بسم الله الرحمن الرحيم
وله الأمان من الخذلان. الحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد النبي الأميّ الهاشميّ الأبطحيّ المكيّ المدنيّ الهادي المهديّ السّراج المضيء والقمر المنير التقيّ النقيّ وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار السادة الأطهار المقسطين الأبرار الذين خلقوا من طينة واحدة وجبلوا على فطرته ودرجوا على حوزته ومُيّزوا بحكمته وعلى منهاجه وملته وفازوا بطاعته وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا.
محاسن الكتب
قال الشيخ إبراهيم بن محمد البيهقي: قال مصعب بن الزبير: إن الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون ويحفظون أحسن ما يكتبون ويكتبون أحسن ما يسمعون، فإذا أخذت الأدب فخذه من أفواه الرجال فإنك لا تسمع منهم إلا مختارًا.
وقال لقمان لابنه: يا بني تنافس في طلب الأدب فإنه ميراث غير مسلوب وقرين غير مغلوب ونفيس حظ في الناس مطلوب.
وقال الزهري: الأدب ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال ولا يبغضه إلا مؤنثهم.
وقيل: إذا سمعت أدبًا فاكتبه ولو في حائط، قال: وقال المنصور بن المهدي للمأمون: أيحسن بمثلي طلب الأدب؟ قال: لأن تموت طالبًا للأدب خير من أن تعيش قانعًا بالجهل. قال: فإلى متى يحسن بي ذلك؟ قال: ما حسنت بك الحياة.
وقال الزهري: ما سمعت كلامًا أوجز من كلام عبد الملك بن مروان لولده حيث يقول: اطلبوا معيشة لا يقدر عليها سلطان جائر. قيل ما هي؟ قال: الأدب.
وقال بزرجمهر: يا ليت شعري أي شيء أدرك من فاته الأدب أم أي شيء فات من أدرك الأدب ومادته من الكتب! وقد أهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفترًا وكتب له: هديتي هذه، أعزك الله، تزكو عن الإنفاق وتربو على الكد، لا تفسدها العواري ولا تخلقها كثرة التقليب، وهي أُنس في الليل والنهار والسفر والحضر تصلح للدنيا والآخرة، تؤنس في الخلوة وتمتع في الوحدة، مسامر مساعد ومحدث مطواع ونديم صديق.
وقال بعضهم: الكتب بساتين العلماء.
وقال آخر: الكتاب جليس لا مؤنة له.
وقال الفضل بن سهل للمأمون وهو بدمشق بدير مران مشرف على غوطتها: يا أمير المؤمنين هل رأيت في حسنها شبيهًا في شيء من ملك العرب؟ يعني الغوطة. قال: بلى والله، كتاب فيه أدب يجلو الأفهام ويذكي القلوب ويؤنس الأنفس أحسن منها.
1 / 1
وقال الجاحظ: الكتاب نعم الذخر والعقدة ونعم الجليس والقعدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل، الكتاب وعاء مليء علمًا وظرفٌ حشي ظرفًا، إن شئت كان أعيا من باقل وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل وإن شئت ضحكت من نوادره وإن شئت بكيت من مواعظه، ومن لك بواعظٍ ملهٍ وبناسك فاتك وناطق أخرس، ومن لك بطبيب أعرابيّ وروميّ وهنديّ وفارسيّ ويونانيّ ونديم مولَّد ووصيف ممتّع، ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر والناقص والوافي والشاهد والغائب والرفيع والوضيع والغث والسمين والشكل وخلافه والجنس وضده، وبعد فما رأيت بستانًا يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء غيره، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من في الأرض وأكتم للسر من صاحب السر وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة، ولا أعلم جارًا أبر ولا خليطًا أنصف ولا رفيقًا أطوع ولا معلمًا أخضع ولا صاحبًا أظهر كفاية ولا عناية ولا أقل إملالًا وإبرامًا ولا أبعد عن مراء ولا أترك لشغب ولا أزهد في جدال ولا أكف عن قتال من كتاب، ولا أعم بيانًا ولا أحسن مؤاتاة ولا أعجل مكافأة ولا شجرة أطول عمرًا ولا أطيب ثمرًا ولا أقرب مجتنىً ولا أسرع إدراكًا ولا أوجد في كل إبان من كتاب، ولا أعلم نتاجًا في حداثة سنه وقرب ميلاده ورخص ثمنه وإمكان وجوده يجمع من التدابير العجيبة والعلوم الغريبة ومن آثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة ومن الحِكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية والبلاد المتراخيةو السائرة والأمم البائدة ما يجمع من كتاب ولولا الحكم المخطوطة والكتب المدونة لبَطل أكثر العلم ولغلب سلطان النسلن سلطان الذكر ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار، ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع، ومن لك لا يبتدئك في حال شغلك ولا في أوقات عدم نشاطك ولا يحوجك إلى التجمل والتذمم، ومن لك بزائر إن شئت جعلت زيارته غِبًّا وورده خِمسًا وإن شئت لزمك لزوم ظلك.
1 / 2
والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يقليك والرفيق الذي لا يملك والمستميح الذي لا يؤذيك والجار الذي لا يستبطئك والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك وعمّر صدرك وحباك تعظيم الأقوام ومنحك صداقة الملوك، يطيعك في الليل طاعته بالنهار، وفي السفر طاعته في الحضر، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقّرك وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة وإن عزلت لم يدع طاعتك وإن هبت عليك ريح أعدائك لم ينقلب عليك، ومتى كنت متعلقًا به ومتصلًا منه بأدنى حبل لم يضرك منه وحشة الوحدة إلى جليس السوء، وإن أمثل ما يقطع به الفُرّاغ نهارهم وأصحاب الكفايات ساعة ليلهم نظرة في كتاب لا يزال لهم فيه ازدياد أبدًا في تجربة وعقل ومروءة وصون عرض وإصلاح دين ومال ورب صنيعة وابتداء إنعام، ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك ونظرك إلى المارة بك مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم ومن فضول النظر وملابسة صغار الناس ومن حضور ألفاظهم الساقطة ومعانيهم الفاسدة وأحوالهم الردية وطرائقهم المذمومة وأفعالهم الخبيثة القبيحة لكان في ذلك السلامة ثم الغنيمة وإحراز الأصل مع استفادة الفرع، ولو لم يكن في ذلك إلا السلامة ثم الغنيمة وإحراز الأصل مع استفادة الفرع، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المنى وعن اعتياد الراحة وعن اللعب وكل ما أشبهه، لقد كان في ذلك على صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المنة، وهو الذي يزيد في العقل ويشحذه ويداويه ويهذبه وينفي الخبث عنه ويفيد العلم ويصادق بينك وبين الحجة ويقودك للأخذ بالثقة ويُعمر الحال ويكسب المال، وهو منبهة للمورث وكنز عند الوارث غير أنه كنز لا زكاة فيه ولا حق للسلطان يخرج منه، هو كالضيعة التي لا تحتاج إلى سقي ولا إسجال بإيغاز ولا إلى شرط ولا أكار، وليس عليها عشر للسلطان ولا خراج، ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها وخلدت من عجيب حكمها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدناها بها من غاب عنا وفتحنا بها كل منغلق علينا فجمعنا في قليلنا كثيرهم وأدركنا ما لم ندركه إلا بهم لقد كان بُخِس حظنا منه، وأكثر من كتبهم نفعًا وأشرف منها حظًا وأحسن موقعًا كتب الله ﷿ التي فيها الهدى والرحمة والإخبار عن كل عبرة وتعريف كل سيئة وحسنة، وما زالت كتب الله جل وعلا في الألواح والصحف والمصاحف، فقال جل ذكره: " أم لم يُنَبّأ بما في صُحف موسى وإبراهيم الذي وفّى "، فذكر صحف موسى الموجودة وصحف إبراهيم البائدة، وقال: " آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه "، وقال ﷿: " ما فرطنا في الكتاب من شيء "، وقال: " كرامًا كاتبين "، وقال: " وأما من أُوتي كتابه وراء ظهره "، وقال: " اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا "، ولو لم تكن تكتب أعمالهم لكانت محفوظة لا يدخل ذلك الحفظ نسيان ولكنه تعالى جده علم أن نسخه أوكد وأبلغ وأهيب في الصدور فقال جل ذكره: " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون "، ولو شاء الله أن يجعل البشارات بالمرسلين على الألسنة ولم يودعها الكتب لفعل، ولكنه ﵎ علم أن ذلك أتم وأبلغ وأكمل وأجمع. وفي قول سليمان، ﵇: " اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم "، وقد كان عنده من يبلغ الرسالة على تمامها من عفريت وإنسي وغيرهما، فرأى الكتاب أبهى وأحسن وأكرم وأفخم وأنبل من الرسالة، ولو شاء النبي، ﷺ، أن لا يكتب إلى قيصر وكسرى والنجاشي والمقوقس وإلى بني الجُلندي وإلى العباهلة من حمير وإلى هوذة والملوك العظماء والسادة النجباء لفعل ولوجد المبلغ المعصوم من الخطإ والزلل والتبدّل، ولكنه، ﵇، علم أن الكتاب أشبه بتلك الحالة وأليق بتلك المراتب وأبلغ في تعظيم ما حواه الكتاب، وحمله إن كثُر ورقه فليس مما يمل لأنه وإن كان كتابًا واحدًا فإنه كتب كثيرة، فإن أراد قراءة الجميع لم يطل عليه الباب الأول حتى يهجم على الثاني ولا الثالث حتى يهجم على الرابع، فهو أبدًا مستفيد ومستطرف، وبعضه يكون حاثًا لبعض، ولا يزال نشاطه زائدًا متى خرج من أثر صار في خبر حتى يخرج من خبر إلى شعر ومن الشعر إلى النوادر ومن النوادر إلى نتف وإلى مواعظ حتى يفضي به إلى
1 / 3
