كذلك فإن جرينا وراء المتعة لم يعد يعرف حدا يقف عنده، وبحثنا عن اللذة المتجددة لا يسلمنا إلا إلى الألم المتجدد. نريد أن نقتني التليفزيون، ولا نكاد نحصل عليه حتى نلهث وراء الثلاجة والعربة الخاصة والمركز المرموق، ولا نكاد نصل إلى هدف حتى تلهب السياط ظهورنا إلى هدف جديد، ولا نكاد نحقق حاجة حتى نشتهي حاجات وحاجات. وطبيعي أن الدعوة إلى حكمة الحكماء أو نسك النساك تكون هنا سخفا يبعث على الضحك والرثاء، ولكن ألا يحق لنا مع ذلك أن نسأل: إلى أين يؤدي بنا هذا القلق المستمر؟ إلى أين يسوقنا التعجل الدائم واللهاث الذي لا ينقطع؟ وهل يعرف الراحة من يجري على الدوام؟ وهل يشعر بالمتعة الحاضرة بين يديه من لا يكف عن السعي إلى متع جديدة لا تنتهي؟ ألا يكون السؤال هنا على الحد والاعتدال ضرورة لازمة؟
ولا يختلف الأمر في عالم الصناعة والتقدم التكنولوجي؛ فالاكتشاف يلحق الاكتشاف، والرقم القياسي يضرب الرقم القياسي، والتقدم التكنولوجي يسير بسرعة مذهلة تنسيه السؤال عن معناه أو غايته، وكأنه عربة تنحدر من قمة الجبل إلى قاع الوادي، بعد أن غاب سائقها وفسدت فراملها. لقد أصبح الاهتمام بالكم على حساب القيمة، والكيف هو شعار العصر، وأصبحت الإحصائية التي تترجم الزيادة والتفوق إلى أرقام قياسية هي مطلب الساعة. ومن الطبيعي أن يكون الوقوف في وجه التطور أمرا مستحيلا، بل غير مرغوب فيه ، والحنين إلى فردوس الرعاة أو طبيعة «روسو» عاطفية وسذاجة. ولكن ألا يحق لسائل أن يسأل: نحن نتطور، جميل، ولكن إلى أين؟ ما المعنى ولأية غاية؟ أهو التطور من أجل الإنسان؟ أم الإنسان من أجل التطور؟ أليس من واجبنا في زحمة هذا العمل والتطور أن نفهم كيف نحافظ على هدوئنا الباطني؟ أليس على العالم ورجل الاقتصاد أن يراعيا العدل والاعتدال؟ إن عليهما ألا يتركا التطور و«التكنيك» يسيطر على الإنسان؛ لأنهما قد خلقا من أجله ولم يخلق ليكون عبدا أو ضحية لهما، ذلك عبء يلقيه على الكتفين واجب المحافظة على الحد، وهو عبء يزداد ثقلا كلما ازداد العلم والتكنيك تطورا، فلا شك أن أي إنسان محب للمعرفة والتقدم يعجب من كل قلبه بالنجاح العلمي الذي يتحقق كل يوم والجهد العقلي الذي يكمن وراءه، بل ويفتخر بأنه ينتمي إلى نفس الجنس الذي أخرج كل هذه المعجزات إلى الوجود، ولكنه كذلك لا بد أن يأسف للقلق والعذاب الذي سببه لأبناء هذا الجيل، والخوف المستمر من مصير هذا كله إن لم يتحكم العقل المتزن في زمامه. أما التطرف في مجال السياسة فلأترك كوارث حربين عالميتين وحروب جانبيه لم تهدأ نارها يوما واحدا أن تتحدث بنفسها عنه!
