وقال بعض الحكماء: ذهبت المكارم إلا من الكتب. وقال الله ﷿: " اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم "، فوصف نفسه تعالى جده بأنه علم بالقلم كما وصف نفسه بالكرم واعتد بذلك في نعمه العظام وأياديه الجسام ووضع القلم في المكان الرفيع ونوه بذكره وأقسم به كما أقسم بما يخط به فقال: " ن والقلم وما يسطرون، والقلم أرجح من اللسان لأن كتابته تقرأ بكل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان ويوجد مع كل زمان، ومناقلة اللسان وهديته لا تجاوزان مجلس صاحبه ومبلغ صوته، والكتاب يخاطبك من بعيد، وقد قالوا: القلم أحد اللسانين، وقالوا: كل من عرف النعمة في بيان اللسان كان أعرف لفضل النعمة في بيان القلم. وقد يعتري القلم ما يعتري المؤدب عند ضربه وعقابه، فما أكثر من يعزم على عشرة أسواط فيضرب مائة لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع فأراه السكون أن الصواب في الإقلال فلما ضرب تحرك دمه فأشاع الحرارة فيه وزاد في غضبه فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلم فما أكثر من يبتديء الكتاب وهو يريد مقدار سطرين فيكتب عشرة. وقد قيل: القلم الشاهد والغائب يقرأ بكل لسان وفي كل زمان. وقالوا: ظاهر عقول الرجال في اختيارها ومدوّن في أطراف أقلامها، ومصباح الكلام حسن الاختيار. وقالوا: القلم مجهِّز جيوش الكلام، يخدم الإرادة ولا يمل الاستزادة، ويسكت واقفًا وينطق سائرًا على الأرض، بياضه مظلم وسواده مضيء، وقال الشاعر:
قومٌ إذا خافوا عداوة معشرٍ ... سفكوا الدمِّا بأسنة الأقلام
ولَمَشقة من كاتب بمداده ... أمضى وأقطع من صنيع حسام
وقال آخر أيضًا:
ما السيف والسيف سيفُ الكميّ ... بأخوف من قلم الكاتب
له غايةٌ إن تأمّلتها ... ظهرت على سَوءة الغائب
أداة المنية في جانبيه ... فمِن مثلِه رهبة الراهب
سنان المنيّة في جانبٍ ... وسيف المنيّة في جانب
ألم تر في صدره كالسّنان ... وفي الردف كالمرهف القاضب
فيجري به الكف في حالةٍ ... على هيئة الطاعن الضّارب
وقال آخر أيضًا ملغزًا:
وأعجف رجلاه في رأسه ... يطير حثيثًا على الأملس
مطاياه من تحته الإصبعان ... ولولا مطاياه لم يلمس
وقال آخر، سامحه الله:
وأعجف مُنْشَقِّ الشِّباة مقلَّمِ ... موشّى القرا طاوي الحشا أسود الفم
إذا هو أضحى في الدواة فأعجمٌ ... ويضحي فصيحًا في يدي غير أعجم
يناجي مناجاةً أغرَّ مُرزّأً ... متى ما استمعْ معروفه يتبسمِ
وقال آخر، ﵀:
لك القلم الذي لم يجر لؤمًا ... بغاية منطق فكبا بعِيِّ
ومبتسمٌ عن القرطاس يأسو ... ويجرح وهو ذو بال رخيِّ
فما المقداد أعضب مِن شَباهُ ... ولا الصمصام سيف المذحجيّ
وقال وأجاد:
أحسن من غفلة الرقيب ... ولحظة الوعد من حبيب
والنغم والنقر من كعابٍ ... مصيبة العود والقضيب
ومن بنات الكروم راحًا ... في راحتي شادنٍ ربيب
كَتبُ أديبٍ إلى أديب ... طالت به مدة المغيب
فنَمّقت كفه سطورًا ... تنمّقُ الصبر في القلوب
تترك من سُطّرت إليه ... أطرب من عاشق طروب
وقال آخر:
إذا استمدّت صرفت الطرف عن يدها ... خوفًا عليها لما أخشى من التهم
كأنما قابل القرطاس إذ مشقت ... منها ثلاثة أقلامٍ على قلم
وقال أشجع في جعفر البرمكي:
إذا أخذت أنامله ... تُبَيّن فضله القلما
تطأطأ كلٌ مرتفعٍ ... لفضل الكَتْبِ مذ نجما
يقدم ويؤخر، أراد: إذا أخذت أنامله القلم تبين فضله. وفي الخط قال: نظر المأمون إلى مؤامرة بخط حسن فقال: لله در القلم كيف يحوك وشي المملكة! وقال يحيى بن خالد البرمكي: الخط صورةٌ روحها البيان ويدها السرعة وقدماها التسوية وجوارحها معرفة الفصول، وقال في مثله، رحمه الله تعالى:
1 / 5