مزح وفكاهة وملح ومضاحك وخرافة. وكانوا يجعلون الكتاب نقرًا في الصخور ونقشًا في الحجارة وحلقة مركبة في البنيان، وربما كان الكتاب هو الناتيء وربما كان الكتاب هو المحفور إذا كان ذلك تاريخًا لأمر جسيم أو عهدًا لأمر عظيم أو موعظة يرتجى نفعها أو إحياء شرف يريدون تخليد ذكره، كما كتبوا على قبّة غُمدان وعلى باب القيروان وعلى باب سمرقند وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقَّر وعلى الأبلق الفرد من تيماء وعلى باب الرهاء، يعمدون إلى المواضع الرفيعة المشهورة والأماكن المذكورة ويضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس وأجدر أن يراها من مرّ ولا ينسى على مرور الدهور، وعمدوا إلى الرسوم ونقوش الخواتيم فجعلوها سببًا لحفظ الأموال والخزائن ولولاها لدخل على الناس الضرر الكبير، ولولا خطوط الهند لضاع من الحساب أكثره ولبطلت معرفة التضاعيف، ونفع الحساب معلوم والخلة في موضع فقده معروفة. قال الله ﷿: " هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب "، ولولا الكتب المدونة والأخبار المجلدة والحكم المخطوطة التي تجمع الحساب وغير الحساب لبطل أكثر العلم، ولولا الكتاب لم يكن يعلم أهل الرقة والموصل وبغداد وواسط ما كان بالبصرة وحدث بالكوفة في بياض يوم حتى تكون الحادثة بالكوفة غدوة فيعلمها أهل البصرة قبل المساء، وذلك مشهور في الحمام إذا أُرسلت، وكانت العرب تعمّد في مآثرها على الشعر الموزون والكلام المقفى وكان ذلك ديوانها على أن الشعر بقية فضيلة البيان على الشاعر الراغب وفضيلة الأثر على السيد المرغوب إليه، وكانت العجم تقيّد مآثرها بالبنيان فبنت مثل بناء أردشير وبناء إصطخر وبيضاء المدائن وشيرين والمدن والحصون والقناطر والجسور، ثم إن العرب شاركت العجم في البنيان وتفردت بالشعر، فلها من البنيان غُمدان وكعبة نجران وقصر مأرب وقصر شَعوب والأبلق الفرد وغير ذلك من البنيان، وتصنيف الكتب أشد تقييدًا للمآثر على مر الأيام والدهور من البنيان لأن البنيان لا محالة يدرس وتعفو رسومه والكتاب باقٍ يقع من قرن إلى قرن فهو أبدًا جديد والناظر فيه مستفيد وهو أبلغ في تحصيل المآثر من البنيان والتصاوير، وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النِّحل وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والملحاء وكتب الملاهي والفكاهات وكتب أصحاب المراء والخصومات وكتب أصحاب العصبية وحميّة الجاهلية فمنهم من يفرط في التعلم في أيام جهله وخمول ذكره وحداثة سنه، ولولا جياد الكتب وحسانها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم ونازعت إلى حب الأدب وأنفت من حال الجهل وأن تكون في غمار الحشوة ويدخل عليهم الضرر والحقارة وسوء الحال بما عسى أن يكون لا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير، ولذلك قال عمر بن الخطاب: تفقهوا قبل أن تسودوا. وفكاهة وملح ومضاحك وخرافة. وكانوا يجعلون الكتاب نقرًا في الصخور ونقشًا في الحجارة وحلقة مركبة في البنيان، وربما كان الكتاب هو الناتيء وربما كان الكتاب هو المحفور إذا كان ذلك تاريخًا لأمر جسيم أو عهدًا لأمر عظيم أو موعظة يرتجى نفعها أو إحياء شرف يريدون تخليد ذكره، كما كتبوا على قبّة غُمدان وعلى باب القيروان وعلى باب سمرقند وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقَّر وعلى الأبلق الفرد من تيماء وعلى باب الرهاء، يعمدون إلى المواضع الرفيعة المشهورة والأماكن المذكورة ويضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس وأجدر أن يراها من مرّ ولا ينسى على مرور الدهور، وعمدوا إلى الرسوم ونقوش الخواتيم فجعلوها سببًا لحفظ الأموال والخزائن ولولاها لدخل على الناس الضرر الكبير، ولولا خطوط الهند لضاع من الحساب أكثره ولبطلت معرفة التضاعيف، ونفع الحساب معلوم والخلة في موضع فقده معروفة. قال الله ﷿: " هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب "، ولولا الكتب المدونة والأخبار المجلدة والحكم المخطوطة التي تجمع الحساب وغير الحساب لبطل أكثر العلم، ولولا الكتاب لم يكن يعلم أهل الرقة والموصل وبغداد وواسط ما كان بالبصرة وحدث بالكوفة في بياض يوم حتى تكون الحادثة بالكوفة غدوة فيعلمها أهل البصرة قبل المساء، وذلك مشهور في الحمام إذا أُرسلت، وكانت العرب تعمّد في مآثرها على الشعر الموزون والكلام المقفى وكان ذلك ديوانها على أن الشعر بقية فضيلة البيان على الشاعر الراغب وفضيلة الأثر على السيد المرغوب إليه، وكانت العجم تقيّد مآثرها بالبنيان فبنت مثل بناء أردشير وبناء إصطخر وبيضاء المدائن وشيرين والمدن والحصون والقناطر والجسور، ثم إن العرب شاركت العجم في البنيان وتفردت بالشعر، فلها من البنيان غُمدان وكعبة نجران وقصر مأرب وقصر شَعوب والأبلق الفرد وغير ذلك من البنيان، وتصنيف الكتب أشد تقييدًا للمآثر على مر الأيام والدهور من البنيان لأن البنيان لا محالة يدرس وتعفو رسومه والكتاب باقٍ يقع من قرن إلى قرن فهو أبدًا جديد والناظر فيه مستفيد وهو أبلغ في تحصيل المآثر من البنيان والتصاوير، وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النِّحل وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والملحاء وكتب الملاهي والفكاهات وكتب أصحاب المراء والخصومات وكتب أصحاب العصبية وحميّة الجاهلية فمنهم من يفرط في التعلم في أيام جهله وخمول ذكره وحداثة سنه، ولولا جياد الكتب وحسانها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم ونازعت إلى حب الأدب وأنفت من حال الجهل وأن تكون في غمار الحشوة ويدخل عليهم الضرر والحقارة وسوء الحال بما عسى أن يكون لا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير، ولذلك قال عمر بن الخطاب: تفقهوا قبل أن تسودوا.
1 / 4
وقال بعض الحكماء: ذهبت المكارم إلا من الكتب. وقال الله ﷿: " اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم "، فوصف نفسه تعالى جده بأنه علم بالقلم كما وصف نفسه بالكرم واعتد بذلك في نعمه العظام وأياديه الجسام ووضع القلم في المكان الرفيع ونوه بذكره وأقسم به كما أقسم بما يخط به فقال: " ن والقلم وما يسطرون، والقلم أرجح من اللسان لأن كتابته تقرأ بكل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان ويوجد مع كل زمان، ومناقلة اللسان وهديته لا تجاوزان مجلس صاحبه ومبلغ صوته، والكتاب يخاطبك من بعيد، وقد قالوا: القلم أحد اللسانين، وقالوا: كل من عرف النعمة في بيان اللسان كان أعرف لفضل النعمة في بيان القلم. وقد يعتري القلم ما يعتري المؤدب عند ضربه وعقابه، فما أكثر من يعزم على عشرة أسواط فيضرب مائة لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع فأراه السكون أن الصواب في الإقلال فلما ضرب تحرك دمه فأشاع الحرارة فيه وزاد في غضبه فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلم فما أكثر من يبتديء الكتاب وهو يريد مقدار سطرين فيكتب عشرة. وقد قيل: القلم الشاهد والغائب يقرأ بكل لسان وفي كل زمان. وقالوا: ظاهر عقول الرجال في اختيارها ومدوّن في أطراف أقلامها، ومصباح الكلام حسن الاختيار. وقالوا: القلم مجهِّز جيوش الكلام، يخدم الإرادة ولا يمل الاستزادة، ويسكت واقفًا وينطق سائرًا على الأرض، بياضه مظلم وسواده مضيء، وقال الشاعر:
قومٌ إذا خافوا عداوة معشرٍ ... سفكوا الدمِّا بأسنة الأقلام
ولَمَشقة من كاتب بمداده ... أمضى وأقطع من صنيع حسام
وقال آخر أيضًا:
ما السيف والسيف سيفُ الكميّ ... بأخوف من قلم الكاتب
له غايةٌ إن تأمّلتها ... ظهرت على سَوءة الغائب
أداة المنية في جانبيه ... فمِن مثلِه رهبة الراهب
سنان المنيّة في جانبٍ ... وسيف المنيّة في جانب
ألم تر في صدره كالسّنان ... وفي الردف كالمرهف القاضب
فيجري به الكف في حالةٍ ... على هيئة الطاعن الضّارب
وقال آخر أيضًا ملغزًا:
وأعجف رجلاه في رأسه ... يطير حثيثًا على الأملس
مطاياه من تحته الإصبعان ... ولولا مطاياه لم يلمس
وقال آخر، سامحه الله:
وأعجف مُنْشَقِّ الشِّباة مقلَّمِ ... موشّى القرا طاوي الحشا أسود الفم
إذا هو أضحى في الدواة فأعجمٌ ... ويضحي فصيحًا في يدي غير أعجم
يناجي مناجاةً أغرَّ مُرزّأً ... متى ما استمعْ معروفه يتبسمِ
وقال آخر، ﵀:
لك القلم الذي لم يجر لؤمًا ... بغاية منطق فكبا بعِيِّ
ومبتسمٌ عن القرطاس يأسو ... ويجرح وهو ذو بال رخيِّ
فما المقداد أعضب مِن شَباهُ ... ولا الصمصام سيف المذحجيّ
وقال وأجاد:
أحسن من غفلة الرقيب ... ولحظة الوعد من حبيب
والنغم والنقر من كعابٍ ... مصيبة العود والقضيب
ومن بنات الكروم راحًا ... في راحتي شادنٍ ربيب
كَتبُ أديبٍ إلى أديب ... طالت به مدة المغيب
فنَمّقت كفه سطورًا ... تنمّقُ الصبر في القلوب
تترك من سُطّرت إليه ... أطرب من عاشق طروب
وقال آخر:
إذا استمدّت صرفت الطرف عن يدها ... خوفًا عليها لما أخشى من التهم
كأنما قابل القرطاس إذ مشقت ... منها ثلاثة أقلامٍ على قلم
وقال أشجع في جعفر البرمكي:
إذا أخذت أنامله ... تُبَيّن فضله القلما
تطأطأ كلٌ مرتفعٍ ... لفضل الكَتْبِ مذ نجما
يقدم ويؤخر، أراد: إذا أخذت أنامله القلم تبين فضله. وفي الخط قال: نظر المأمون إلى مؤامرة بخط حسن فقال: لله در القلم كيف يحوك وشي المملكة! وقال يحيى بن خالد البرمكي: الخط صورةٌ روحها البيان ويدها السرعة وقدماها التسوية وجوارحها معرفة الفصول، وقال في مثله، رحمه الله تعالى:
1 / 5
تقول وقد كتبت دقيق خطي: ... فديتك ممّ تجتنب الجليلا؟
فقلت لها:
نَحَلْتُ فصار خطي ... دقيقًا مثل صاحبه نحيلا
وقال علي بن الجهم في صفة الكتب: إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تناولت كتابًا فأجد اهتزازي فيه من الفوائد والأريحية التي تعتادني وتعتريني من سرور الاستنباه وعز التبيين أشد إيقاظًا من نهيق الحمار وهدة الهدم، وإني إذا استحسنت كتابًا واستجدته رجوت فيه فائدةً، فلو تراني ساعة بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقه مخافة استنفاده وانقطاع المادة من قبله، وإن كان الكتاب عظيم الحجم وكان الورق كبير القدر.
