليس في وسعنا أن نحدد صفات كل صورة من هذه الصور، ولكن للقارئ أن يحاول ذلك بنفسه.
فالحدس إذن هو في نظرنا الروح التي توجه الاستدلال تبعا لموضوعه. (2) دفاع عن المذهب العقلي
وهنا تعرض لنا مسألة أكثر تعقيدا من السابقة، تؤدي بنا إلى اتخاذ موقف مضاد لبرجسون، ندافع فيه عن المذهب العقلي، والمذهب العقلي هو ذلك الذي يدمج في العقل كل الوظائف الذهنية، حتى اللذة والألم، والميول، والإرادة ولكنا لن ننظر هنا إلى هذا المذهب إلا من جهة اتصاله بمشكلة الحس. فهل الحدس وظيفة عقلية؟ سنجيب عن هذا السؤال بالإيجاب، وفيما يلي ما نراه لذلك من أسباب: (1)
فقد بينا منذ قليل أن الحدس وسيلة للفهم ما دام الاستدلال لا يفهم دونه تمام الفهم. (2)
وقد برهنا على ذلك دون أن نخرج عن نطاق العلم، وعن نطاق العلم الرياضي بوجه خاص، وهذا دليل آخر على أن للحدس بالفعل طابعا عقليا.
ولقد كنا نستطيع أيضا أن نلجأ في البرهنة على ذلك إلى علم الطبيعة، وذلك بأن نمضي على النحو التالي؛ فقد بينا من قبل أن الظاهرة العلمية يجب تفسيرها، وأن هذه العملية تحتم الالتجاء إلى العلم الذي تم اكتسابه وتكوينه، فالظاهرة الواحدة التي نلاحظها تتضمن العلم كله، بدرجات متفاوتة، ويترتب على ذلك أن المرء لا يجري التجربة لكي يحقق قانونا بالمعنى الصحيح، وإنما لكي يحقق «العلم بأسره» فلنفرض أن جواب الطبيعة كان بالنفي، أي أن التجريب قد كذب القانون، عندئذ يجب تغيير النسق، فأي جزء من النسق هو الذي يجب تغييره؟ إن الطبيعة لا تحدد لنا هذا الجزء. فهنا يجب أن تتدخل خاصة، أعني صورة معينة من صور العقل، هي «حدس» يتخذ قراره بحرية، ودون أي ضغط من جانب الطبيعة ولكن دون تحيز أيضا؛ ففي حالات معينة، قد يكون القانون المراد تحقيقه هو الذي يجب تعديله، وفي حالات أخرى، قد تعدل النظرية بأسرها، بل قد توجب حالات يتحتم فيها إعادة العلم بأسره إلى بوتقة الاختبار، ليحدث انقلاب شامل فيه. وهذا ما حدث حين قرر كبرنك وجاليليو أن يراجعا علم الفلك، بل الميكانيكا بدورها، مراجعة شاملة.
ولقد كان علماء الطبيعة القدماء يقولون بضرورة عدم الإكثار من الكائنات
entia
دون موجب. والمقصود بالكائنات هنا مبادئ التفسير، أي إن التفسير يكون أصلح إذا كان ينطوي على مبادئ «أقل». وتلك «قاعدة حدسية» وليست مبدأ للاستدلال، إذ إن الاستدلال يؤدي وظيفته، سواء أكانت المبادئ كثيرة أم كانت قليلة. (3)
يكتمل الدليل على صحة المذهب العقلي إذا أمكننا أن نبين أن هناك عملية حدسية تتدخل في كل صور التفكير المقالي المتدرج. وبالفعل توجد هذه العملية، ويمكننا تعريفها على حدة؛ فهي عملية تصور العلاقة. (3) فهم العلاقة
قلنا إن الاستقراء عملية تمهيدية لا تزودنا بمعرفة عن الأشياء، وأن الوصول إلى العلم الحقيقي لا يكون إلا بالتحليل. على أن التحليل إنما هو تحديد للعلاقات الخفية المكونة للشيء؛ فهو يفترض استشفافا وفهما لهذه العلاقة، والعلاقة ليست شيئا؛ بل تصور لضرورة «تربط» بين الأشياء، ومن ثم فلها طبيعة الفكر. لهذا كان العقل يدركها ويتخذها موضوعا خاصا له؛ إذ هي من نفس طبيعته. فالتعبير الرياضي لا ينطوي إلا على علاقات والقانون علاقة.
