بل تعبث به
السحب والرياح.
جوته: عن قصيدة «حدود الإنسانية»
موقف الإنسان في هذه الأيام موقف عجيب.
لا أحب في بداية هذا المقال أن أتسرع بالحديث عن انحلال الإنسان المعاصر وتفسخه ومحنته وما شابه ذلك من الكلمات اليسيرة ، ولكن القارئ قد يتفق معي إذا قلت إنه يشعر بنوع من الإحساس بالغربة، وبأن العالم المحيط به قد أصبح يهدده ويعاديه على نحو من الأنحاء. إنه يشعر - كما يقول الشاعر رلكه - بأنه «لم يعد مطمئنا في بيته.» ويحس وسط العالم الذي فسر كل شيء فيه «بأنه غريب لا وطن له.» في خضم هذا الضياع والاضطراب يصبح البحث عن الملاح الرائد أو عن النجم الهادي أمرا طبيعيا. وإذا كان كثير من الكتاب والمؤرخين قد وصفوا القرن الثامن عشر بأنه القرن الذي يتميز بانتصار العلوم الطبيعية، والتاسع عشر بالعلوم البيولوجية، فقد نادى عدد غير قليل منهم بأن القرن العشرين هو قرن القلق. ولعل الوجودية لم تكن وحدها هي السبب في إطلاق هذه الكلمة، بل كانت هي علة رواجها حتى أصبحت «موضة» على كل لسان. مهما يكن من شيء فإن المحنة قائمة لا شك فيها، نحس بها في حياتنا اليومية كما نحس بها في صراع المذاهب والنظم والأفكار، وطبيعي ألا يبلغ الغرور بكاتب هذه السطور إلى الحد الذي يزعم معه أنه يشخص داء العصر أو يصف البلسم الشافي منه، ولكنه سيحاول - بغير أن يتعرض للتطور التاريخي الطويل الذي أدى إلى هذا القلق - أن يضع يده على أحد أسباب أزمته، فيقول - وقد لا يخلو حكمه من الخطأ أو التعجل: إنها قد ترجع في بعض جوانبها إلى فقدان التواضع، والبعد عن الحد والاعتدال.
والكلام عن الاعتدال يؤدي بنا بالضرورة إلى الكلام عن طبيعة الإنسان، فمن صفاته الأساسية، لا بل من أولى واجباته، أن يعرف لنفسه حدا يقف عنده، وأن يعين هذا الحد بمحض اختياره؛ فالإنسان - دون غيره من الكائنات التي تعلو عليه، أو تدنو عن مستواه - قد وهب هذه الملكة التي تدل عليه والتي نسميها ملكة الحد. فهذه الكائنات، بقدر ما تسمح معرفتنا الراهنة بالحديث عنها، تلتزم بطبيعتها بحد لا تستطيع أن تتجاوزه، أو لا تحتاج إلى تجاوزه. فالطبيعة مثلا قد تكفلت بألا تصل الأشجار إلى السماء، وهي كذلك قد أعطت الحيوان إحساسا غريزيا بالحد الذي يقف عنده ولا يتعداه، والوحوش نفسها لا تقتل إلا بالقدر الذي يساعدها على الحياة، فإذا شبعت لم تجد ما يحركها إلى مزيد من القتل. إن الغريزة وحدها هي التي تدفعها إلى القتل، والغريزة وحدها هي التي توقفها عن الإسراف فيه؛ ولذلك لا نبالغ إذا قلنا إن الوحش المفترس يظل بريئا حتى وهو يلتهم ضحيته؛ لأنه لا يعرف شيئا عما نسميه بالجشع أو الحقد أو الانتقام، بل إن القوى المادية نفسها في اندفاعها وبطشها الأعمى، تصل دائما إلى النقطة التي تلتزم فيها بحد تقف عنده، أما الإنسان وحده فهو الذي يمكنه أن يفلت من الحدود والمقاييس، ويتوه في ضلال التطرف والشطط، وينساق وراء العناد أو الغرور