وذكر له العتبي كتابًا لبعض القدماء وقال: لولا طوله لنسخته، فقال: ما رغبي إلا فيما زهدت عنه، وما قرأت كتابًا كبيرًا فأخلاني من فائدةٍ ولا أحصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منها كما دخلت فيها.
قال ابن داحة: كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ﵁، لا يجالس الناس ونزل مقبرة من المقابر وكان لا يكاد يُرى إلا وفي يده كتاب يقرأ فيه، فسئل عن ذلك وعن نزوله المقبرة فقال: لم أر أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب ولا أسلم من الوحدة.
وقيل لابن داحة وقد أخرج إليه كتاب أبي الشمقمق وهو في جلود كوفية وورقتين طابقتين لا بخط عجيب فقال: لقد ضيع درهمه صاحب هذا الكتاب، وقال: والله إن القلم ليعطيكم مثل ما تعطونه ولو استطعت أن أتودعه سويداء قلبي وأجعله مخطوطًا على ناظريّ لفعلت.
وقال بعضهم: كنت عند بعض العلماء وكنت أكتب عنه بعضًا وأدع بعضًا فقال لي: اكتب كل ما تسمع فإن أخس ما تسمع خير من مكانه أبيض، وقيل:
أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل هو العالم المقنع
ولكن نفسي إلى كل نوعٍ ... من العلم تسمعه تجزع
فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع
ومن لثّ في علمه هكذا ... ترى دهره القهقرى يرجع
إذا لم تكن حافظًا واعيًا ... فجمعك للكتب لا ينفع
وقال بعضهم: الحفظ مع الإقلال أمكن ومع الإكثار أبعد وهو للطبائع مع رطوبة القضيب أقبل، ومنها قول الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبي خاليًا فتمكّنا
وقيل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، فسمع ذلك الأحنف فقال: الكبير أكثر عقلًا ولكنه أكثر شغلًا، وكما قال:
وإنّ مَن أدّبته في الصّبى ... كالعود يُسقى الماء في غرسه
حتى تراه مورقًا ناضرًا ... بعد الذي أبصرت من يبسه
والصبيّ على الصّبَى أفهم وله آلف وإليه أنزع، وكذلك العالم على العلم والجاهل على الجهل، وقال الله ﵎: " ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلًا "، لأن الإنسان على الإنسان أفهم وطباعه بطباعه آنس، ومن التقط كتابًا جامعًا كان له غنمه وعلى مؤلفه غرمه، وكان له نفعة وعلى صاحبه كّده، ومتى ظفر بمثله صاحب علم فهو وادعٌ جامٌ ومؤلّفه متعوب مكدود وقد كفي مؤنة جمعه وتتبّعه وأغناه عن طول التفكير واستنفاد العمر، كان عليه أن يجعل ذلك من التوفيق والتسديد إذا بالغ صاحبه في تصنيفه وأجاد في اختياره، قال أبو هفّان:
إذا آنس الناس ما يجمعون ... أنِست بما يجمع الدفتر
له وطري وله لذّتي ... على الكأس والكأس لا تحضر
تدور على الشرب محمودةً ... لها المورد الخِرْقُ والمصدر
يغنّيهم ساحر المقلتين ... كشمس الضحى طرفه أحور
وريحانهم طيب أخلاقهم ... وعندهم الورد والعبهر
على أن همّتنا في الحروب ... فتلك الصناعة والمتجر
قال: لمّا قلتها عرضتها على ابن دهقان فقال: إذا سمع بها الخليفة استغنى بها عن الندماء. وأنشدنا غيره:
نِعم المحدِّث والرفيق كتابٌ ... تلهو به إن خانك الأصحاب
لا مفشيًا سرًا إذا استودعته ... وتنال منه حكمةٌ وصواب
وقال آخر:
نِعم الجليس بعقب قعدة ضجرةٍ ... للملك والأدباء والكتّاب
1 / 6
ورقٌ تضمّن من خطوط أناملٍ ... مرعىً من الأخبار والأداب
يخلو به من ملّ من أصحابه ... فيقال خلوٌ وهو في الأصحاب
قال: وأنشدنا أبو الحسن علي بن هارون بن يحيى النديم، ﵀:
إذا ما خلوت من المؤنسين ... جعلت المحدِّث لي دفتري
فلم أخل من شاعرٍ محسنٍ ... ومن مضحكٍ طيّبٍ مندر
ومن حكمٍ بين أثنائها ... فوائد للناظر المفكر
وإن ضاق صدري بأسراره ... وأودعته السرّ لم يظهر
وإن صرّح الشعر باسم الحبيب ... لما اختشيت ولم أحصَرِ
وإن عذت من ضجرةٍ بالهجاء ... ولو في الخليفة لم أحذر
فناديت منه كريم المغيب ... لندمانه طيّب المحضر
فلست أرى مؤثرًا ما حييت ... عليه نديمًا إلى المحشر
وقال في الذهن:
إذا ما غدت طلاّبة العلم ما لها ... من العلم إلا ما يخلَّد في الكتب
غدوت بتشميرٍ وجدٍّ عليهم ... ومحبرتي سمعي ودفترها قلبي
وقال آخر:
يا أيها الطالب الآداب مبتدرًا ... لا تسهُ عن حملك الألواح للأدب
فحملها أدبٌ تحوي به أدبًا ... وسوف تنقل ما فيها إلى الكتب
وليس في كلّ وقت ممكنًا قلمٌ ... ودفترٌ يا عديم المثل في الحسب
وكل ما تقدم ذكره من مناقب الكتب ووصف محاسنها فهو دون ما يستحقه كتابنا هذا فقد اشتمل على محاسن الأخبار وظرائف الآثار وترجمناه بكتاب المحاسن والمساوئ لأن المصلحة في ابتداء أمر الدنيا إلى انقضاء مدتها امتزاج الخير بالشر والضارّ بالنافع والمكروه بالمحبوب، ولو كان الشر صرفًا محضًا لهلك الخلق، ولو كان الخير محضًا لسقطت المحنة وتقطعت أسباب الفكرة، ومتى بطل التخيير وذهب التمييز لم يكن صبر على مكروه ولا شكرٌ على محبوب ولا تعامل ولا تنافس في درجة، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل.
محاسن رسول الله
ﷺ
1 / 7
وافتتحنا كتابنا هذا بذكر النبي، ﷺ، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الأبرار الأخيار، لما رجونا فيه من الفضل والبركة واليمن والتوفيق، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وإخوته من النبيين وآله الطيبين أجمعين، اختار الله من خير أرومات العرب عنصرًا ومن أعلى ذوائب قريش فرعًا من أكرم عيدان قصي مجدًا تم لم يزل بلطفه لنبيه، ﷺ وآله، واختياره إياه بالآباء الأخائر والأمهات الطواهر حتى أخرجه في خير زمان وأفضل أوان، تفرّع من شجرة باسقة الندى، شامخة العلى، عربية الأصل، قرشية الأهل، منافية الأعطان، هاشمية الأغصان، ثمرتها القرآن، تندى بماء ينابيع العلم في رياض الحلم، لا يذوي عودها ولا تجفّ ثمرتها ولا يضلّ أهلها، أصلها ثابت وفرعها نابت، فيا لها من شجرة ناضرةٍ خضراء ناعمة غرست في جبل قفر وبلد وعر محل ضرعٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم وبلدك المكرّم فهو، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأخيار، كما قال بعض الحكماء: لئن كان سليمان، ﵇، أعطي الريح غدوها شهر ورواحها شهر لقد أعطي نبينا، ﷺ، البُراق الذي هو أسرع من الريح، ولئن كان موسى، ﵇، أعطي حجرًا تتفجر منه اثنتا عشرة عينًا لقد وضع أصابعه، عليه وعلى آله السلام، في الإناء والماء ينبع من بين أصابعه حتى ارتوى أصحابه، ﵃، وما لهم من الخيل، ولقد كان رديف عمه أبي طالب بذي المجاز فقال: يا ابن أخي قد عطشت، فقال: عطشت يا عم؟ قال: نعم، فثنى وركه فنزل وضرب بقدمه الأرض فخرج الماء فقال: اشرب، فشرب حتى روي، ولئن كان عيسى، ﵇، أحيا النفس بإذن الله لقد رفع، ﷺ، ذراعًا إلى فيه فأخبرته أنها مسمومة، وكان، ﷺ، يخبر بما في الضمائر وما يأكلون فما يدخرون، ثم دعاؤه المستجاب الذي لا تأخير فيه، وذلك أن النبي، ﷺ، لما لقي من قريش والعرب من شدة أذاهم له وتكذيبهم إياه واستعانتهم عليه بالأموال دعا أن تجدب بلادهم وأن يدخل الفقر بيوتهم، فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف! اللهم اشدد وطأتك على مضر! فأمسك الله ﷿ عنهم القطر حتى مات الشجر وذهب الثمر وقلت المراعي فماتت المواشي حتى اشتووا القد وأكلوا العِلهز، فعند ذلك وفد حاجب بن زرارة إلى كسرى يشكو إليه الجهد والأزْل ويستأذنه في رعي السواد وهو حين ضمن عن قومه وأرهنه قوسه، فلما أصاب مضر خاصة الجهد ونهكهم الأزل وبلغت الحجة مبلغها وانتهت الموعظة منتهاها دعا بفضله، ﷺ، الذي كان نداهم به فسأل ربه ﷿ الخصب وإدرار الغيث فأتاهم منه ما هدم بيوتهم ومنعهم حوائجهم، فكلموه في ذلك فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فأمطر الله ما حولهم ودعا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، على المستهزئين بكتاب الله ﷿، وكانوا اثني عشر رجلًا، فكفاه الله جل اسمه أمرهم، فقال: " إنا كفيناك المستهزئين "، وقصة عامر بن الطفيل ودعائه عليه، وناطقه، ﷺ، ذئب، وأظلته غمامة، وحن إليه عود المنبر، وأطعم عسكرًا من ثريدة في جسم قطاة، وسقى عامًّا ووضأهم من ميضأة جسم صاع، ورسوخ قوائم فرس سراقة بن جشعم في الأرض وإطلاقه له بعد إذ أخذ موثقه، ومَريه ضرع شاة حائل فعادت كالحامل، والتزاق الصخرة بيد أربد، وما أراه الله ﷿ أبا جهل حين أهوى بالصخرة نحو رأس رسول الله، ﷺ، وهو ساجد فظهر له فحل ليلقم رأسه فرمى بالصخرة ورجع يشد إلى أصحابه قد انتقع لونه، فقالوا له: ما بالك؟ فقال: رأيت فحلًا لم أر مثله يريد هامتي.
