أما قول لا، فقد تبينا بما فيه الكفاية أن وظيفته الأساسية هي الاحتجاج، وأما الفيلسوف فلسنا في حاجة إلى تعريفات قديمة أو حديثة تبالغ في شأنه حتى يصبح أسطورة حية، أو تضع منه حتى يوشك أن يكون واحدا من البلهاء الذين قد يتسع صدرنا لسماعه، ولكننا لا نتردد في طرده والتخلص منه! إنما الفيلسوف هنا اسم للإنسان الذي «ينصرف إلى الكل» ويدخل كل مجالات الواقع ليبدي رأيه الحر فيها، دون أن يغلق الباب وراءه أو يتقيد بواحدة منها. وإذا كان من حقه أن يتكلم عن كل شيء، فهو حق من يسأل على الدوام، أعني من يملك في نفس الوقت حرية قول «لا»، حرية الاحتجاج، وهو في عصرنا إذا احتج على مشكلة العصر كله، وأعني بها تشييء الإنسان وإهدار ذاتيته وجعله موضوعا يمكن أن يصنع به ما يراد له، وتمزيق العالم بما يبعده ويبعد أعظم وأتعس سكانه (الإنسان) عن الوحدة السعيدة وعن منبع الوجود الأول؛ إذا احتج على هذا كله فهو لا يحتج باسمه فحسب، ولكنه يحتج على الخيانة التي ترتكب باسم الإنسان، كما يحتج كذلك باسم الظالمين والمظلومين والجلادين والضحايا؛ لأنه احتجاج ينصرف - كما قلت - إلى «الكل»، ولا يتقيد بدائرة أو طبقة أو مجال محدود، ولأنه احتجاج يحاول أن ينفذ إلى قلب الجميع؛ لأنه يقصد النموذج الإنساني الأسمى في الجميع. ولكن على أي شيء يحتج؟ ولمن يوجه هذا الاحتجاج؟ وأين هي حدوده التي تجعله تمردا مثمرا لا صراخا أجوف؟ ليس من العسير الآن أن نتبين احتجاج من يقول «لا» لكي يؤكد النعم، وسخط من يؤذيه «عدم الوجود» الذي يوشك أن ينفذ إلى كل مجال ظاهر أو باطن في الحياة من أجل وجود سعيد كامل متحد مع نفسه. إنه صرخة اللا التي لا تضيع في صحراء، بل تحاول أن تلفت الآذان إلى صوت المثل الأعلى، وتوجه الأنظار إلى قيمة تتجسد فيها كرامة الإنسان وحقه العادل المشروع في السعادة والأمان. هو إذن احتجاج على الأخطار الثلاثة التي قلنا إنها من أبشع الأخطار التي تواجهنا في العصر الذي نعيش فيه، وهي ضياع الذات وتدمير النفس والصمت المفروض على الملايين. احتجاج يواجه هذه الأخطار بالأمل والشجاعة؛ فيقول «لا»، ويعمل على تأكيد الذات وتكريم النفس وتحويل الكلام إلى حوار حقيقي بين البشر فيقول: «نعم.»
وشجاعة وتواضع
أيها الإنسان! لست إلها؟
كلمات عن التواضع والاعتدال
لأنه لا يجوز لإنسان
أن يقيس نفسه بالآلهة.
إنه إن ارتفع بنفسه،
ولمس النجوم بهامته،
لا يثبت كعباه المرتعشان
في أي مكان.
Unknown page