القسم الأول
الفصل الأول
ترجمة حياة الكونت نيكولا يفيتش تولستوي
ولد هذا الرجل العظيم والفيلسوف الشهير في 28 أغسطس «آب» سنة 1828م، في قرية ياسنايا بوليانا، من أعمال ولاية تولافي، أملاك والدته التي هي إحدى عائلة فولكون الشهيرة العريقة في الحسب والنسب والإمارة، ولقد توفيت قبل أن يبلغ ولدها هذا العاشرة من عمره، فعهد أمر تربيته إذ ذاك إلى عناية السيدة تاتيانا إحدى قريبات عائلته وربيبتها.
وفي سنة 1837 انتقل والده مع أسرته إلى مدينة موسكو، حيث توفي فيها في نفس السنة، ولما شعر بدنو أجله أقام وصية لأسرته السيدة بوشكوفا التي نزحت بأسرة تولستوي من موسكو إلى كازان عام 1841، وفيها عهدت تثقيف وتعليم الفيلسوف إلى مهذبات وأساتذة أجانب، وفي سنة 1843 دخل كلية كازان، وانخرط في صف اللغات الشرقية، ولكن دخوله فيها لم يكن عن استعداد كاف لذلك ، ولكنه بذكائه المفرط وحذاقته فاق أترابه، وكان في المدرسة مثال النجاح والنشاط والنباهة والجد والاستقامة، ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره ترك تلك المدرسة التي لم تكن ذات أهمية تذكر في ذلك الحين، ولذلك لم يحصل على فائدة كبرى فيها؛ خصوصا وأن أكثر طلبتها من أبناء الأشراف الفاسدي السيرة المتعودين على البذخ والكسل والتواني في جميع الأعمال، ولذا لم تنغرس المبادي القديمة في نفسه في أيام صباه، وهاك ما قاله فيما بعد عن ذلك: «تفسد أخلاق الشاب في المدرسة؛ لأن جميع رفقائه فسدة الأخلاق، يصحبونه معهم إلى أندية الرجس فيفقد طهارته وعفته وهو لا يدري أن في فعله هذا ما يخالف الآداب والفضيلة. تفسد أخلاق الشاب من أول نشأته؛ لأنه لا يسمع من مرشديه أن الفسوق محرم؛ بل بالعكس يسمع أن صحة الجسم تستلزم بعض الشيء ... وجميع المحيطين به يقولون إن الوقاع شيء طبيعي مفيد للصحة وفكاهة الشباب الحلوة؛ لهذا كله لا يدرك الشاب أنه سائر في طريق الضلال؛ بل يقطع الطريق الطبيعية التي يسير فيها كل صحبه وأفراد الوسط الذي يعيش فيه، فيبدأ بالفحشاء كما يبتدي بشرب المسكر والتدخين ... إلخ.»
قلنا إنه أضاع أيام الصبوة سدى، ولم ينل في صغره تهذيبا جيدا، ولا تعلم العلوم اللازمة لترقية عقله ورفع شأنه، ولكن نفسه الكبيرة كانت تطمح إلى ارتقاء ذروة المجد، فانكب على مطالعة كتب أشهر الفلاسفة وأعظم العلماء، ودرس حالة الهيئة الاجتماعية درسا نظريا مدققا حتى انغرست فيه هذه المبادي، كما ظهر من مؤلفاته التي كتبها بهذا الشأن.
وبعد أن غادر تلك الكلية غير آسف على فراقها، برح كازان وعاد إلى قرية ياسنايا بوليانا مسقط رأسه، واتخذها وطنا له، واستولى إذ ذاك على ما خصه من ميراث أبيه، ومكث في تلك القرية ثماني سنوات متوالية، وكان يذهب بعض الأحيان إلى موسكو وبطرسبرج، فيمكث بضعة أيام، ويقفل راجعا إلى قريته.