1 / 8
وأما ما أراه الله أعداءه من الآيات فأكثر من أن يحصى، منها ما رواه وهب بن منبه عن الليث بن سعد قال: أتى أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل إلى رسول الله، ﷺ، فقال أحدهما للآخر: أنا أشغله بالكلام حتى تقتله، فوقف أحدهما على النبي، ﷺ، فلما طال عليه انصرف فقال لصاحبه: ما صنعت شيئًا؟ قال: رأيت عنده شيئًا ورجله في الأرض ورأسه في السماء لو دنوت منه أهلكني، وأما أربد فأصابته صاعقة، وأنزل الله تعالى: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، وأما عامر فإنه قال لرسول الله، ﷺ: لنا أهل الوبر ولكم أهل المدر، فقال، ﷺ: لكم الأعنة، فقال: لأملأنها خيلًا عليكم ورجلًا. فلما ولّى رسول الله، ﷺ، قال: اللهم اكفنيه، فأخذته غدة فقتلته.
وعن محمد بن عبد الله قال: بينا رسول الله، ﷺ، قائم يصلي إذ رآه أبو جهل فقال لنفر من قريش: لأذهبن فأقتلن محمدًا، فدنا منه قال: ورسول الله، ﷺ، قائم يصلي ويقرأ: " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق "، حتى بلغ آخرها، فانصرف أبو جهل وهو يقول: هذا وأبيكم وعيد شديد، فلقي أصحابه فقالوا له: ما بالك لم تقتله؟ قال: والله إن بيني وبينه رجلًا له كتيت ككتيت الفحل يعدني يقول: ادْنُ ادن.
وعن عبد الله أن أعرابيًا جاء بعكّة من سمن فاشتراها أبو جهل فأمسك العكة وأمسك الثمن، فشكاه الأعرابي إلى قريش فكلموه فأبى عليهم، فقال بعض المستهزئين: يا أعرابي أتحب أن تأخذ عكتك وثمنها؟ قال: بلى، قال: أترى هذا الرجل المار؟ القه فكلمه، يعني النبي، ﷺ، فأتاه الأعرابي وشكا إليه أمر العكة، فخرج عليه، ﷺ، حتى وقف بباب أبي جهل فناداه باسمه، فخرج إليه ترعد فرائصه، فقال له: أد هذا عكته وثمنها، فدخل أبو جهل فدفع إلى الرجل العكة، فخرج الأعرابي إلى قريش وأخبرهم بذلك، ثم خرج أبو جهل، فقالت له قريش: كلمناك أن تؤدي الأعرابي حقه فأبيت ثم جاءك ابن عبد المطلب فدفعت إليه ذلك؟ فقال: إن معه لجملًا فاتحًا فاه ينظر ما أقول فيلتقم رأسي فما وجدت بدًا من إعطائه حقه.
وأما أنس الوحش به فمما حدثنا إسماعيل بن يحيى بن محمد عن سعيد بن سيف بن عمر عن أبي عمير عن الأسود قال: سأل رجل هند بن أبي هالة...... فقال: حدثينا بأعجب ما رأيت أو بلغك عن رسول الله، ﷺ، فقالت: كل أمره كان عجبًا، وأعجب ما رأيت أنه كان لي ربائب وحش كنت آنس بهن وآلفهن فإذا كان يومه الذي يكون فيه عندي لم يزلن قيامًا صواف ينظرن إليه ولا يلهيهن عن النظر إليه شيء ولا ينظرن إلى غيره، فإذا شخص قائمًا سمون إليه بأبصارهن، فإذا انطلق موليًا لاحظنه النظر، فإذا غاب شخصه عنهن ضربن بأذنابهن وآذانهن، وكان ذلك يعجبني.
وعن عبد الملك بن عمير أن النبي، ﷺ، مر بظبية عند قانص فقالت: يا رسول الله إن ضرعي قد امتلأ وتركت خشفين جائعين فخلني حتى أذهب وأرويهما ثم أعود إليك فتربطني، فقال: صيد قوم وربيطتهم! قالت: يا رسول الله فإني أعطيك عهد الله لأرجعن، فأخذ عليها عهد الله ثم أطلقها وأرسلها فما لبثت إلا يسيرًا حتى جاءت وقد فرغت ما في ضرعها، فقال: ﷺ: لمن هذه الظبية؟ قالوا: لفلان، فاستوهبها منه ثم خلى سبيلها وقال: لو أن البهائم تعلم ما تعلمون من الموت ما أكلتم سمنًا.
وأما محاسن شهادات السباع له بالنبوة فمن ذلك ما روي أن أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية خرجا من مكة فإذا هما بذئب يكد ظبية حتى إن نَفسه كاد أن يبلغ ظهر الظبية أو شبيهًا بذلك إذ دخل الظبي الحرم فرجع الذئب، فقال أبو سفيان: ما أرض سكنها قوم أفضل من أرض أسكنها الله إيانا، أما رأيت ما صنع الذئب أعجب منه حين رجع! فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار. فقال أبو سفيان: واللات والعزى لئن ذكرت ذلك بمكة لنتركها خلوًا.
1 / 9
وذكروا أن رافع بن عميرة بن جابر كان يرعى غنمًا إذ غار الذئب عليها فاحتمل أعظم شاة منها فشد عليه رافع ليأخذها منه وقال: عجبًا للذئب يحتمل ما حمل! قال: فأقعى الذئب غير بعيد وقال: أعجب منه أنت أخذت مني رزقًا رزقنيه الله تعالى. فقال رافع: يا عجبًا للذئب يتكلم! فقال الذئب: أعجب من ذلك الخارج من تهامة يدعوكم إلى الجنة وتأبون إلا دخول النار. فأقبل الرجل إلى النبي، ﷺ، وقد جاءه جبريل، ﵇، فأنبأه بما كان، فقص النبي، ﷺ، ما كان فآمن وصدق وقال:
رعيت الضأن أحميها بنفسي ... من اللص الخفي وكل ذيب
فلما أن رأيت الذئب يعوي ... وبشرني بأحمد من قريب
يبشرني بدين الحق حتى ... تبينت الشريعة للمنيب
رجعت له وقد شمرت ثوبي ... عن الكعبين معتمدًا ركوبي
فألفيت النبي يقول قولًا ... صوابًا ليس بالهزل الكذوب
ألا بلغ بني عمرو بن عوفٍ ... وأختهم جديلة أن أجيبي
دعاء المصطفى لا شك فيه ... فإنك إن تجيبي لا تخيبي
ومن محاسن رسول الله، ﷺ، وبركته ما رواه محمد بن إسحاق عن سعيد بن مينا عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله، ﷺ، في الخندق وكانت عندي شويهة غير سمينة فقلت: والله لو صنعت هذه الشاة لرسول الله، ﷺ. قال: فأمرت امرأتي فطحنت شيئًا من شعير فصنعت له منه خبزًا وذبحت الشاة فشويتها، فلما أمسينا وأراد رسول الله، ﷺ، الانصراف قلت: يا رسول الله إني صنعت لك شويهة وشيئًا من خبز الشعير وأحب أن تنصرف معي إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله، ﷺ، وحده. فلما قلت له ذلك قال: نعم، ثم أمر بصارخ فصرخ: انصرفوا إلى بيت جابر. فقلت: أنا لله وإنا إليه راجعون. وأقبل رسول الله، ﷺ، والناس معه، فأخرجتها إليه فسمى ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء قوم حتى صدر أهل الخندق عنها.
وروي عن محمد بن إسحاق أن ابنة لبشير بن سعد قالت: دعتني أمي ابنة رواحة فأعطتني حفنة تمر في ثوبي وقالت: يا بنية اذهبي إلى أبيك بهذا. قالت: فأخذتها وانطلقت بها فمررت برسول الله، ﷺ، وأنا ألتمس أبي فقال، ﵊: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ قلت: تمر بعثت به أمي إلى أبي بشير بن سعد. فقال: هاتي به. فصببته في كفي رسول الله، ﷺ، فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده: ناد في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل هو يزداد حتى صدر أهل الخندق عليه وهو يسقط من أطراف الثوب.
ومن آياته، ﷺ، ما لا يعرفها إلا الخاصة وهي محاسن أخلاقه وأفعاله التي لم تجتمع لبشر من قبله ولا تجتمع لأحد من بعده، وذلك أنا لم نر ولم نسمع لأحد قط صبره وحلمه ووفاءه وزهده وجوده ونجدته وصدق لهجته وكرم عشيرته وتواضعه وعلمه وحفظه وصمته إذا صمت ونطقه إذا نطق ولا كعفوه وقلة امتنانه، ولم نجد شجاعًا قط إلا وقد فر مثل عامر فر عن أخيه الحكم يوم الرَّقم وعيينة فر عن أبيه يوم نسار وبسطام عن قومه يوم العظالى.
وكان له، ﷺ، وقائع مثل أحد وحنين وغيرهما فلا يستطيع منافق أن يقول هاب حربًا أو خاف.
