إذا استشفيت من داء بداء
فأقتل ما أعلك ما شفاكا
وعلى أثر استقالته اعتزل أشغال الحكومة، وأقام عدة أعوام قضاها في موسكو وبطرسبرج، وبين عام 1855 و1861 كتب الروايات الآتية: «دفاغوسارا» (الضابطان) وألبرت وليوتسرن وسعادة العائلة وبوليكوشكا، وفي عام 1861 جال في بعض أنحاء أوروبا، وعند عودته عاد فاستوطن قرية ياسنايا بوليانا، وجرد نفسه لخدمة الشعب داعيا إلى حب السلام والخير والفضيلة، فكان إذا وقع خلاف بين الفلاحين يحسمه بآرائه الثاقبة ويعيد السلام إليهم، وبذلك يمنعهم عن رفع قضاياهم إلى الحكومة التي - هي بنظره - تظلم الأهالي بأعمالها الحالية المجحفة بحقوقهم إجحافا ظاهرا لا يخفى على أولئك المساكين الذين لا يمكنهم الضغط أو الخوف من التصريح بتلك المظالم الفادحة. ثم أنشأ الفيلسوف في هذه القرية مدرسة وطنية كان ينفق عليها من جيبه الخاص، ويعلم بنفسه أولاد الفلاحين، ويبث فيهم روحا جديدا؛ فاشتهرت تلك المدرسة شهرة زائدة دوى صداها في جميع أنحاء روسيا، فصار يتقاطر إليها كثيرون من شبان بطرسبرج المتخرجين في كلياتها؛ ليتلقوا العلوم فيها مجانا تحت مراقبة وإرشاد الفيلسوف، وإنما كانوا يفعلون ذلك ليقتبسوا من معارفه العالية، ويغترفوا من بحار فلسفته ينبوعا صافيا خاليا من شوائب الأكدار، وينضموا تحت لوائه الذي هو - ولا ريب - لواء العلم والفلسفة الحقيقية التي لا يستطيعون الحصول عليها في تلك الكليات بين ذلك الوسط المضطرب الفاسد، ثم أصدر مجلة تهذيبية دعاها باسم تلك القرية المحبوبة، وشرع ينشر فيها المقالات الأدبية والتهذيبية بقصد تقويم أخلاق الأهالي والأولاد، ثم أخذ يدرب تلامذته وينشطهم على كتابة القصص الصغيرة، وينشرها لهم في المجلة.
وفي عام 1862 اقترن الكونت بكريمة الدكتور بيرس صوفيا، وبعد زواجه صار يسكن تارة في موسكو وطورا في القرية منتقلا بينهما، وفي أواخر السنة الستين كتب روايته الشهيرة «الحرب والسلام» جاعلا مدار الكلام فيها على عيشة الطبقة العليا الفاسدة وحرب سنة 1812، وفي السنة السبعين كتب رواية «حنه كارينينا»، وقد ذاع ذكر هاتين الروايتين في عموم أوروبا، وأكسبتا الفيلسوف شهرة عظيمة، حتى إنهما عربتا إلى أكثر اللغات الأجنبية بسرعة أشبه بسرعة البرق، وصادفتا رواجا عظيما حتى أعيد طبعهما مرارا بالنظر لما حوتاه من الوصف المدقق والأفكار السامية التي يعجز عن وصفها أبرع كتاب العالم، وبناء على ذلك عظمت منزلة الفيلسوف العلمية عند جميع علماء أوروبا، واتفق العالم أجمع على أنه أحذق كاتب في الوصف الحقيقي، ولتأثر كتابته في نفس قارئيها في عصرنا الحالي.