وإذن، فالعقل في التحليل والتركيب هو في أساسه التفكير في العلاقات، ولكن معنى ذلك أنه يفي بشرطين عزاهما برجسون إلى الحدس، إذ إن: (1)
الإحساس بالديمومة ليس إلا الشعور بالعلاقة بين الماضي والحاضر، وبالفارق بينهما، وبما قدمه الأول إلى الثاني. وإذا كان هذا الإحساس إبداعا خالقا، فذلك لأن للعلاقات بطبيعتها - متى أدركناها عن وعي - القدرة على أن تولد عن طريق التركب علاقات جديدة أعقد منها. (2)
والشعور بالتفكير هو صورة من صور العقل أرفع من هذه. فإذا كان العقل هو التفكير في العلاقات، فحسبه أن يكمل ذاته ليدرك في العلاقة التفكير ذاته، ما دمنا قد قلنا فيما سبق أن العلاقة لها نفس طبيعة التفكير.
فالحدس إذن صورة للعقل العلمي وقد بلغ مزيدا من الكمال.
خاتمة
للعلم عند الإنسان قيمة لا تقدر، وحين نقول ذلك، فنحن نسقط من حسابنا ما حققته الصناعة، وعلم الصحة، والطب، من قوة ورخاء للإنسان باستخدام الكشوف العلمية؛ ذلك أولا لأن قيمة هذه الكشوف تتوقف على طريقة انتفاع الإنسان بها، فقد يستخدمها في إفناء بني جنسه، أو في جعلهم ينغمسون في حياة تخيم عليها سعادة تافهة عقيمة، قد تنتهي بهم إلى أن يفقدوا شعورهم ذاته بتفاهة هذه الحياة. ثم إن الكشوف ذاتها لا تعدو أن تكون وسائل، كما قال بوانكاريه: «فمما لا شك فيه أن من الواجب علينا أن نسعى أولا إلى تخفيف بؤس البائسين ولكن من أجل أي هدف؟ إن عدم التألم غاية سلبية، تتحقق قطعا بطريقة أكمل عن طريق إفناء العالم، فإذا كنا نسعى إلى أن نكسب الإنسان مزيدا من التحرر التدريجي من الحاجات المادية فما ذلك إلا لكي يستطيع استخدام الحرية التي سيكتسبها في دراسة الحقيقة وتأملها.»
1
وإنما الذي نعنيه هو الازدهار المعنوي الذي تلقاه الإنسان من العلم. فقد زاده العلم وعيا بالعالم، وأتاح له أن يمد نظرته العقلية إلى ما وراء الحدود التي تفرضها عليه الحواس، إلى حد لا نهاية له. فقد مكنه علم الطبيعة الفلكي وعلم الطبيعة الذري من ارتياد آفاق «العالمين اللامتناهيين» اللذين يتأرجح بينهما الإنسان، كما يقول باسكال، ثم إن العلم قد جعله أكمل شعورا بذاته. فقد كشف له عن العلاقات التي تربط الفرد والنوع بالبيئة البيولوجية والاجتماعية والتاريخية فازداد فهما لذاته، لأنه أدرك بصورة أكمل وأدق، موقعه في الوسط الذي يحيا فيه، وماضيه الحيواني والبدائي. وفضلا عن ذلك، فقد أجاد فهمه لطبيعته من حيث هو كائن مفكر، فالعلم لا يبارى من حيث هو شعور بالتفكير الإنساني. والتفكير الحقيقي، الذي يتكيف مع الأشياء، ويتحرر من الشوائب الحيوانية، ومن الأوهام الاجتماعية، هو التفكير العلمي.
وأخيرا، فقد دفع العلم الإنسان إلى نوع من الزهد، هيأه لممارسة أفضل حياة أخلاقية، وأصدق حياة دينية، ف «التحول عن الهوى البشري» الذي يقتضيه العلم، هو تهيئة لإنكار الذات والإخلاص. وهو من الناحية الأخرى خير طريق للوصول إلى ما هو إلهي. وإذا كانت تلك النظم الدينية الرائعة التي حققها الصينيون والهنود في عصر سقراط قد اضمحلت أو أدركها الفساد، فذلك إنما يرجع في رأينا إلى افتقارها إلى العلم الصحيح، الذي اضطر الشرق بمضي الزمن إلى البحث عنه في الغرب. أما التفكير المسيحي، وهو التفكير الديني للغرب، فلم يتولد بالتأكيد عن العلم، ولكنه يدين للعلم بالكثير من أجل بقائه ونقائه. فالمسيحية قد ألهمت ديكارت نزعته الروحية، وألهمت «كانت» صرامته الأخلاقية. ومذهبا ديكارت وكانت هما قبل كل شيء فلسفتان عمليتان.
وإذن، فإذا كان قوام الحكمة، كما يقول اسبينوزا، في شعور المرء بذاته، وبالعالم، وبالله، أمكننا القول بأن الحكمة لن تجد خيرا من العلم ظهيرا.
Unknown page