وأما زهده، ﷺ، فإنه ملك من أقصى اليمن إلى شِحر عمان إلى أقصى الحجاز إلى عذار العراق ثم توفي، ﷺ، وعليه دين ودرعه مرهون في ثمن طعام أهله، لم يبن دارًا ولا شيد قصرًا ولا غرس نخلًا ولا شق نهرًا ولا استنبط عينًا واعتبر برديه اللذين كان يلبسهما وخاتمه.
1 / 10
وكان، ﷺ، يأكل على الأرض ويلبس العباءة ويجالس الفقراء ويمشي في الأسواق ويتوسد يده ولا يأكل متكيًا ويقتص من نفسه، وكان، ﷺ، يقول: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت ولو أهدي إلي كراع لقبلت. ولم يأكل قط وحده ولا ضرب عبده، ولم ير، ﵊، أدار رجله بين يدي أحد ولا أخذ بيده أحد فانتزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسلها.
وأما كرمه، ﷺ، في فتح مكة وقد قتلوا أعمامه ورجاله وأولياءه وأنصاره وآذوه وأرادوا نفسه فكان يلتقي السفه بالحلم والأذى بالاحتمال، وكان متى كان أكرم وعنهم أصفح كانوا ألأم وعليه ألح، والعجب أنهم كانوا أحلم جيل إلا فيما بينهم وبينه فإنهم كانوا إذا ساروا إليه أفحشوا عليه وأفرطوا في السفه ورموه بالفرث والدماء وألقوا على طريقه الشوك وحثوا في وجهه التراب، وكان لا يتولى هذا منه إلا العظماء والأخوال والأعمام والأقرب فالأقرب، فإذا كانوا كذلك كان أشد للغيظ وأثبت للحقد، فلما دخل، ﵇، مكة قام فيهم خطيبًا فحمد الله، ﷿، وأثنى عليه ثم قال: أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
وأما محاسن قوله الحق فإنه ذكر زيد بن صوحان فقال: زيد وما زيد، يسبقه عضو منه إلى الجنة، فقطعت يده يوم نهاوند في سبيل الله ووعد أصحابه بيضاء إصطخر وبيضاء المدائن وقال لعدي بن حاتم: لا يمنعك ما ترى، يعني ضعف أصحابه وجهدهم، فكأنهم ببيضاء المدائن قد فتحت عليهم، وكأنهم بالظعينة تخرج من الحيرة حتى تأتي مكة بغير خفير، فأبصر ذلك كله عدي وقال لعمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية، فكان كما قال حتى قال معاوية: إنما قتله من أخرجه.
وضلت ناقته، ﷺ، فأقبل يسأل عنها فقال المنافقون: هذا محمد يخبرنا عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن رجلًا يقول في بيته إن محمدًا يخبرنا عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني ربي ﷿ وقد أخبرني أنها في وادي كذا وكذا تعلق زمامها بشجرة. فبادر الناس إليها وفيهم زيد بن أرقم وزيد بن اللصيت فإذا هي كذلك.
ولما استأمن أبو سفيان بن حرب إليه، ﵊، أمر عمه العباس أن يأخذه إلى خيمته حتى يصبح، فلما صار في قبة العباس ندم على ما كان منه وقال في نفسه: ما صنعت؟ دفعت بيدي هكذا، ألا كنت أجمع جمعًا من الأحابيش وكنانة وألقاه بهم فلعلي كنت أهزمه! فناداه رسول الله، ﷺ، من خيمته: إذًا كان الله يخزيك يا أبا سفيان. فقال أبو سفيان: يا عباس أدخلني على ابن أخيك. فقال له العباس: ويلك يا أبا سفيان ما آن لك ذلك. فأدخله على رسول الله، ﷺ، فقال: يا رسول الله قد كان في النفس شيء وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقًا.
وقوله، ﷺ، لما يكون من بعده مما حدّث به محمد بن عبد الرحمن بن أذينة عن سلمان بن قيس عن سلمان بن عامر عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله، ﷺ: إني رأيت على منبري هذا اثني عشر رجلًا من قريش يخطب كلهم رجلان من ولد حرب بن أمية وعشرة من ولد أبي العاص بن أمية. ثم التفت إلى العباس وقال: هلاكهم على يدي ولدك.
وأما جماله وبهاؤه ومحاسن ولادته، ﷺ، فما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: أخبرتني أمي أنها حضرت آمنة أم النبي، ﷺ، لما ضربها المخاض، قالت: جعلت أنظر إلى النجوم تتدلى حتى قلت لتقعنّ عليّ، فلما وضعته خرج منها نور أضاء له البيت والدار حتى صرت لا أرى إلا نورًا. قال: وسمعت آمنة تقول: لقد رأيت وهو في بطني أنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم ولد، ﷺ، فخرج معتمدًا على يديه رافعًا رأسه إلى السماء كأنه يخطب أو يخاطب.
وروي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله، ﷺ، أشجع الناس وأحسن الناس وأجود الناس، ما مسست بيدي ديباجًا ولا حريرًا ولا خزًّا ألين من كف رسول الله، ﷺ.
1 / 11
وعن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله، ﷺ، في ليلة البدر وعليه حلة حمراء فجعلت أنظر إليه وإلى القمر فلهو أحسن في عينيّ من القمر.
وعن جابر بن زيد عن أبيه قال: أتيت النبي، ﷺ، في مسجد الخيف فناولني يده فإذا هي أطيب من المسك وأبرد من الثلج.
ومن فضله الذي أبرّ على جميع الخلائق ومحاسنه ما روي عن وهب بن منبّه أنه قال: لما خلق الله ﷿ الأرض ارتجت واضطربت فكتب في أطرافها محمد رسول الله فسكنت.
وأما عقله، ﵊، فقد روي أن عقول جميع الخلائق من الأولين والآخرين في جنب عقل رسول الله، ﷺ، كرملة من بين جميع رمال الدنيا.
ومن محاسنه، ﷺ، الإسراء ما روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري، ﵀، يرفعه قال: قال رسول الله، ﷺ: إني لنائم في الحجر إذ جاء جبريل، ﵇، فغمزني برجله فجلست فلم أر شيئًا ثم عدت لمضجعي، فجاءني الثانية فغمزني فجلست وأخذ بعضدي فخرج بي إلى باب الصفا وإذا أنا بدابة أبيض بين الحمار والبغل له جناحان في فخذيه يضع حافره منتهى طرفه، فقال لي جبريل: اركب يا محمد، فدنوت إليه لأركب فتنحى عني. فقال له جبريل، ﵇: يا براق ما لك فوالله ما ركبك خير منه قط! فركبت وخرجت ومعي صاحبي لا أفوته ولا يفوتني حتى انتهى بي إلى بيت المقدس فوجدت فيه نفرًا من الأنبياء قد جمعوا لي فأممتهم، ثم أُتيت بإناءين من خمر ولبن فتناولت اللبن وشربت منه وتركت الخمر. فقال جبريل، ﵇: هديت وهديت أمتك وحرمت عليهم الخمر، ثم أصبحت بمكة. قال: فلما ذكر رسول الله ذلك ارتد كثير ممن كان آمن به وقالوا: سبحان الله! أذهب محمد إلى الشام في ساعة من الليل ثم رجع والعير تطرد شهرًا مدبرة وشهرًا مقبلة! فبلغ ذلك أبا بكر، ﵁، فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله، ﷺ، فقال: يا رسول الله ما يقول هؤلاء؟ يزعمون أنك حدثتهم بأنك قد أتيت الشام هذه الليلة ورجعت من ليلتك! قال: قد كان ذاك. قال: يا رسول الله فصف لي المسجد. فجعلت أصفه لأبي بكر، ﵀، وأنا أنظر إليه فكلما حدثته عن شيء قال: صدقت أشهد أنك رسول الله، حتى فرغت من صفته، فقال رسول الله يومئذ: فأنت الصدّيق يا أبا بكر.
محاسن المعراج
عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: أخبرنا نبي الله، ﷺ، قال: بينا أنا بين اليقظان والنائم عند البيت إذ سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فانطلق بي فشرح صدري واستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب فيه من ماء زمزم فغسل به ثم أعيد مكانه وحشي إيمانًا وحكمة، ثم أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلقنا حتى أتينا السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. ففتح لنا، قالوا: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء. فأتيت على آدم فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أبوك آدم. فسلمت عليه فقال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح. وانطلقنا حتى أتينا السماء الثانية فاستفتح جبريل، ﵇، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. ففتح لنا وقالوا: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء. فأتيت على يحيى وعيسى فقلت: يا جبريل من هذان؟ قال: عيسى ويحيى. قال: فسلمت عليهما فقالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الثالثة فكان مثل قولهم الأول، فأتيت على يوسف فسلمت عليه فقال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الرابعة، فأتيت على إدريس، ﵇، فسلمت عليه فقال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم أتينا السماء الخامسة فأتيت على هارون فسلمت عليه فقال مثل ذلك. ثم أتينا السماء السادسة فأتيت على موسى، ﵇، فقال مثل ذلك. ثم أتينا السماء السابعة فأتيت على إبراهيم، عليه وعلى آله السلام، فقال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح.
1 / 12
ثم رفع لنا البيت المعمور فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لا يعودون فيه. ثم رفعت لنا سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار يخرجن من أسفلها فقلت: يا جبريل ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الظاهران فالنيل والفرات، وأما الباطنان فنهران في الجنة. ثم أتيت بإناءين من خمر ولبن فاخترت اللبن. فقيل لي: أصبت أصاب الله بك أمتك على الفطرة. وفرضت علي خمسون صلاة فأقبلت بها حتى أتيت على موسى، ﵇، فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة كل يوم، قال: أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك جل وعز فاسأله التخفيف. قال: فرجعت إلى ربي فحط عني خمسًا، فأتيت على موسى، ﵇، فقال: بم أمرت؟ فأنبأته بما حط عني فقال مثل مقالته الأولى، فما زلت بين يدي ربي جل وعز أستحط حتى رجعت إلى خمس صلوات، فأتيت على موسى، ﵇، فقال: بم أمرت؟ فقلت: بخمس صلوات كل يوم. فقال: أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك جل ذكره واسأله التخفيف. فقلت: لقد رجعت إلى ربي ﵎ حتى استحييت، لا ولكني أرضى وأسلم. فلما جاوزت نوديت أني قد خففت عن عبادي وأمضيت فريضتي وجعلت بكل حسنة عشرًا أمثالها.