فيحاول القفز وراء حدوده البشرية؛ ذلك أنه يستطيع أن يتحرر من قيود الغريزة ويسلم أمره إلى العقل والبصيرة، وهما دائما موضع السؤال والإشكال. غير أن تعريفنا له بأنه حيوان عاقل لم يستطع أن يلزمه بالتعقل؛ فهو يميل بطبعه إلى السخط على نفسه وعدم الاقتناع ولا القناعة بشيء يرضي طموحه أو يشبع تطلعه، والذين يكررون عليه من أجيال طويلة أن «القناعة كنز لا يفنى» لم يستطيعوا أن يقنعوه بذلك لحظة واحدة! •••
عرف اليونان الأقدمون هذه النزعة الخطرة الكامنة في طبيعة الإنسان، وتحدثوا عنها في حكاياتهم وأمثالهم، وحذروا منها على لسان حكمائهم وشعرائهم، فما من قدر عندهم أفدح من أن ينساق الإنسان وراء التهور الأعمى ليحطم نفسه بنفسه. كذلك كان قدر «إيكاروس» الذي أراد أن يطير فوق الأرض فسقط محطما عندما اقترب من الشمس، وكذلك نجد في أقوال الحكماء السبعة الذين عاشوا حول عام 600 قبل الميلاد وتحدثت عنهم العصور التالية بما يشبه حديث الأساطير؛ ما يحض الإنسان على التزام الحد والاعتدال، ويذكره على الدوام بأنه بشر وليس إلها.
ولست أحب أن أثقل على القارئ بالكلام عن هؤلاء الحكماء،
1
فقد تتسع لذلك فرصة أخرى، ولكن ما يهمنا الآن منهم هو أنهم يكادون يتفقون في التنبيه إلى ضرورة التزام الحد والبعد عن المبالغة والتهور والإسراف. وأشهر حكمة في هذا الصدد هي الحكمة المشهورة: «لا تبالغ في شيء» (ميدين أجان) أو لا تزد عن الحد، وهي قريبة من حكمة أخرى تنسب - كسابقتها - إلى هذا الحكيم أو ذاك: «الحد أفضل شيء» (ميترون أريستون). والحكمة الأولى تنسب في معظم الأحيان إلى المشرع الآثيني المشهور صولون، وقد تنسب كذلك إلى خيلون اللاكيديموني، بل إن هناك من يذهب إلى القول بأنها كانت محفورة على أحد أعمدة معبد دلفي إلى جانب الحكمة المشهورة: «اعرف نفسك» التي تنسب كذلك إلى أحد هؤلاء الحكماء (ولعله طاليس). والاختلاف بين الحكمتين ليس بعيدا؛ فمعرفة النفس تنطوي بالضرورة على معرفة الحد الذي ينبغي على هذه النفس أن تلتزم به حتى تكون معرفتها بنفسها أتم، وعدم المبالغة في شيء لا يتأتى إلا عن معرفة أتم بالنفس، وإدراك لقدراتها وحدودها بحيث تستطيع التمييز بين ما تستطيع وما لا تستطيع. وليس عجيبا بعد ذلك أن يروي الرواة أنها كانت محفورة على معبد دلفي المقام لأبولون إله النور والشعر والموسيقى، الذي كان يفزع إليه الإغريق كلما ألمت بهم كارثة أو أظلم في وجههم طريق؛ ليسمعوا من كهنته فصل الخطاب. مثل هذه الكلمة التي تكتب على المعبد المقدس لا بد أن تكون نبراسا وشعارا (إن جاز هنا أن نستخدم هذه الكلمة التي مسخها العصر الحديث) للروح اليونانية، وأن تخلع القداسة على قائلها أيا كان اسمه، وكذلك كانت بالفعل عند اليونانيين في عصرهم الذهبي. ولن يستطيع أحد أن يحصي الصور التي وردت بها في أشعارهم ومسرحياتهم وأساطيرهم وعلى لسان الحكماء والأدباء والمؤرخين منهم.
Unknown page