وفي عام 1882 كتب في مجلة «ديتسكي أوتضيخ» (راحة الأولاد) روايته البديعة «بما يحيا الناس»، ثم وضع عدة كتب تهذيبية ليطالعها الشعب الروسي الذي هو بأشد احتياج إليها، وللآن لم يزل يؤلف الكتاب بعد الآخر، وهذه رواياته العديدة كالبعث أو القيامة، وأين المخرج ، والحب والزواج وغيرها، أكبر شاهد على سعة اطلاعه وسمو مداركه، وكفانا شاهدا عدلا أنها تترجم إلى أكثر اللغات الأجنبية في نفس اليوم الذي تظهر فيه باللغة الروسية. ومؤلفاته هذه مختلفة المواضيع والمباحث؛ فإنه يكتب في الدين، والتهذيب، والأدب، والنفس، وهو بنفسه يحرث الأرض، ويشتغل سحابة نهاره وبعض ليله بدون كلل ولا ملل، وقد وزع أخيرا أملاكه الواسعة على فلاحيه بالسواء، تاركا لنفسه وأولاده بعض الأراضي التي يكفي ريعها لسد نفقاتهم باقتصاد.
إن الفيلسوف تولستوي يمتاز عن جميع كتاب الأرض بأمر واحد، هو وصف الأشخاص والأشياء وصفا يطابق حالتها تمام المطابقة، فإذا وصف فلاحا، أو عجوزا، أو متسولا رث الثياب، أو ملكا، أو وزيرا، أو قائدا، أو أحدا من طبقة الأشراف أو الأغنياء أو إحدى العقائل، فإنه يأتي على وصف صفاتهم وحالتهم وأفكارهم الحقيقية وسكناتهم وحركاتهم بما يخلب الألباب ويأخذ بمجامع القلوب، فيتخيل للقارئ أنه يرى الشخص أو الشيء الموصوف أمامه كما هو تماما، والقارئ أيضا يرى أنه يعرف تلك الأوصاف ويشاهدها كل يوم، ولكنه لا يستطيع أن يجمعها كلها أو يوردها مترادفة كما يوردها الفيلسوف الذي هو بهذا المعنى كمصور بارع يصور الأشخاص تصويرا حقيقيا، لا يدع مجالا لمنتقد، وإنما تولستوي يزيد على ذلك بتصويره حالة نفس الإنسان الداخلية وشعوره، فكأن نظره أشعة رنتجن تخرق أعماق القلوب فتكشف مخبآتها، يورد ذلك بكلام بسيط لا يحتاج إلى تغيير زائد أو تأويل، وهو لا يخوض عباب موضوع إلا بعد أن يدرسه درسا نظريا مدققا، ولا يكتفي بالظن أو السمع أو الإشارة، وكل تآليفه يقصد بوضعها خير الناس وإرشادهم سواء السبيل، وهي من هذا القبيل تطابق تعليم السيد المسيح السامية، ولقد حصر صفات الإنسان القبيحة فإذا هي كما يأتي: العديم القلب، القساوة، الأنانية، الكذب، قلة الأدب، الاختلاق، البلادة، العظمة أو الكبرياء. والصفات الحسنة هي: البساطة، طهارة القلب، عدم الاعتماد على الغير، ذو شعور وإحساس، محبة الناس، التنازل، التواضع، رقة الجانب، البشاشة، الرحمة.
ولذلك نرى الفيلسوف في جميع تآليفه يورد أمثلة من وسط رجال ونساء الطبقة العالية الذين لم ينغمسوا في الشهوات ولا تهوروا في البذخ والعيشة المعيبة والقصف والتهتك، وكذلك يورد أمثلة من وسط الجنود والفلاحين والشعب البسيط الذي يفضله تولستوي على طبقة الروسيين العلياء الفاسدة، ويمثل بهذا الشعب قوة روسيا الغير الممسوسة، أو بعبارة أخرى: التي لم يطرأ عليها الفساد.
أما المواضيع التي بحث فيها هذا الفيلسوف العظيم في تآليفه فهي مختلفة المباني والمغازي، ويمكن حصرها في أربعة أقسام:
أولا:
بحث بحثا مفصلا مدققا في عيشة الطبقة العلياء الروسية، وهذا الموضوع لم يسبقه إليه كاتب لا روسي ولا خلافه، وفي هذا الباب يبحث عن آداب وتمدن الشبان الروسيين الأغنياء والأمكنة التي يستهلكون الوقت فيها وعن حالة نفسهم، ثم يبحث في تمدن النساء الفاسد وأوصافهن مع أبنائهن وبناتهن، ويورد عنهن روايات مختلفة حقيقية، ثم يبحث في حالة المعيشة العيلية.
Unknown page