وانظر إلى رونق ألفاظه، ﵇، وصحة معانيه وموضع ذلك من القلوب مع قلة تعميقه وبعده من التكلف كقوله، ﷺ: زويت لي الأرض حياءً فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها، قوله زويت جمعت. ومثله: إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة في النار، ولا يكون الانزواء إلا بانحراف مع تقبّض.
وقال: إن منبري هذا على ترعة من ترع الجنة، وهي الروضة تكون في المكان المرتفع.
وقال: إن قريشًا قالت إني صنبور، وهي النخلة تبقى منفردة ويدق أصلها، تقول إنه فرد ليس له ولد فإذا مات انقطع ذكره.
وقال في أبي بكر، ﵁: ما أحد من الناس عرضت عليهم الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم، أي لم ينتظر ولم يمكث، والكبوة مثل الوقعة.
وقال في عمر، ﵀: لم أر عبقريًا يفري فريه، والعبقري السيد، يقال: هذا عبقري قومه أي سيدهم، ويفري فريه أي يعمل عمله.
وقال في علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه: إن لك بيتًا في الجنة وإنك ذو قرنيها، يريد أنه ذو طرفيها.
وقال في الحسين بن علي، رحمهما الله، حين بال عليه وهو طفل فأُخذ من حجره: لا تزرموا ابني، الازرام القطع، يقال للرجل يقطع بوله ازرم.
وقال في الأنصار: إنهم كرشي وعيبتي ولولا الهجرة لكنت امرأً منهم، أي من الأنصار، الكِرش الجماعة، والعيبة أي هم موضع سري ومنه أُخذت العيبة.
وقال، ﷺ: لعن الله النامصة والمتنمصة والواشرة والموتشرة والواصلة والموتصلة والواشمة والموتشمة، فالنامصة التي تنتف الشعر من الوجه، ومنه قيل للمنقاش المنماص، والمتنمصة التي تفعل بها ذلك، والواشرة التي تشر أسنانها وذلك أنها تفلجها وتحددها حتى يكون لها أشر، والأشر تحدّد ورقّة في أطراف الأسنان، والواصلة والموتصلة التي تصل شعرها بشعر غيرها، والواشمة المرأة تغرز ظهر كفها ومعصمها بإبرة حتى تؤثر فيه وتحشوه بالكحل.
وذكر أيام التشريق فقال: هي أيام أكل وشرب وبعال، يعني النكاح. وقال: يحشر الناس يوم القيامة حفاة بهمًا، وهو البهيم الذي لا يخلط لونه لون سواه من سوادٍ كان أو غيره، يقول: ليس فيهم شيء من الأمراض والعاهات التي تكون في الدنيا.
وقال في صلح الحديبية: لا إغلال ولا إسلال، الإسلال السرقة، والإغلال الخيانة.
وقال: اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور، الحوب إذا كان بالباء والكون إذا كان بالنون تقول يكون في حالة جميلة فيرجع عنها، وإذا كانا جميعًا بالراء فهو النقصان بعد الزيادة.
وقال، ﵇: خمّروا آنيتكم وأوكوا أسقيتكم وأجيفوا الأبواب وأطفئوا المصابيح واكفتوا صبيانكم فإن للشيطان انتشارًا وخطفة، يعني بالليل، التخمير التغطية، والإيكاء الشد، واسم الخيط الذي يشد به السقاء الوكاء، واكفتوا يعني ضمّوهم إليكم.
1 / 13
وقال في دعائه: لا ينفع ذا الجد منك الجد، بفتح الجيم الغنى والحظ في الرزق، ومنه قيل: لفلان في هذا الأمر جد إذا كان مرزوقًا.
وقال: إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لا تموت حتى تستوفي أو تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، قوله نفث في روعي بضم الراء، النفث شبيه بالنفخ، وروعي يقول في خَلَدي.
وقال، ﵇: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب وظلمة أو هبوة فأكملوا العدة، هبوة يعني غبرة.
وقال، ﵇: إن العرش على منكب إسرافيل وإنه ليتواضع لله جل وعز حتى يصير مثل الوصع، الوصع ولد العصافير.
فقال، ﵇، حين سئل أين كان ربنا ﷻ قبل أن يخلق السماوات والأرضين فقال: كان في عماء تحته هواء، العماء السحاب.
وقال، ﵇: عم الرجل صنو أبيه، يعني أن أصلهما واحد، وأصل الصنو إنما هو في النخل، قال الله ﷿: " صنوانٌ وغير صنوان "، الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق.
وقال: من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله ﷿ وهو أجذم، أي مقطوع اليد.
وقال لرجل أتاه وقال: يا رسول الله أيدالك الرجل امرأته بمهرها؟ قال لا إلا أن يكون مُلفَجًا. فقال له أبو بكر، ﵁: بأبي وأمي أنت يا رسول الله! إنما نشأت فيما بيننا ونحن قد سافرنا وأنت مقيم فنراك تكلم بكلام لا نعرفه ولا نفهمه! فقال، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن الله ﷿ أدبني وأحسن أدبي، وهذا الرجل كلمني بكلامه فأجبته على حسبه، قال: أيدالك الرجل امرأته بمهرها؟ أي يماطلها، فقلت: لا إلا أن يكون ملفجًا، أي معدما.
فكلامه، ﷺ، وأخلاقه ومذاهبه تدل على أنه موافق لقول الله جل وعز: " الله أعلم حيث يجعل رسالته "، وكقوله: " ولقد اخترناهم على علم على العالمين ". وقال جل ذكره: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "، فلما علم أنه قد قبل أدبه قال: " وإنك لعلى خلق عظيم "، فلما استحكم له ما أحب قال: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ".
مساوئ من تنبى
روي أن مسيلمة بن حبيب الكذاب كتب إلى رسول الله، ﷺ، وذلك في آخر سنة عشر: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإني قد شوركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون.
فقدم عليه رسولان من قبل مسيلمة بهذا الكتاب. فقال: أما والله لولا أن الرسل لا يقتلون لضربت أعناقكما. ثم كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من عباده من يشاء والعاقبة للمتقين. قيل وأتاه الأحنف بن قيس مع عمه فلما خرجا من عنده قال الأحنف لعمه: كيف رأيته؟ قال: ليس بمتنبٍّ صادق ولا بكذاب حاذق.
ومنهم طليحة تنبّى على عهد رسول الله، ﷺ، وكان يقول إن ذا النون يأتيه، فقال النبي، ﷺ: لقد ذكر ملكًا عظيمًا.
1 / 14
فلما كان أيام الردة بعث أبو بكر، رحمة الله عليه، خالد بن الوليد إليه، فلما انتهى إلى عسكره وجده قد ضربت له قبة من أُدم وأصحابه حوله، فقال: ليخرج إلي طليحة! فقالوا: لا تصغر نبيًا هو طلحة، فخرج إليه فقال خالد: إن من عهد خليفتنا أن يدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، فقال: يا خالد اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فلما سمع خالد ذلك انصرف عنه وعسكره بالقرب منه على ميل، فقال عيينة بن حصن لطليحة: لا أبا لك! هل أنت مرينا بعض نبوتك؟ قال: نعم. وكان قد بعث عيونًا له حين سار خالد من المدينة مقبلًا إليهم فعرّفوه خبر خالد، فقال: لئن بعثتم فارسين على فرسين أغرّين محجّلين من بني نصر بن قُعين أتوكم من القوم بعين. فهيأوا فارسين فبعثوهما فخرجا يركضان فلقيا عينًا لخالد مقبلًا إليهم فقالا: ما خبر خالد؟ أو قالا: ما وراءك؟ قال: هذا خالد بن الوليد في المسلمين قد أقبل فزادهم فتنة، وقال: ألم أقل لكم؟ فلما كان في السحر نهض خالد إلى طليحة فيمن معه من أصحاب رسول الله، ﷺ، فلما التقى الصفان تزمل طليحة في كساء له ينتظر زعم الوحي، فلما طال ذاك على أصحابه وألح عليهم المسلمون بالسيف، قال عيينة بن حصن: هل أتاك بعد؟ قال طليحة من تحت الكساء: لا والله ما جاء بعد! فقال عيينة: تبًا لك آخر الدهر! ثم جذبه جذبة جاش منها وقال: قبح الله هذه من نبوة! فجلس طليحة، فقال له عيينة: ما قيل لك؟ قال: قيل لي إن لك رحًا كرحاه، وأمرًا لا تنساه! فقال عيينة: قد علم الله ﷿ أن سيكون لك أمر لا تنساه هذا كذاب ما بورك لنا ولا له فيما يطالب. ثم هرب عيينة وأخوه فأدركوه وأسروه وأفلت أخوه وخرج طليحة منهزمًا وأسلمه شيطانه حتى قدم الشام فأقام عند بني جفنة الغسانيين حتى فتح الله ﷿ أجنادين وتوفي أبو بكر وأسلم طليحة إسلامًا صحيحًا وقال:
وإني من بعد الضلالة شاهد ... شهادة حقٍ لست فيها بملحد
ومنهم من تنبّى بعد في أيام الرشيد رجل زعم أنه نوح، فقيل له: آنت نوح الذي كان أم نوح آخر؟ قال: أنا نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا وقد بعثت إليكم لأفي الخمسين عامًا تمام الألف سنة، فأمر الرشيد بضربه وصلبه، فمر به بعض المخنثين وهو مصلوب فقال: صلى الله عليك يا أبانا، ما حصل في يدك من سفينتك إلا دقلها! وهو الذي يكون في وسط السفينة كجذع طويل.
ومنهم رجل تنبّى في أيام المأمون فقال للحاجب: أبلغ أمير المؤمنين أن نبي الله بالباب. فأذن له، فقال ثمامة: ما دليل نبوتك؟ قال: تحضر لي أمك فأواقعها فتحمل من ساعتها وتأتي بغلام مثلك. فقال ثمامة: صلى الله عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته أهون علي من إحضارك أمي ومواقعتها!
محاسن أبي بكر
رضوان الله ورحمته عليه
روي عن ابن عمر، ﵄، قال: دخل رسول الله، ﷺ، المسجد وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله فقال: هكذا نبعث يوم القيامة.
وقال، ﷺ: إن الله ﵎ أيدني من أهل السماء بجبريل وميكائيل ومن أهل الأرض بأبي بكر وعمر، ورآهما مقبلين فقال: هذان السمع والبصر.
وروي عن ابن عمر، ﵄، أنه قال: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم.