وفي سنة 1851 زاره شقيقه الأكبر نقولا تولستوي الذي كان ضابطا في جيش القوقاس، ومكث عنده مدة إجازته العسكرية، ولما أحب الرجوع إلى فرقته صحبه معه إلى تلك البلاد الفيحاء، فأعجبه فيها جمال مناظرها الطبيعية، واعتلال هوائها، وعذوبة مائها، وخصوبة أرضها، والذي زاده سرورا رفاه عيشة الضباط وجنود القوزاق، فألح عليه شقيقه أن ينتظم في خدمة الجيش بعد أن رأى منه ميلا لذلك؛ فصادف منه قبولا وإقبالا، وانخرط في خدمة الجيش القوقاسي، ومن هذا الوقت ابتدأت تظهر للوجود أفكاره السامية يمليها على الطرس قلمه السيال، فوصف بلاد القوقاس ومعيشة أهلها أحسن وصف على صفحات رواية المهرب «نابيغ»، ولم يكتف بذلك، بل أردفها برواية أخرى لا تقل عنها انسجاما دعاها «القوزاق»، وصفهم فيها وصفا مدققا لم يسبقه إليه كاتب، ثم رواية «الفتوة» والصبوة والشبيبة يصف بها نفسه في جميع أدوارها، وبعد أن شرح وأطال وبين كيف يسير الشاب في طريق الضلال بدون أن يردعه رادع عن غوايته قال: «والغريب أن أمهات كثيرات يعتنين بأمر أولادهن في هذا الطريق رعاية لصحتهم فلا يبقى على الشاب إلا أمر واحد يخشى عاقبته من ارتكاب الموبقات، وهو العدوى من المرض المشهور، غير أن الحكومة التي تهتم بصحة رعاياها لم تدع مجالا للخوف، فإنها بهمة فائقة تعتني اعتناء تاما بالفواجر، والأطباء كهنة أصنام العلم، يراقبون المومسات لقاء أجور يتقاضونها، وهم من جهة أخرى يفتون للشبان بضرورة الجماع ولو في الشهر مرة مراعاة لقانون الصحة، فهم على ذلك يرتبون سير الفحش ترتيبا مدققا، ويضبطون دائرته ضبطا محكما ... إلخ.»
وفي سنة 1853؛ أي في ابتداء الحرب الشرقية نقل صاحب الترجمة إلى صفوف جنود الطونا، حيث انضم إلى فيلق القائد الشهير غورتشاكوف، ثم ضم إلى حامية «سيفاستوبل»، واشترك في معركة سنة 1855، وكذلك شهد ضرب سيفاستوبل من الجنود المتحدة فأظهر بسالة فائقة الحد؛ لأنه كان لا يعبأ بالأهوال المحدقة به، فيلقي نفسه في أشد المخاطر، ويشجع إخوانه الجنود للدفاع عن الوطن بكلام كان يؤثر في نفوسهم تأثيرا شديدا فيستقتلون في الهجوم. وفي أثناء تلك المعمعة المخيفة والأحوال المضطربة أرسل معتمدا إلى جلالة القيصر نقولا الأول حاملا إليه أوامر سرية مهمة، وفي ذلك الوقت المضطرب وقت الشدائد والأهوال وضع روايته الشهيرة «سيفاستوبل»، ثم أردفها برواية أخرى دعاها روبكاليسا «قطع الغابة».
ولما انتهت تلك الحرب المشومة، ورأى الفيلسوف عاقبتها الوخيمة التي كانت سببا لهرق دماء ألوف من الرجال الأبرياء، وتيتيم الألوف من الأطفال، وجرت بلاء عظيما على البلاد، كل ذلك على رأيه نتيجة أوروبا وفساد المجتمع الإنساني استقال من الخدمة العسكرية، ومن ذلك الحين صار يكره الحرب كرها شديدا، ويعتبرها جريمة يقترفها بنو البشر، وصار يمقت بل يتحامل على كل دولة تفتح حربا على أخرى، ولذلك لما انتشبت الحرب في جنوبي أفريقيا بين الإنكليز والترانسفال استاء استياء شديدا، وتمنى انتصار البوير واندحار الإنكليز؛ لزعمه أنهم معتدون عليهم وراموا سلب أملاكهم وبلادهم، ولكنه لما سافر وفد من البوير إلى أميركا طلب إليه بعض الأميركيين الذين يميلون إلى البوير أن يكتب في إحدى الجرائد الأميركية بضعة أسطر يظهر فيها ميله إلى البوير، علما منهم بأن كلام الفيلسوف يؤثر تأثيرا شديدا في نفوس الأميركيين، فتتحرك حكومتهم وتهب لنصرة البوير؛ فأجاب على ذلك بقوله: لا أتمنى لوفد البوير الفوز في أميركا؛ لأن فوزهم يتوقف على مداخلة الأميركان، ومداخلتهم تفضي إلى انتشاب الحرب بينهم وبين الإنكليز وأنا لا أريد ذلك، فإني إن فعلت أكون داعيا إلى الحرب التي تمقتها نفسي وأدعو الناس إلى تركها والتزام جانب الوئام والسلام، وهذا الكلام يطابق قول الشاعر العربي:
Unknown page