قلت: إن من الصعب أن أتتبع في هذا المجال الضيق تطور فكرة الحد والاعتدال، وبخاصة في تلك العصور «الكلاسيكية» التي قد يرجع السبب في تسميتها كذلك إلى أنها عرفت كيف تحافظ على المقياس الصحيح في كل شيء، وأن تزن قدرات الإنسان بالميزان العدل، وتضع له في مجالات المعرفة والشعور والطموح تلك الحدود التي لا ينبغي للإنسان أن يتخطاها ما بقي إنسانا. إنه كلما تطاول به التبجح والغرور إلى عرش الآلهة، أو هوت به الشهوة العمياء إلى حضيض الوحوش؛ فقد إنسانيته ولف حبل المأساة حول رقبته. وقد رأى القارئ كيف كتب اليونان الأقدمون شعارهم الرائع المضيء على بوابة تاريخهم، وكيف ظلت عبارتهم «لا تبالغ في شيء» هي اللحن الأساسي في حضارتهم وأدبهم. والقارئ يعرف بالطبع مقدار العذاب الذي قاساه بروميثيوس الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر، مع أنه لم يكن بشرا خالصا بل كان نصف إله. وطبيعي كذلك ألا يغفل من يتعرض للاعتدال عن رأي الفيلسوفين العظيمين: أفلاطون وأرسطو، الأول بفكرته المشهورة عن «السوفروزيني» (التعقل أو التدبر)، وهي فضيلة العلاقة والمقياس الصحيح الذي يحافظ به الإنسان على حريته تجاه النزعات والانفعالات، دون أن يضطر إلى كبت هذه النزعات والانفعالات، أو فكرته المشهورة عن العدالة كما شرحها في جمهوريته بوجه خاص، بحيث لا تقتصر على ما نفهمه منها الآن من فضيلة العدل والإنصاف عن طريق القانون، بل تتسع فتشمل التوازن الذي يحققه الإنسان بين ملكاته وقواه المختلفة، وتدل على المثل الأعلى للتجانس والانسجام. ولا نستطيع أن نغفل الثاني بفكرته المشهورة عن الفضيلة بوصفها «الوسط العسير» بين زيادة مفرطة في جانب ونقصان مخل في جانب آخر، فالشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين الإسراف والبخل، ولا أن ننسى فضائل الفروسية في العصور الوسطى. وما نعرفه في التراث العربي من فضائل الشهامة والعفة والكرم والإباء أشهر من أن نتعرض له. المهم في هذا كله هو المقياس الحي الصحيح بين طرفين معيبين، والحد المعتدل بين الانفعال الطائش الأعمى من ناحية والعقلانية الجافة الذليلة في ناحية أخرى، وليس هناك مقياس واحد يصلح لكل زمان ومكان، وإلا ألغينا صفة أساسية من صفات الإنسان، وهي أنه كائن تاريخي، من حقه أن يحدد نفسه تحديدا متجددا إزاء الظروف والمواقف الجديدة عليه. والمثل الذي قدمناه عن «إيكاروس» أو عن «ابن فرناس» اللذين تجاوز كل منهما حدود الإنسانية في زمانه، وأراد أن يستعير جناح الطير ويرفرف فوق أرض البشر؛ لم يعد من الممكن اليوم أن نذكره كمثال على التطرف أو التهور، وإلا كنا كمن ينصح الطيارين بأن يعودوا إلى العقل ويسيروا على الأرض فهي أسلم! المهم بعد هذا كله أن نؤكد نسبية الحد وانبثاقه عن حرية الإنسان وتقديره للموقف الذي يجد نفسه فيه، وأن نعرف أن كرامته وواجبه في أن يخلق لنفسه هذا الوسط المعتدل.
حين نذكر كلمة «الاعتدال» نذكر معها إحدى فضائل الرجولة التي كادت تفقدها ذاكرة العصر . وليس من قبيل الصدفة أن الكلمة في لغتنا تقترب من كلمة العدل، على الأقل من ناحية الحروف والظلال التي تلقيها؛ فبالاعتدال نشير إلى مسلك عملي نلتزم فيه بالتوسط، ونتجنب التطرف والشطط. فإذا قلنا على سبيل المثال: إن فلانا من الناس معتدل في طعامه وشرابه، فإنما نقصد بذلك أنه يلتزم بمقدار أو كم معين في تناوله لهما، وأنه يزيد في هذا المقدار أو الكم إذا مال إلى التخمة أو الشراهة. ولكن الاعتدال الذي نريده هنا أبعد في معناه وأعلى في درجته، إنه فضيلة أساسية لا تني مذاهب الأخلاق والأديان عن تأكيدها، هو هذه الكلمة التي تعرفها اللغة اللاتينية حين تقول
Temperantia
حقيقة: إن معنى هذه الكلمة الأخيرة مرتبط بضبط النفس عند الغضب، كما أننا لا نخلو في حياتنا اليومية من مقارنة الاعتدال الذي نعنيه بشيء غير قليل من الخوف من كل غرور أو اغترار، والتوصية بنوع من الحذر والتواضع. والكلمات المأثورة في هذا الصدد لا يكاد يحصيها العد، وسواء كانت حكما متداولة، أو أبياتا قديمة من الشعر، أو آيات من القرآن أو مأثورات من الحديث، فهي جميعا لا تخرج عن معنى التقيد بحد لا يصح أن يتجاوزه الإنسان في الفكر والعمل، بل إن معظم الفضائل كالصدق والعفة والكرم تشارك في هذا المعنى بنصيب، وإذا كانت تشترك في هذا المعنى الإيجابي، فهي تشترك أيضا في معنى سلبي؛ فهي تفيد التجدد، وعدم التطرف أو المبالغة والغلواء، ومرادف الكلمة اليونانية لا يخرج عن هذا المعنى المألوف، فكلمة «سوفروزين