وروي عن عمر، ﵁، أنه قال: أمر رسول الله، ﷺ، بالصدقة ووافق ذلك مالًا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئته بنصف مالي، فقال رسول الله، ﷺ: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: النصف، وجاء أبو بكر بكل ماله، فقال له النبي ﷺ: ما أبقيت لأهلك؟ قال: الله حقًا ورسوله، فقلت: والله لا أسبقك إلى شيء أبدًا.
وعن عمر، ﵁، أنه قال: وددت أني شعرة في صدر أبي بكر، ﵁.
وعن عطاء عن أبي الدرداء أنه مشى بين يدي أبي بكر، ﵁، فقال له رسول الله، ﷺ: المشي بين يدي من هو خير منك، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر.
وعن علي بن أبي طالب، رضوان الله ورحمته عليه، قال: قال النبي، ﷺ: يا علي هل تحب الشيخين؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: لا يجتمع حبك وحبهما إلا في قلب مؤمن.
1 / 15
وعن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله، ﷺ: رحم الله أبا بكر، زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وعتق بلالًا من ماله.
وعن أنس عن أبي بكر، ﵁، قال: قلت للنبي، ﷺ، ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر في قدميه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله جل وعز ثالثهما! وعن أبي سعيد الخدري، ﵁، قال: خرج علينا رسول الله في مرضه الذي مات فيه وهو عاصب رأسه حتى صعد المنبر فقال: إني قائم الساعة على الحوض وإن عبدًا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة، فلم يفطن لها أحد إلا أبو بكر، ﵁ فقال: بأبي أنت وأمي بل نفديك بآبائنا وأبنائنا وأنفسنا وأموالنا! وبكى، فقال: لا تبك يا أبي بكر، إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من الناس لاتخذت أبا بكر. ولكن أخي في الإسلام لا يبقى في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر. فبكى أبو بكر وقال: أنا ومالي لك يا رسول الله.
وعن ابن المنكدر قال: قال رسول الله، ﷺ: دعوا لي صاحبي إني بعثت وقال الناس كلهم كذبت وقال لي صدقت، يعني أبا بكر، ﵁.
وعن محمد بن عبيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: بعث رسول الله، ﷺ، عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل فجاء وقد ظهر، فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: لست أسألك عن النساء، قال: أبوها إذا تؤنس.
وعن الحسن قال: قال رسول الله، ﷺ: يجيء يوم القيامة رجل إلى باب الجنة ليس منها باب إلا وعليه ملك يهتف به هلمّ هلمّ ادخل، فقال أبو بكر، ﵁: إن هذا لسعيد، قال: هو ابن أبي قحافة.
وعن سليمان بن يسار أن رسول الله، ﷺ، قال: في المؤمن ثلاثمائة وستون خصلة من الخير إذا جاء بواحدة دخل الجنة، قال أبو بكر، ﵁: بأبي أنت وأمي أفيّ منها شيء؟ قال: هي كلها فيك يا أبا بكر.
وعن ابن عمر، ﵁، قال: بينا النبي، ﷺ، جالس وعنده أبو بكر، ﵁، وعليه عباءة قد خلّها في صدره بخلال إذ نزل عليه جبريل، ﵇، فقال: يا رسول الله ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها في صدره؟ قال: أنفق ماله عليّ قبل الفتح، قال: فأقرئه من الله ﷿ السلام وقل له يقول لك ربك ﵎: أراضٍ أنت عني في فقرك أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أعلى ربي أغضب! أنا عن ربي راضٍ.
وعن علي بن أبي طالب، ﵁، قال: كنت جالسًا عند النبي، ﷺ، إذ طلع أبو بكر وعمر، ﵄، فقال، ﵊: هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ممن مضى وممن بقي إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي.
وعن جابر قال: كنت مع رسول الله، ﷺ، فسمعته يقول: يطلع علينا من هذا الفج رجل من أهل الجنة، فطلع أبو بكر، ﵁، ثم قال يطلع علينا من هذا الفج رجل من أهل الجنة، فطلع عمر، ﵁، ثم قال: يطلع علينا من هذا الفج رجل من أهل الجنة، اللهم اجعله عليًا! فطلع علي، ﵁.
وعن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله ما أحسن هذه الآية! قال: أيتها؟ قال قوله ﵎: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي "، فقال: يا أبا بكر إن الملك سيقولها لك.
وقيل: إنه لما أسلم أبو قحافة لم يعلم أبو بكر، ﵁، بإسلامه حتى دخل على النبي، ﷺ، فقال: ألا أبشرك يا أبا بكر بما يسرك؟ قال: مثلك يا رسول الله من يبشر بالخير، فما هي؟ قال: أسلم أبو قحافة! قال: يا رسول الله لو بشرتني بإسلام أبي طالب كان أقر لعيني فإنه أقر لعينك، فبكى رسول الله، ﷺ، حتى علا بكاؤه جزعًا لما فاته من إسلام أبي طالب وقال: رحمك الله يا أبا بكر، ثلاثًا.
محاسن عمر بن الخطاب
رضوان الله ورحمته عليه
1 / 16
عن أبي هريرة، ﵀، قال النبي، ﷺ: بينا أنا نائم إذ رأيتني على قليب وعليها دلو، فنزعت ما شاء الله ثم أخذها مني أبو بكر، أو قال ابن أبي قحافة: فنزع منها ذنوبًا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله جل وعز يغفر له، ثم أخذها عمر فلم أر عبقريًا من الناس يفري فريّه حتى ضرب الناس بعطن.
وروي أن امرأة في الجاهلية تسمى عاصية أسلمت فكرهت اسمها فأتت عمر، ﵀، فقالت: إني كرهت اسمي فسمّني. فقال: أنت جميلة. فغضبت وقالت: سميتني باسم الإماء! ثم أتت رسول الله، ﷺ، فقالت: بأبي أنت وأمي إني كرهت اسمي فسمني! فقال: أنت جميلة، فقالت: يا رسول الله إني أتيت عمر سماني جميلة فغضبت. فقال: أوما علمت أن الله جل وعز عند لسان عمر ويده؟ وعن سعيد بن جبير في قوله ﷿: " وصالح المؤمنين "، قال: نزلت في عمر خاصة.
وعن علي، ﵁، قال: قال رسول الله، ﷺ: رحم الله عمر لقول الحق وإن كان مرًا، تركه الحق ما له من صديق.
وعن سعيد بن جبير قال: إن جبريل قال للنبي، ﷺ: اقرأ على عمر السلام وأعلمه أن غضبه عز ورضاه حكم.
وعن عثمان بن مظعون قال: مر بنا عمر، ﵁، ونحن جلوس عند النبي، ﷺ، فقال: هذا غلّق باب الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب ما عاش هذا بين أظهركم أو ظهرانيكم، فقال بيمينه وشبّك بين أصابعه.
وعن ابن عباس عن النبي، ﷺ، قال: جاءني جبريل، ﵇، حين أسلم عمر، ﵀، فقال لي: تباشرت الملائكة بإسلام عمر وعمر سراج أهل الجنة.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله، ﷺ: بينا أنا في الجنة إذ رأيت دارًا فأردت أن أدخلها فسألت لمن هي فقيل هي لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فرجعت، فقال عمر: يا رسول الله لستَ ممن يغار عليه.
وعن علي، ﵁: ما كنا نبعد أن السكينة كانت تنطق على لسان عمر.
وعن عطاء عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين "، الآية، " ثم أنشأناه خلقًا آخر "، فقال عمر: تبارك الله أحسن الخالقين! فقال رسول الله، ﷺ: والذي نفسي بيده لقد ختمها الله ﷿ بما قلت يا عمر.
وعن سعد بن أبي وقاص، ﵀، قال: استأذن عمر على رسول الله، ﷺ، وعنده نسوة من قريش قد علت أصواتهن فأذن له، فلما دخل بادرن الحجاب، فضحك رسول الله، ﷺ، فقال عمر: أضحك الله سنك، بأبي أنت وأمي ممّ ضحكت؟ فقال: أعجب من اللواتي كن عندي لما سمعن صوتك بادرن الحجاب! فقال: أنت كنت أحق أن يهبن يا رسول الله. ثم أقبل عليهن وأغلظ لهن وقال: أتهبنني ولا تهبن رسول الله، ﷺ؟ قلن: نعم إنك أفظ وأغلظ. فقال رسول الله، ﷺ: يا عمر والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك.
محاسن عثمان بن عفان
﵁ ورحمه
عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله، ﷺ، في حائط من حيطان المدينة فجاء أبو بكر، ﵀، فقال: افتح له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر، ﵀، فقال: افتح له وبشره بالجنة، ثم جاء علي، رضوان الله عليه، فقال: افتح له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان، ﵁، فقال: افتح له وبشره بالجنة، فلما جاء عثمان، ﵀ ورحمهم أجمعين، وقد بدت من فخذ رسول الله، ﷺ، ناحية فقال: افتح له وبشره بالجنة، فلما جاء عثمان، ﵀، غطاها، فقالوا: يا رسول الله ما لك لم تغطه حين جئنا؟ فقال: ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة؟ وعن النبي، ﷺ، قال: إن الله جل وعز أمرني أن أزوج كريمتي عثمان بن عفان، ﵀.
محاسن علي بن أبي طالب
رضوان الله عليه
عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن علي بن أبي طالب، ﵁، قال النبي، ﷺ: رحم الله عليًا، اللهم أدر الحق معه حيث دار.
1 / 17
وعن علي قال: قال رسول الله، ﷺ: يا معشر قريش والله ليبعثن الله عليكم رجلًا منكم قد امتحن الله قلبه للإيمان يضرب رقابكم على الدين. فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. فقال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل، وأنا أخصف نعل رسول الله، ﷺ.
وعن جابر قال: قال رسول الله، ﷺ: لعليٌ هذا وليّكم بعدي إذا كانت فتنة.
وعن مصعب عن أبيه قال: سمعت النبي، ﷺ، يقول: ما لكم ولعلي، من آذى عليًا فقد آذاني.
وعن علي، ﵁، قال: هلك فيّ رجلان: عدو مبغض ومحب مفرط، قال: وقال ليحبّني أقوام حتى يدخلهم حبي النار ويبغضني أقوام حتى يدخلهم بغضي النار، هم الرافضة والناصبة.
وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله، ﷺ: لا يحب عليًا منافق ولا يبغض عليًا مؤمن.
