فصل لكاتبه في مثله: ولست أقابل أياديك ولا أستديم إحسانك إلا بالشكر الذي جعله الله جل وعز للنعم حارسًا وللحق مؤديًا وللمزيد سببًا.
وقيل لرسول الله، ﷺ: أليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا! وفي الحديث أن رجلًا قال في الصلاة خلف رسول الله، ﷺ: اللهم ربنا لك الحمد حمدًا زاكيًا طيبًا مباركًا فيه. فلما انصرف رسول الله، ﷺ، قال: أيكم صاحب الكلمة؟ قال أحدهم: أنا يا رسول الله. فقال: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرون أيهم يكتبها أولًا، وقيل: نسيان النعمة أول درجات الكفر، ولابن المقفع:
مننت على قومي فأبدوا عداوةً ... فقلت لهم كفؤ العداوة والشكر
وقال آخر:
ألا في سبيل الله وُدٌ بذلته ... لمن لم يكن عندي لمعشاره أهلا
ولكن إذا فكّرت فيه وجدتني ... بحسني إليه قد أفدت به عقلا
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: لا تدع المعروف لكفر من كفره فإنه يشكرك عليه أشكر الشاكرين، وقد قيل في ذلك:
يد المعروف غنمٌ حيث كانت ... تحمّلَها شكورٌ أم كفور
فعند الشاكرين لها جزاءٌ ... وعند الله ما كفر الكفور
قال بعضهم: ما أنعم الله على عبد نعمةً فشكر ذلك إلا لم يحاسبه على تلك النعمة، وقال بعض الحكماء: عند التراخي عن شكر المنعم تحلّ عظائم النقم.
قيل: وكان رسول الله، ﷺ، كثيرًا ما يقول لعائشة، ﵂: ما فعل بيتك أو بيت اليهودي؟ فتقول:
يجزيك أو يُثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
فيقول، عليه وعلى آله السلام: قد صدق يا عائشة، إن الله جل وعز إذا أجرى لرجل على يدي رجل خيرًا فلم يشكره فليس لله بشاكر.
قيل وقيل لذي الرمة: لم خصصت بلال بن أبي بردة بمدحك؟ فقال: لأنه وطّأ مضجعي وأكرم مجلسي فحق لكثير معروفه عندي أن يستولي على شكري.
ومنهم من يقدم ترك مطالبة الشكر وينسبه إلى مكارم الأخلاق، من ذلك ما قاله بزرجمهر: من انتظر بمعروفه شكرًا فقد استدعى عاجل المكافأة.
وقال بعض الحكماء: كما أن الكفر يقطع مادة الإنعام فكذلك الاستطالة بالصنيعة تمحق الأجر.
وقال علي بن عبيدة: من المكارم الظاهرة وسنن النفس الشريفة ترك طلب الشكر على الإحسان ورفع الهمة عن طلب المكافأة واستكثار القليل من الشكر واستقلال الكثير مما يبذل من نفسه.
مساوئ الشكر
قال بعض الحكماء: المعروف إلى الكرام يعقب خيرًا والمعروف إلى اللئام يعقب شرًا، ومثل ذلك مثل المطر يشرب منه الصداف فيعقب لؤلؤًا وتشرب منه الأفاعي فتعقب سمًا.
وقال سفيان: وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام.
قيل: وأثار جماعة من الأعراب ضبعًا فدخلت خباء شيخ منهم.
فقالوا: اخرجها. فقال: ما كنت لأفعل وقد استجارت بي. فانصرفوا، وكانت هزيلة فأحضر لها لقاحًا فجعل يسقيها حتى عاشت، فنام الشيخ ذات يوم فوثبت عليه فقتلته، فقال شاعرهم في ذلك:
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير ام عامر
أعد لها لما استجارت بقربه ... غداءً من البان اللقاح الغزائر
وأسمنها حتى إذا ما تملأت ... فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... يجود بمعروفٍ إلى غير شاكر
قيل: وأصاب أعرابي جرو ذئب فاحتمله إلى خبائه وقرّب له شاةً فلم يزل يمتص من لبنها حتى سمن وكبر ثم شد على الشاة فقتلها، فقال الأعرابي:
غذتك شويهتي ونشأت عندي ... فما أدراك أن أباك ذيب
فجعت نُسيةً وصغار قومٍ ... بشاتهم وأنت لهم ربيب
إذا غلبت طباع الشر فيه ... فليس لغيرها فيه نصيب
ويروى: نشأت مع السخال وأنت جرو.
ويضرب المثل بسنّمار، وكان بنى للنعمان بن المنذر الخورنق فأعجبه فكره أن يبني لغيره مثله فأمر به فرمي من أعلاه حتى مات، فقيل فيه:
جزتنا بنو سعدٍ بحسن بلائنا ... جزاء سنمّارٍ ولم يك ذا ذنب
ويروى: وما كان ذا ذنب، وفي المثل: سمن كلبك يأكلك. وقال بعضهم:
1 / 58