sophrosyne » تفيد الفهم المنظم المدبر، بمعنى أنه يجمع الأجزاء والأشتات المتفرقة ليضمها في نسق واحد منتظم، وليس من المصادفة أن تأتي كلمة «العقل» في اللغة العربية من «عقل البعير» أي ربطها إلى الوتد، أي ألزمها المسلك الذي لا ينبغي أن تخرج عليه، أي ضبطها وأدخلها في نظام، وكذلك الأمر مع الاعتدال، فهو لا يضبط الأعضاء الخارجية وحدها، بل يحقق النظام في باطن الإنسان، ويخلق لديه ما نسميه راحة الضمير، لا بل إنه من دون الفضائل جميعا ينصرف على الإنسان نفسه، فإذا كانت العدالة تتصل بإنصاف الغير، والشجاعة بإنكار الذات والتضحية بالمتاع والحياة، والصدق بإيثار الحقيقة مهما كان الكذب مقترنا بالكسب والنجاح، فإن الاعتدال دائما ما يتعلق بالإنسان نفسه؛ إنه يجعله يوجه نظرته وإرادته إليها وحدها، مهذبا ومعلما ومربيا، وجاعلا من الأثرة إيثارا، ومن الشح كرما، والغضب اتزانا، والشره عفة وقناعة، وبذلك تحافظ على النفس من حيث تعلم إنكار النفس، وتجعل من القوى التي يمكن أن تدمرها عاملا على بقائها وبنائها. وبذلك تصبح العفة والقناعة والتواضع والرأفة والصبر إلخ أسبابا لتحقيق ما سميناه بالاعتدال، كما يصبح الفجور والجشع والغرور والغضب أشكالا للتطرف والغلواء. ولكن لماذا نكره بالفطرة كل ما يخرج عن الاعتدال ويجنح إلى التطرف والمبالغة؟ نجيب باختصار: لأنه خروج على نظام العقل. ونسأل مرة أخرى: وما هو نظام العقل؟ أهو ناموس مثالي من السنن والقوانين قد وجد قبل أن توجد الأشياء؟ أم هو شيء كامن فيها؟ نجيب كذلك باختصار، وبغير أن ندخل في تفاصيل لا حاجة إليها: إن نظام العقل هنا يفترض صلة الارتباط بالواقع، فما يتفق مع العقل يتفق كذلك مع حقيقة الأشياء الواقعية، ويكون صوابا وحقا في ذاته، والعقل هنا هو الملكة التي يدرك الإنسان بها الواقع، فإذا خرج الإنسان عن حقيقة هذا الواقع ونظامه خرج كذلك عن حقيقة العقل ونظامه، فالعفة التي تتحكم في طاقات الجنس وتعصمها من الفحش أو الشذوذ، والشجاعة التي تضبط قوى النفس وتقيها من التهور أو الجبن، والتواضع الذي يحدد الطريق بين الغرور والضعة، كلها فضائل تحقق نظام العقل وترضي قوانينه الخالدة، وكل ما يحقق نظام العقل فهو يحقق نظام العدالة.
لقد عرفت الإنسانية من قديم الزمان - في تجارب الزهاد والقديسين والصالحين - أن العفة والقناعة هي الأصول الأولى للاعتدال وضبط النفس، كما عرفت أن فضيلة الاعتدال أوثق اتصالا بالحياة الأخلاقية والعقلية للإنسان.
وينقلنا هذا إلى الكلام عن التواضع، فنحن لا نستطيع أن نتكلم عن الاعتدال بغير أن نذكر التواضع ، فمن المعروف أن من طبيعة الإنسان أن يطمح إلى تحقيق الصورة الكاملة لوجوده، وأن يسعى جهده إلى التفوق والامتياز. وحين تنجح فضيلة الاعتدال في ربط هذه النزعة الطبيعية بنظام العقل نطلق عليها اسم التواضع. ولكن ما هو التواضع؟ هو أن يقدر الإنسان نفسه بما يطابق الحقيقة، دون أن يغالي في الزيادة أو النقصان، وما من شيء يوضح حقيقة التواضع أفضل من القول بأنه لا يتنافى مع الإباء، بل إنهما متجاوران متقاربان، فإذا أردنا أن نبحث عن ضدهما وجدناه في الغرور والضعة على التوالي.
فالأبي هو الذي يتجه بالفكر والعقل إلى عظائم الأمور، إنه يسعى إلى العظمة ويحقق ما يجعله جديرا بها «وإذا كانت النفوس كبارا ...» وينظر فيما حوله فيختار ما يليق به، ويعد نفسه لما يجلب له الشرف الرفيع، كل ما يخل بالشرف فهو غير خليق به، وكل صغار فهو محتقر في همته على نحو ما يقول المتنبي، إنه صادق غير هياب، وما من شيء تستبشعه نفسه كالخوف من إعلان كلمة الحق، والنفاق والخسة والخديعة وكل ما يصدر عن النفوس الصغيرة أشياء يحتقرها، بل إنه لا يعرف الشكوى من شيء ولا الشكوى لأحد؛ لأن قلبه لا يسمح لأي شر من الخارج أن ينتصر عليه، إنه كبير الأمل دائما، واثق على الدوام، مرتاح القلب راحة من لا يعرف الخوف أو اليأس أو الارتياب، إنه لا يحني رأسه لإنسان، ولا يخضع لقدر، ولا يستسلم لاضطراب العاطفة، وليس غريبا بعد هذا أن يكون الإباء مقترنا بالتواضع، وألا يتنافى التواضع مع شيء بقدر ما يتنافى مع الضعة والمهانة.
Unknown page