والتواضع بمعناه الحق لا يتصل بعلاقة الناس بعضهم ببعض، إنه خضوع المخلوق لقوة تعلو عليه، وإقراره بالفناء والعجز أمام الوجود الأكبر، وهو في صميمه موقف باطني، تختاره الإرادة وتصر عليه، وليس مجرد مظهر خارجي في السلوك والعادات، إنه قبل كل شيء اعتراف من الإنسان بأنه «ليس إلها» ولا هو كالإله، ولعلنا نستطيع أن نقول: إن في هذا الاعتراف نوعا من الذكاء الفطري، أو من المرح والصفاء ، وأن في الغرور شيئا من الكآبة والجهامة جعلت البعض يقول: إن الذنوب جميعا تفر أمام وجه الله، إلا الغرور فهو يعانده ويتحداه! ونصل إلى الاعتدال في مجال المعرفة.
هناك من يقرءون الكتب وكأنهم يبتلعونها، إنها لا تجر عليهم إلا المغص والتخمة العقلية، وهناك من يتناولونها تناول الغذاء والشراب؛ لتصبح دما من دمهم ولحما من لحمهم، أولئك تنطبق عليهم كلمة حب الاستطلاع
curiositas ، والآخرون كلمة الاجتهاد وحب المعرفة
studiositas ، ولا بد من التفرقة بين هاتين الكلمتين اللتين تمثلان الاعتدال والتطرف في النزوع إلى المعرفة والتجربة وإدراك التنوع في ظواهر الكون، والطموح الطبيعي إلى التعرف عليه.
3
إن إرادة المعرفة - هذه الملكة العالية من ملكات الإنسان - في حاجة دائمة إلى الحكمة التي تضع لها الحدود التي ينبغي أن نقف عندها، فعلى الإنسان أن يعرف لنفسه حدا لا يتجاوزه في معرفته للأشياء، حتى لا يقع في التناقض والوهم، ولا يسبح في التأمل الأجوف بعيدا عن أرض الواقع المتاح. كذلك كان هم واحد مثل «كانط» أو مثل «نيتشه» في حربهما على الميتافيزيقا، ولفتهما الأنظار إلى عالم التجربة والواقع.
ولكن كيف يكون هذا التطرف والخروج على الحد؟ نحن لا نستطيع بالطبع أن نصف جهود العقل في الكشف عن أسرار الطبيعة بالتطرف، أو طموح العلم إلى حل ألغاز الكون بالخروج عن الحد؛ فروح الفلسفة والعلم في السؤال، ولا يمكن أن يكون هناك حد لهذا السؤال، ومع ذلك فكثيرا ما يفلت منا «الكل» حين نقصر البحث على «الأجزاء»، وكثيرا ما يكون سوء استغلال النظرة العلمية المدققة إلى الظواهر سببا في ضياع «روحها» و«معناها» وفقدان الصلة الحميمة التي كانت تربط الإنسان القديم بها، وما زالت تقرب الطفل والشاعر منها، وربما كان هذا «النهم» العلمي الذي لا يقنع بحد يقف عنده سببا في كثير مما يعانيه عصرنا من القلق والضيق اللذين لا يكف اليوم أهل المدن عن الحديث عنهما. ولعل كلمة من كلمات جوته في شيخوخته تعبر عن ذلك حين تقول: «إن في إمكاننا أن نعرف كثيرا من الأشياء معرفة أفضل ، لو أننا لم نحاول أن نعرفها بالدقة المتناهية»، وعندما أطلق الروس قمرهم الصناعي الأول هلل المتحمسون والمتعجلون بهذا النصر العلمي الذي كان وما يزال مفخرة للبشر في كل مكان، ولكن بعضهم ذهب في غمرة حماسه إلى حد القول بأن الإنسان قد أصبح قادرا على الكشف عن كل الأسرار، وكأن جيوش البشر قد ضربت الحصار حول مملكة الله! مع أن كل سر نكشف عنه اللثام يفضي بنا إلى سر جديد، وكل انتصار حقيقي ينبغي أن يزيد من تواضعنا بقدر ما يضيف إلى ثقتنا بأنفسنا، ومعارفنا مهما زادت ليست إلا مصباحا صغيرا نرفعه وسط بحر مظلم من أسرار المجهول.
