على المغتالين أخذا من اسم هذه الفئة، ولم يكتف الأمر عند هذا الحد، فإن هذه الثورات التي ذكرنها وأمثالها كشفت للمسيحيين عن ضعف المسلمين، فشجعت على الحروب الصليبية كما كشفت حملة مصر على العثمانيين، فأطمعت الأوروبيين فيهم.
نعم إن المؤرخين نسبوا الحروب الصليبية لجملة أسباب منها اضطهاد الحجاج المسيحيين للقدس، وسوء معاملتهم، ولكنني لا أنكر أن من أهم الأسباب في الحروب الصليبية التقارير السرية التي كان يكتبها القسس المتزيون بزي الحجاج ، والتي تبين ضعف المسلمين وتحث الصليبيين على انتهاز الفرص والهجوم على المسلمين، وأخذ البلاد منهم، ولولا أن قيض الله للإسلام محمود زنكي وصلاح الدين وبيبرس وأمثالهم لضاعت البلاد الإسلامية كلها؛ بسبب هذا الضعف الذي سببته الثورات: ثورة الفاطميين والموحدين والزنج والقرامطة والحشاشين.
ثورة البساسيري
هذه هي الثورات الكبرى المهدوية، وهناك ثورات صغيرة أخمدت في مهدها كثورة البساسيري، وهو رجل تركي كان مقدم الأتراك ببغداد، وكان القائم بأمر الله الخليفة العباسي قدمه على جميع الأتراك، وقلده الأمور بأسرها، وخطب له على منابر العراق وخوزستان، وهادنه الملوك فراسله المستنصر بالله الفاطمي، وأسر إليه أن يدعو بالمذهب الفاطمي في العراق وإذا هو فعل ذلك، وأزال الخليفة العباسي وعد بأن يكون والي الفاطميين على العراق، وأن يمنح جميع السلطان فقام البساسيري على القائم بأمر الله العباسي، وخطب للمستنصر بالله الفاطمي، وظل على هذه الحال حتى جاء طغرلبك السلجوقي وقابل البساسيري وقتله، وأعاد القائم إلى بغداد، وكان ذلك سنة 450ه. وعلى كل حال كان الشيعة يؤلفون حكومة بجانب الحكومة الرسمية من عهد علي، ويتقنعون بالتقية وهو مبدأ معناه التظاهر بعكس ما في الضمير حتى يجد صاحبه الفرصة، فكان رجال هذه الحكومة العلوية من عهد علي يؤلفون حكومة داخل الحكومة على رأسها إمام يظهر إذا دعا الحال، ويختفي إذا دعا الحال، وإذا ظهر بشر بالمهدي وادعى أنه مبعوث لملء الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما، وكانت سلطة الخلفاء الرسميين وقوتهم موزعة بين إدارة شئون البلاد واتقاء العلويين، شأنهم شأن الأحزاب اليوم نصف قوتهم تقريبا موجهة إلى إرادة مرافق الحياة، والنصف الآخر موجة إلى اتقاء شر المعارضين، ولو وجهت كل قوتهم لمصلحة البلاد لتغير وجه التاريخ. وكل حادثة من الحوادث تكون شوكة في جنب الدولة تهد من كيانها، وتهز من عرشها سواء انتصر فيها الخلفاء الرسميون أم انهزموا، وأخيرا وبعد طول الحوادث وكثرتها تنهدم الدولة. هكذا كان شأن الدولة الأموية مع العلويين، وخصوصا بعد مقتل الحسين فقد كان مقتله سببا لاستجلاب العطف على العلويين. ولما كبر أبناء الحسين عولوا على أخذ بثأر أبيهم، وظلت المجازر تنتشر على يد الخلفاء الأمويين، وظل العلويون يعملون في الخفاء ضد الأمويين، ويدبرون المؤامرات ويدسون الدسائس حتى سقطت الدولة الأموية، فلما جاءت الدولة العباسية ابتدأت موقفها بسفك دماء العلويين والأمويين معا، فكرههم العلويون واستعملوا معهم مبدأ التقية هذا، وبذلك ظل الحال كما كان في العهد الأموي، إمام يموت وإمام يقوم مقامه، وإمام يختفي وتبث الدعوة له ويذاع بأنه سيخرج لينتقم من الظالمين، وكلما انطفأت ثورة قامت مقامها ثورة، وساعد