قيل: وقدم الحسن بن علي، رضوان الله عليه، على معاوية، فلما دخل عليه وجد عنده عمرو بن العاص ومروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة وصناديد قومه ووجوه اليمن وأهل الشام، فلما نظر إليه معاوية أقعده على سريره وأقبل عليه بوجهه يريه السرور بمقدمه، فلما نظر مروان إلى ذلك حسده وكان معاوية قال لهم: لا تحاوروا هذين الرجلين فلقد قلدّاكم العار وفضحاكم عند أهل الشام، يعني الحسن بن علي، ﵄، وعبد الله بن العباس، ﵄، فقال مروان: يا حسن لولا حلم أمير المؤمنين وما قد بنى له آباؤه الكرام من المجد والعلاء ما أقعدك هذا المقعد ولقتلك وأنت له مستوجب بقودك الجماهير، فلما أحسست بنا وعلمت أن لا طاقة لك بفرسان أهل الشام وصناديد بني أمية أذعنت بالطاعة واحتجرت بالبيعة وبعثت تطلب الأمان، أما والله لولا ذلك لأريق دمك، وعلمت أنا نعطي السيوف حقها عند الوغى، فاحمد الله إذ ابتلاك بمعاوية فعفا عنك بحلمه ثم صنع بك ما ترى، فنظر إليه الحسن فقال: ويحك يا مروان لقد تقلدت مقاليد العار في الحروب عند مشاهدتها والمخاذلة عند مخالطتها، نحن، هَبِلتك الهوابل، لنا الحجج البوالغ ولنا إن شكرتم عليكم النعم السوابغ، ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار، فشتان ما بين المنزلتين، تفخر ببني أمية وتزعم أنهم صُبّر في الحروب أُسد عند اللقاء، ثكلتك أمك أولئك البهاليل السادة والحماة الذادة والكرام القادة بنو عبد المطلب، أما والله لقد رأيتهم وجميع من في هذا البيت ما هالتهم الأهوال ولم يحيدوا عن الأبطال كالليوث الضاربة الباسلة الحنقة، فعندها ولّيت هاربًا وأُخذت أسيرًا فقلّدت قومك العار لأنك في الحروب خوّار، أيراق دمي زعمت؟ أفلا أرقت دم من وثب على عثمان في الدار فذبحه كما يذبح الجمل وأنت تثغو ثغاء النعجة وتنادي بالويل والثبور كالأمة اللكعاء، ألا دفعت عنه بيدٍ أو ناضلت عنه بسهم؟ لقد ارتعدت فرائصك وغشي بصرك فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربه، فأنجيتك من القتل ومنعتك منه ثم تحثّ معاوية على قتلي، ولو رام ذلك معك لذبح كما ذبح ابن عفان، أنت معه أقصر يدًا وأضيق باعًا وأجبن قلبًا من أن تجسر على ذلك ثم تزعم أني ابتُليت بحلم معاوية، أما والله لهو أعرف بشأنه وأشكر لما ولّيناه هذا الأمر فمتى بدا له فلا يغضينّ جفنه على القذى معك، فوالله لأثخننّ أهل الشام بجيش يضيق عنه فضاؤها ويستأصل فرسانها ثم لا ينفعك عند ذلك الهرب والروغان ولا يردّ عنك الطلب تدريجك الكلام، فنحن ممّن لا يجهل آباؤنا القدماء الأكابر وفروعنا السادة الأخيار، انطق إن كنت صادقًا. فقال عمرو: ينطق بالخنى وتنطق بالصدق. ثم أنشأ يقول:
قد يضرط العير والمكواة تأخذه ... لا يضرط العير والمكواة في النار
ذق وبال أمرك يا مروان. وأقبل عليه معاوية فقال: قد كنت نهيتك عن هذا الرجل وأنت تأبى إلا انهماكًا فيما لا يعنيك، اربع على نفسك فليس أبوك كأبيه ولا أنت مثله، أنت ابن الطريد الشريد وهو ابن رسول الله، ﷺ، الكريم، ولكن رُبّ باحث عن حتفه وحافر عن مديته. فقال مروان: ارم من دون بيضتك وقم بحجة عشيرتك. ثم قال لعمرو: طعنك أبوه فوفيت نفسك بخصييك فلذلك تحذّره. وقام مغضبًا. فقال معاوية: لا تُجار البحور فتغمرك ولا الجبال فتبهرك واسترح من الاعتذار.
1 / 40