طبيعي أن الإنسان لم تخلق له عينان إلا ليرى بهما، وينظر الأعماق وراء السطوح، ولكن هناك نوعا من لذة الرؤية يفسد عليه معنى الرؤية الأصيل، ويجلب عليه التشتت والاضطراب؛ فالمعنى الأصيل للرؤية هو إدراك الواقع والحقيقة، غير أن نهم العينين لا يحاول إدراك الواقع، بل ينصب على حب الاستطلاع. وإذا كان النهم في الطعام والشراب لا يقصد الشبع بقدر ما يقصد التلذذ بالمأكل والمذاق، فإن نهم العيون المحبة للاستطلاع لا يتجه إلى إدراك الحقيقة والتلبث فيها عن معرفة ويقين، بل يريد أن يسلم نفسه للعالم (على نحو ما يقول هيدجر في كتابه «الوجود والزمان» ص172). إن حب الاستطلاع بهذا المعنى المبتذل لا يزيد عن كونه نوعا من الهروب العقلي، كما يقول القديس توماس الأكويني، يتجلى في لذة الثرثرة والكلام، والظمأ الدائم إلى الاستطلاع، وجمع المعلومات، والقلق الذي لا يستقر على فكرة أو رأي. إن الإنسان يقتلع من جذوره، يعجز عن السكن في ذاته، يظل يتقلب من موضوع إلى موضوع ومن مكان إلى مكان، يهرب يائسا من فراغ نفسه ليبحث عن الوجود الخصب حيث يتعذر العثور عليه، وتظل شهوة الاستطلاع تلهث وراء الانطباعات والإحساسات، وتتهالك على الإثارة والضجة والإغراب، فتفقد البصيرة حين تسيء استخدام البصر، وتفتح نوافذ الحواس على مصراعيها فتضيع الإحساس، وتبني لنفسها عالما من الفراغ واليأس لا تسكنه إلا أشباح التسلية والزينة والأضواء والألوان، عالم خداع هو العدم بعينه، يخنق قدرة الإنسان على إدراك الواقع ، ويفقده هدوء العقل وتركيزه وكرامته، ويبعده عن نفسه بقدر ما يبعده عن الحقيقة، فإذا طالبنا العين بالاعتدال فإننا نطالبها بأن تحمي نفسها من بريق المظهر لتعود إلى الرؤية الأصيلة، وتأخذ نفسها بنوع من الصوم عن حب الاستطلاع حبا في المعرفة، بذلك وحده تستطيع أن ترى نفسها وترى العالم، وتحافظ على هدوء النفس وانسجام الوجدان بعيدا عن بريق المظهر وصراخ الألوان، ولن يخفى على القارئ - خصوصا في زمان الكم والدعاية والإعلام - ما في هذا النوع من الاعتدال من شجاعة ورجولة وجمال!