وعن عمرو بن الأصم قال: قلت للحسن بن علي، رضوان الله عليهما: هؤلاء الشيعة يزعمون أن عليًا مبعوث الآن. قال: كذبوا والله ما أولئك بشيعة ولو كان كما يقولون ما أنكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه.
وعن فاطمة، ﵂، قالت: دخل عليَّ عليٌّ، ﵁، وأنا عند النبي، ﷺ، فقال: ابشر يا أبا الحسن! أما إنك في الجنة وإن قومًا يزعمون أنهم يحبونك يرفضون الإسلام يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية لهم نبزٌ يقال لهم الرافضة فإن أدركتهم فقاتلهم فإنهم مشركون.
قال: وحدثنا رجل حضر مجلس القاسم بن المجمّع وهو والي الأهواز قال: حضر مجلسه رجل من بني هاشم فقال: أصلح الله الأمير! ألا أحدثك بفضيلة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ﵁؟ قال: نعم إن شئت. قال: حدثني أبي قال: حضرت مجلس محمد بن عائشة بالبصرة إذ قام إليه رجل من وسط الحلقة فقال: يا أبا عبد الرحمن من أفضل أصحاب رسول الله، ﷺ؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح. فقال له: فأين علي بن أبي طالب، ﵁؟ قال: يا هذا تستفتي عن أصحابه أم عن نفسه؟ قال: بل عن أصحابه. قال: إن الله ﵎ يقول: " قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم "، فكيف يكون أصحابه مثل نفسه؟ وعن عطاء قال: كان لعلي، ﵀، موقف من رسول الله، ﷺ، يوم الجمعة إذا خرج أخذ بيده فلا يخطو خطوة إلا قال: اللهم هذا علي اتبع مرضاتك فارض عنه، حتى يصعد المنبر.
وحدثنا إبراهيم بن أحمد الغضائري بإسناد يرفعه إلى أبي مالك الأشجعي رواه أن النبي، ﷺ، قال: هبط علي جبريل، ﵇، يوم حنين فقال: يا محمد إن ربك ﵎ يقرئك السلام، وقال: ادفع هذه الأترجة إلى ابن عمك ووصيك علي بن أبي طالب، ﵁. فدفعتها إليه فوضعتها في كفه فانفلقت بنصفين فخرج منها رقّ أبيض مكتوب فيه بالنور: من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب.
1 / 18
أبو عثمان قاضي الري عن الأعمش عن سعيد بن جبير قال: كان عبد الله بن عباس بمكة يحدث على شفير زمزم ونحن عنده، فلما قضى حديثه قام إليه رجل فقال: يا ابن عباس إني امرؤ من أهل الشام من أهل حمص، إنهم يتبرأون من علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه، ويلعنونه. فقال: بل لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابًا مهينًا، ألِبُعد قرابته من رسول الله، ﷺ، وأنه لم يكن أول ذكران العالمين إيمانًا بالله ورسوله وأول من صلى وركع وعمل بأعمال البر؟ قال الشامي: إنهم والله ما ينكرون قرابته وسابقته غير أنهم يزعمون أنه قتل الناس. فقال ابن عباس: ثكلتهم أمهاتهم! إن عليًا أعرف بالله ﷿ وبرسوله وبحكمهما منهم، فلم يقتل إلا من استحق القتل. قال: يا ابن عباس إن قومي جمعوا لي نفقة وأنا رسولهم إليك وأمينهم ولا يسعك أن تردني بغير حاجتي، فإن القوم هالكون في أمره ففرّج عنهم فرّج الله عنك. فقال ابن عباس: يا أخا أهل الشام إنما مثل علي في هذه الأمة في فضله وعلمه كمثل العبد الصالح الذي لقيه موسى، ﵇، لما انتهى إلى ساحل البحر فقال له: هل أتّبعك على أن تعلمني مما علمت رشدًا؟ قال العالم: إنك لن تستطيع معي صبرًا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا؟ قال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا. قال له العالم: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا. فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها، وكان قد خرقها لله جل وعز رضىً ولأهلها صلاحًا، وكان عند موسى، ﵇، سخطًا وفسادًا فلم يصبر موسى وترك ما ضمن له فقال: أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئًا إمرًا! قال له العالم: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا؟ قال موسى: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرًا. فكف عنه العالم، فانطلقا حتى إذا لقيا غلامًا فقتله، وكان قتله لله جل وعز رضىً ولأبويه صلاحًا، وكان عند موسى، ﵇، ذنبًا عظيمًا، قال موسى ولم يصبر: أقتلت نفسًا زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئًا نكرًا! قال العالم: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا؟ قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، قد بلغت من لدني عذرًا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض فأقامه، وكان إقامته لله ﷿ رضىً وللعالمين صلاحًا، فقال: لو شئت لاتخذت عليه أجرًا، قال: هذا فراق بيني وبينك. وكان العالم أعلم بما يأتي موسى، ﵇، وكبر على موسى الحق وعظم إذ لم يكن يعرفه هذا وهو نبي مرسل من أولي العزم ممن قد أخذ الله جل وعز ميثاقه على النبوة، فكيف أنت يا أخا أهل الشام وأصحابك؟ إن عليًا، ﵁، لم يقتل إلا من كان يستحل قتله، وإني أخبرك أن رسول الله، ﷺ، كان عند أم سلمة بنت أبي أمية إذ أقبل علي، ﵇، يريد الدخول على النبي، ﷺ، فنقر نقرًا خفيًا فعرف رسول الله، ﷺ، نقره فقال: يا أم سلمة قومي فافتحي الباب. فقالت: يا رسول الله من هذا الذي يبلغ خطره أن استقبله بمحاسني ومعاصمي؟ فقال: يا أم سلمة إن طاعتي طاعة الله جل وعز، قال: " ومن يطع الرسول فقد أطاع الله " قومي يا أم سلمة فإن بالباب رجلًا ليس بالخرق ولا النزق ولا بالعجل في أمره يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يا أم سلمة إنه إن تفتحي الباب له فلن يدخل حتى يخفى عليه الوطء، فلم يدخل حتى غابت عنه وخفي عليه الوطء، فلما لم يحس لها حركة دفع الباب ودخل فسلم على النبي، ﷺ، فردّ ﵇ وقال: يا أم سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم هذا علي بن أبي طالب. فقال رسول الله، ﷺ: نعم هذا علي سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي يا أم سلمة، هذا علي سيد مبجَّل مؤمَّل المسلمين وأمير المؤمنين وموضع سرّي وعلمي وبابي الذي أُوِيَ إليه، وهو الوصيّ على أهل بيتي وعلى الأخيار من أمتي، وهو أخي في الدنيا والآخرة وهو معي في السّناء الأعلى، اشهدي يا أم سلمة أن عليًا يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. قال ابن عباس: وقتلهم لله رضىً وللأمة صلاحٌ ولأهل الضلالة سخط. قال الشاميّ: يا ابن
1 / 19
عباس من الناكثون؟ قال: الذين بايعوا عليًا بالمدينة ثم نكثوا فقاتلهم بالبصرة أصحاب الجمل، والقاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون أهل النهروان ومن معهم. فقال الشاميّ: يا ابن عباس ملأت صدري نورًا وحكمة وفرجت عني فرج الله عنك، أشهد أن عليًا، ﵁، مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. اس من الناكثون؟ قال: الذين بايعوا عليًا بالمدينة ثم نكثوا فقاتلهم بالبصرة أصحاب الجمل، والقاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون أهل النهروان ومن معهم. فقال الشاميّ: يا ابن عباس ملأت صدري نورًا وحكمة وفرجت عني فرج الله عنك، أشهد أن عليًا، ﵁، مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
ويروى أن ابن عباس، ﵀، قال: عقم النساء أن يجئن بمثل عليّ بن أبي طالب، ﵁، ما رأيت مِحربًا يُزنّ به لرأيته يوم صفين وعلى رأسه عمامة بيضاء وكأن عينيه سراجًا سليط وهو يقف على شرذمة بعد شرذمة من الناس يعظهم ويحضهم ويحرضهم حتى انتهى إليّ وأنا في كثف من الناس فقال: معاشر المسلمين استشعروا الخشية وأكملوا اللأمة وتجلببوا بالسكينة وغضوا الأصوات والحظوا الشزر وأطعنوا الوجر وصلوا السيوف بالخطى والرماح بالنبل، فإنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله، ﷺ، تقاتلون عدو الله عليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنّب، فاضربوا ثبجه فإن الشيطان راكس في كسره مفترش ذراعيه قد قدّم للوثبة يدًا وأخّر للنّكوص رجلًا، فصمدًا صمدًا حتى ينجلي لكم الحق وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
وعن ابن عباس أنه قال: لقد سبق لعلي، ﵁، سوابق لو أن سابقة منها قسمت على الناس لوسعتهم خيرًا.
وعنه قال: كان لعلي، ﵁، خصال ضوارس قواطع سِطةٌ في العشيرة وصهر بالرسول وعلمٌ بالتنزيل وفقه في التأويل وصبر عند النزال ومقاومة الأبطال، وكان ألدّ إذا أعضل، ذا رأي إذا أشكل.
قيل: ودخل ابن عباس على معاوية فقال: يا ابن عباس صف لي عليًا، قال: كأنك لم تره؟ قال: بلى ولكني أحب أن أسمع منك فيه مقالًا، قال: كان أمير المؤمنين، رضوان الله عليه، غزير الدمعة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب، يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا دعوناه، وكان مع تقربته إيانا وقربه منا لا نبدأه بالكلام حتى يتبسم فإذا هو تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، أما والله يا معاوية لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قابض على لحيته يبكي ويتململ تململ السليم وهو يقول: يا دنيا إيّاي تغرّين؟ أمثلي تشوقين؟ لا حان حينك بل زال زوالك، قد طلقتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعيشك حقير وعمرك قصير وخطرك يسير، آه آه من بُعد السفر ووحشة الطريق وقلة الزاد! قال: فأجهش معاوية ومن معه بالبكاء.
وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين يصف محاسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن حضره، كرم الله وجهه، في قصيدة له:
رأوا نعمةً لله ليست عليهم ... عليك وفضلًا بارعًا لا تنازعه
فعضوا من الغيظ الطويل أكفهم ... عليك ومن لم يرض فالله خادعه
من الدين والدنيا جميعًا لك المنى ... وفوق المنى أخلاقه وطبائعه
1 / 20