على نجاحهم أن العباسيين كانوا ظلمة لا يتحرون عدلا، ولا يقيمون للشعب وزنا، فكان الشعب نارا خامدة تنتظر من يشعلها، حتى من اتصف بالعدالة منهم فإنما عدالته نسبية، ولم يكن أحد منهم يعطف على العلويين، والشعراء يقفون ببابهم يمدحونهم ويذمون العلويين، والأئمة العلوية تزعم كل حين أنهم إذا ولوا أمور الرعية ساسوها بالعدل المطلق. وفرق كبير بين الدعوى والواقع، وقد شكا المأمون من هذا، فقد رأى أن الأئمة يختفون عن الأعين، ويرتكبون ما يرتكبون من الإثم ولا من يراهم ويعرف قيمتهم، فقال: إن من الخير للناس أن تظهر هذه الأئمة حتى يعرفوا زلاتهم، ولا يقدسوهم هذا التقديس، علما بأنهم إذا ظهروا على مسرح الحياة، وبان للناس كيف يحكمون وكيف يرتكبون ما حرم الله سقطوا من أعينهم، ولكن ما داموا مضطهدين مختفين مكتفين بالدعوة بقي العطف عليهم في الناس؛ ولذلك اعتزم أن يولي بعده عليا الرضا، كالذي حكى أن ملكا كان يطلب منه وزيره كل يوم مطالب للشعب، والملك يمانع فيها، فلما مات الملك وخلفه ابنه، وكان أعقل من أبيه ذهب إليه الوزير يطلب هذه المطالب، فقال الملك: «قد أجبتك إلى كل ما تطلب، فصرخ الوزير من هذه الإجابة؛ لأنه إنما علم أنه يعيش على الوهم والخداع، فإذا حققت مطالب الشعب كلها ذهب وهمه وخداعه وعلمت حقيقته.
هذا كله في العصور القديمة ...
البابية
أما في العصور الحديثة فليست فكرة المهدي فيها أقل شأنا مما كان في العهود القديمة، فمن حين إلى آخر كانت تظهر حركات ثورية يدعي القائم بأمرها أنه المهدي المنتظر، وسنذكر أهمها من غير استقصاء.
في نهاية القرن التاسع عشر ظهرت فرقة جديدة متطرفة تدين بالتشيع وبالإسماعيلية وبفكرة المهدية، وهي فرقة البابية.
وهي على النقيض من مذهب الوهابية. فلئن كانت الوهابية لا تعترف بالزمن وأثره، ولا بما ظهر من تقاليد الإسلام الجديدة وأوضاعه، فإن البابية ترمي إلى مسايرة الزمان، والنظر إلى الظروف الحاضرة، ولئن كانت والوهابية أيضا لا تؤله أحدا إلا الله ولا تقول: بعصمة أحد إلا الأنبياء، فإن البابية ترى - تأثرا بالنظريات الأفلاطونية الحديثة - أن للأئمة والدعاة فيضا إلهيا وقبسا من نور الله، ومكانا إلهيا، وأن المهدي والأئمة من بعده لهم عصمة الأنبياء. وأن الله يتجلى عليهم تجليا تدريجا يرتقي إلى أن يصل إلى العقل الكلي.
وعلى هذه العقائد ظهر، في البيئة الفارسية، شاب ورع اسمه «ميرزا علي محمد» الشيرازي، ولد سنة 1820م وكان تقيا عرفه معاصروه بالزهد والورع والتقوى، وشهد له أصحابه بالمواهب الممتازة والحماسة القوية للعبادة وأجلوه لذلك. فأثر هذا الجلال في عقل الشاب، واعتقد أنه مبعوث من الله لأداء رسالة دينية عالية، وأن العناية الإلهية اصطفته لتحقيقها، وأن رسالته هذه حتمية؛ لأن الزمان والبيئة يحتاجان إلى مبعوث جديد، فأعلن أنه «الباب» الذي يدخل الناس منه إلى الإمام المستور الذي هو مصدر لكل خير في العالم. ثم تطور الأمر عنده فاعتقد أنه فوق أن يكون مدخلا للإمام المستور، بل هو نفسه الذي يهدي العالم للحق، ويهديهم إلى سبيل الرشاد. وأعلن أنه المهدي الجديد المنتظر، وأن المهدي المنتظر حل فيه حلولا ماديا جسمانيا، كما كان من أمر الحلاج في اعتقاده أن الله حل فيه، إذ كان يقول: «ما في الجبة إلا الله»، وكما كان يقول:
Unknown page