بالتطرف في اللذة أو التسلط أو مختلف أمراض الأنانية؛ يفقد الإنسان نفسه من حيث يريد أن يثبت وجودها، فكل خطوة على طريق التطرف هي في الواقع خطوة على طريق اليأس. إن المتطرف يخلق لنفسه جنة كاذبة من المتع الموهومة، كلما حاول إثبات نفسه عن طريق اللذة ازداد نسيانا لها وهروبا منها؛ ذلك أنه سرعان ما يكتشف أن الخروج عن الحد هو اليأس بعينه، وحيث يكون التهالك على اللذة عبئا وسخرة، يكون الاعتدال حرية ونقاء، وما الاعتدال في نهاية الأمر إلى نقاء القلب. ولست في حاجة إلى أن أدعو القارئ إلى الصوم أو التهجد أو الوحدة أو الصمت حتى يصل إلى هذا النقاء، فرجال الدين والتصوف أقدر مني على ذلك، كما أن النقاء لا يصطنع وليست هناك وصفة مجربة لتحضيره. إن الإنسان يكون في القلب أو لا يكون، قد تساعد على تطهيره تجارب الحياة من فرح عظيم أو ألم عظيم (فليست المآسي التي تمثل على المسرح هي وحدها التي تطهر كما تقول عبارة أرسطو المشهورة!) وقد ينقيه إحساس بالخطر الهائل، أو بالقرب من الموت، المهم أن نقي الروح سيحس بأن كيانه كله قد تفتح للوجود، وأنه يقف موقف الشجاع الواثق من حقيقة الكون والإنسان، وأن طريق العدل والاعتدال هو سبيله الوحيد إلى هذا الموقف الشجاع. •••
مما يعزي النفس حقا أن يرتفع صوت واحد من أنبل المفكرين من أبناء هذا الجيل دفاعا عن الحد ودعوة إلى المحافظة عليه، وأعني به الكاتب المفكر «ألبير كامي». إنه في كتابه الرئيسي «المتمرد» الذي يستعرض فيه قدر الثورات الغربية - من ثورة سبارتاكوس محرر العبيد إلى الثورة الفرنسية والثورة الماركسية - يشرح كيف انحرفت هذه الثورات عن التمرد المعتدل وانفلتت من الحد الذي ترسمه الطبيعة الإنسانية، فبدأت بتحرير الإنسان من العبودية وانتهت بفرضها عليه. وإذا كان التمرد بوجه عام هو ذلك الإنسان الذي يقول «لا» في وجه الموت والظلم والعذاب، فهو كذلك الذي يقول «نعم» ليؤكد وجود حد ينبغي لمضطهده أن يقف عنده، إنه يقول له: «إلى هنا ولا تزد»، كما يقول له: «هناك حد لا يجوز لامرئ أن يتخطاه»، ولكنه بهذا النفي والاحتجاج يؤكد في الوقت نفسه وجود قيمة يريد لها أن تحترم، كما يؤكد وجود طبيعة إنسانية مشتركة لا يجوز لأحد أن يمتهنها أو يجور عليها، فالتمرد الحق لا بد أن يكون تمردا معتدلا يعرف حدوده أو لا يكون على الإطلاق، وفكرة الحد هي الثمرة الخالدة التي أهدتها إلينا شجرة الفكر اليوناني أو فكر الظهيرة والبحر المتوسط كما يسميه كامي، واجتمع فيها كل روحه وكل جوهره، وهي وحدها التي تستطيع أن تحمي التمرد عبر التاريخ الطويل المزدحم بالتهور والتطرف والجنون، فتبين له النظام والمعيار، وتخلقه في كل لحظة من جديد، وتحرص على ألا ينزلق في الانحرافات التي وقعت فيها الثورات على اختلاف العصور. أما فكر منتصف الليل، أو فكر أبناء الشمال، فهو في نزوعه إلى المطلق وشوقه المستمر إلى اللامتناهي، وانفلاته من كل القيود والحدود التي تفرضها طبيعة البشر المحدودة، قد انتهى - على يد هيجل وأتباعه - إما إلى تأليه الإنسان أو تشييئه، لقد أراد أن يحقق المستحيل في الممكن، والمجرد في الواقع، والمطلق في النسبي، وكان هدفه هو تحقيق الحرية المطلقة عن طريق تأليه الإنسان، أو تحقيق العدالة المطلقة في دولة مثالية بعيدة يجعله شيئا من الأشياء، إنه يندفع بأقصى سرعته في غزو الشمول، ويفلت على الدوام من الحدود ليتوه في مغامرة اللا محدود، وما أبعده بذلك عن فكر «الظهيرة» الذي وجد مثله الأعلى في الروح اليوناني الذي التزم دائما بفكرة الحد، واستطاع أن يحافظ على التوازن بين الطبيعة والعقل، وبين الظل والنور، بعيدا عن النزعة الشمولية التي تهدد اليوم بدمار العالم!
Unknown page